في إنصاف وائل حلّاق من هامش إدوارد سعيد/ مهنا الحبيل
“كان لأوروبا مستشرقون مقيمون في البلاد التي خضعت للكولونيالية الأوروبية، (..) وإضافة لهؤلاء كان هناك فرقة كبيرة من مستشرقين مساندين لهم في أوروبا نفسها، اشترك هؤلاء مع نظرائهم الكولونياليين في إنتاج منظومة خطابية غذّت ثقافة الغزو والسيطرة السيادية الأوروبية…”، وائل حلّاق في كتابه “قصور الاستشراق”.
يُذكّر كتاب وائل حلّاق ورده العميق في “قصور الاستشراق” على كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” بكتاب تهافت التهافت للإمام أبو الوليد ابن رشد، في رده على الإمام أبو حامد الغزالي، وكلاهما علامة فارقة في دلالة تشرح كيف أن علماء الفقه الإسلامي، كانوا قادة الجدل المعرفي الذي تصدر العالم في ذلك الزمان، وأن خلاف الفقيهين الكبير لا ينقض مسار الاستدلال بهذا المعنى الحيوي، وهي أن الفقه الإسلامي أنتج عقلية جدل فلسفي معرفي، استعادت الاعتبار الفكري والأخلاقي لعلم المنطق، وحوارات الفلسفة. وحين تقاس في فترتها الزمنية، فهي تُقيّم في مسار متقدم لعطاء الحضارة الإسلامية، والتراث الإيجابي الذي لا يجوز أن تُسقَط كنوزه بسبب إرث التخلف والجهل، والتي مسّت البناء الحقوقي الأساسي للإنسان ومفهوم الكرامة للشريعة الإسلامية. ويلاحظ هنا رأي حلّاق في تعريف الشريعة بمجموع المقاصد الكلية، لا بتفاصيل الأحكام المتغيرة، وهذا يتفق مع الفكر الإصلاحي الإسلامي الفقهي والفكري. وفي هذا الصدد، يُخصص حلّاق مساحة مهمة من تحريراته في هذا الكتاب وغيره، لفهم دلالات الفقه الإسلامي التراثي وفق سياق الفرز الزمني، وتقدير الأصل الذي حرّرت عبره الأحكام (الشرعية) مسارا للنطاق المركزي للشريعة وتأثيراتها، غير أن هناك خلطا وخطأ في
هذه التحريرات، ووضعها في إطار مركزي، في مقابل للنطاق المركزي الغربي الحديث الذي وضع الاستشراق في سياقه.
وليست هذه المقالة هنا في وارد تحليل هذه المسألة، مع التأكيد على أهمية الاستخراج الفكري، لخريطة رأي تتميز عبرها مساحة حلّاق، حتى مع وجود مصادر أخرى حرص على نقلها، من الدراسات الغربية المعاصرة لحاضر العالم الإسلامي، فأعاد حلّاق مراجعتها وتنظيمها، ثم ختمها بتوقيعاته الفكرية التي ربما احتاج كل منها إلى إفراده قضية حوار معرفي، تتناولها ندوات مركزية، كلها كانت مدرجةً تحت مسمى الرد على “الاستشراق” لإدوارد سعيد. وهنا التفاتة مهمة لا بد أن نسجلها، فالمشترك الاجتماعي بين سعيد وحلّاق أنهما من عرب فلسطين المهاجرين، مسيحيا الأصول ومن ذوي نزعة وجودية ويسارية، فما دخل ذلك برحلة التفكير العربي الإسلامي؟
إننا هنا أمام واجب أخلاقي ومعرفي وانتمائي، لنقول بوضوح إن مشاركات شخصيات الفكر العربي، من الإخوة المسيحيين العرب، دلالة مهمة نعتز بها، لحيوية تناول الفكر الإسلامي من زاوية الحضارة، لا عقائدية إيمانية، ومن خلال اتحاد الجميع بتجاذبهم وتفكيرهم نحو المشرق، ليس فقط لأنه يحوي وطن العروبة الجامعة للمسلمين والمسيحيين العرب، والطوائف التي استقرّت في الشرق، وشاركت الرحلة التاريخية لحاضر المسلمين، وإنما أيضاً لأن فكر الشرق المسلم، ليس كما جسّدته سياسة النطاق المركزي الكولونيالية، فنزعت حق إعادة النظر في آثار هذه الحقبة الفكرية، وحق البحث إن كان لديها ما يقدّم للعالم الجديد، ليس عبر تفسير الإنسان الذي صنعه هذا النطاق الإمبريالي، وإنما عبر تحرير فكرة الحق الإنساني في الحرية والكرامة والمعرفة.
