فؤاد مطر في: “عسكر سوريا… وأحزابها”: صراعات المشاريع السياسية الأجنبية كانت وراء الانقلابات المتكررة في سوريا/ سمير ناصيف
تنطبق مقولة أن “التاريخ يعيد نفسه” على تاريخ بلدان وحضارات عدة في العالم، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، وعلى علاقة كيانات هذه المنطقة السياسية الحالية (قبل وخلال وبعد نشوئها) مع قوى الاستعمار الخارجي التي تدخلت في الماضي، وما تزال تتدخل، في تقرير مصيرها خصوصاً في القرن الماضي وبداية القرن الحالي.
لدى قراءة كتاب “عسكر سوريا… وأحزابها” للكاتب والصحافي اللبناني المخضرم فؤاد مطر، الذي يتطرق فيه بشكل خاص إلى الانقلابات العسكرية التي حدثت في سوريا في منتصف القرن الماضي والتي أطلقت “مسيرة” الانقلابات العسكرية في العالم العربي والشرق الأوسط، يشعر القارئ وكأن ما حدث في دمشق من تغييرات سياسية ابتداء من عام 1949 وكأنه يحدث حالياً في سوريا والمنطقة.
يقول مطر في مقدمة كتابه إنه، وخلال عمله كصحافي وباحث لأكثر من نصف قرن في مؤسسات إعلامية امتلكها أو ترأس تحريرها، دوّنَ ملاحظات عن ظاهرة الانقلابات العسكرية في سوريا منذ الانقلاب العسكري الأول الذي قام به اللواء حسني الزعيم وحتى نهاية خمسينيات القرن الماضي وقيام الوحدة بين مصر وسوريا.
ومع أن الكتاب لا يتطرق إلى الانقلابات اللاحقة في ستينيات القرن الماضي وبعدها التي أشرفت على تنفيذها قيادات مختلفة في “حزب البعث العربي” قبل الوصول إلى النظام السوري الحالي منذ بداية السبعينيات، فإن النموذج الذي كان وراء الانقلابات الأولى استمر هو نفسه إلى حد كبير في الانقلابات اللاحقة وحتى في الوضع الحالي والتغييرات السياسية في المنطقة في هذه المرحلة.
إذا اردنا تفسير الأمور فالسيناريو الذي اعتُمد ويُعتمد هو أن مشروعين استعماريين (أو أكثر) يتنازعان السلطة في بلد عربي (سوريا أو غيرها) ويستغلان انتفاضات شعبية ضد القمع والفساد في تلك البلدان ويختاران قادة، في أكثر الأحيان من قادة الجيوش والأجهزة الأمنية، ويدفعونهما إلى إقناع الشعوب المنتفضة الحسنة النية والصادقة في اعتناقها المبادئ الإنسانية والأخلاقية بانهما سينفذان تطلعات هذه الشعوب وآمالها، ولكن القادة يفعلون عكس ذلك ويمارسون القمع والفساد لدى تسلمهم السلطة إلى درجة أكبر مما يؤدي إلى الإطاحة بهم، الواحد تلو الآخر، وتتوالى هذه المسرحية المؤلمة وتبقى الشعوب على حالها البائس في الأنظمة المتعاقبة.
يضيف مطر في المقدمة، أن الانقلابات العسكرية التي تطرّق إليها كانت على الأرجح مغامرات جنرالات وعقداء وعكست المشاعر الدفينة غير الودية من جانبهم ضد المدنيين وأحزابهم سعياً إلى أن يتقاسموا أو يستولوا على خيرات بلدانهم مع أهل السياسة. دوافع هؤلاء في بعض الأحيان كانت (في رأيه) تعود إلى جنون العظمة أو إلى دوافع مادية سلطوية وحالة سوريا في عام 1949 شكلت دراما سوداء بدأت ولم تندثر.
يقول إنه في الثلاثين من آذار (مارس) 1949 صَدرَ بيان من قائد القوات المسلحة في سوريا اللواء حسني الزعيم أعلن فيه تسلم السلطة في دمشق من القيادة السياسية برئاسة القوتلي ورئيس الوزراء خالد العظم متهماً إياهما بالفساد فيما كان قائد الانقلاب حسني الزعيم فاسداً كبيراً عبر عمليات شراء أسلحة ومواد غير صالحة للجيش السوري وتم فضح هذه العمليات.
