«لم يُصلّ عليهم أحد»… عن مدينة حلب وماضيها الغارق بالآلام/ سامر مختار
من رواية «مديح الكراهية» 2006، إلى «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» 2014، كانت مدينة حلب حاضرة دوماً في أعمال الروائي السوري خالد خليفة التي ولد وعاش فيها (مواليد 1964 – قرية أورم الصغرى – حلب) وحتى رواية «الموت عمل شاق» 2016 التي تبدأ في دمشق، لكنها تنتهي في حلب، وصولاً إلى رواية «لم يصلّ عليهم أحد» الصادرة مؤخراً بطبعتين، الأولى عن دار أنطوان هاشيت في بيروت، والثانية عن دار العين في القاهرة.
يعود خالد خليفة في روايته الجديدة إلى حلب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هذه العودة، ليس هدفها الرئيسي سرد التاريخ غير الرسمي لحقبة زمنية ما فقط، بل يعمل خالد على تقصي أثر المصائب والحروب والأحداث التاريخية على البشر ومصائرهم. عن تأملهم للحياة والموت، للحب والكراهية، للإيمان وعدمه.
تبدأ الرواية بحادثة غرق قرية حوش حنّا، إثر هبوب عاصفة، تتسبب في طوفان النهر، الذي ابتلع أغلب سكان القرية. الطوفان سيغير نظرة بطل الرواية حنّا كريكورس للحياة، الذي كان يعيش مع صديق طفولته زكريا البيازيدي حياة ماجنة، وصلت حدّها الأقصى ببناء قلعة على قمة تلّة، يقضون فيها معظم أوقاتهم في اللهو والسكر في أحضان النساء، ولعب القمار. انشغال الاثنين بحفلاتهما الماجنة سينجيهم من الطوفان، الذي لم تنجو منه زوجة حنّا جوزفين وابنهما، كما لم ينجو ابن زكريا الذي حاولت زوجته شاها في لحظة الطوفان الحفاظ عليه، والتي رأتها الفتاة ماريانا “تضم جثة ابنها إلى صدرها، نجح الصيّادون في انتزاعه من بين ذراعيها بصعوبة”.
سيكون الطوفان بمثابة نذير شؤم، يبشر ببداية قرن جديد مليء بالحروب والمجازر والقتل والجوع.
ورغم أن الزمن الرئيسي للأحداث التي أعقبت الطوفان يبدأ مع عام ١٩٠٧ وينتهي عام ١٩٥١، إلا أن سرد تاريخ الشخصيات يعود بالقصص والحكايات لما قبل الطوفان. فالرواية مليئة بالشخصيات التي تتداخل قصصها الشخصية في بعضها البعض. والشخصية التي يعتبرها القارئ للوهلة الأولى أنها شخصية ثانوية في العمل، يكتشف مع تطور أحداث الرواية، أنها شخصية رئيسية في العمل. وطالما الزمن يتقدم هناك شخصيات أخرى تحتل متن النصّ، وأخرى تترنح إلى هامشه.
القصص والحكايات الشخصية في الرواية، تتحرك بالتزامن مع وقائع وأحداث تاريخية، مثل الاحتلال العثماني، مذبحة الأرمن، الحرب العالمية الأولى، الاحتلال الفرنسي، لترصد الرواية تأثير ذلك كله على حيوات البشر، من مصائب وآلام وأحزان ويأس كبير، الحديث عنه وإخراجه من داخل الإنسان وروايته ضرورة لمحاولة فهم ما جرى، إذ “لا يمكن لأي شخص شرح التعاسة” هكذا تخبر سعاد عمتها عندما لا تجد تفسيراً لعدم سعادتها من زواجها من حسن المصابني. أو عندما يصل حنّا لخلاصة مفادها أنه “لا يمكن تجميل مجزرة، كما لا يمكن نسيان وجوه الضحايا” وذلك أثناء تذّكره لحكايات مربيته مارغو عن المقابر الجماعية للمسيحيين السريان، التي “ما زالت تحفر في أعماقه”.
