كأنه هرب من روايات حنّا مينة/ وائل السوّاح
وصلْنا أخيرا. أمرَنا المرافقون أن ننزل بهدوء. أوقفونا عند حائط ما وراحت نسمات صيفية تداعب وجوهنا المتعبة. فكّوا قيودنا، فتحسّست الحزوز العميقة التي خلفها القيد في يدي. على أنني لم أُمنح الوقت الكافي لأرثي نفسي، إذ سرعان ما دفعتني من ظهري يد همجية جبارة فرأيت نفسي أتداعى في ممرّ يصطفّ على جانبيه كحرس الشرف جلادون بملابس الشرطة العسكرية، بأيديهم أسلاك كهربائية مجدولة. راحت الأسلاك تهوي على الظهر ورحت أحاول تفاديها كالمجنون، على أنني ما كنت أتفادى أحدها إلا لأقع تحت لسعة رفيقه في الطرف المقابل من الممرّ. رحت أركض وأركض، ولكن الممرّ استطال وامتدّ وتناءى وأبى أن ينتهي، وفي كل ثانية يهوي سوط لا يهمّ أين: على الظهر أو البطن أو الرأس. يسبقني رفاق ويلحق بي آخرون. وحين أخطأ أحدهم ووقع على الأرض تجمعت كل السياط فوقه، فاستطعت تفادي خمسا أو ستا من اللسعات الأخيرة.
ثم انحشرنا في غرفة عتيقة رطبة، فيها مكتب خشبي كبير ومهترئ ومقاعد خشبية متهالكة وخزانة بزجاج مكسور، تضمّ ملفات في مصنفات صفراء مهترئة. رحنا نجيب عن أسئلة الاستمارات. سألونا عن أسماء آبائنا وأمهاتنا وأخوتنا وأخواتنا ونادرا ما خلا سؤال من شتيمة أو ركلة أو تلميح جنسي رخيص.
ثم أدخلونا في مهجع ضيّق رطب ذي غرفتين متداخلتين. وزوّدنا الشرطي بالتعليمات اليومية: الحديث واللهو والنوم أشياء محرّمة في النهار، يبدأ النوم بشكل إجباري الساعة السادسة مساء وينتهي في السادسة صباحا، ويبقى اثنان من السجناء ساهرين، مناوبة، يراقبان ألا يحدث أي تماس جنسي بين السجناء. حين يفتح الباب يصرخ رئيس المهجع: “انتبه!” فيهب الجميع وقوفا، وجوههم إلى الحائط، عيونهم مغمضة
ورؤوسهم نحو الأرض. ثم يقدم رئيس المهجع مهجعه صائحا: “المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب” جميع السجانين رقباء، حتى ولو كانوا مجنّدين أو مساعدين. أنت لا تميز رتبتهم، فتناديهم جميعا حضرة الرقيب. حين أخطأ أحد الشباب ورفع رأسه إلى أحد الرقباء، كان العقاب مزلزلا.
كان أول رئيس مهجع أحمد عبّود وهو كان فدائيا حقيقيا. تحمّل كالمسيح في الأيام الأولى الكثير من أجلنا نحن الخطائين. كان أحمد عسكريا آخر، وجد نفسه لسبب من الأسباب في خلية ضباط الصف التي كنا في لجنة العمل نتباهى بها بعد أن خسرنا الضباط الأربعة في عام 1977. كان أحمد متين البنية، جهوري الصوت، تستطيع أن تسمعه من طرف الغرفة حتى وهو يهمس في أذن الشخص الجالس لصقه، ولكنه كان طيبا كطفل، تشعّ من عينيه الشهلاوين ابتسامة دائمة، ساخرة أحيانا، ومجاملة أحيانا أخرى، ولم يكن يحب الحديث عن نفسه كثيرا، وعلى امتداد السنوات التسع التي عشتها معه لم نعرف سوى القليل عنه، ولكنه القليل الكافي.
سألته مرّة وكنا جالسين في وقت متأخر نشرب كأسا من الشاي الفاتر: “ما الذي جاء بك إلى التنظيم؟”
“الفقر” أجابني. وصمت لحظة قبل أن يتابع: “هذا شيء لا تعرفه أنت” لم يكن في صوته حقد أو ضغينة أو شماتة. كان يقرّر حقيقة فحسب.
