كتاب "الثورات العربية".. أفكار عن عسر انتقالنا الديمقراطي ومآلاته/ أحمد مأمون
(1 – 2)
يقال إنَّ العمل الأكاديمي يحاول دائمًا اللحاق بالتطوّرات الحقيقية على الأرض، وواقع الثورات العربية والمكتوب حولها دليل واضح على صحة هذه المقولة عمومًا، لكنَّ الجهد البحثي حول الثورات العربية في الأكاديمية الغربية والعربية يبقى متباينًا كمًّا ونوعًا، فبينما أنتجت الأولى كَمًّا لا يستهان به من التنظير والتفكيك لهذه الأحداث وأصبحت هناك مكتبة متكاملة الأركان عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما بعد 2011 في الغرب، لا تزال تعاني الثانية -برغم أنها ابنة الحدث- من ضعف ملحوظ في التحليل الأكاديمي الرصين.
في هذا السياق يبرز كتاب “الثورات العربية: عسر التحول الديمقراطي ومآلاته” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، 2018) ليكون أحد الكتب المهمة والمرجعية في هذه المسألة عربيًا.
هذا الكتاب الضخم (880 صفحة) هو نتاج مؤتمر علمي عقده المركز عام 2016، شارك فيه نخبة من الباحثين العرب والغربيين، كعبد الوهاب الأفندي، هاني عواد، خليل العناني، رايموند هينبوش، أرنود كورز، إضافة إلى بعض السياسيين كعبد الفتاح مورو. ويتضمن أبرز أوراقهم العلمية وكلماتهم التي بلغت 26 ورقة، مقسمة إلى أربعة أقسام:
– شهادات وقراءات.
– في إعادة قراءة تحولات الثورات العربية.
– مأزق الدولة التسلطية في تجربة الثورات العربية.
– التحولات الاجتماعية – السياسية.
ونظرًا لاتساع الكتاب، فإنني سأقوم بمراجعته في مقالتين، تحاول كل واحدة منهما تلمّس جوانب مختلفة من الأطروحات الواردة في الكتاب.
الدولة والقوى الثورية: معركة المساحات
يناقش المفكر اللبناني جلبير الأشقر الشعار الأشهر الذي صدحت به حناجر الشباب في ميادين العالم العربي: “الشعب يريد إسقاط النظام” متسائلًا: “هل يستطيع الشعب إسقاط النظام والدولة لا تزال قائمة؟ تأمُّل في المعضلة الرئيسة للانتفاضة العربية”. ليقوم في البداية بالتفريق الاصطلاحي والمعنى الدلالي والتاريخي لمفهومي “الدولة” و”النظام”، إذ تكون وظيفة الأول “State” هي القمع، كما يتفق ماركس وفيبر، أو بلغة كارل شميت الحادة “الحق في إزهاق الأرواح البشرية”، كما أن عمودها الفقري هو أجهزتها المسلحة من جيش وشرطة، وفي المرتبة الثانية الوظائف الإدارية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
أما الثانية “Regime” والتي أراد الشعب إسقاطها، فتدل على نظام حكم سلطوي، سواء كان استبدادًا جماعيًّا (طغمة عسكرية) أم فرديًا – عائليًا. وهذه الأخيرة هي الأكثر انتشارًا في المنطقة العربية، لأنها تشير إلى صاحب فردي للنظام، فنتحدث عن نظام مبارك ونظام بن علي أو نظام الأسد.. الخ.
ويكمن الإشكال الأساس في العالم العربي في علاقة النظام بالدولة؛ “فحرص الجمهور على الدولة هو حرص على وظائفها المفيدة للعموم من حفظ للنظام “Order” كنقيض للفوضى”. ويفرق ويفكك الأشقر بين بنية الأنظمة العربية، ففي مصر وتونس التي استغل فيها الحكام الدولة ونهبوها في ظل حكم دكتاتوري، لكنها ليست ملكًا لهم وليس توريثها لأفراد عائلتهم بمضمون حتى لو جرى التخطيط له في مصر، ويعود ذلك إلى كون جهاز الدولة سابق بتركيبه لحكمهم، ومستقل عن شخص الحاكم الذي وصل إلى سدته، وفي هذا النوع من الأنظمة التي تسمى “النيو أبوية وراثية” يكون فيها الحاكم مضطرًا إلى المساومة مع الأجهزة السيادية كالجيش والأجهزة الأمنية.