تطرح الرواية تساؤلات كثيرة حول معنى الوجود، عن الله كفكرة، والدين والتديّن. كل تلك الأسئلة تتملك بطل الرواية حنّا، إذ بعد الطوفان، يتحول حنّا من رجل ماجن، سكير، يبحث عن ملذات الحياة، إلى رجل زاهد في كل شيء، ليعتقد من حوله أن حكاية تحوله هذه تشبه حكايات القديسيين، ورغم محاولات ماريانا الفتاة المسيحية المتدينة التي تصرّ على مرافقته في رحلاته الطويلة، لجعله قديسًا، إلا أنه في قرارة نفسه لا يثق بهذه المعتقدات، فحنّا كان في رحلة داخل أعماقه، رحلة في البحث عن الذات، والبحث عنها “لا يحتاج إلى وضعها على طاولة طعام قذرة أمام العامّة. كل ما تحتاج إليه هو التكوّر على نفسك ورمي أشلائها على جدران غرفتك” حسب تعبيره.
تتضمن «لم يصلّ عليهم أحد» مصنفات كتبها حنّا كريكورس ما بين عام 1918 و1951، والتي يشير إليها خالد خليفة، إضافة إلى قصّة من فصلين بعنوان “الحب المستحيل”، ويقول خالد أنه وجد هذه المصنفات في منزل عائلته في العنابية “ضمن أوراق كثيرة كانت تخصّ جنيد خليفة أحد أخوة جدّه” مضيفاً أنه “أعاد كتابة المصنفات بأسلوبه، كما أعاد كتابة رواية “الحب المستحيل” بتصرّف…”
وفي “مصنف حنّا رقم 4” يسأل حنّا الأب إبراهيم الحوراني “إن لم يكن الله موجوداً فمن يعوّض ملايين البشر عن حياتهم الواهمة التي عاشوها” ليجيبه الأب إبراهيم: بـ”أننا نحن البشر اخترعنا الله، وحدّدنا صفاته، وإن كان غير موجود كقوة مادّية ملموسة فإن اختراعه منح ملايين البشر الراحة في سعيهم نحو الموت”.
علاقات الحب المتشابكة، تلعب دوراً هاماً في حياة شخصيات الرواية، علاقة حنّا بسعاد أخت صديقه زكريا، وصديقة طفولتهما. قصة “الحب المستحيل” بين وليم عيسى وعائشة المفتي، التي تنتهي بقتلهما، وقصة حب وليم ابن زكريا البيازيدي للفتاة الأرمنية مريم. علاقات حب أجهضتها الأديان ورجال دين متطرفين والحروب والمجازر، وماضي المدينة الجاثم على صدور أبناءها، والتوق للنجاة، هكذا نرى الصراع الداخلي لمريم، التي حلمت بحياة طبيعية، بعيداً عن العيش في الكنيسة كلاجئة وهاربة من الجنود الأتراك الذين ذبحوا عائلتها، لكن هروبها من العيش في الكنيسة والفقر وعدم الأمان، يدفعها للزواج من رجل تركي غني، يشعر بتأنيب ضمير تجاه ما حصل من مذابح بحق الأرمن، ويريد التطهر من عار قومه، بالزواج من فتاة أرمنية، لتتخلى مريم عن وليم الذي أحبها منذ أيام الطفولة.
لا يمكن للرواية التي تجري أحداثها في مدينة حلب إلا أن تتقاطع مع حاضر المدينة اليوم. فالمدينة التي شهدت في السنوات الأخيرة دمارًا هائلاً، وقتلاً ومجازر، أشبه بالطوفان الذي بدأ في قرية حوش حنّا، وما تلاه من حروب ومجازر في وقت مضى.
ضحايا كثر، ماتوا أو قُتلوا، ولم يُصلّ عليهم أحد، كالجثث التي لفظها النهر بعد الطوفان، ولم تعرف هويتهم، هل هم مسلمون أم مسيحيون؟ ليرفض الشيخ والخوري أن يصلّ عليهم. أو كما قُتل العاشقين وليم وعائشة، ودُفنوا من دون أن يصّل عليهم أيضاً.
«لم يصلّ عليهم أحد» أشبه بمرثية لماضي وحاضر مدينة حلب، ولأهلها ولعشاقها، ولتاريخها الغارق بالآلام.
مجلة رمان