سينما بونغ جون-هو.. لماذا تستحق كل هذه الجوائز؟/ محمد صبحي
واحدة من لحظات قوة السينما يمكن العثور عليها في مشاهد الإطلالات البانورامية على محيط ممتد، سواء كان ذلك الامتداد يتجسّد في وادٍ صحراوي في الغرب الأميركي أو فضاء حضري في مدينة مستقبلية. في السينما المصرية مثلاً، ارتبط مشهد رؤية القاهرة من أعلى بواحدة من الجمل الحوارية الشهيرة في فيلم “طيور الظلام” (شريف عرفة، 1995)؛ حين يقول فتحي نوفل (عادل إمام) لسميرة (يسرا): “البلد دي اللي يشوفها من فوق غير اللي يشوفها من تحت”. رؤية المدينة من أعلى يجرّد المشهد المنظور بأكمله، وحين رؤيتها من خلف زجاج ناطحة سحاب، تستوي أمام العين القطاراتَ والأشخاص والنمل. النظر في وسيط صور، مثل السينما، يعني الحكم والتملك غالباً. فقط، يمكن استدعاء فيلم “الأسد الملك” (1994). هناك، تمثل رؤية رب الأسرة منتصباً فوق السهوب الشاسعة، تمهيداً مثالياً لما ستجسده كلماته لابنه: “هذا كلّه سيكون ملكك يوماً”.
وحيث تعيش شخصيات المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون-هو، يأتي الأمر معكوساً، إذ ندخل في فضاءات ضيقة وغير مريحة، تتضاءل فيها فرص النجاة. عبر نوافذ صغيرة قذرة، يتسلل ضوء شاحب إلى بيوت كالقبور. من عالمهم الضيق يلقون بنظرهم إلى خارجهم، فيرون ما ينتمي إليهم وما يمتلكونه: لا شيء تقريباً. إنهم يعيشون في كتل اسمنتية ممتدة، مثل الأكاديمي الشاب المتعطّل في فيلمه الطويل الأول “الكلاب النابحة لا تعض أبداً” (2000)، أو في كشك صغير تحت جسر ضخم، مثل العائلة في فيلم الفانتازيا الواقعية “المضيف” (2006). وفي فيلم “محطم الجليد” (2013)، عندما ينظر المتمردون للمرة الأولى عبر نافذة القطار، فتؤلمهم عيونهم كما لو كانوا قد خرجوا لتوهم من كهف أفلاطون. يصبح استيعاب العالم غريباً بالنسبة لهم، حقيقة لا مجازاً؛ مثل الرجل الوحيد في مساهمة بونغ في الفيلم الجماعي “طوكيو!” (2009، بمشاركة ليو كاراكاس وهونغ سانغ سو)، الذي يتحدث فقط إلى عمّال خدمات التوصيل.
الواقع كمسألة منظور
في فيلمه الجديد، “طفيلي”(*)، تعيش عائلة كيم الفقيرة في شقة متواضعة تحت الأرض، تربطها بالعالم الخارجي نافذة عريضة بمستوى الرصيف المقابل، تدخل منها السحب الخضراء السامة لمبيدات حشرية ترشها عربة تابعة للدولة، ويُرى منها تبوُّل السكاري أمام المنفذ الوحيد الذي يأتيها منه الهواء. ثمة عائلة أخرى في الفيلم، بارك، تحيا في تناقض صارخ مع العائلة الفقيرة: بيت وثير وكبير يمكن للجالس في غرفة معيشته الأنيقة النظر إلى مدى أخضر معتنى به من خلال واجهاتها الزجاجية العريضة. ابن الأسرة الفقيرة سيصبح مدرس اللغة الإنكليزية لابنة الأثرياء. شيئاً فشيئاً، يتسلل أفراد عائة كيم إلى منزل عائلة بارك، في ما يشبه الاحتلال.