أما الدول العربية مثل سوريا وليبيا التي يطلق عليها “الأبوية الوراثية” فقد جرى تشييد أجهزة الدولة من الأساس، أو تم إعادة تركيبها من قِبل الأسرة الحاكمة حتى يلائم إدامة سلطتها، وتكون سلطة الحاكم مطلقة إزاء الأجهزة السيادية، وهذا الفرق الوحيد بين هذه الأنظمة بحسب المفكر اللبناني.
المحصلة النهائية التي توصل لها الأشقر هي أنه “لا يمكن إسقاط النظام بالمعنى الأشمل للتعبير بغير تفكيك الدولة، ما دامت الدولة والنظام المرتكز عليها قائمين على الاستبداد والتملك الفردي للملك العام، أكان الأمر في إطار أبوي وراثي أم نيو أبوي وراثي”. وبما أن المنطقة دخلت في النموذج الفعلي “لحرب الجميع ضد الجميع” كما يسميها توماس هوبز في عمله الكلاسيكي “لوياثان”، فعلينا أن نواجه النموذج على أرض الواقع، عبر وجود قيادة ثورية تسعى إلى كسب الهيمنة في قاعدة الهرم الاجتماعي كي تتمكن من إطاحة قمة السلطة السياسية، الأمر الذي يتطلب برأي الأشقر استبدال الانشطار العمودي للمجتمع (قبائل، أقاليم/جهات، طوائف) بانشطار أفقي (الشعب ضد النظام، الكادحون والمحرومون ضد المحاسيب ولصوص السلطة) والسعي إلى مد هذا الانشطار الأفقي من المجتمع المدني إلى داخل أجهزة الدولة بالذات.
يعتبر جلبير الأشقر مستقبل السيرورة الثورية طويلة الأمد مرهونًا بقدرة القوى التقدمية على “مد هيمنتها إلى داخل أجهزة الدولة، وتحديدًا المؤسسة العسكرية حيث تستطيع شل النظام ودحره بأقل تكلفة بشرية ممكنة، وتشكيل حكومة ثورية مؤقتة تحوز مقومات الدولة الأساسية، من دون انفلات أمني وانهيار اقتصادي وأزمة معيشية حادة”، بهذه الطريقة فقط يمكن برأيه إسقاط النظام والشروع في إعادة تركيب الدولة من دون أن تنهار وظائفها التي يحرص عليها المجتمع”. وبحسب كارل كاوتسكي فإننا لا نستطيع هدم البيت بكامله، لأننا بحاجة إلى غرفة نسكنها.
وورقة الأشقر هذه التي كانت افتتاحية الكتاب بالغة الأهمية والتكثيف، لأنها توضح أنَّ “عسر التحول الديمقراطي” ليس مرتبطاً فقط بأخطاء الثوار، بل بخطايا الأنظمة التي رهنت مستقبل البلاد لصالحها، وألغت الحياة السياسية.
الدولة الخلدونية.. من جديد؟!
في بحثه المعنون “نهضة أم سقوط؟ أزمة الدولة العربية” يتقاطع مايكل هدسون مع الأشقر في بحثه عن المشكلة في “الدولة” وليس في “أفعال الثائرين” إذ يعتبر أنَّ أغلبية “مواطني العالم العربي الشجعان” تفتقر إلى القيادة والتنظيم والصيغة الشرعية التي تمكنهم من التغلب على نماذج رثة وبغيضة من الاستبداد العسكري والعائلي.
