"جمهرة"… تجربة نصية-فنية عن "الفرد والجمهور والسلطة في سوريا"/ عمار المأمون
تثير مقدمة كتاب “جمهرة: ليل كموج البحر” الانتباه حين الوصول لآخرها، إذ يؤكد الكاتب عدي الزعبي والفنان محمد عمران، أنهما يدركان أن مشروع الكتاب (فني/ سياسي) ويعيان: “خطورة تورط الفن في السياسية وتحوله إلى بروباغاندا مملة، لكنهما أيضاً يقدران وبنفس الدرجة، خطورة الدعوة للفصل بينهما بشكل كامل”.
ويضيفان: “بكلمات واضحة، هذا عمل فني بمضامين سياسية مباشرة، وأملنا أن يقيّمه الناس بالمقاييس الفنية أولاً وأخيراً وليس بالمقاييس السياسية”.
صدر “جمهرة” هذا العام باللغتين العربية والإنكليزية، بمنحة من مؤسستي اتجاهات ومعهد غوتة، ويحوي تسع لوحات أنجزها عمران، وتسعة نصوص كتب الزعبي عدداً منها، تتناول كل لوحة/ نص حدثاً من تاريخ سوريا، منذ الثمانينيات حتى الآن، دون أن يترجم النص اللوحة أو العكس، فكل حدث/موضوعة يظهر بصورة مختلفة في كل لوحة ونص، بالرغم من أنهما متقابلان في صفحات الكتاب، ما يخلق ارتباكاً لدى القارئ، كما تشير المقدمة إلى أن اللوحات تقدم تخييلاً لمرجعيات بصرية حقيقة، في حين أن النصوص “لا تحوي رابطاً يجمعها بشكل مباشر فنياً”.
تحاول مقدمة الكتاب أن تشير إلى أسلوب قراءتنا له، وتشرح لنا ببضع فقرات كيف نتلقى مضمونه، لحمايتنا من الأحكام المسبقة التي قد نطلقها على عملية صناعة المعنى ضمنه، خصوصاً أن هناك موقفاً سياسياً مسبقاً يعلنه عمران والزعبي، لتبدو للوهلة الأولى كوصفة جمالية لا بد من أخذها بعين الاعتبار، مع ذلك هي خالية من أفعال الأمر أو التوجيهات المباشرة، ويمكن تبرير “الإشارات” التي تحويها بسبب حساسية العلاقة بين الفن والسياسة في سوريا، وحسم الإشكاليات التي قد تظهر أثناء القراءة من جمهور متنوع.
سياسات التجمّع والاكتظاظ
يحاول الكتاب إعادة النظر في أشكال التجمع في سوريا، بوصفها واحدة من أكثر الموضوعات المقننة في ظل حكم الأسد، والتي شكلت تحدياً أمام الثورة حين انطلقت عام 2011، إذ كان الهدف في العديد من المناطق هو التجمع في الفضاء العام واحتلال الساحات، هذه التقنية يحاربها النظام السوري ويفعّلها حين يريد استعراض قوته، ليكون تحريك الجموع شكلاً من أشكال الهيمنة، وترسيخاً لقدرة “القائد” على التحكم بتدفق البشر.
النص الأول في الكتاب بعنوان “ليل كموج البحر” لعدي الزعبي، ويحاول فيه التقاط لحظة وفاة حافظ الأسد، وكيف خلت دمشق من سكانها حينذاك، واستقرت الأبدان في المنازل تستمع لمناقب القائد الحيّ عبر التلفاز والإذاعة، وكأن موته تهديد للشكل العام والنظام القائم، الذي لا يستوي دون “ضابط” له.
تأتي لوحة عمران -بعيداً عن النص- لتقدم لنا جنازة حافظ الأسد، حيث “تجمع” الناس حول التابوت الذي نراه الأصغر في اللوحة، جموع المنتحبين يحيط بها رجال الأمن ذوو النظارات السوداء، ورجل كاميرا واحد. يمكن تحميل اللوحة العديد من المعاني، لكننا نركز على التجمع، ذاك المضبوط والمحدد، لكل دوره الذي لا يجوز أن يخرج عنه، حتى “جثة القائد الخالد” تمتلك ذات الفعالية، سواء كان حياً أو ميتاً.