“طفيلي” فيلم عن الاختلاف في عوالم الصور ومنظورات الرؤية. بالنسبة للبعض، تعني العاصفة الممطرة خطراً يجب تفاديه، والبعض الآخر يراها سماء زرقاء لطيفة في اليوم التالي. حتى اللحظة الأخيرة منه، يؤكد الفيلم على الطبيعة المزدوجة لعملية الرؤية: أنت ترى، وهناك مَن يراك أيضاً. يكثّف الفيلم ما داوم بونغ على تقصّيه وتصميمه في كل أعماله السابقة، عبر ارتحال بصري يشبه لعبة “بينغ بونغ”، يبدأ من ناس أسفل سلم الطبقية الاجتماعية: من سجونهم السكنية الضيقة وسراديبهم وأقبيتهم وظلمات ما تحت الأرض، حيث النظرة المحكومة والمضطهدة، إلى العالم الخارجي المضاء والفسيح حيث تمسّ نظرتهم أيضاً كل مَن يمارس عليهم الهيمنة والاضطهاد.
في بداية “أم” (2009)، دراما الجريمة الرقيقة والفلسفية، مثال مبكر على تلك النظرة القادمة من بعيد والواصلة بين عالمين متناقضين تماماً، حيث نرى أرملة عجوز في متجرها – الشبيه بمنطقة محمية بظلامها ورطوبتها بين حائطين خرسانيين – تنظر في الشارع المقابل حيث يكاد ابنها تصدمه سيارة مرسيدس مسرعة بداخلها عجائز في طريقهم للعب الغولف.
الوجود الكلي للشاشات
لكن النافذة المطلة على العالم ليست بالضرورة دائماً نافذة فعلية. تُظهر الشاشات أيضاً ما يجري في الخارج. في “طفيلي”، ما يحمله الهاتف الذكي أكثر أهمية من مشاهد النافذة. لا يتوقف الأمر عند إيجاد وظيفة لفرد من عائلة كيم المتعطّلة عن طريق إعلانات الإنترنت، بل يتعلق أيضاً بالعثور على المعلومات التي تحتاجها للبقاء متقدمة بخطوة على أرباب عملها.
صورة الميديا تحضر كذلك. ما من فيلمٍ لبونغ، لا يعلّق فيه التلفزيون على الأحداث. في “محطم الجليد” و”أوكجا” (2017)، تسيطر أحياناً مقاطع البروباغندا الملونة على الشاشة بأكملها. تصبح الشاشات قوية للغاية فتشغل مساحة كبيرة من مجال النظر بحيث لا يعود باستطاعة المتفرج رؤية حواف تؤطرها. تصبح هي العالم ذاته.
وقول ذلك، لا يعني بالضرورة أنها أفلام عن التكنولوجيا، رغم بروزها إلى الواجهة مراراً وتكراراً: أدوات هائلة تحتضن البشرية جمعاء، هواتف صدفية خاصة، أحدث التطورات في علم الوراثة، وهواتف ذكية تجعل خطة الاستيلاء المعقدة ممكنة. حتى لحظات التشويق مرتبطة بالأجهزة الإلكترونية، مثلما يحدث عندما يكشف اهتزاز الهاتف مكان اختباء. بشكل عام، يحمل بونغ مشاعر متناقضة تجاه التقدم التكنولوجي ويتعامل معه بتشكُّك حذر. فعنده، التقنية تعزل وتوحِّد، حتى في الجماعات العائلية المبعثرة التي تكمن في مركز اهتمامه.
تهيمن النوافذ والشاشات على أفلام بونغ وتدخل كل مشهد تقريباً. هذا ليس صدفة، فأفلامه مشغولة باظهار كيف تعمل أنظمة التحكم والمراقبة. وغالباً ما ترتبط ارتباطاً مباشراً بسؤال ما يمكن رؤيته وما الذي يبقى مخفياً. في فيلمه التجريبي المبكر “إنفلونزا”، يبدو ذلك واضحاً بشكل صريح للغاية، لأن جميع الأحداث تظهر من منظور كاميرات مراقبة مختلفة، تسجّل بلا رحمة كيفية دمار حياة شاب كوري.
