الشرعية والسيادة والديمقراطية -ملف بأربعة مقالات-
======================
تبني العديد من الأنظمة شرعيتها على أساس استنادها إلى حكم الأغلبية (الديمقراطية)، المُسوَّغ باسم السيادة الشعبية. غير أنه في سياقات أخرى قد يكون مناط السيادة مختلفاً عليه؛ السيادة لله. في حالات أخرى، قد تكون الشرعية مختلفاً عليها، فالدولة القطرية اختلقها الاستعمار وتعوزها الشرعية بحسب السردية القومية. عندها، هل يمكن التفكير بالديمقراطية في غياب قُطبيّ السيادة والشرعية؟ هل يمكن للديمقراطية نفسها أن تكون مصدراً للشرعية؟
هذه الأسئلة جزءٌ مما يسعى الملف لتناول بعض أوجهه، من خلال مناقشة مفاهيم الشرعية والسيادة والديمقراطية في علاقاتها بعضها ببعض كمفاهيم متداخلة وليست مستقلة، سواء كما تجلت في سياق تجربة تاريخية أو في إطار نظري.
تنسيق: موريس عايق
———————–
نقد جدل السيادة والحاكمية/ محمود هدهود
مثَّلَ مفهوم «السيادة» أحد الحواجز التي حالت دون الإسلام السياسي واستيعاب الديمقراطية مُعرّفةً بسيادة الشعب. مثّلَت سيادة الشعب خطاً أحمر عند الإسلام السياسي، الذي تُمثل «السيادة الإلهية» لديه موسومة بـ «الحاكمية» مسألةَ عقيدة دينية، بل وجوهراً لخطابه السياسي، بحيث يفقد تمايزه الإيديولوجي إزاء خصومه إذا تخلّى عنها. وعن ذلك الجوهر، ينبثق البرنامج السياسي الإسلامي مُلخَّصاً في تطبيق الشريعة الإسلامية.
لم يقتصر ذلك الطرح على الجناح السلفي للحركة الإسلامية بطيفه الواسع، فالجناح الوسطي منها، ورغم سعيه الحثيث نحو استيعاب الديمقراطية وتضمينها في الخطاب والبرنامج الإسلامي، بقي مُستصحباً حساسيةً إزاء مفهوم سيادة الشعب في الديمقراطية، ومؤكداً أن الديمقراطية المقصودة هي ديمقراطية ملتزمة بالمرجعية الإسلامية1.
عبّرَ ذلك المأزق النظري لدى الإسلام السياسي عن استحالة فعلية في نظر نُقّاد الإسلام السياسي من منظري العلمانية العربية، فالتقى الفرقاء على حقيقة واحدة: إن الإسلام السياسي والديمقراطية نقيضان لا يمكن أن يجتمعا نظرياً أو عملياً؛ وإن حدث أن التقيا عملياً، فإن اللقاء يبقى اجتماعاً هشّا ًيوشك أن يتفكك بفعل تملص الإسلام السياسي من الديمقراطية حنثًا بوعوده، أو بدون وعي منه بفعل تجسيده للمرجعية الإسلامية النافية للديمقراطية.
إننا بحاجة إذن إلى إعادة قراءة مفهوم السيادة وموقعه في نظرية القانون والدولة، وكذلك إعادة قراءة مفهوم الحاكمية، لاختبار فرضية التناقض النظري الضروري بين المفهومين أولاً، ثم للنظر في إمكان اجتماعهما (والتمفصل بينهما) تالياً.
إعادة التفكير في مفهوم السيادة
ظهر مفهوم السيادة في الفكر السياسي الحديث على يد جان بودان وتوماس هوبز، للدلالة على الفعل السياسي الذي من خلاله يتأسس القانون الذي يستوي أمامه المواطنون على نحو يضمن تجاوز خلافاتهم الدينية وصراعهم على السلطة، ويضمن وفق ذلك تجانس الكيان السياسي واستقراره. وقد تطور مفهوم السيادة لينتقل بالتدريج عبر لوك وروسو من العاهل الذي كان يجسد السيادة في نظر بودان وهوبز، ليحلّ في الشعب أو في الأمة2.