ولكن في الوقت ذاته، اتسعت شعبية “مشروع الهلال الخصيب” ومشروع قادة زعيم الحزب السوري القومي الراحل أنطون سعادة ودعمته بريطانيا العظمى للحفاظ على مصالحها في المنطقة، وهذا المشروع يسعى إلى ضم لبنان وسوريا والعراق والأردن في كتلة سياسية واحدة موحدة سياسياً واقتصادياً. ولاقى هذا المشروع تأييداً من السلطتين العراقية والأردنية آنذاك الأولى بقيادة ولي العهد العراقي عبد الإله ورئيس حكومته نوري السعيد، فيما قاد السلطة الأردنية الملك الأردني عبد الله الأول. وعارضت هذا المشروع دول كالسعودية ومصر، الأولى تحت قيادة الملك عبد العزيز والثانية خلال فترة حكم الملك فاروق. وقد مالَ النظام اللبناني بعد الاستقلال، الذي قاده رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح، إلى المشروع الثاني. والمشروع الثاني كان مدعوماً من دول استعمارية تود إما تقليص نفوذ بريطانيا العظمى في المنطقة (كفرنسا) أو الحلول في مكان بريطانيا وفرنسا (كالولايات المتحدة الأمريكية) في الهيمنة على النفوذ في المنطقة.
يعبّر الكاتب عن أمله في ان يكون كتابه مفيداً للأجيال التي لم تعش ظاهرة الانقلابات في سوريا والوطن العربي وتعيش حالياً في مرحلة ثورات وانتفاضات شعبية.
علماً أن الانتفاضات الحالية ليست حرة كلياً من نفوذ قوى إقليمية وأجنبية تتنافس في مشروعين (أو أكثر) أحدهما بقيادة أمريكا، ويدّعي محاولة نشر الديمقراطية ومكافحة الفساد في الشرق الأوسط، والثاني إيراني مدعوم من روسيا والصين يطرح أولوية التنمية الاقتصادية ومقاومة نفوذ وتوسع دور إسرائيل في المنطقة على حساب الشعوب العربية والإسلامية.
المهم في كتاب مطر ليس فقط أنه يشرح الواقع الحالي من خلال الماضي في سوريا بل أنه يفضح (وإن بشكل غير مباشر) تواطؤ السياسيين اللبنانيين خصوصاً في دعمهم المستمر والمتنقل الهوى لأنظمة سورية أو عربية أخرى قد تختلف مع مبادئهم. فمن أول الوفود التي ذهبت إلى سوريا لتأييد انقلاب حسني الزعيم في 13 نيسان (ابريل) 1949 كان وفد لبناني غير رسمي ضم شخصيات من عائلات سياسية عريقة كآل كرامي وآل الصلح وآل شمعون وآل جنبلاط، مع أن رئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح لم يعترف رسمياً بنظام حسني الزعيم إلا بعد تأكده بأنه يعارض وسيظل يعارض قيام دولة سوريا الكبرى.
أما السعودية ومصر، فاعترفت بالنظام السوري الجديد في 24 نيسان (ابريل) 1949 في يوم زيارة رياض الصلح الأولى إلى دمشق، وتبعها هذه اعتراف الجامعة العربية ودولها بنظام حسني الزعيم، وكانت فرنسا الأولى بين الدول الكبرى التي اعترفت به ومن بعدها الولايات المتحدة. واضطرت بريطانيا وحليفها العراق لفعل ذلك أملاً باستمالة الزعيم إلى مشروعهما، حسب مطر.
ويذكر مطر في الصفحة (70) تصريحاً لحسني الزعيم يؤكد بأن مشروعه لم يكن داخلياً فقط ويقول: “بمجرد أن توليت مقاليد الحكم قدِمَ ليّ نوري السعيد يهنئني. لا شك أنه كان يظن سيظفر مني بالموافقة على ضم سوريا إلى العراق. ولكنني أعارض وسأظل قيام سوريا الكبرى… وظن السعيد أنه يخيفني بحشد قوات عراقية على الحدود السورية، ولكنه اضطر إلى سحبها”. ويضيف: “علاقتنا ودية مع الولايات المتحدة وفرنسا ولكن لا بد لبريطانيا أن تسلك مساراً نحو سوريا يدل على حسن الطوية. وسنناضل ضد كل مشروع يثير النفوس من أجل مشروع الهلال الخصيب”. (ص 71)
وبالتالي، وبعد أحداث أمنية في لبنان بين الحزب السوري القومي (بقيادة سعادة) وقوى الأمن الداخلي، لجأ زعيم هذا الحزب إلى سوريا، وتم تسليمه إلى السلطة اللبنانية، حيث نفذت هذه السلطة حكم الإعدام به بدون محاكمة عادلة في 8 تموز (يوليو) عام 1949. وبعد ثلاثة أيام من تسليم حسني الزعيم لأنطون سعادة، زارت بعثة سورية أمنية ترأسها وزير الدفاع السوري لبنان لتقدم الشكر لنظامه على تهنئة الزعيم بالقيادة السورية ولتفتح صفحة جديدة بين البلدين. وفي اليوم التالي، شكر الصلح الملك المصري فاروق على ما بذله للتوفيق بين سوريا ولبنان.