وفي صبيحة أول يوم في تدمر. قرقعت المفاتيح في الباب قبل أن يُفتح الباب، وصرخ أحمد: “انتبييييييييييييييييييه!” مادّا الياء إلى ما لا نهاية، مستفيدا ربما من خبرته العسكرية. بلمحة البرق وقفنا جميعا، وجوهنا إلى الجدار، عيوننا مغلقة ورؤوسنا إلى أسفل.
“المهجع جاهز للتفتيش، حضرة الرقيب.” صاح أحمد.
” وين السخرة ولا؟”
كنا قد ناقشنا موضوع السخرة في الليلة الفائتة، وتبرّع ثلاثة من الفدائيين بينهم رئيس المهجع نفسه وجمال بري وفاروق خضور، ليتولّوا ذلك في اليوم الأول. هرع العمالقة الثلاثة إلى الخارج، ليحملوا طشت الشاي وقصعة اللبنة. بيد أن الشرطي أراد أن يبدأ نهاره بحادث فكه، فسأل رئيس المهجع إن كان الشاي حارّا بما فيه الكفاية. “لا أدري حضرة الرقيب.” أجاب أحمد. وكانت النكتة التي ربما ضحك من أجلها الرقيب طيلة اليوم، ورواها لعشيقته أو زوجته، أن أجبر أحمد على أن يضع يده كلها في الشاي الساخن في الوعاء الكبير، ولم يستطع أحمد أن يسحبها إلا بعد أن أذن له الرقيب، فحملها وعاد إلى المهجع يتألم من حرق يده، ولكنه يتألم أكثر من حريق في كرامته. لم يبكِ أحمد أمامنا. منعته من ذلك رجولته وكرامته، ولكنني أعتقد أنه، حين خلى بنفسه تحت البطانية مساء، بكى كثيرا. أما جمال وفاروق فعادا بوجهين شاحبين كوجه الموتى.
جمال برّي سيكون جاري ردحا من الزمن، وستنشأ بيننا صداقة قوية. تشعر مع جمال برّي أنك مع شخصية هربت من روايات حنّا مينة. كان عملاقا قويا كحصان، سريع الغضب ولكنه حين يضحك يستغرق في ضحك صاخب لا ينتهي. كان يتحدّث عن البحر بعشق، كما يتحدّث عنه البحّارة، عاش قربه وفيه ومعه، كان له بيت بائس يشبه الكوخ في رأس البسيط، وكان يمضي يومه وحيدا. لا يأبه كثيرا للصَّحْب ما دام البحر بجانبه. وحين ابتعد البحر عنه، ظلّ موضوعه الأثير للحديث بين الأصدقاء. وهو يجمع في رجل واحد تمرّد وإقدام الطروسي في الشراع والعاصفة ووحدة زكريا المرسنلي في الياطر ووحشته وتردّد الفتى النبيل في الشمس في يوم غائم وخجله حدّ الخفر. سأبحر مع جمال في عوالم لا أعرفها، إلى جانب البحر سيحدثني جمال عن الصبية الوحيدة التي أحبها في حياته، وحينها، سيخفت صوته الهادر حدّ الهمس، وستشع من عينيه الجميلتين سعادة آسرة غامرة تفيض منهما إلى قلبي فتؤنس وحشته بجمال ناءٍ وغامض وشفيف.
لم أكن أعرف البحر كثيرا. كنت رأيته عدّة مرات في بيروت وسبحت فيه، ولكنني لم أعشقه. جمال جعلني أرى في البحر وجها آخر. بالنسبة لجمال، يجمع البحر بين الرجولة والمغامرة وترامي الأمداء. وكسعيد حزّوم في حكاية بحّار، يرى جمال في البحر “هذه البركة المائية، الزرقاء، الواسعة، تضطرب في العواصف، وتصخب أمواجها، وتندفع محمحمة إلى الشاطئ، وترتطم بالصخور فتتحطّم، وتتناثر، وتغدو زبدا، بخارا أبيض، وترتدّ إلى الماء ثانية في زئير وحشيّ مخيف، لكن البحر عريض، فسيح، لا يجري في ضفتين، ولا يملك تيارا، وتستطيع فيه المناورة والحركة، وتفادي التيارات الجوفية، بأن تبتعد إلى الأعماق، وبقدر ما استطعت إلى الأعماق”.