يستعرض هدسون المحاولات المتعددة لفهم بنية الدول العربية، ثم يكثّف “معضلة” الدولة العربية المختلفة عن “الدولة” في الغرب، فيقول: “ليست الدولة شيئًا دائمًا وموجودًا ما فوق السياسة، بل هي مرتبطة ارتباطًا حميميًا بـ”النظام”. ولا يحمل الأنموذج الخلدوني شبيهًا له في فهمنا الأوروبي الفيبري والليبرالي للدولة الحديثة.
بحسب رؤيته لمستقبل العالم العربي يتوصل إلى أن “الوسط العربي سيبقى على الهامش إلى أن تبرز قيادة فاعلة منبثقة من المجتمع”، إذ يمكن للمؤسسات “الرجعية” بتعبيره أن تقوم بدور إعادة تشكيل الوسط كالقبائل والمؤسسات الدينية، وما يمكن إنقاذه من عناصر بيروقراطية في الدولة، إذ إن الأحزاب السياسية تم تفريغها من مضمونها من خلال الأنظمة الاستبدادية أو مارست تلك الأنظمة عقودًا من “استئصال الأحشاء” للقوى السياسية.
ولادة المواطن الشجاع
من الملاحظ أن معظم الأبحاث الغربية تستخدم مصطلح انتفاضة “Uprising” بدلًا من ثورة “Revolution” لتوصيف الثورات العربية 2011، ومحاولة حل هذه القضية الإشكالية عند الأكاديميين هو محور بحث ويندي بيرلمان: “الثورة والولادة الجديدة في سوريا” متخذةً تعريف جاك غولدستون للثورة مصدرًا رئيسًا، فهو يعرفها بأنها “جهد لتغيير المؤسسات السياسية والتعليلات التي تسوغ السلطة السياسية في مجتمع ما، مصحوبة بتعبئة جماهيرية رسمية أو غير رسمية، وأفعال غير دستورية تقوض السلطات القائمة”. فهل تريد بيرلمان مقاربات أكاديمية تركز على بنى الدولة أم الدخول في معركة المفاهيم؟ إن ما تبحث عنه أستاذة العلوم السياسية خريجة هارفرد هو التأثير النفسي والعاطفي والثقافي، فالناس العاديون الذين عوّدوا أنفسهم على الحكم الاستبدادي، تحولوا إلى مُتحدين للنظام، وهذا يؤشر إلى نهاية جزء مما كان يُعَرِّفُهم بوصفهم “مواطنين” والبدء باكتشاف مناحٍ جديدة في أنفسهم، وهي تحاجج بأن هذه العملية من التحول الذاتي شيء قريب من الولادة الجديدة، وهي الأساس الثوري لما حدث في العالم العربي عام 2011. فقد كان العرب -والسوريون تحديدًا- يتفادون الحديث في السياسة، ويقولون: “الجدران لها آذان” لكن بعد 2011 انتهى كل شيء وبتعبير أحدهم “خلص” كسر الناس حاجز الخوف ولن يعودوا إليه أبدًا. وتقول الباحثة بأن الثورة السورية يجب أن تفهم أولًا وقبل أي شيء أنها تمرد على هذا الخوف وعلى آثاره الشالّة سياسيًا، مستشهدة بالكاتبة الروائية ديما ونوس حين تقول: “كانت معركة السوريين معركة ضد الخوف قبل أن تكون معركة ضد زعمائهم”.
