الزيارة – حكاية أخرى عن الحب/ وائل السوّاح
في الأيام الأولى بعد الحرية، أخذت أضرب في شوارع دمشق على غير هدى. مشيت في شوارع دمشق القديمة. وتسلقت الجسور الجديدة والعوالي والمحلقات. وراعني كم تغيرت هذه المدينة التي عشقتها. رحت أبحث عن المقاهي التي كنت أرتادها والخمارات التي كنت أعرفها، واكتشفت أن معظمها قد زال أو أزيل، وعوضا عن الأماكن الدافئة الحميمة التي عرفتها، انتصبت صروح ضخمة ومطاعم غالية ومحلات مضيئة، تشعرك بأي شيء ما عدا الألفة. وهكذا اختفت خمارة أبو الياس وقهوة العمارة ومطاعم الشعلان. وساءني أنه لكي تشرب زجاجة من البيرة عليك أن تذهب إما إلى مطعم أو إلى بار في فندق خمسة نجوم، فتدفع مبلغا لا تقدر عليه ببساطة.
على أن ما راعني هو التغير الكبير في علاقات البشر بعضهم ببعض. واختفاء مفاهيم قديمة وظهور أخرى بديلة. شعرت أن العلاقات الإنسانية قد تبدلت كثيرا، وتغيرت إلى حد بعيد مفاهيم البشر عن العديد من القضايا. هناك أشياء كثيرة فقدت معناها أو استبدلت به معنى جديدا. الآن، هناك معنى جديد للحب وللصداقة وللوطن. وشعرت أن الحب ما عاد حبا، والوطن ما عاد وطنا، والأصدقاء ما عادوا أصدقاء. ثمة انحلال روحي كبير وسعي محموم وراء الربح السهل والربح الصعب والربح المستحيل، سببه النمط الجديد للقيم الاستهلاكية المريعة التي انحدرنا إليها.
والمحزن أن كل ذلك تم من وراء ظهرنا، تماما كما تمت زيارة المذنّب هالي، دون أن نتمكن من رؤيته، ولن نستطيع رؤيته في زيارته القادمة لأننا سنكون في عداد الموتى. في الداخل كنا مغيبين عن كل ما يجري في العالم الحقيقي. ونحن لم نشعر أبدا بأزمة الثمانينات الاقتصادية والمعيشية. فقط عندما خرجنا بدأنا نسمع عن معاناة أهلنا في كل زيارة وهم يؤمنون لنا السكر والقهوة والشاي والمحارم الورقية.
الزيارة.
متى جاءت أول زيارة لنا؟ كان ذلك في تدمر، أفقنا ذات صباح، بعد انتهاء مرحلة الرعب الأولى، وتناولنا إفطارنا، ثم جلسنا نقرأ في مجلة عسكرية، منّت علينا بها إدارة السجن، حين سمعنا جلبة في الخارج، ودار المفتاح في القفل، ونهضنا جميعا، تلبية لصرخة: “انتبه” من رئيس المهجع. ودخل ثلة من الحراس برئاسة مساعد أول، فانتابنا خوف شديد من عودة الأيام الأولى. وصرخ المساعد: ” فاتح جاموس.” خرج فاتح من الصف، وسار مع الحراس خارج المهجع، في حين جلسنا جميعا، نحاول أن نخمن سبب استدعاء هذا الشخص بالتحديد. كانت أيام الرعب قد ولت لتوها، وكان خوفنا من أن تعود لا يفوقه خوف. ومرت نصف ساعة كأنها نصف قرن، ثم عاد المفتاح يطق في القفل، ودخل فاتح، مبتسما ومحملا بأكياس فيها حلوى وشنكليش وملابس. صمتنا حتى
أعاد الحراس إغلاق الباب وانتظرنا شفتي فاتح وهما تنفرجان لتقولا: “زيارة.” كم تستطيع الفرحة أن تكون طاغية أحيانا. هجمنا عليه نهنئه ونقبله ونحاول أن نشم رائحة الخارج من ثيابه. ثم تحلقنا حوله نستعيد نصف الساعة التي أمضاها مع زوجته، دقيقة إثر دقيقة، مرة بعد مرة. بعدها بدأت الزيارات بشكل إفرادي، ومتباعد. ثم صارت أكثر انتظاما. وبدأت الملابس والطعام يأتي بواسطة الزيارة، ولكن الأهم كانت الكتب. وفي تدمر قرأنا قصة الحضارة والأجزاء الأولى من مشروع طيب تيزيني وكتب فراس السواح وتاريخ فيليب حتي وغيرها.
أما زيارتي أنا فقد تأخرت كثيرا. أول زيارة في تدمر كانت في خريف 1984. كنت من القلائل الذين لم يحصلوا على أية زيارة. ثلاث سنوات كاملات مرت قبل أن يفتح الرقيب الباب ويقرأ اسمي من ورقة بيده. يصعب علي الآن أن أسترجع الصخب الداخلي الذي تولاني وأنا أرتدي ملابسي، لأسرع مع الرقيب إلى مكتب الزيارات. كاد قلبي ينخلع من مكانه، وساعدني عدد من الرفاق في ارتداء ملابسي وترتيب شعري. وسرت إلى جانب الرقيب وأنا أشاهد للمرة الأولى حواري السجن ومداخله وممراته. عند الباب، وقبل الدخول وقفت هنيهة لأتنفس بعمق وأهدأ مشاعري المضطربة. ودخلت.