نقرأ في النص الثاني لعدي الزعبي عن زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى سورية، وكيف أُجبر الطلاب على النزول إلى الشارع للترحيب به، ونتلمس في النص هشاشة تقنيات القوة التي يمارسها النظام السوري لحشد الناس، والتي يمكن للواحد أن يتهرب منها بسهولة، كما نشاهد في لوحة عمران كيف يتكدس الناس وراء جدران من رجال الأمن لحماية موكب ما.
نقرأ نصاً للفنان خالد الخاني عن مجزرة حماة، ثم نصاً لحافظ الأسد نفسه بعنوان:” تأملات شخصية في ديالكتيك الأنا والنحن”، وهو مقتطف من خطاب الأسد أثناء أداء القسم الدستورية للدورة الرئاسية الرابعة، وغيرها من النصوص التي ترسم كل منها علاقة الفرد مع السلطة ومتخيله عن ذاته في علاقته معها، هذا المتخيل الذي يرسم “سيناريو الطاعة” الذي يضمن الالتزام به حياة الفرد في الكثير من الأحيان.
لا يمكن التعليق على كل نص ولوحة على حدة، كون كل واحدة منهما تجربة مختلفة، لكن يمكن لنا تلمس أشكال التجمع التي يحركها أو يبيحها النظام السوري، النحيب والحداد الوطني، المناسبات الرسمية، خطب القائد الخالد، وكأن الجميع أصنام أو بيادق يمكن أن يحركها الأسد كما يريد، وكأنها مبرمجة على الطاعة السينيكيّة (الكلبية)، أو كما قال مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري مرة: ” كل السوريون هم حافظ الأسد”، وكأن الجميع قادرون على إنتاج النظام العام، إما خوفاً منه أو حباً به.
“الرفض العظيم”
نصل إلى نص “نوارس تدور على أبواب الجنة والنار” للزعبي، ونقرأ فيه عن بدايات الثورة في سوريا، وكيف تحول التجمع والهتاف وكسر أحادية الشكل العام ونظامه إلى فعل ثوري تقوم به أجساد المتظاهرين والشهداء، الذين نراهم في لوحة عمران، فهنا “يجتمع” الناس ضد القائد الذي لا تظهر صورته، اجتماع هدد أربعين عاماً من “النظام المنضم” الذي تضبط فيه حركات الأجساد بشدة.
نقرأ بعدها نصاً عن الاعتقال لكاتبة مجهولة الاسم بعنوان “المشط الأصفر”، تقابله لوحة عمران التي تتكدس فيها أجساد المعتقلين، أولئك الذين تظاهروا لإسقاط النظام، لنرى بعدها لوحة لتنظيم الدولة وجنوده المتجمعين، ثم لوحة للمهجرين من مخيم اليرموك وأخيراً لأولئك الذين نجوا.
ما يثير الاهتمام أن اللوحات تروي حكاية السوريين كجماعة ثم تقنيات “تقسيمهم”، وكيفية ظهورهم ككتلة بشرية، تتعرّض للعنف بأشكال مختلفة، فلوحات عمران أشبه بشريط نيغاتيف لتاريخ سوريا، الاتقان فيها يظهر في مناطق التوزع والفراغات بين “الفرد” و”الجماعة” والسلطة التي يمارسها الاثنان على بعضهما البعض، إذ يلتقط المتخيّل الذي امتلكه السوريون عن ذواتهم كأفراد ذوي أدوار مسبقة، نسفت هذه الأدوار مع الثورة وأعيد تقديمها، لنرى كتلاً بشرية مختلفة لكل منها متخيلات مختلفة عن شكل سوريا، كرجال الأمن وجموع داعش والسجانين، المتظاهرين والمهجرين، بعضهم “يستقر” في مكان ما وآخرون يهربون أو يطفون. لكن، ما يجب أخذه بعين الاعتبار أن أي كتلة من الأجساد تخفي وراءها قراراً سياسياً، سواء كان سيادياً أو نابعاً من إرادة الجماعة، بل حتى المسافات بين الأفراد والجموع، كما نراها في لوحات عمران، يتحكم بها الخطر والخوف والرغبة بالظهور، فلا تجتمع أجساد ببراءة في سوريا.
النصوص في الكتاب، تحمل انطباعات شخصية وحميمية مع الحدث السوري حتى نص حافظ الأسد. كل واحد منها صوت فردي منفصل، يحاكم العالم من حوله، ويطرح أسئلة على ذاته وعلى ما يحصل، هناك دوماً “أنا” في كل نص، “أنا” وتبحث عن صورة لها في العالم المحكوم بالخراب والقتل الذي يحركه “جسد” القائد الخالد.
رصيف 22