وتميّزت ورقة بيرلمان باستنادها إلى مقابلات مفتوحة مع أكثر من 300 سوري مهجّر في تركيا والأردن، كما أنّها شاهدت العشرات من المقابلات المتلفزة وقرأت العديد من التجارب الشخصية في الثورة السورية، قائلة: “قد طوّر ألوف السوريين اليوم الإدمان على الحرية والتمرد الجماعي”، وإن هذا التحول من الخنوع إلى الحرية يخلق شخصًا جديدًا. ولعل إحدى اللافتات المصورة في ميدان التحرير عبرت عن حالة كثير من الشباب العرب، في بطاقة هوية ساخرة ما يأتي:
“الاسم: مواطن
مكان الولادة: ميدان التحرير
تاريخ الولادة: 25 كانون الثاني/يناير 2011″
المهنية العسكرية الجديدة
يدرس الباحث السوداني حسن الحاج علي أحمد العلاقات المدنية-العسكرية في بلدان الثورات العربية ويركز على مصر وسوريا واليمن. وقبل أن يشرع في بحث تلك البلدان، قدم لنا مدخلًا نظريًا حول المهنية العسكرية، بدءًا من صمويل هنتنغتون وناقده موريس جانويتز (وقد عرضنا هذا الموضوع بتعمّق في مواد سابقة). ويستعرض الباحث تاريخ نشأة المؤسسات العسكرية وعلاقتها بالبنى الاجتماعية القائمة، كالقبيلة في اليمن الذي يعتبره مايكل نايتس اختراقًا يمكن أن يكون بمنزلة نوع متطرف من السيطرة المدنية على العسكريين، ما يجعل الجيشَ فاشلًا عاجزًا عن الفعل، إضافة إلى أن الجيش اليمني -وسائر مؤسسات الدولة- حديث التأسيس؛ لذلك لم تتمكن من ترسيخ الاحترافية.
أما سوريا وبسبب تسيس الجيش سابقًا، استطاع الأسد الأب أدلجة الجيش عبر الحزب، وعندما تماهى الجيش مع الحزب سياسيًا، تحققت “السيطرة المدنية” برأيه، وهو بالنسبة للكاتب سبب النجاح في تحقيق استقرار نسبي في السيطرة المدنية على الجيش، لكن احترافيته الجديدة برزت في بعدها الأمني بروزًا حادًا، وهنا يرى الباحث أنَّ البعد الأمني والعسكري واحد! بينما يرى أنَّ مصر تملك جيشًا احترافيًا إلى حد ما، من حيث نشأته وتدريبه ومهماته، وتتجسد أبعاد هذا المهنية الجديدة في البعد الاقتصادي والأمني، بسبب رسوخ المؤسسة، إذ استطاعت تأسيس شبكة تحالفات مع قطاع الأعمال والبيروقراطية، لتؤمّن مصالحها ومصالح الشبكة المتحالفة معها!
برغم أنَّني مهتم جدًا بهذا المجال إلّا أنني لن أناقش بالتفصيل ما يطرحه الدكتور حسن الحاج علي، وأقول باختصار: إنَّ سيطرة الأسد على الجيش وحزب البعث معًا، لا تجعل الجيش خاضعًا للبعث، ولا تجعل “الطيار الحربي حافظ الأسد” مدنيًا يسيطر على الجيش، وكذلك عندما يسيطر “ضباط القبيلة” على مفاصل في الجيش ويفشلون في تكوين مؤسسة عسكرية احترافية، فإنَّ القبيلة ذاتها لا تكون مسيطرة بالمعنى المدني على الجيش.. هذا في التحليل الأوليّ، أما عندما نتعمّق في قضية العلاقات المدنية العسكرية فهي تعني بالدرجة الأولى خروج “القوة” من دائرة الصراع السياسي، ومنع الجيش من فرض رأي سياسي بالقوة على بقية الأطراف، سواء كان الجيش كمؤسسة هو صاحب هذا الرأي، أم تم استخدامه من قبل حزب أو فئة مجتمعية لفرض هذا الرأي، وبهذا الفهم الأعمق لمشكلة العلاقات المدنية العسكرية، فإنَّ الدول الثلاث يسيطر فيها العسكري على المدني بامتياز، قبل الثورات العربية، وبعدها.
