أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري/ يزيد صايغ
تشكل الهيئات العسكرية فاعلًا اقتصاديًّا مهمًّا في مصر، فهي تسلّم مشاريع ضخمة متعلقة بالبنية التحتية، وتنتج سلعًا استهلاكية تراوح بين الغذاء والأجهزة المنزلية، وتصنّع المواد الكيميائية الصناعية وأدوات النقل، وتستورد آلات وسلعًا أساسية للأسواق المدنية. كما توسعت هذه الهيئات إلى قطاعات جديدة متنوعة للغاية مثل إنتاج الصلب، وصناعة الأدوية، والتنقيب عن الذهب، وإدارة الحج والأوقاف الدينية. وبموازاة ذلك، استفاد الآلاف من كبار الضباط المتقاعدين من التأثير السياسي النافذ للقوات المسلحة لشغل مناصب عليا في الجهاز المدني للدولة وشركات القطاع العام، الأمر الذي عاد عليهم بالمنافع في مقابل تكملة الاقتصاد العسكري في الوقت ذاته. وقد ازداد الجزءان من الاقتصاد العسكري توغُّلًا منذ تولي القوات المسلحة المصرية السلطة في تموز/يوليو 2013، ما أدى إلى زعزعة ديناميكية السوق، ومضاهاة القطاع الخاص في القطاعات الإنتاجية المهمة، وتغيير مسار مصر نحو النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية والانتقال السياسي.
تدّعي المؤسسة العسكرية القيام بدور رأس حربة تنموية وتوليد الدخل للدولة والوظائف، لكن دورها يأتي بتكلفة عالية. فعلى الرغم من التفاخر بالمهارات الإدارية الفائقة والتقدم التكنولوجي، فقد كرّرت نموذج الأعمال عند جميع الفاعلين الاقتصاديين تقريبًا في مصر منذ الاستيلاء على السلطة في عام 1952 وتأسيس الجمهورية، جنبًا إلى جنب مع تكيّفات النموذج إزاء سياسات وبيئة تنظيمية متغيرة وكرّرت معظم أوجه قصوره. كذلك فإن القوات المسلحة ليست كفؤة في تقديم المشاريع الهندسية أو جمع الإيرادات من الأراضي التي تسيطر عليها، لكنها تعمل في نظام سياسي واقتصادي مثير للمشاكل، قامت هي بتشكيله إلى حد كبير. ومهما كانت النيات على مستوى القيادة، فإن الاستراتيجيات والأنشطة العسكرية للمؤسسة العسكرية تقام في بيئة تسمح فيها المشروعية القانونية والسلطات التقديرية (الإستنسابية) والتعقيد البيروقراطي بمساحة كبيرة للافتراس والفساد على المستويات الأدنى.
لكن المؤسسة العسكرية لا تضطلع بهذا الدور بشكل مستقل. إذ إنها جزء لا يتجزأ من النظام الحالي الذي يحكم مصر، ولو إنها أحد عناصر التشكيلة البيروقراطية الأوسع نطاقًا التي تضم أيضًا كبار الموظفين الحكوميين، ومسؤولي الأمن، والقضاة، ومديري الدولة الاقتصاديين والتكنوقراط. يحكم الجميع المنطق السياسي نفسه في مقاربتهم الإدارة العامة للاقتصاد الوطني والمالية العامة، والتي تعطي الأولوية لاسترضاء دوائر وأوساط رئيسة والحفاظ على نظام الحكم، بدلًا من الاضطلاع بنوع الإصلاحات التي يمكن أن تحفز الإنتاجية الاقتصادية وتعبئة الموارد المحلية على نحو أكثر فعالية. ويسعى الجميع إلى شغل مواقع داخل الاقتصاد الوطني والمطالبة بالتمويل من القطاع العام بما يتناسب مع نفوذهم السياسي، ما يفسر الميول الواضحة نحو كلٍّ من البناء المجتزأ (الازدواجية التي تهدر الاستثمار والجهد) والتفتت.