تُعرَّف السيادة هنا بوصفها أساس القانون، أي أن القانون يكتسب شرعيته التي يضفيها لاحقاً على الإجراءات من خلال صدوره من قبل السلطة السيادية، فالسيادة هنا مصدر الشرعية. عملياً، يؤدي ذلك المفهوم للسلطة السيادية إلى معضلة تتمثل في تحديد صاحب السيادة وتحديد ما يمنح سلطته شرعية أن تكون سيادية. يستخدم نُقّاد مفهوم السيادة هنا حجة الدوران: تحتاج «الشرعية» القانونية في تأسيسها إلى السيادة، لكن صاحب السيادة أيضاً يحتاج إلى شرعية قانونية حتى يحصل على السيادة. حاول منظرو السيادة الخلاص من نحو ذلك النقد عبر تعريف السيادة بوصفها خاصية إصدار القوانين دون الخضوع لها، ويستخدم بودان هنا تعبير القانونيين الكنسيين: «لا يمكن للبابا أن يقيد يديه»، في إشارة إلى أنه من التناقض أن يتقيد إنسان بما يتصرف فيه بملء حريته3. كما أن هوبز يرى أن خضوع السيّد للقانون المدني سيؤدي إلى التسلسل اللانهائي بحثاً عن صاحب القرار الأخير، وهي فرضية ممتنعة، لذلك لا بد ألا يخضع السيّد للقانون4.
رأى المنظر القانوني الألماني هانز كلسن أن مفهوم السيادة يُفضي إلى الاستبداد والسلطة المطلقة، مع كونه في الوقت نفسه غير ضروري لتأسيس القانون، فالقانون في نظر كلسن يجب أن يتأسس من داخله بمعزل عن السياسة أو الأخلاق، أي أننا لا يجوز أن نبرر القانون بأنه يتوافق مع القواعد الأخلاقية، أو أنه قانونٌ لكونه نابعاً من إرادة سياسية لديها سلطة سيادية. يُبرَّر القانون بأنه قانون فحسب، وهي الفرضية التي أطلق عليها كلسن «النظرية المحضة للقانون»، أو ما اصطلح على وصفه بـ«الوضعية القانونية».
لتأسيس القانون، يطرح كلسن مفهوم «المعيار الأساسي» الذي يفترض أن القانون هو مجموعة من المعايير (القوانين الحاكمة للسلوك الاجتماعي)، تُشتَّقُ من بعضها بحيث أن كل معيار ينبثق عن معايير أعلى وصولاً إلى المعيار الأساسي للنظام القانوني (القواعد الدستورية). يحاول كلسن إذن الانتقال من سيادة الدولة إلى حكم القانون، أي أنه يحاول أن يحوّل السيادة من خاصية لسلطة الدولة إلى خاصية للقانون نفسه5.
يواجه طرح كلسن معضلتين تنبعان من إغفاله البعد السياسي للقانون. الأولى هي المعضلة النظرية مُحدَّدة في مشكلة «التشريع الأول»، فإذا كانت المعايير التي تمنحنا شرعية التشريع تعود إلى معايير أعلى وصولاً إلى المعيار الأساسي، فمن الذي وضع المعيار الأساسي؟ أو كيف حاز المعيار الأساسي شرعيته؟ لقد أدت تلك المعضلة بكلسن إلى افتراض أزلية النظام القانوني للدولة وفق نظريته عن تماهي الدولة ونظامها القانوني، فالدولة في نظر كلسن ما هي إلا نظامها القانوني الذي يؤسس هو لسلطتها عبر منحها الشرعية، إذ أن محض ممارسة القوة والعنف دون شرعنة قانونية لا يخلق دولة. النظام القانوني في نظر كلسن أزلي بأزلية الدولة، ويمكننا التغاضي عن لحظة التأسيس وحجبها. ولكن وفق ذلك، يضطر كلسن من أجل المحافظة على اتساقه إلى إنكار واقعة تغيّر الأنظمة القانونية من خلال الفاعلية السياسية عبر الثورة أو انقلاب الدولة أو حتى الديمقراطية، مع بقاء الكيان السياسي أو الدولة قائماً، فيضطر إلى ادعاء تواصل النظام القانوني رغم واقع إمكانية تغيره أحياناً بواسطة الفعل السياسي.