ختامًا: فإنَّ المؤكد حتى اللحظة أن الثورات العربية قد قلبت العالم رأسًا على عقب، وما عاد بالإمكان تخيل عودة العرب كما كانوا قبل عام 2011، فما حصل قد هز البنى الاجتماعية والسياسية لهذه المنطقة إلى الأبد، وما نعيشه في هذه الأثناء هو آثار “العطب” الذي ورثته دول ما بعد الاستعمار. لكننا في العمق نشهد تشكل عالمٍ عربي جديد، بدأ من تونس “الثورة المجيدة” ولن ينتهي بالجزائر والسودان، بل سيتمد ليشمل الدول التي تعرضت لعنف أشد.. ويبقى الوصف الأدق لهذه اللحظات قول غرامشي: “القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية شديدة التنوع”.
(2 – 2)
مع مرور الأيام تزداد ظاهرة التحولات التي أعقبت الثورات العربية تعقيدًا، ولا تزال تفاجئنا بسعيد الأخبار حينًا، وبالفواجع أحيانًا أخرى، وفي سبيل تلمّس بعض جوانب هذه الظاهرة المتحوّلة المعقدّة، نتابع الجزء الثاني من مراجعتنا لكتاب “الثورات العربية: عسر التحول الديمقراطي ومآلاته” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) فنعرض ثلاثة أبحاثٍ من حقول معرفية مختلفة: القانون إلى الدراسات الأمنية والعلوم السياسية.
وهذه الأبحاث تعتبر إضافة جديدة في قضايا التحول الديمقراطي، وإن كانت في صورتها الحالية مقاربات أوليّة واعدة تحتاج إلى تعمق أكبر لتؤتي ثمارها، وهو ما اعترف بها كاتبوها فذكروا أنَّهم لا زالوا يعملون على تطويرها لتخرج لاحقًا إلى النور على شكل كتب بعد أن تأخذ حقّها من البحث، والمحزن هو أنَّ الأبحاث الثلاثة كانت لباحثين غربيين!
المقاربة الدستورية
انطلاقًا من التغيرات التي فرضتها أحداث عام 2011 على النظم العربية، تعدّدت استجابة هذه الأنظمة، فبينما حاول الشق المغربي امتصاصها والقيام بعمليات إصلاح سياسي واقتصادي ودستوري، اختار المشرق البقاء تحت السلطوية لفترة أطول، أي الاتجاه نحو السيرورة التاريخية الطبيعية في التحول الديمقراطي.
في بحثه “الحقوق الدستورية الجديدة في البلدان العربية”، يتناول الباحث أنطونيو بوراس – غوميز التغيرات الدستورية في مصرَ وتونس والمغرب قائلًا: إن الانتفاضات العربية نجحت بشكل ملحوظ في إطلاق عمليات صنع دساتير، و”أدخلت فيها كثيرًا من ميزات المنهج “الدستوروي” الديمقراطي الليبرالي، في تناقض مع الميل التاريخي الملموس الذي أبدته الدول العربية نحو السلطوية”.
ويقوم البحث على أربعة فرضيات مركزية ومشتركة بين البلدان المذكورة أعلاه هي:
أ- كتابة دساتير طويلة وكثيفة.
ب- توسع في لوائح الحقوق، وإضافة مجموعة من أحدث الحقوق الدستورية، وإظهار حرص أكبر على الحقوق الثقافية والاقتصادية، تشير جميعها إلى دستورية قائمة على دولة الرعاية.
ج- تحديث موقع الإسلام من حيث هو مرجعية هوياتية.
د- تعزيز الاعتراف بحقوق المرأة.
يستخلص الكاتب جميع الفرضيات بناءً على زيادة أعداد الكلمات والمواد الدستورية الجديدة مقارنةً بسابقاتها، فمثلًا: يحصي الكاتب في الدساتير الثلاثة تكرارات كلمة “الإسلام” وكلمة “المرأة”، ما يعنى في الكلمة الأولى عنصرًا مهمًا في الهوية الوطنية، وهو علامة على أهمية الحركات الإسلامية، بوصفها موجهًا رئيسيًا في الثورات، أما الكلمة الثانية فتعزز فرضية الباحث في أن المرأة احتلت مكانة مهمة في العمليات الدستورية.