صورة مقابل صورة
لكن أيضاً في الأفلام الأخيرة لبونغ، يتملّك المرء شعوراً بأنه ينظر إلى الأحداث بعيون قوة غير مرئية. عيون الدولة الباحثة التي لا تستطيع اكتشاف الجاني في جريمة قتل، وبالتالي تقوم بمعاقبة أي شخص آخر يدخل في مجال الرؤية. في بعض الأحيان، تأخذ النظرة الرسمية المدققة أبعاداً سخيفة بقدر هزليتها: في فيلم “ذكريات القتل” (2003)، نظراً لعدم العثور على أي خصلات شعر أو شيء من شعر العانة في مسرح جريمة الاغتصاب والقتل، يتبنى أحد محققي الشرطة نظرية تفيد بأن المجرم أملس، ويقضي نهاره في التحقق من الأجهزة التناسلية لمستحمّي أحد الحمّامات ويطلب من عمّال المكان فعل الشيء نفسه.
في “طفيلي” و”أمّ”، تُبتز الشخصيات بالصور ومقاطع الفيديو. إذا كشفت الأمر للشخص الخطأ، فهذه هي نهايتك. وخلال قتال في “محطم الجليد”، يخضع المتمردون لاختبار الحدود الأقصى لتجربة المراقبة، لأن جنود الحاكم ويلفورد يمتلكون أجهزة رؤية ليلية بدلاً منهم. في تلك الأثناء، تتيح اللقطات الذاتية للكاميرا، للمشاهِد، النظر بعيني الجندي المسلح الذي يقتل خصومه العميان. أما أول فعل مقاومة يقوم به كورتيس، بطل الفيلم، فيتمثّل في البقاء لفترة أطول من المسموح به لإلقاء نظرة أعمق على نظام الأبواب الأمنية المتداخلة: الشاشة الخاصة بالسلطة.
كل مكان له كوريورغرافيته الخاصة من النظرات والوجهات، من ناطحات السحاب إلى المسالخ. العمارة، كذلك، تتطلب دراماتورجيا خاصة للرؤية. البانوبتية Panopticism، مبدأ السيطرة كما وصفه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه “المراقبة والعقاب”، الذي يسمح للحاكم برؤية كل شيء من دون أن يكون مرئياً؛ يهيمن على العديد من المباني الوظيفية المستخدمة من قبل السلطة لإحكام قبضتها على محكوميها.
مع ذلك، فإن نظرة الكاميرا، في أفلام بونغ، تعمل دائماً في الاتجاه الآخر: من الخدم إلى السادة. فعل يتبعه رد فعل، ولاحقاً في كثير من الأحيان، يتحول إلى عنف وعنف مضاد. فقط عندما يرى المرء الآخر، عندما تُزال الحواجز الكبيرة، يمكن للمرء أن يتحوّل بتفكيره إلى داخله، فيتفكّر في العلاقة بينه وبين نفسه.
نهج اجتماعي
قبل تخرجه من الأكاديمية الكورية لفنون السينما في دايجو العام 1996، درس بونغ علم الاجتماع في جامعة يونسي المسيحية. كانت فترة من الاضطراب السياسي والاجتماعي، وغيّرت الحركة الديموقراطية من صورة البلد المستديمة. حتى اليوم، لدى أفلام بونغ شيء سوسيولوجي تقوله، كما تُظهرها أنظمة التحكم والمراقبة، الحاضرة في أعماله، للتأثير في مجريات الأحداث الاجتماعية ومصائر العلاقات الإنسانية. كل عملية بحث، وكل مهمة إنقاذ، تؤدي في النهاية إلى جوهر النظام القائم. لكن قبل ذلك، يجب دائماً تسجيل الهيكل السلطوي بأكمله.