أما المعضلة العملية، فتتمثل في «الفاعلية القانونية»، أي احتياج الطبيعة الإلزامية للقانون إلى سلطة تجسدها. يذهب كلسن إلى أن القانون نفسه يمتلك تلك الطبيعة، وهو يخلق السلطة التي تحقِّق الإلزام به ويُشرعِنُ العنف الحافظ له؛ غير أن غلبة الطابع النظري الصوري المحض على فكر كلسن تحجب عنه سؤال الفعل: ماذا إذا قررت السلطة بالفعل أن تُلزِم بخلاف القانون؟ أو ماذا إذا تحول العنف الحافظ للقانون إلى عنف صانع للقانون، إذا ما استخدمنا تعبيرات والتر بنيامين6؟ إن ما هو في النظرية آنذاك لا ينفي ما هو بالفعل، أي امتلاك العنف خاصية نخر النظام القانوني القائم، والشروع بفرض نظام قانوني جديد، دون حاجة إلى انتظار منحة الشرعية من المعايير القانونية النظرية.
لقد كانت غاية كلسن حماية الديمقراطية الليبرالية ومؤسساتها والحقوق الفردية من تسلط الدولة، متمثلة في أجهزتها أو حتى في الأغلبية الشعبية، عبر حكم القانون الذي حلم كلسن أن يمتد وراء سيادة الدولة بحيث تتأسس منظومة قانونية عالمية تخضع الأنظمة القانونية داخل الدول إليها، وقد رأى كلسن إرهاصات حلمه تتحقق عندما حضر الاجتماعات التحضيرية للأمم المتحدة في سان فرانسيسكو7.
تمعن النظرية الليبرالية كما نراها في الوضعية القانونية عند كلسن، في إغفال مركزية السيادة القومية في العلاقات الدولية والسيادة الشعبية في السياسة المحلية؛ وهي ليست مركزية حقوقية نظرية فحسب، يمكن الاحتجاج النظري ضدها بادعاء أولوية المجتمع الدولي على السيادة القومية أو أولوية الحقوق الفردية على السياسة الشعبية، وإنما هي مركزية سياسية فعلية تنبع من قدرة الدولة-الأمة، كما رأينا تاريخياً، على انتزاع سيادتها وزعزعة أي سلام مأمول طالما يهدد ذلك السلام تلك السيادة المستحقّة برأيها، كما تنبع من قدرة السيادة الشعبية في الداخل على النضال في سبيل انتزاع سيادتها الفعلية ضد السلطة ونظامها القانوني.
رغم أهمية الإسهام الوضعي الليبرالي، إلا أنه يبقى محدوداً بإبراز مأزق نظرية السيادة؛ مأزقها مع مبدأ الشرعية، الذي يمتد ليتمظهر في التناقض بين إطلاق السيادة الشعبية وبين حماية الحقوق الفردية التي قد تنتهكها السيادة الشعبية، والتناقض بين إطلاق السيادة القومية وبين الحاجة إلى تدخل المجتمع الدولي لحماية حقوق الإنسان. في المقابل، يعاني الإسهام الوضعي من مأزقه الخاص متمثلاً في صعوبة تحديد مصدر الشرعية القانونية مع نفي سيادة الدولة، فالسيادة ضرورة لإنهاء تسلسل المعايير.
إذن، يرى كارل شميت، وعلى النقيض من كلسن، أن السيادة أمر واقع في أي نظام قانوني نظراً إلى أن أي نظام قانوني لا بد أن يتضمن تحديداً لمن يملك حق إعلان حالة الاستثناء أو حالة الطوارئ، بوصفها الحالة التي يجري فيها تعليق القانون. إن حق إعلان حالة الاستثناء هو خاصية السيادة الأساسية بوصف السيادة هي حق عدم الالتزام بالقانون8. السيادة عند شميت هي أصل الدولة التي ولدت من رحم علمنة اللاهوت، أي نقل السيادة من الإله السماوي إلى سلطة الدولة الأرضية. ويتأسّس القانون عنده بفعل صدوره عن صاحب السيادة أو عن «آمريته». يرى شميت أن التخلي عن السيادة يعني التخلي عن الدولة والسياسة من خلال إنهاء الجدل السياسي المفترض في الديمقراطية عبر الفرض التعسفي للقيم الليبرالية (نقد الديمقراطية الليبرالية)، وإخضاع الدولة لإملاءات خارجية بحكم افتقادها سيادتها في تحديد أصدقائها وأعدائها (مفهوم السياسي)؛ أي أن شميت يقر بالتناقض الذي يثيره أعداء السيادة بين السيادة والشرعية، أو بين السياسة والقانون، لكنه يميل إلى الأولى عندما يميل الليبراليون إلى الأخيرة.