يشدّد الباحث على أهميّة التطور الهائل في التعديلات الدستورية رغمَ عدم تطبيقها على أرض الواقع، إذ إنَّ تطوير الدساتير “يُنشئ لغة الحقوق التي سوف تؤدي مع مرور الوقت إلى تآكل مراكز السلطة الاستبدادية. وعلى هذا لا يُعَدّ تخويل المواطنين، مهما بلغ، بمنزلة “سخاء ملكي” بل يضحي من الحقوق المدرجة. وبالنتيجة، حتى لو لم يرقَ ذلك إلى الديمقراطية في حد ذاتها، فإنه ربما يمهد الطريق نحو مزيد من الديمقراطية”.
المقاربة الأمنية
يحلّل الباحث أرنود كورز في مادته المعنونة “هدم الجسور أم بناؤها؟ المقاربة الأمنية للديمقراطية في مصر وتونس” العلاقاتِ بين المجتمع والدولة في فترة ما بعد الربيع العربي، ففي مصرَ يواجه المجتمع المدني تشريعات قمعية ترسخها السلطات الحكومية، وفي تونس اعتمدت الدولة قمع المجتمع المحلي بخطاب الأمن القومي لمواجهة خطر ما ينفذه الإسلاميون المتشددون من هجمات إرهابية عابرة للحدود. وتعرف هذه الظاهرة بحسب الكاتب بالمقاربة الأمنية، وهي تصف عملية تحويل مسؤولي الدولة الموضوعات السياسية إلى إشكالات أمنية!
واعتمد الباحث على التحليل النصي الكَمّي، من خلال فحص وسائل الإعلام على الإنترنت في الدرجة الأولى، عبر قياس تردد مصطلحات مثل: “الأمن” و”الحكومة” و”الديمقراطية” و”الحدود” و”داعش” و”القوى الأمنية”.. إلى أخره. ولم يكن بمقدور الكاتب إتمام البحث دون إعداد برنامج خاصٍ صُمِّمَ وفق معايير محددة يسمى “سْفِن” من أجل تحليل كُتل البيانات.
ويستند الباحث على مفهوم “الصمود” الذي يشكل حجر الزاوية للإطار النظري للدمقرطة والمقاربة الأمنية، وقد ظهرت فكرة الصمود في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وتعددت استخداماته وتعريفاته، لكن الباحث يعتمد تعريف مجموعة باحثين اشتغلوا عليه من زاوية الضحايا، ما مكنهم ذلك من تقويم مدى قدرة الشباب تحديداً على تحمل الإجراءات الأمنية الصارمة، بسبب تصاعد التهديدات الإرهابية في المنطقة بأسرها، وتركز هذه المنهجية وغيرها على الممارسات الخطابية، حتى يتسنى فهم كيفية مواجهة المجتمعَين التونسي والمصري، بممارسات حكومية حدّت من حرية التعبير وحرية الحركة، وفهم أسباب ذلك.
يبدأ الباحث أرنود كورز بمراجعةِ الأدبيات الخاصة بهذا الحقل -والتي درست علاقات المجتمع والدولة- مثل دراسات جويل س. مجدال المتعلقة بالدول الضعيفة في البلدان النامية وهي التي شكلت أساس منهجيته، وألفرد ستيبان الذي وصف مسار الانتقال التونسي بـ” التسامح المتبادل” وهي ظاهرة تدل على انتقال ديمقراطي ناجح، لكنها لا تعنى ترسيخ الديمقراطية (يمكن مراجعة مقال الدكتور خليل العناني في صحيفة العربي الجديد “ألفرد ستيبان الذي رحل” يوم وفاته في 26 سبتمبر عام 2017، يستعرض فيها العناني أهم استنتاجات ستيبان في دراسات العلمنة).