نهج بونغ المحدد ذلك لا يعني أنه يقوم بدراسات واقعية اجتماعياً، أو ينخرط في خطاب سينمائي عن الصراع الطبقي. لكن قبل كل شيء، اهتمامه بالمسألة الإجتماعية حاضر في جميع أفلامه، المعروف منها والأقل شهرة، حتى في فيلميه الأميركيين اللذين شهدا تعاونه مع شركات إنتاج ضخمة بميزانيات كبيرة. في ذلك، بونغ ليس سمساراً ولا انتهازياً ولا موظفاً، بل هو فنان أصيل لا يتنازل عن رؤيته في وجه أصحاب المصالح، وسينمائي ذكي يعرف كيف يقول كل ما يريده بطريقة سهلة الوصول لأوسع جمهور ممكن، حيث مع كل الضجة المصاحبة دائماً للإنتاجات الكبرى يأتي الشوق الملتهب لدى قطاع عريض من الجمهور العالمي لتفسير رموز وفكّ شفرات الفيلم.
الصراع بين الهدف والوسيلة، المضمون والشكل، هو ما يجعل الأفلام عرضة للخطر، وبالتالي مثيرة للاهتمام. يؤكد بونغ مراراً وتكراراً على أن أفلامه الثلاثة الأخيرة، “محطم الجليد” و”أوكجا” و”طفيلي”، تشاكل الرأسمالية. إنها مليئة بالإيماءات المتمردة والثورية، رغم تصوّر خروج صوت ناقد ينعتها بـ”الروشنة” التي غالباً ما ينتهي بها الأمر كنوع من الثورية الأنيقة، كتلك المساهمة أيضاً في ترويج موسيقى رديئة زاعقة أو مشروبات الصودا (مصر و”فنانوها المستقلون” ليسوا بعيدين كثيراً من هذا المثال). لكن مرة أخرى، أفلام بونغ أبعد ما تكون عن اتهام كذلك لا يصمد أمام جرعات المتعة والتحفيز التي تطلقها في طريقها لاستكمال عمل مشغول بعناية وروقان ويسير مثل لعبة بينغ بونغ مع توقعات المتفرج. هي تتبع شكلاً تقليدياً (التقاليد الطويلة لتاريخ الفيلم ومنطقه البنائي) في بنائها لمجموع أجزائها، غير أن تضفير تلك الأجزاء معطوفاً على وجهة نظر مخرجها ومؤلفها، هو ما يجعلها فريدة وتشكّل نوعاً فيلمياً مستقلاً بذاته.
“ستيفن سبيلبرغ كوري”
لو لم يكن بونغ كورياً، ولو لم تأتِ أفلامه من كوريا، فربما ألحقوها في الغرب بالسينما الفنية الرائجة ذات الميزانيات الكبيرة، على شاكلة أفلام سبيلبرغ وسكورسيزي وكوبولا وتارانتينو.
أفلام النوع العظيمة، في كثير من الأحيان، تكون هجينة من أنواع مختلفة ولا تلتزم بحدود النوع السينمائي الغالب عليها. ذات مرة، أشار كوينتين تارانتينو إلى بونغ بوصفه “ستيفن سبيلبرغ الكوري”. تارانتينو يحب بونغ ويقدّر عمله. في مهرجان “كان” السينمائي الماضي، وفي عزّ اهتمام الصحافة والحضور بعرض فيلم تارانتينو الأخير “ذات مرة في هوليوود”، حرص المخرج الأميركي على حضور العرض الأول لفيلم بونغ.
وعلى ذكر تارانتينو، فهو مثال جيد ومعاصر لفهم المكانة التي يستحقها بونغ في المدونة السينمائية. فهو، تارانتينو، مخرج يحب اللعب مع الأنواع، ويتعامل مع صناعة الأفلام بحس سينيفيللي خالص، والمتعة عنده تغلب ما عداها في معادلة إنجاز الفيلم، وتحضر في أفلامه الكوميديا بأنواعها. يشترك بونغ مع تارانتينو في ميله للعب وحرصه على تشييد فيلم سلس التدفق، لكن ليس لأسباب الأميركي نفسها، فضلاً عن الابتكار البصري والتخييلي والنظرة النقدية التي تميّز المعلّم الكوري عن نظيره الأميركي المشهور.