ينطلق كلسن وشميت كلاهما في محاولة حل معضلة الدوران بين السيادة والشرعية إلى محاولة اختزال أحد المبدئين في نظيره، وبينما يحتج كلسن بالأولوية النظرية للقانون، يحتج شميت بالأولوية التاريخية للسيادة؛ بينما يحتاج فهم الدوران بالضرورة إلى العودة إلى حالة التفاعل بين طرفيه. إن افتراض السيادة كسلطة مطلقة وأزلية وغير قابلة للانقسام هو افتراض لاهوتي يتعلق بعالم المطلق، وعندما جرى نقل تلك الفرضية من عالمها إلى عالم النسبي حيث تتجسد الدولة، فإن السلطة لم تبقَ مطلقة وأزلية وغير قابلة للانقسام لتحل في جسد كائن متخيل هو العاهل أو الشعب أو الأمة؛ وإنما تفتت السلطة وتنوعت أدواتها، وبقيت حتى في سطوتها السيادية، إذا أمكن تمركزها وتكثيفها في جهة محددة، محكومةً بقوانين حازت نصيبها من السلطة؛ السلطة التي أضحت مع غرامشي ثم بورديو وفوكو، مفهومة على نحو يتجاوز أدوات العنف أو نطاق الدولة. تنشأ السلطة السيادية في التاريخ بفعل تمفصل عرضي لمصادر القوة، لذلك فإنها تبقى سلطة محددة تاريخياً بفعل نشأتها ومحكومة بمصادر تشكلها التي أعطتها الشرعية والقوة كليهما.
على الرغم من أن بودان طرح الرؤية الأكثر إطلاقية لسلطة السيادة، إلا أنه يرى أن صاحب السيادة يقع فوق كل سلطة سوى سلطة الإله الذي هو سيّدٌ فوق كل السادة، وعندما يمارس صاحب السيادة سلطته في إصدار القوانين، فإنه يبقى محكوماً بالقانون الإلهي والقانون الطبيعي اللذين لا يملك أن يخرج عليهما. كذلك يرى هوبز أن السيّد هو شخصية مصطنعة لا طبيعية، أي أن سيادته تتشكل تاريخياً.
راهن القانوني الألماني هيرمان هيلر، خلافاً لكلسن وشميت، على عملية التشكل تلك للسلطة، التي تحدث في الديمقراطية من أسفل إلى أعلى، وهو ما يطلق عليه هيلر «المبدأ الجدلي» للديمقراطية، بحيث تتمأسس السلطة من قبل المواطنين والجماعات، وتتوزع بين مؤسسات وأجهزة تتحدد السلطة بها. أما في الحكم الأوتوقراطي، فإن السلطة تتشكل من أعلى عبر إرادة الحاكم. ينتقد هيلر أطروحة كلسن عن الهوية بين الدولة والنظام القانوني، حيث أن الأنظمة الأوتوقراطية لا ينتفي فيها القانون بالضرورة، لكن السلطة تبقى متمركزة من أعلى بما ينفي الحكم الديمقراطي والبرلماني الذي استهدف كلسن حمايته.9
إن السيادة إذن ينبغي أن تُفهَمَ بوصفها بنية اجتماعية تتشكل في التاريخ بفعل قوى متغيرة، وليست محض مفهوم نظري يمكن عزله كجوهر مستقل عن البنية الاجتماعية التي تؤطره. وعن تلك السيادة المبنية اجتماعياً، يصدر القانون ويشتق شرعيته، لا من مجرد حق سلطة شخصية ما في إصداره، ولكن السلطة تكتسب الشرعية الاجتماعية، والقوة الإلزامية أيضاً، عبر عملية بنائها نفسها وليس من خلال النظرية.
إعادة التفكير في مفهوم الحاكمية
طُرح مفهوم «الحاكمية» في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر كما نراه عند أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، نقيضاً لفكرة السيادة الشعبية ولأي سيادة أرضية معرّفة بحق التشريع10. ثمّ إجماعٌ في أدبيات الإسلام السياسي على أن سلطة التشريع لا يمكن أن تُتاح لغير الله، وأن ذلك ليس مسألة ضمن مسائل، وإنما هو جوهر التمايز بين النموذجين العلماني (الجاهلي في تعبير أدبيات الإسلام السياسي) والإسلامي، كما أن تحكيم الشريعة الذي يمثل جوهر البرنامج السياسي للإسلاميين إنما ينبثق نظرياً من ذلك المفهوم للحاكمية. وبافتقاد مفهوم الحاكمية، ينتج التناقض النظري في الأنظمة الوضعية بين السيادة والشرعية، وبتوفره في النموذج الإسلامي ينحل التناقض النظري، وتقيد الشريعة عملياً سلطة الحاكم المطلقة، سواء كان هذا الحاكم ملكًا مطلقاً، كما يفضل الجناح السلفي، أو رئيساً منتخباً كما يفضل الجناح الوسطي11.