“التشريفة” كانت في اليوم التالي. وهي عبارة عن حفلة جَلْد منظم بالكابل الرباعي على القدمين والساقين بعد أن تحشر في عجلة سيارة عتيقة وقذرة، ظهرك ومؤخرتك إلى الأرض ورأسك وقدماك إلى الأعلى. وإذ يبدأ الكابل يهوي تبدأ بالعدّ أو الصراخ أو العويل أو الشتم، ويمكن أن يسعدك الحظ فيغمى عليك، وعندها فإما أن يتوقف الجلاد وإما أن يستمرّ ولكنك تفقد الإحساس بالألم. قبل أن يحين دورنا في التشريفة،
تعرّضنا لنوع أقسى من العذاب حين أحضروا دفعة أخرى وأحسنوا وفادتها عند باب مهجعنا. كانت صرخات الألم الحيواني الفاجر والمجنون تحز في نفوسنا كما تفعل السكين في عنق الخروف. وكصرخات الثور قبيل الذبح، يصيح الوافد الجديد “منشان الله، منشان الله، منشان اللااااااااااااااااااه. ببوس رجلك.” ونسمع الجلاد يقول: “بوس!” ثم نسمع صوت قبلات الرجل تنهال على الحذاء العسكري للجلاد، الذي يتوقف ثوانيَ قبل أن يستأنف الجلد.
على أن التشريفة تبدأ وتنتهي ولكن الذي لا ينتهي هو “التنفس.” والتنفس في لغة السجن هو الوقت الذي يخرج فيه السجين إلى الباحة ليحرّك جسمه ويتنفس هواء نقيا. وغالبا ما يمارس السجناء في جميع أنحاء العالم التمارين الرياضية أو كرة الشبكة أو السلة، أو يكتفون بالسير والحديث مع زملائهم لعدة ساعات في اليوم. في تدمر كان للتنفس مفهوم آخر. كنا نساق إلى الساحة مقابل المهجع ثم نؤمر بالجلوس على مؤخراتنا. عيوننا مغمضة ورؤوسنا إلى الأرض. وبيننا يتجول السجانون وبيدهم الكابلات يمطرونها فوق ظهورنا ورؤوسنا وأي جزء من أجسادنا. وهكذا تحول التنفس من مطلب للسجناء إلى كابوس مليء بأبشع أنواع السادية والتعذيب السريالي.
السريالية الأخرى كانت الحمام. تذهب إلى الحمام ركضا، مغمض العينين، عاريا إلا من سروالك الداخلي وخزيك وخوفك، وعلى جانبي الطريق توزع العسكر وأسواطهم بيمينهم. في الحمام يأتيك الماء باردا، مثلجا في الشتاء، وحارا يكاد يغلي في الصيف. وإذ تنتهي وأنت ترتجف بردا أو تقفز من حرارة الماء، تبدأ حفلة “نعيما”، وهي مشوار آخر من الجلد والشتائم، لا تختلف كثيرا عن مشوار الذهاب.
في هذه الظروف عاش آلاف السجناء عشرات السنين. وجميعنا قرأ “قوقعة” الرفيق والصديق مصطفى خليفة. أما نحن فكنا محظوظين، إذ انتهى الكابوس خلال شهر أو اثنين. لعب في ذلك عاملان اثنان. الأوّل أن الأسد لم يكن يريد فعلا إخضاعنا لتجربة السجناء الآخرين أطول من ذلك، والثاني أن مدير السجن، فيصل غانم، الذي كان أسوأ جلاد في تاريخ سوريا التي حكمها حافظ الأسد وأكثرهم فسادا، كان ابن خالة رفيقنا فاتح جاموس، وقد تدخّلت العائلة والقربى والانتماءات الأخرى، فخفّف تدريجيا من جحيم تدمر الذي عاشه السجناء الآخرون عقودا طويلة.
وفي يوم، جاء فاتح يحمل في يديه كنزا: مجلة دراسات عسكرية.
تلفزيون سوريا