ويذكر المؤلف أنه في 14 آب (أغسطس) 1949 حدث انقلاب ثان في سوريا بقيادة رئيس الأركان سامي الحناوي أدى إلى اعتقال حسني الزعيم ورئيس الوزراء محسن البرازي واعدامهما رمياً بالرصاص بعد محاكمة سريعة.
ويروي في الفصل الثاني من الكتاب رواية ما حدث في انقلاب الزعيم الأول على لسان رئيس الوزراء خالد العظم ورئيس الجمهورية اللبناني بشارة الخوري “يؤكد فيه العظم الدور الذي قامت به بعض الدول الأجنبية في تحضير انقلاب حسني الزعيم ويعبّر الرئيس الخوري في رسالة إلى الملك فاروق عن خشيته من امكان استغلال قوى أجنبية لانقلاب الزعيم، مع أن هذا الأمر (كان) لم يثبت بعد”. (ص 128)
ويصرح وزير الخارجية اللبناني آنذاك حميد فرنجية في اجتماع مع السفراء الأجانب في بيروت (حسب مطر) أن “الولايات المتحدة تعارض فكرة سوريا الكبرى وفرنسا ستحافظ على الوضع الراهن بعد الانقلاب السوري” فيما ينصح سفير بريطانيا لبنان بمراعاة العائلة الهاشمية الأردنية في سياسته الخارجية فيجيبه فرنجية بانه على الأردن أن يعطي التطمينات بانه لا يسعى إلى تحقيق فكرة الهلال الخصيب أو سوريا الكبرى”. (ص 130)
ويؤكد مطر أن الرئيس بشارة الخوري ركز على ضرورة تقوية الجامعة العربية ومعاكسة (ضمن جدرانها) كل مشروع يرمي إلى تحقيق سوريا الكبرى وامتدح فرنسا لأنها تُسلح الجيش السوري. كما لم تعترف السعودية ومصر بعهد الجنرال سامي الحناوي الذي انقلب على حسني الزعيم إلا بعد تردد في أيلول (سبتمبر) 1949. ولكن في 19 كانون الأول (ديسمبر) 1949 انقلب العقيد اديب الشيشكلي على سامي الحناوي وانتقل الحناوي إلى بيروت حيث تم اغتياله في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1950. وأعاد الشيشكلي السلطة إلى السياسيين بالإضافة إلى إعادته المشروع المصري ـ السعودي في سوريا الداعي إلى المحافظة على سوريا كجمهورية مستقلة، ولكنه أخطأ بالتقرب أكثر مما يجب من قائد الثورة المصرية الأول اللواء محمد نجيب، غير مدرك بأن القائد الفعلي لهذه الثورة المصرية كان البكباشي جمال عبد الناصر الذي فضّل التحالف مع الرئيس شكري القوتلي ودعم عودته لقيادة سوريا ولإنشاء الجمهورية العربية المتحدة. أما أديب الشيشكلي فلجأ عام 1954 إلى لبنان ثم انتقل إلى البرازيل حيث اغتيل هناك في عام 1964 على يد شخص درزي انتقم منه لمواجهته العنيفة مع دروز سوريا خلال فترة سلطته ما أدى إلى سقوطه.
وخلال هذه التطورات، اغتيل رئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح قرب مطار عمّان في 16 تموز (يوليو) 1951 انتقاماً لإعدامه أنطون سعادة. وتلا ذلك اغتيال الملك الأردني عبد الله الأول لدى اجتيازه باب المسجد الأقصى في القدس لأداء صلاة الجمعة.
ولدى تسلم الشيشكلي رئاسة الجمهورية السورية عبر استفتاء طُرحت التساؤلات حوله عام 1953 كان أول المهنئين رئيس الوزراء اللبناني صائب سلام، ومن بعده وصلت بعثة شرف سعودية للتهنئة ترأسها الأمير سلطان بن عبد العزيز. وقد غادر الشيشكلي لبنان على طائرة سعودية. وكانت المملكة السعودية تأمل أن يعاود أنصاره السيطرة على الوضع في سوريا، ولكن التظاهرات في الشوارع السورية حالت دون ذلك فيما كانت الدولة المصرية، في عام 1954 تتعامل مع شكري القوتلي وكأنه هو رئيس سوريا خصوصاً بعد حصوله على تأييد جمال عبد الناصر وكبار معاونيه.
وفي الهوامش يشير فؤاد مطر إلى تهافت الزعماء اللبنانيين على تأييد الأنظمة السورية المتعاقبة والمتأثرة بمشاريع سياسية متضاربة إقليمياً ودولياً، وما زالوا في هذا التوجه إزاء المشاريع المختلفة المطروحة حالياً في سوريا والمنطقة.
فؤاد مطر: “عسكر سوريا… وأحزابها”
الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان 2019
296 صفحة.
القدس العربي