يحمل مفهوم الحاكمية تناقضه الكامن في داخله أيضاً. لقد أضحت السيادة مشكلة بنقلها من عالم المطلق إلى العالم السياسي، حيث نبعت التناقضات من تجسدها في كيان أرضي محدد، سواء التناقض بين السيادة والشرعية، أو بين السيادة مفهومة بوصفها حق الأمة أو حق الشعب وبين حقوق الإنسان وحقوق الفرد التي لا يفترض أن تخضع لقرار الأغلبية. في المقابل، ينبع تناقض آخر من تسامي المفهوم وإعادته إلى العالم السماوي، هو ما يمكن أن نسميه «معضلة التجسيد».
إذا كان الله هو صاحب الحق المطلق في التشريع، وإذا كان من المستحيل أن نتصلّ بالله، بل يعد ذلك عقيدة إسلامية أيضاً هي انقطاع الوحي، فكيف نعرف القانون الإلهي؟ إن الإجابة بسيطة: إن الله أخبرنا بشريعته عبر النص المقدس. ولكن ما لا يمكن أن يختلف عليه اثنان هو واقع أن النص المقدس لا يمكن أن يحصي كافة المشكلات، ثم إن تأويل هذا النص يحتاج هو ذاته إلى الاجتهاد؟ من هو صاحب الحق إذن في ممارسة الاجتهاد أو التأويل؟ يقول الإسلامي إن صاحب هذا الحق هو الفقيه الولي أو هيئة من الفقهاء أو هيئة من أهل الحل والعقد أو الإمام المستجمع لشروط الإمامة. نسأل: ومن يحدد الولي الفقيه أو من يحدد الفقهاء الذين يستجمعون شروط الاجتهاد؟ ومن يحدد أهل الحل والعقد؟ ومن يواجه خطأ الإمام أو أهل الحل والعقد ويقوّمه إذا أخطأ الاجتهادَ أو خرجَ عن الشريعة، فيقرر اجتهاداً مضاداً أو يقرر الشريعة التي يجب الرجوع إليها؟
كما يلاحظ محمد أبو القاسم حاج حمد، فإن الحاكمية الإلهية في النموذج الإسلامي تجسدت من خلال «حاكمية الكتاب»، أي النص المقدس الذي يحتاج بشراً للاجتهاد في تأويله والاجتهاد خارجه، وهي من ثمّ حاكمية بشرية في واقعها الفعلي12. حالما يُمنح إنسان بعينه، أو هيئة من مجموعة من الأشخاص، حق الاجتهاد المنفرد دونما رقابة شعبية، فإننا في الواقع لا نكون إزاء حاكمية إلهية وإنما نحثّ السير تجاه تأسيس كنيسة إسلامية تملك حق التشريع باسم الله. ويخلط بعض الإسلاميين شعبياً بين دور القانونيين والفقهاء الدستوريين في الأنظمة الوضعية وبين الدور المتخيل للولي الفقيه أو الهيئة الفقهية المقترحة فوق الخيار الشعبي، فيرى أن دور الأخيرين لا يختلف عن دور الأوّلين في تفسير القانون وصياغته ونحو ذلك، غير أن الفارق الفعلي ينبع من السيادة الشعبية في إقرار أو نقض ما يقرره القانونيون في الأنظمة الديمقراطية، سواء عبر البرلمان أو عبر الاستفتاء الشعبي، وهي رقابة لا تتوقف، وتملك حق المراجعة بنقض ما سبق أن أبرمته.
في ضوء ذلك، تكون الحاكمية الإلهية أشبه بأفق يجتهد المسلمون في وعي وتحديد مقاصده، وفقاً لمعارفهم ومصالحهم وظروفهم التاريخية، ويسترشدون في ذلك بالنصوص المقدسة، أكثر مما هي قاعدة دستورية يتأسس من خلالها النظام القانوني كما استقبلها المنظرون الإسلاميون. تبقى الحاكمية هنا في موقعها في عالم المطلق، غير معزولة عن عالم النسبي الذي تؤثر فيه كأفق لها تسعى إليه، ودون أن تتجسد في هذا العالم النسبي تجسداً يهدد تلك الحاكمية الإلهية المطلقة في الحقيقة.