وكيف تُفرز معادلات هذا التحرير في إطار الزمن حديث، فتُحرّر قاعدة مرجعيته مستقلةً عن النطاق المتوحش ضد البشرية، وتُفهم دلالة وعيه في مرحلته التاريخية، وما يُقاس عليها اليوم في رحلة التطور الكوني للعقل البشري وتجربته، المرتبطة بصورة دائمة بما يسميه حلاق التقوى الأخلاقية، وما يمكن أن يُصطلح عليه في مدلولات الشريعة بمسؤولية الضمير الإسلامي.
وهذا العصف الذهني والتحليل الفكري لمنظومة الفكر الحديث وحركة التنوير الغربي، ومآلاتها على واقع الإنسان والعالم، وخصوصا الشرق كمنافس فكري هُشمت أدواته، وحيّد خارج التاريخ المعرفي الحديث، مساحته بين المسلمين وغيرهم واسعة، حين يكون إطار التناول بمعايير الإنصاف، والاستقلال عن شروط وأدوات السياسة القاهرة للنطاق المركزي، حيث لا يُمكن اليوم فصل اتحاد القوة المادية الحديثة للغرب وانحيازها عن مؤسسات التنوير الغربي المعاصرة، والتي يُعيد غالبها ذات المنتج مرتهنة بهذا السياق، وهي من الأفكار التي ناقشها “قصور الاستشراق”.
عنونة المقال بإنصاف وائل حلاق من هامش إدوارد سعيد لا تعني أن مادة الكتاب المختارة لنقد سعيد لا تستحق التأليف، خصوصا أن حلاق بنفسه يشير إلى المشاعر المزدوجة التي تحيط بقلمه، حين يتحدّث عن موقعه في الرد على سعيد، وبروز دلالات القناعة بأفكار رئيسية بينهما، وإنما القصد أن مداولات حلّاق ذات أهمية بالغة، كمؤلف تخصصي يسعى إلى مقاربة نظرية سعيد، وهو يبرز في عنوان الظل الآخر للكتاب “منهج في نقد علم الحداثة”. فتناول حلاق أبحاثا شتّى، وإن قُرن برده على سعيد مباشرة أو استقلالاً حين يستطرد، وهذا الاستقلال أمتع للقارئ وأنصف للمؤلف، يمثل أيضاً انتقالةٌ مهمة في علم تفكيك النطاق المركزي للهيمنة الثقافية للغرب، وهي حالة تفكيك باتت اليوم ضرورة معرفية وإنسانية مجرّدة.
ويُلَاحظ على قلم حلّاق خروجه اليوم عن آخر مسارات التبعية المُقننة لشروط الانتماء (للمركزية “النطاقية” للأكاديمية الغربية) ومقلديهم العرب من المثقفين والباحثين، ويبرز ذلك من خلال دراسته أفكار الفيلسوف الإسلامي المعاصر طه عبد الرحمن، والذي أفرده بكتاب جديد، صدر حديثا، بعد أن نقل عنه في “قصور الاستشراق”.
بوابة النقد المهمة في رد حلاق على سعيد هي في تحديد كتاب سعيد ضمن القاعدة نفسها التي حرّرها حلّاق، وتصدّر بها المقال، وهذا لا يُسقط نظرية حلّاق: هل الاستشراق مجرد سلاح أم سلاح مركزي، فكلاهما، أي سعيد وحلاق، متفقان على آثار إعاقة العقل المعاصر وحصار فلسفة الشرق، عبر القوة الإمبريالية للمركزية الثقافية الغربية.
العربي الجديد