وينتهي الباحث إلى أن “التركيز المفرط على الأمن خلال فترة الانتقال يتسبب في مخاطر عدة من شأنها أن تعوق ترسيخ الديمقراطية؛ إذ إنها تعادي حركات المعارضة بدلًا من أن تشجع قيام مجتمع تعددي. كما أنها تبرر عددًا من الممارسات الإشكالية للدولة لتوطيد السلطة في يد النخبة الحاكمة. وتقوّض هذه السياسات كذلك حظوظ تأسيس “ميكانيزمات” عدالة انتقالية فاعلة لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي”، وفي نظر أرنود كورز ليست هذه الدراسة إلا رأس جبل جليد، وما قدمه إنما هي نتائج أولية حول قضية مهمة ذات صلة بالديمقراطية الانتقالية في العالم العربي.
الاستثناء الملكي
أثناء جنازة حافظ الأسد في دمشق عام 2000، صُك مصطلح “جُملَكية” على يد عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم، يصف فيه الدولة العربية ذات البناء نصف الجمهوري ونصف الملكي، وهو الوقت الذي بدأ فيه المستبدون الآسنون بتهيئة أطفالهم لوراثة السلطة في نظم جمهورية عسكرية. بعد عام 2011 سقط الأطفال وأبناؤهم [إلا الطفل الذي تأسست الظاهرة به] وتوقفت أحجار الدومينو عن التساقط عند الأنظمة الملكيّة الثمانية، ليصفها الباحث دانيل براون بالأحجية التي تبحث عن الإجابة، وهو ما حاول فعله في مادته “البحث الأولي والفرضيات المتصلة بالميزة الملكية (فوق النزاعات) في الانتفاضات العربية”.
يتساءل براون هل يرجع نجاح الملكيات في الحفاظ على نفسها إلى أن التعبئة الجماهيرية ضد الملوك كانت أقل انتشارًا أو قوة؟ أم هل كانت الملكيات أكثر قدرة على البقاء في وجه هذه الانتفاضات كما حدث في الواقع؟
يستعرض الباحث الأدبيات التي تتعلق بالاستثناء الملكي في العالم العربي التي قدمت تفسيرات في أغلبها تشدد على الريع النفطي، والدعم الجيوستراتيجي لقوى دولية، وعلى عوامل مؤسسية مثل السياسات الائتلافية والتدابير الزبائنية، إضافة إلى التذرع بالشرعية الدينية أو التاريخية، ويناقش بالتحديد فكرة أن “الملك فوق النزاعات” التي تظهر في العديد من الأطروحات بتوصيفات مختلفة، تدور حول قدرة الملوك على تصوير أنفسهم كحكم عدلٍ بين فئات المجتمع، والاعتماد على دورهم كوسطاء بين مكوّنات الشعب، بدلًا من السعي لتوحيد الهوية الوطنية لهم، للحفاظ على “الدور التاريخي” الذي يلعبه الملوك في الحفاظ على “الدولة”.
يرى الكاتب أنَّ الارتكاز إلى “طبيعة النظام الملكي” وتجاهل تحليل آليات التعبئة الجماهيرية ووسائل “منعها” التي تعتمدها هذه الأنظمة الملكية، أنتج ما يسمّى “الميزة الملكية” وهو ما يعترض عليه براون، مذكّرًا بأنَّ الأنظمة الملكية التي سقطت [كالشاه في إيران] إنما سقطت لأنها لم تعتمد سياسات فعّالة لاحتواء التعبئة الجماهيرية ضدها، وهذا البحث هو “الأسئلة الأولية” في دراسته الموسعة للميزة الملكيّة فقط.
يقارن براون في دراسته بين طبيعة التعبئة الجماهيرية التي حصلت في تونس والأردن [جمهورية ومملكة] بناءً على آليتين مفترضتين لتحقيق الميزة الملكية: إحداهما ثقافية والأخرى مؤسسية. تشمل الآليات الثقافية التأطير المضاد، وحظر شبكات التعبئة وتكتيكاتها، بينما تشمل الآليات المؤسسة ائتلافات متنوعة (رجال الأعمال ورجال الدين والعسكر، والنخب القبلية) مرتبطة بالنظام، عبر الإلحاق، وغير ذلك من الاستراتيجيات الزبائنية.