بين السيادة والحاكمية
لقد اقترح كثير من المنظرين القانونيين في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية حكم القانون المحض الوضعي، أو أولوية القانون الطبيعي حَكَماً فوق السيادة الشعبية، بما يعني أن الافتراض النظري لمحددات مسبقة للسيادة الشعبية هو ليس بالضرورة نقيضٌ للديمقراطية الليبرالية، كما فهمه بعض المنظرين العلمانيين العرب، الذين اندفعوا بسبب ذلك إلى عداء مطلق لمفهوم الحاكمية الديني. كما أن هذا الافتراض النظري نفسه ينفي تصور الإسلام السياسي للديمقراطية أو السيادة الشعبية كنقيض للحاكمية، لأنهما ينتميان إلى عالمين مختلفين.
تنتمي الحاكمية إلى عالم المطلق، وهي غير قابلة للتجسيد، بل تبقى أفقاً تسعى السيادة الشعبية نحو الاقتراب منه، وتجتهد في تحقيق مقاصده وفق معارفها واختياراتها وظروفها التاريخية.
وأكثر من ذلك، فإن السيادة الشعبية تمثل الضامن الأمثل لعدم تشكل كنيسة أو سلطة أرضية تدّعي لنفسها خصائص إلهية، وتؤسس طاغوتاً منافساً للإله بالتعبير الديني؛ لأن السيادة الشعبية تتشكل تاريخياً، وتتزن فيها السلطة بحيث تمكن الرقابة المتبادلة وتسهل المراجعة النقدية.
1. فهد بن صالح العجلان، سؤال السيادة في الفكر الإسلامي المعاصر، مجلة البيان، 17. 9. 2012. من المثير للنقد في تلك الورقة أن كاتبها لم يرجع إلى مرجع واحد في فلسفة القانون أو الفلسفة السياسية أو الفقه الدستوري، ولم يرجع إلى مؤلف أكاديمي واحد بالإنجليزية أو حتى بالعربية، بل بقي هامشه الطويل حصرياً لأدبيات الإسلام السياسي نفسه، كأنه يجترّ حواراً مع النفس لا يمكن أن ينتهي إلا إلى ما بدأ به، فالنتائج مقررة سلفاً ولا يمكن أن تنحلّ التناقضات.
2. Alain de Benoist, “What is Sovereignty?” Elements, No. 96 (November 1999), pp 24-55. Translated by Julia Kestova.
3. Bodin, Jean, Six Books of the Commonwealth. Oxford: Basil Blackwell, 1976. Abridged and translated by M. J. Tooley.
4. Hobbes, Thomas, Leviathan. Cambridge University Press, 1997. Edited by Richard Tuck.
5. Gumplova, Petra, «Law, Sovereignty, and Democracy: Hans Kelsen’s Critique of Sovereignty». An internet version.
6. Benjamin, Walter, «Critique of Violence». An internet version.
7. Negri, Antonio and Hardt, Michael, Empire. Harvard University Press, 2000.
8. chmitt, Carl, Political Theology: Four Chapters on the Concept of Sovereignty. Chicago University Press, 1985. Translated by George Schwab and forwarded by Tracy B. Strong.
9. Dyzenhaus, David, “Kelsen, Heller and Schmitt: Paradigms of Sovereignty Thought.” Theoretical Inqueries in Law, Vol. 16 (2015), pp 337-366.
10. فريد الأنصاري: البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي، القاهرة: دار السلام، 2009.
11. صلاح الصاوي: نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية، الرياض: دار طيبة، 1412هـ.
12. محمد أبو القاسم حاج حمد: الحاكمية، بيروت: دار الساقي، 2009.
محمود هدهود: طبيب وكاتب مصري، مهتم بالفلسفة والفكر الإسلامي.
