قساوة العاصفة كأنها “تقصف” اللاجئين السوريين/ لوسي بارسخيان
سؤال ربما تبادر لذهن كل إنسان، بعيدٍ عن العنصرية، ولا يحاول “تلطيفها” بمبررات سياسية و”ديموغرافية”، هو كيف أمضى سكان “المخيمات” ليلة ببرودة تلك التي شهدناها ليل السبت الأحد، مع انخفاض درجات الحرارة إلى أدنى مستوياتها لهذه السنة، مرفقة برياح عاتية، شعر الكثيرون انها قادرة على اقتلاع بيوتهم من جذورها.
العائلات “الضعيفة”
قد لا تكون هذه الليلة الأكثر برودة التي عرفها السوريون الذين قطنوا البقاع بسهله ومرتفعاته، منذ حكم عليهم بالتشرد إثر مطالبتهم “بالحرية” من الـ”نظام”. ولكن العاصفة المستمرة ليومين إضافيين، تمر هذه السنة مثقلة بعوامل خارجية، في ظل دراسات تبين أن أكثر من ثلاثة أرباع اللاجئين السوريين يعيشون بأقل من 6 آلاف ليرة لبنانية يومياً، وأن 9 من أصل 10 أسر سورية نازحة في لبنان مثقلة بالديون، وتفتقر إلى الموارد الكافية لتغطية احتياجاتها الأساسية. وهو ما يترك خلال الشتاء الحالي، وفي ظل الظروف الصعبة المفروضة على اللبنانيين قبل النازحين، ندوباً عميقة، تزيد هؤلاء قناعة، بأن لبنان لم يعد هذا البلد الآمن الذي لجأوا إليه لينجوا بحياتهم، ليس فقط لأن هناك فئات لبنانية تصر على اضطهادهم، وتجعلهم شماعة فشل السلطة، حتى في إدارة ملف النازحين، وإنما أيضاً، لكون العالم المصر على إبقاء ملف النزوح السوري في لبنان خارج “الجدل”، لم يعد يبذل الجهد الكافي في تأمين مقومات الصمود المطلوبة للنازحين، ولو اختصر أبسطها بشادر يقيهم فعلاً برودة طقس شبيهة بتلك التي شهدناها في اليومين الماضيين.
تؤكد مفوضية اللاجئين بأن مساعداتها لفصل الشتاء، والتي تقدم نقداً بقيمة 575 ألف ليرة للأسرة، تصل إلى نحو 900 ألف لاجئ سوري، بمعدل شبيه لما اعتمد في السنوات الماضية، إنما المشكلة الأساسية تبقى في تراكم الأعباء على العائلات “الضعيفة”، والتي قد تذهب أولوياتها في إنفاق هذا المبلغ إلى غير مادة المازوت المطلوبة شتاء، سواء لدفع أجرة مأواهم أو للأدوية أو حتى للطعام، وهو ما يخلف حالة مأساوية خلال فصل الشتاء.
فخلافاً لما يظنه الكثيرون، فإن 20 بالمئة من السوريين فقط يعملون في لبنان، وفقاً لدراسات أجرتها الجهات المانحة، ومع أن القسم الأكبر من النزوح السوري يتركز في البقاع، فإن نسبة البطالة بين هؤلاء تصل إلى 62 بالمئة، فيما الدخل الأدنى لهؤلاء يسجل في البقاع أيضاً، ويبلغ معدله 30 دولاراً شهرياً، ليتدنى إلى 28 دولاراً في منطقة بعلبك الهرمل.
يأتي ذلك في ظل حالة سكن لم تتطور بالنسبة للنازحين منذ سنة 2018، وقد تبلغ نسبة القاطنين منهم في الخيم نحو 57 بالمئة، في ظل أوضاع توصف باللاإنسانية، والخطرة أحياناً.
مشهد عرسال
ومن هنا، بدا مشهد نهار العاصفة بعد ليل حمل رياحاً هوجاء، مألوفاً… أطفال من دون معاطف، يخرجون من خيمهم بأرجل شبه عارية، بعضهم ليملأ “غالون” مياه أو مازوت، أو لشراء ربطة خبز، أو حتى للذهاب إلى العمل.. فيما السيدات منهكات بإخلاء الخيم من كميات المياه التي تسربت إلى داخلها، على رغم كل المحاولات لتحاشي الأمر. ليست مياه الأمطار وحدها التي اقتحمت أماكن نومهم، إنما أحياناً أيضاً مياه الصرف الصحي، التي لم تنقل من جورها الصحية منذ أسابيع، فأغرقت معها الـ”براكيات” وممراتها..
