عن نظام التفاهة/ نواف التميمي
“لقد تبوأ التافهون موقع السلطة”.. بهذه الكلمات القاسية، ولكن الواقعية للأسف، يُقدّم أستاذ الفلسفة في جامعة كيبيك الكندية، آلان دونو، كتابه “نظام التفاهة” الذي صدرت نسخته الفرنسية في العام 2017، ثم تبعتها النسخة الإنكليزية. ومع مطلع العام الجديد، أسعدتنا أستاذة القانون الخاص في جامعة الكويت، مشاعل عبد العزيز الهاجري، بنسخة عربية صدرت عن دار سؤال في بيروت. وهو ليس أَول الكتب التي يتصدّى فيها دونو للرأسمالية المتوحشة والنيولبرالية أو الليبرالية المتطرّفة، إذ فعل ذلك في كتابه “كندا السوداء: النهب والإفساد والإجرام في أفريقيا”، وصدر في 2008.
تُلخص الفكرة المحورية في “نظام التفاهة – الميديوقراطية” أننا “نعيش في عصر صعود الرداءة والإنحطاط مع سيادة نظامٍ أدّى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الدولة الحديثة”، حيث غُيب الأداء الرفيع، وهُمّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطّة، وتم إقصاء الأكفاء، وخلت الساحة لشريحةٍ عريضة من التافهين والجاهلين وذوي الثقافة الضحلة. ومما زاد الطين بِلةً وصول بعض هؤلاء إلى سدّة الحكم، تحت مظلة الديمقراطية والشعبوية والحرية الفردية. وحسب دونو، يرمي نظام التفاهة إلى إسباغ التفاهة على كل شيء، السياسة والأكاديميا والصحافة والثقافة والفن، مُستخدماً البهرجة والابتذال، والمبالغة في التفاصيل للهيمنة على واقعنا.
يمتاز نظام التفاهة بازدهار “الخبير” مقابل اضمحلال المثقف، إذ يُمثل الأول النموذج المركزي للتفاهة، وهو السفسطائي الذي يُدفع له لكي يُفكر بطريقة معينة، ويَهب إلى نجدة الأوليغارشية كلما تسقط في التدليس والفساد والتفاهة. وتحت رعاية التفاهة، يتم إشاعة البلاهة بدلاً من التفكير، بحيث يصير كل ما هو غير مقبول حتمياً، وكل ما هو مقيت ضرورياً، وتهيمن ثنائية “الخبز واللعب”. وهكذا يتجاوز نظام التفاهة والفساد، وكونه مجرد استغلال النفوذ، إلى أن يكون عملية تدهور راديكالية تطفو على سطحها خمس شخصياتٍ تحوم في فلك النظام، التافه المُنسحب أو المُنكسر، والتافه بطبيعته، والتافه المُتعصب، والتافه المُرغم، وأخيراً التافه المُندفع.
ويرى دونو أن التفاهة صارت لعبةً تتقنها الأنظمة الساسية، ظهرت مع حكم التكنوقراط في عهد رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت ثاتشر، إذ وقع نقل الحوكمة من المجال الاقتصادي إلى المجال السياسي، وابتكر التاتشريون الحوكمة السياسية التي استبدلت مفاهيم مثل “الإرادة الشعبية” و”الناشطون السياسيون” و”المواطن” بمفاهيم “المقبولية المجتمعية” و”التوافق” و”التسوية”. وبذلك أفرغت السياسة من المفاهيم الكبرى، كالحقوق والواجبات والقيم والصالح العام. ومع الحوكمة السياسية، تحول اهتمام الساسة من الصالح العام إلى التعامل مع الدولة مشروعا تجاريا، لا يخضع لأي منظومات أخلاقية أو مُثِل عليا.
كتاب آلان دونو، معقد وشائك، يُقرأ بهدوء، كما وصفته المترجمة، ولكن النسخة العربية جاءت بلغة مشاعل عبدالعزيز الهاجري ممتعة وشائقة، سيما وهي تمهد للكتاب بمقدمةٍ عميقةٍ وسلسةٍ، مع اعتماد منهج للترجمة أضفى على الكتاب قيمة رفيعة، إذ لم تكتف المترجمة بترجمة النص أو المتن، بل قدّمت شروحات في الهامش لأسماء ومفاهيم ومصطلحات كثيرة يمر عليها المؤلف، مُفترضاً أن كل قارئ يعرف ما تعنيه. وإثراء الكتاب بالشروحات والتوضيحات التي تبرّعت بها المترجمة أغنى الكتاب وقرّب محتواه للقارئ العربي، سيما من لم يتسن لهم قراءة أي من النسختين، الفرنسية والإنكليزية. وتؤكد المترجمة أنها حافظت على الصياغة الأصلية للكتاب، ما أمكن، مع تحوير في المادة بما يلائم ذائقة القارئ العربي، ويضمن وصول المعنى.
يزخر كتاب آلان دونو بالإحالات والشواهد والاقتباسات التي تتكثف في 366 صفحة لتفسير أسباب التفاهة، ومظاهر هيمنتها في تفاصيل حاضرنا، وكأنه يعيدنا إلى ما حذّر منه النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) في حديث رواه أبو هريرة عن “سنوات خدّاعات ستأتي على الناس يُصًّدق فيها الكاذب ويُكذّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”.
العربي الجديد