الاقتصاد العسكري ذو وجهين. فهو يخدم نفسه، لكنه يتوافق أيضًا مع استراتيجية صيانة النظام الأوسع نطاقًا ويعيد إنتاجها. لهذا السبب، قام باستنساخ النمط الريعي السائد في الاقتصاد السياسي المصري (أي اعتماد الاستيلاء على المداخيل الموجودة بدلاً من زيادة الإنتاجية)، حيث سلكت مكوناته عن كثب سلوك الجهات الفاعلة الأخرى في القطاعين العام والخاص، واستجابت بطرق مشابهة لفرص البحث عن الريوع الجديدة التي أمنتها التحولات الكبرى في التوجه الاقتصادي للبلاد. فقد يقدم الاقتصاد العسكري كفاءات في بعض الأنشطة المدنية، ولاسيما في الأعمال الهندسية الكبرى، إلا أن ما ينجم في النهاية هو خسائر اقتصادية سلبية، إذ يجري حجب الخسائر وتتجاوز تكلفة استثمار رأس المال عائداته.
إنها الحكومة، وفي أحيان أكثر الرئاسة، التي تخلق الإطار السياساتي وتقرر الأهداف الوطنية. فمع أنّ القوات المسلحة هي منصة لتسلّق السلطة، فهي ليست شريكًا سياسيًّا كاملاً. ومع ذلك، خلال العمل من أجل تحقيق هذه السياسيات، والذي يوفّر فرصاً لأشكال لا حصر لها من البحث عن الريع على طول الطريق، تسهم المؤسسة العسكرية بشكل كبير في استنساخ المشكلات الهيكلية المزمنة للاقتصاد المصري، وتشويه تنمية القطاع الخاص، وتآكل الظروف الاجتماعية لأعداد كبيرة من المصريين. الحكومات الغربية والوكالات المانحة والمؤسسات المالية والدولية والمستثمرون الأجانب يذعنون عن علم، ويقدمون واجهة من التفاؤل المتحمس بشأن مؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر وإمكاناتها، فيما يخفون القلق المتزايد وراء شعار “مصر أكبر من أن تفشل”.
إن الاستيلاء العسكري التدريجي على سلطة الدولة منذ الانتفاضة الشعبية التي خلعت الرئيس حسني مبارك من منصبه في شباط/فبراير 2011، قد أحدث تحولات في نطاق النشاط الاقتصادي العسكري وحجمه. فتولّي المجلس الأعلى للقوات المسلحة مهام الرئيس التشريعية والتنفيذية، أعقبته بسرعة الإطاحةُ العسكرية في تموز/يوليو 2013 بخلفه محمد مرسي الذي كان أول مدني يُنتخب للرئاسة منذ تأسيس الجمهورية قبل 61 عامًا، ثم جاء انتخاب وزير الدفاع السابق اللواء عبد الفتاح السيسي رئيسًا في أيار/مايو 2014. منذ ذلك الحين، أصبحت المؤسسة العسكرية تلعب دورا رئيسيًّا في إدارة مشاريع الأشغال العامة الضخمة، وتزويد الأسواق، والتوسع في قطاعات جديدة في محاولة لزيادة إيرادات الدولة.
وتمثّل التطورات في الاقتصاد العسكري منذ عام 2013 تحولًا كبيرًا في النطاق والحجم في ما كان لعقود يشكّل جيبًا مستقلاً ولكنه محدود أساساً. حتى ذلك الحين، كانت القوات المسلحة مجرّد “جزء من الصفقة”، حيث كان للجهات المدنية الفاعلة الأخرى حصة في الكعكة الشاملة، المقاسَة بملكية الأصول المادية مثل الآلات والأراضي أو السلطة التنظيمية على ترخيص الوصول إلى قطاعات محددة، أو التحكم بها، مع ذهاب حصة الأسد منذ أوائل القرن الحالي، إلى رجال الأعمال المتنفذين سياسيًّا المقربين من الرئيس مبارك، ومن ابنه جمال وإلى المتكتّلين في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم. وتحوَّل الثقل النسبي للاقتصاد العسكري في مراحل حاسمة مهمة: التحرير الاقتصادي وإعادة التوجه نحو الغرب ابتداءً من منتصف سبعينيات القرن الماضي، والتقشف المالي من منتصف الثمانينيات، والمرحلة الأولى للخصخصة في عام 1991، والمرحلة الثانية من الخصخصة في أوائل القرن الحالي. لكن هذا الاقتصاد العسكري لم يشهد تحولاً مثيراً، سواء تم قياسه من حيث نطاق وحجم أنشطته، أو من حيث صافي الدخل الظاهر والربحية، أو من حيث التأثيرات على الجهات الاقتصادية الفاعلة الأخرى (بما في ذلك قطاعا الأعمال العام والخاص) وعلى صنع السياسات.