بعض العائلات لم تطفىء المواقد التي أشعلتها بأكياس النايلون وكميات خشب جمعتها من أكوام النفايات.. فيما عائلات أخرى خافت من أن تؤدي شدة الرياح إلى اشتعال خيمها مع المواقد.. فكدست الأجساد بشكل ملاصق علها تستمد الدفء من بعضها البعض.. ولكن من دون أن تنجح بذلك كلياً، خصوصا أن معظم الخيم التي لا يمكن لشوادرها أن تصمد أكثر من موسم شتاء واحد، لم يعد تأهيله هذا الموسم. وما جرى تأهيله منها، أضيفت إليه أكياس الخيش والنايلون، وحتى بعض حرامات الصوف، وغيرها من المواد التي لا تصلح لعزل الداخل عن برودة الخارج.
هذا في السهل، أما في عرسال التي تستضيف الجزء الأكبر من النازحين السوريين إلى البقاع، فالمعاناة متكررة منذ أعوام. ولعل ما يفاقم هذه المعاناة، أن معظم الجهات المانحة، وحتى الجمعيات والهيئات الإغاثية، لا تتحرك عملياً على الأرض، إلا متى وقعت الكارثة.. تماما كما تفعل في تأمين الشوادر، وتوزيع المدافئ، وحتى الحرامات والمعاطف.
صحيح أن معظم النازحين المقيمين في عرسال يتحدرون من قرى وأرياف شبيهة بمناخها القاسي لمناخ عرسال، إلا أن هؤلاء لم يتعلموا قساوة “النجاة” داخل الخيم، إلا في لبنان، حتى البعض الذي اعتقد أنه امتلك “النعيم” بغرف “اللبن والطين”، التي شيدتها لهم المنظمات المانحة، كتب عليه بعد قرار مجلس الدفاع الأعلى بمنع إقامة مثل هذه الغرف للنازحين، أن يختبر معنى مواجهة هذا الشتاء تحت شادر. أما المفارقة فهي أن هذه الخيم، غير قادرة على مواجهة قساوة الطقس في عرسال، لا بكميات الخشب التي وفرتها لها الجهات المانحة، ولا بنوعية الشوادر التي أمنتها، خصوصاً أن كثافة الثلوج في بعض المخيمات تجاوزت المتر. وكان بعض الأهالي قد وجهوا سابقاً شكوى للجهات المانحة من نوعية المواد التي جرى توفيرها لهم لإقامة خيمهم البديلة، ولكن من دون أن يجدوا آذاناً صاغية لدى أي طرف.
في ظل هذا المشهد، بقيت بعض المبادرات لهيئات وأفراد عملوا على إبقاء بعض المنافذ مفتوحة للمخيمات، من أجل تأمين المساعدات الإنسانية، خصوصا أن العاصفة الثلجية التي بدأت تنحصر تدريجياً مساء الأحد مستمرة ببرودتها الشديدة ليومين إضافيين، في وقت يصف من اختبروا أكثر من شتاء في هذه المخيمات، أن الأصعب من معاناة العاصفة بالنسبة للنازحين هي ما بعد العاصفة، وربما تكون هذه السنة ما قبلها أيضاً، حين لم يتمكن الكثيرون من تموين كميات الغذاء الكافية لعائلاتهم، بسبب الارتفاع المخيف في أسعار معظم المواد الغذائية. وهو ما يجعل الكثيرين يعيدون حساباتهم بمسألة أسوأ الحلين، فإما البقاء في لبنان في ظل هذه الظروف الصعبة، أو المغادرة إلى بلدهم مجدداً، علما أن الكثيرين كما تؤكد المصادر سجلوا أسماءهم في المصالحات التي تجري بالتعاون مع الأمن العام اللبناني، وعقدوا العزم على العودة إلى سوريا، ولو تحت نير النظام الذي هجّرهم منذ البداية.
المدن