القصد، أنه في موسم الجوائز، لا يتوقف الصحافيون عن مناقشة الأفلام ذات الحظوظ. الآن، مع فوران الجوائز والتتويجات، صار اسم بونغ، سهلاً على ألسنتهم، ومن السهل توقع فوزه في غالبية الترشيحات هذا العام، وهذا تقدير مستحق، وإن جاء متأخراً ومع فيلم ليس هو أفضل أفلامه.
في دقتها الفنية وفي تعريض حبكاتها للجمهور، تعدّ الأفلام نفسها نظاماً للتحكم والمراقبة. في دور السينما، ينظمّون الناس، ويعيّنون لهم أماكنهم، وغالباً ما يجبرونهم على اتباع المسارات. في حركتها المستمرة أمام الشاشات الكبيرة، تصبح الأجساد البشرية أشكالاً، وتصير أحياناً مخططات غير واضحة في الظلال. حين لا ينتقل أي شيء عبر العالمين، الشاشة والمتفرج، فمردّ ذلك تعطُّل وفشل أحد جانبي الاتصال. للإبقاء على خط الاتصال مفتوحاً، يلزم منظومة معقدة من الضبط والتقدير السينمائي تستلهم تراثاً بصرياً وموضوعياً بقدر ما تخلق صوراً مبتكرة وأسلوباً فريداً.
مثل العديد من صنّاع السينما الكوريين في جيله، يريد بونغ التسلية أيضاً. لا أن يكون مثل أسلافه الذين غمروا السينما لفترة طويلة بدعايات الدولة التعليمية. لا ينبغي لومه على ذلك أبداً، مثلما لا يجوز اختصاره في كونه “سبيلبيرغ الكوري” أو مخرج “كوول” مثل تارانتينو. وأيضاً في الطرف المقابل، من الضروري الحرص على عدم اختزاله في مجرد مُنظِّر سينمائي عن الصراع الطبقي وحكم السادة.
في أرض الخرافة
ثمة قصص غير عادية لا يمكن سردها إلا عبر حكايات تحدّدها المصادفات. تماماً، كما هو الحال في أفلام ألفريد هيتشكوك – الحاضرة أجواؤه في صلب “طفيلي” – لا تُعطى المعقولية أولوية كبيرة في إنشاء عوالم أفلام بونغ. عوالمه تقف دوماً بقدم واحدة على أرض الأمثولة، من دون أن تدخلها. يبدو العديد من الأماكن والأحداث مستحيلة، إذا فكّرت فيها ملياً. تحتوي أفلامه أيضاً على شيء من الحكايات الخرافية أو الأمثولات المعقدة. الاستعارة والواقع متشابكان، يتعرَّف المرء فيها على مجموعة من الرؤى والأفكار مرة أخرى، ولكن في كثير من الأحيان تدخل في مساحات تأويل فنية تصبغها بمظهر جديد ومختلف.
في فيلم “أوكجا”، الذي أنتجته “نتفليكس”، أحاله بطريقة ما إلى تكنيكولور (Technicolor)، وفي الوقت ذاته حاول الحفاظ على أحجام الممثلين والمخلوقات الخيالية متناسبة مع شاشات الهواتف، شاشات العرض المفترضة لجمهور “نتفليكس”. بلوغ نقطة التآلف الآمن والسلس بين متضادين، ليس شيئاً سهلاً في السينما. قد تكون أفلام بونغ جذرية وكئيبة في بعض الأماكن، لكن هناك دائماً لمسة من الإشعاع الملون على الأشياء. يعتني بونغ بتصميم مشاهده قبل تصويرها، فتأتي مهندَسة من دون أن يمنعها ذلك من الالتحاف برداء هزلي. كل نافذة وكل شاشة وكل إطار يحدّد مجالاً للنظر ويخبر قصة ناظرها.