في الداخل كان ثمة أبي وأمي وأختي وابنها زاهر. كم راعني إيغال أبي في الكبر وكم أدهشني أن ابن أختي قد نما وكبر وصار شابا. أردت أن أسلم على والدي ولكنه قدم لي أمي أولا، ثم أختي ثم أخذني بين ساعديه واحتضنني بقوة للحظة، ثم أرخاني. ولم ينبث ببنت شفة. أمي وأختي راحتا تسألاني عن صحتي وأوضاعي، دون الخوض في تفاصيل السجن، وكنت أجيبهما باقتضاب لكن بقوة ووضوح: أنا جيد، صحتي ممتازة، المهم أنتم. وكنت أكذب، ولكنني أجدت التمثيل على ما يبدو. أصعب اللحظات، بالنسبة لي ولهم، كانت عندما آن أوان الذهاب والعودة إلى البيت، وحدهم، بدوني. كم وددت لو أغادر معهم إلى بيتنا في حمص، حيث تكون أمي قد طبخت “منزلة زهرة مع الرز” فآكل معهم على طاولة المطبخ، بدلا من الجلوس على الأرض، ثم نشرب القهوة في غرفة الجلوس ونتحدث في كل القضايا، ثم أتنحى جانبا في غرفتي فأستلقي على سريري وأقرأ كتابا أو رواية بوليسية وأنا أقرط خيارة ريانة أخرجتها لتوي من البراد. بيد أنني لم أرافقهم، وبدلا عن ذلك قفلت عائدا إلى المهجع فراح الصحب يهنئونني ويطلبون، كالعادة، أن أحدثهم بتفاصيل الزيارة لحظة بلحظة.
والعجيب أن هذا التقليد صحبنا حتى آخر أيام السجن. لم تصبح الزيارة أبدا حدثا عاديا. ورغم أننا بعد ذلك وخاصة في صيدنايا بدأنا نحصل على زيارات دورية، بقي هذا الحدث حدثا استثنائيا بكل معاني الكلمة. وفي كل مرة يزار فيها سجين، يتحلق الصحب من حوله لتهنئته ولشم رائحة الخارج التي ما زالت عالقة في ثيابه. والمزار غالبا ما يجلس على عازله ويقوم الآخرون بزيارته هناك. البعض ينتقل من مهجع إلى آخر وآخرون يزحزحون مؤخراتهم بضعة سنتيمترات فإذا هم بزيارة صديقهم. والمزار لا يتخلى عن صدر العازل لضيوفه كما في الحالات العادية، حيث ينبغي لصاحب العازل التخلي عن صدر المكان لضيفه ويجلس هو عند الطرف الآخر. والسؤال التقليدي بعد كل زيارة:” شو أخبار إخلاء السبيل؟” البعض يسأله بجد والآخر يتظاهر أنه يسأله بهذر. قلة قليلة كانوا يعتبرون السؤال عيب وانتقاص لروحهم الثورية.
والزيارات أيضا تأتينا بأخبار حزينة. فمن خلالها عرفت أن خالي قد مات، ومنها عرفنا بوفاة والدة عبد الكريم درويش وشقيقة علي الكردي وآخرين. حزني على خالي، وكنت مغرما به، جاء ليس لأنني أحبه فحسب، بل لأنه فعل ذلك في غيابي، تماما
كمذنب هالي الذي آثر أن يمر بكوبنا في تلك السنة وليس قبلها بعشر سنوات أو بعدها بعشر. خالي والمذنب وأشياء أخرى كثيرة خذلوني. استمتعوا بغيابي وفعلوا ما يريدون.
أشد الزيارات وقعا كانت حين عاد سمير عبّاس من زيارته ليخبرنا أن صديقته عليا قد قررت الانفصال عنه، وتلك التي عاد منها (ن) إلى المهجع وتحلق الرفقة من حوله لسؤاله وتهنئته، لاحظوا شحوب وجهه وارتجاف شفتيه. اقتربت منه بعينين متسائلتين، فأجاب بصوت هامس أن زوجته تريد الطلاق. وقع الخبر كالصاعقة فوق رؤوسنا. واستبد بنا وجوم وجفل وتعاطف. حزنّا وخفنا. كان حزننا مشاركة لرفيقنا ولكن أيضا خوفا من مصير مشابه سنؤول إليه ربما إن عاجلا أو آجلا. لم أكن أخشى من خبر كهذا، ببساطة لأن زوجتي وأنا كنا قد انفصلنا قبل أشهر من اعتقالي. بيد أن نصيبي جاء عندما علمت من زيارة لصديق أن صديقتي غادة قد تزوجت. لم أعد أذكر الآن إن كنت تألمت لذلك كثيرا أم لا. غير أنني أدرك الآن أن ذلك كله كان مقدمة لخير عميم أعيشه الآن مع زوجتي وطفلتي، اللتين لا أستطيع تصور نفسي بدونهما.
أول مرة سمعت فيها صوت ميسون بعد الإفراج، كانت على الهاتف. قدمت نفسها بالاسم والكنية. ضحكت وقلت: كان يكفي أن تذكر اسمها فقط لأعرف من هي. لم أقل لها وقتذاك أنني كنت أحلم في السجن بها. كان سيبدو ذلك كمن يكذب مجاملة. بيد أن ذلك ما جرى. مرات عديدة حلمت ببيت يجمعني بتلك الصبية التي عرفتها طفلة وكنت أحضر لها الشوكولاتة. تخيلت البيت بغرفه وأثاثه ومكتبته والبيانو المركون في الزاوية لتعزف عليه بين الحين والآخر. تخيلت لون العفش وشكل المكتبة ونقشة فناجين القهوة. كان لدي الوقت الكافي لأفعل ذلك كله. فيما بعد عندما ذكرت لها ذلك رفضت أن تصدقني. لم يكن ثمة ما يدفعني للكذب. كنا قد تزوجنا وأنجبنا أجمل طفلة في الوجود. بيد أن غرابة الحكاية تغري بعدم التصديق.
تلفزيون سوريا