حتى عام 2011، مارست المؤسسة العسكرية بشكل أساسي ما وصفه الباحث في الشؤون المصرية و. ج. دورْمان بأنه “جيب يعظّم ذاته”. لم تقم القوات المسلحة بأي أمر في المجال الاقتصادي يعطّل أعمال النظام الحاكم الذي تطورت خصائصه الرئيسة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر مرورًا بالرئيسين اللذين خلفاه، أنور السادات وحسني مبارك، أي من عام 1952 إلى عام 2011. هذه الخصائص لا تزال تشكّل الاقتصاد العسكري، سواء في ما يتعلق بطرائقه والعلاقات العضوية بين مكوناته الرسمية وغير الرسمية، أو بالشعور بالتفوق التقني والاستحقاق المعنوي الذي يشبع كبار ضباط القوات المسلحة.
لكن الأزمة المتفاقمة في الاقتصاد السياسي المصري التي أنتجت ثورة عام 2011، إلى جانب إعادة تحديد موقع الاقتصاد العسكري منذ عام 2013، مهّدت الطريق لتغيرات أعمق في كليهما. فالسيسي الذي جرى انتخابه رئيسًا في أيار/مايو 2014، قاد المؤسسة العسكرية إلى موقع اقتصادي أكثر مركزية. ومنذ ذلك الحين، وبناءً على أوامره، تمكنت القوات المسلحة من إدارة ما يقارب ربع إجمالي الإنفاق الحكومي على البرنامج المستعجل للبنية التحتية العامة ومشاريع الإسكان، كما تدخل في معالجة نقص السلع الغذائية والإمدادات الطبية في الأسواق المدنية، وفي القطاعات الإنتاجية التي اعتبرت استراتيجية بهدف ظاهر يتمثل في تثبيت الأسعار، وهرعت عموماً إلى توليد إيرادات لخزينة الدولة.
هذه الدرجة من الاعتماد على الجيش لتقديم السلع والخدمات العامة والمساعدة في تحقيق أهداف التنمية الوطنية، لم يسبق لها مثيل حتى بالمقارنة مع عصر عبد الناصر الذي أسس هذا النمط. يكمن وراء ذلك شعوران يميّزان رئاسة السيسي عن سابقاتها: الاحتقار غير المقَنّع لكفاءة ونزاهة هيئات الدولة المدنية، والاعتقاد الصريح بأن القوات المسلحة وحدها هي التي تستطيع التهرب من قيود البيروقراطية الحكومية “لإنجاز الأمور”. يضاف إلى ذلك الاعتقاد الموازي للرئيس بأن أداء الجيش اقتصاديًّا هو أيضًا أفضل بكثير من أداء القطاع الخاص. فقد قال السيسي في افتتاح “صوبات زراعية” بناها مهندسو القوات المسلحة، “أنا هاقول لكم بمنتهى البساطة، زي ما انتو شفتوا الإجراءات التنفيذية للوصول لحجم بالمستوى ده بالإجراءات الكثيرة اللي بتّم سواء كان الطرق المطلوبة أو مأخذ المياه الكلام ده لما ييجي القطاع الخاص يعملوا ياخد له 3-4 سنين عقبال ما يقدر يعمل الإجراءات التنفيذية علشان يعمل مشروع بالطريقة دي”. تشاطره المؤسسة العسكرية تلك المشاعر، ما يجعلها الشريك الواضح لرئيس قوي يفتخر بإقرار السياسات بسرعة. إلى ذلك، من غير المرجح أن يعود العسكر طوعاً في المستقبل إلى جيبهم الاقتصادي الذي كان قائماً قبل عام 2013، بغض النظر عن وجهة الطريق التي سيتخذها الاقتصاد والسياسة في البلاد.
مؤسسة كارينغي للشرق الاوسط
درج