وكل شيء حقيقي على قدر واقعية سياقه، مثلما تعتمد صحة الاستنتاجات على دقة الافتراضات. جريمة القتل المستوحى منها فيلم “ذكريات القتل” لم يكشف غموضها إلا قبل بضعة أسابيع، بعد أكثر من 15 عاماً على وقوعها. إثر ذلك، حضر الفيلم ومخرجه، من جديد، على قدم المساواة، إلى جانب قضية القتل في عناوين الصحف. في الوقت نفسه، رواية الفيلم عن الجريمة لا تبتعد في خيالها السينمائي لتهمل الجريمة الحقيقة أو تنتقص من إثارتها وأثرها ومعناها، ولا يحدث العكس أيضاً. لتبقى جريمة القتل السينمائية من دون حلّ وغير قابلة للحلّ إلى الأبد. فيما لا تزال نظرة الممثل الرئيسي سونغ كانغ هو، في نهاية الفيلم، تسائل وتدين دولة بأكملها وتاريخها، ولا يزال موقع الجاني الحقيقي بين الجمهور.
لحظة انعطاف
إذن ماذا يحدث عندما يحاول جهاز السينما الكبير إخبار رواية آلات المراقبة والتحكم؟ في حالة بونغ جون-هو، يحدث الاندماج. تحارب الشخصيات جهاز السلطة، للإفلات من حصاره، بقدر ما تتعارض مع السينما، في تحديدها شخصيتها وجوهرها. في كثير من الأحيان، تحدّد حركة كاميرا معينة فيلماً بأكمله، والتاريخ السينمائي يخبرنا كيف احتلت السينما الأميركية مكانتها الجماهيرية بفضل الإلحاح على لقطة ردّ الفعل. في نهاية فيلم “أم”، تؤدي اللقطة التتبعية المتأنية للكاميرا الذاتية إلى لحظة اتخاذ القرار، والكشف عن معناه. “محطم الجليد” أفقي تماماً، ويتضح فقط في النهاية أن هناك ما هو أكثر من حركة القطار ذهاباً وإياباً. بينما يبدأ “طفيلي” بلقطة تهبط من أعلى إلى أسفل، وينتهي بها مرة أخرى. تؤسس الكاميرا منطقاً للحركة والنظر، يبدو لفترة طويلة (من مدة الفيلم) أمراً حتمياً لا مفر منه ولا يمكن تجنبه.
حتى تأتي لحظة ينعطف فيها السرد متحولاً عن ذلك التوقُّع الغالب، فينكسر النمط. عند بونغ، هناك دائماً لحظات مفاجئة من السعادة والتبصُّر والغضب والحقيقة. شيء ما يصير مرئياً، وبالتالي ملموساً. إذا نظرت إلى العالم حينها، فقد ترى النوافذ والشاشات نفسها، على حالها، لكنها لم تعد تُظهر الشيء نفسه. وبالتالي، لا يتعيّن في أفلامه تحقيق نصر نهائي أو قول فصل، وليس مؤكداً انقلاب كل شيء رأساً على عقب. لكن في نهاية الفيلم، شيء ما يصبح ممكناً (كما في نهاية فيلم “أم”، على سبيل المثال، وهي واحدة من أشد النهايات السينمائية تأثيراً في العموم). حتى لو أتبع ذلك الكارثة.
لثانية، تتوقف الآلة الكبيرة، آلة السينما/المراقبة/الفيلم. على الأقل للحظة، تتحرك فيها بشكل مختلف عن المتوقع. هذا، تحديداً، جوهر عمل بونغ ومكمن أصالته: توقُّع اللامتوقع.
(*) فاز الفيلم مؤخراً بجائزة “غولدن غلوب” لأفضل فيلم أجنبي للعام 2020، كما رشّح لستّ جوائز أوسكار للعام 2020، من بينها “أوسكار أفضل فيلم دولي” التي من المتوقع أن يفوز بها.