وعبر مراجعة جزء كبير من الأدبيات في ديناميات الأنظمة الاستبدادية بدءًا من دانييل برومبرغ وليزا أندرسون ومايكل هيرب وراسل لوكاس، وليس انتهاء بآصف بيات وبشكل أساسي لاست أوكار الذي اعتبر أنَّ الأنظمة تقع خياراتها بين ثلاثة تدابير مؤسسية أو استراتيجيات متتالية يسميها “بُنى النزاع” وهي:
أ- البنى الحصرية الموحدة: لا يُسمح لأي خصم سياسي بالمشاركة في المؤسسات السياسية الرسمية. والسلطة محصورة في يد النخب الحاكمة وحدها.
ب- البنى المقسومة: تسمح النخب لبعض الخصوم، دون آخرين، بالمشاركة في النظام والاستمرار.
ج- البنى الجامعة الموحدة: يجري إدخال جميع الخصوم في النظام، ولكن النخب الحاكمة تحد من دورهم المشارك.
ويرى أنَّ الأسلوبين الأخيرين تم اعتمادهما من قبل الملكيات والجمهوريات بتنويعات مختلفة لتفتيت القوى المعارضة، وإفشال التعبئة الجماهيرية.
وبعد دراسة الباحث للحالة الأردنية والتونسية بشكل معمق جدًا عبر العودة التاريخية للاحتجاجات في كلا البلدين، يتبين لدانيل براون في بحثه الاستقصائي الأوّلي أنه لا وجود لميزة مليكة ترتبط بطبيعة النظام، وإن كان يشير إلى احتمال وجود تفوّق ملكي في استخدام الآليات المؤسسية والثقافية للحفاظ على النظام، وتخطي الاحتجاجات الحاصلة.
إن قراءة الأبحاث التي ضمّها كتاب “الثورات العربية: عسر التحول الديمقراطي ومآلاته” تفتح للقارئ العربي آفاقًا أوسع لفهم وتحليل الواقع الذي يعيشه، واقع أهملت الأكاديميا العربية تحليله لسنوات منذ استقر حكم العسكر في بلادنا، و”مدّ رجليه على أكتاف شعبه”، واستكانت “لإعادة التدوير الدائم” لأطروحة “الاستثناء الثقافي”، تلك الأطروحة التي أسقطها شباب الميادين عام 2011 ويعيدون إسقاطها الآن في العراق ولبنان والسودان والجزائر.
وربما يكون وصف السوسيولوجي والمؤرخ الفلسطيني هشام شرابي في مذكراته “الجمر والرماد” بليغًا للحالة الأكاديمية في العالم العربي -وهو الذي تخرّج من الجامعة الأمريكية في بيروت- إذ يقول: “تخرجت من الجامعة وأنا أكاد لا أعرف معنى المنهجية أو البحث بمعناه الصحيح […] كان كسل أساتذتنا (في مراجعة أبحاث الطلاب) يقوي فينا الطابع الإنشائي الأدبي، وكراهية الأرقام والإحصاءات فنشأ عندنا الشعور بأن العامل الكمي في البحث هو عامل ثانوي، وأن الفكر الصحيح إنما هو الفكر المدعوم بقوة الحس وحسن اللغة لا بقوة النقد والتحليل… واكتشفت جهلي بعد أسابيع قليلة في جامعة شيكاغو”.
ونأمل أن يساهم الاطلاع على هذه الأبحاث في تحفيز كتابات عربية من الميدان تبحث في أسباب عسر التحول الديمقراطي الذي نعاني منه، علّنا نسمع صريخ مولودٍ طال انتظاره.
الترا صوت