——————–
الدولة: من فهم الواقع إلى تغييره/ أحمد نظير الأتاسي
الغرض من المقالة: المشروع الحواري المعرفي
إن الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط، والتي أعقبت ما سمي بالربيع العربي، تهدف إلى الوصول إلى الدولة والسيطرة عليها، على مؤسساتها وسلطاتها ومواردها، باعتبارها أسّ الوجود الجماعي. تفترض هذه الصراعات أن لا وجود للجماعة دون الدولة، وأن الدولة تحدد وتتحكم بنوعية حياة تلك الجماعة، ما نسميه هنا «الهناء»؛ لذلك فلا بد من الوصول إليها والسيطرة عليها. في بعض الحالات حسم الجيش هذا الصراع كما في تونس ومصر. وفي حالات أخرى تدهور الصراع إلى حرب تعددت فيها الأطراف كما في ليبيا وسوريا واليمن. في تلك الحالات، تفككت الدولة القائمة إلى مجموعة وحدات أو دويلات أو إمارات حرب مؤقتة تقوم على حمايتها وإدارتها تشكيلات عسكرية غير رسمية وبنيات حكم غير مؤهلة. ولا تزال خارطة هذه الدويلات أو إمارات الحرب تتغير، فتتفكك وحدات قديمة وتنشأ وحدات جديدة. هذه الفوضى أعادت طرح أسئلة أولية، وقد نقول بدائية، كنا نتخيلها محسومة: ما هي الدولة؟ متى تنشأ؟ متى تدوم وتستقر؟ ما هو الغرض منها؟ ما هو دور العنف العسكري في عملية النشوء والاستدامة؟ ما هو دور المجتمع الأهلي والمجتمع المدني في تلك العملية؟ ؟ من يجب أن يتولى إدارتها وقيادتها؟ ما هو نمط الحكم المناسب، أو شكل الدولة؟ ما هي العلاقة بين ثقافة المجتمع وبين نمط الحكم؟ ما هو تعريف «الأنسب»؟ هل هناك إطار نظري نستطيع من خلاله مناقشة هذه الأسئلة، وربما الإجابة عليها؟
هذه المقالة جزء من مشروع حواري يشمل عدة مقالات ويشارك فيه كتّاب متعددون. الغرض من الحوار هو إنتاج معرفة عن الدولة. أو بكلمات أكثر مباشرة، هذا الحوار هو محاولة لإيجاد إطار نظري لتحليل وفهم الصراعات التي نشهدها على ساحة الشرق الأوسط منذ بدء الربيع العربي، والتي تدور حول محور رئيسي وأساسي هو الدولة.
لابد من الإشارة هنا إلى الافتراض غير المعلن، ولكن ليس الخفي، لمشروع الحوار هذا وهو أن الدولة الديمقراطية هي النمط الأنسب لتحقيق المهمة الثقيلة، أي إنشاء الدولة واستدامتها بما يحافظ على وجود الجماعة ويحقق «هناءها». في هذه الحالة، فإن الصراعات القائمة اليوم بعيدة في طروحات أطرافها (والتي يمثلها النمطان القومي والإسلامي) كل البعد عن النموذج الأمثل، أي الديمقراطية. هذا هو التناقض الذي بين أيدينا، ولهذا نحتاج إلى هذا الحوار. أي أن مشروع الحوار قد أجاب على بعض الأسئلة السابقة، وأهمها «نمط الدولة الأنسب»؛ وبالتالي أعطى الأولوية لسؤال «كيف نصل إلى الديمقراطية انطلاقاَ من الأيديولوجيات السائدة، القومية والإسلامية، والتي هي غير ديمقراطية؟» وضع المشروع إطاراً نظرياً مبسطاً للدولة، يقوم على مفهومي السيادة والشرعية، ليناقش من خلاله كيف تتم صياغة الدولة تحت كل واحدة من الأيديولوجيات الثلاثة المطروحة على الساحة، القومية والإسلامية والديمقراطية. والسؤال المضمَر هنا هو:هل تتناقض الصياغتان القومية والإسلامية مع الصياغة الديمقراطية للدولة؟ ما هو شكل هذا التناقض؟ وهل يمكن أن يفيدنا فهمه في رسم طريقة الإنتقال نحو الديمقراطية؟ أو في أسوأ الحالات، هل يمكن التأكيد على استحالة الوصول إلى الديمقراطية انطلاقاً من النمطين السائدين؟
قد لا يعبر هذا الفهم بدقة، أو بأمانة، عن أفكار طارحي مشروع مجموعة المقالات التي بين أيدينا. لكن يمكن القول بأن هذا الفهم ينطبق على مشروع حواري آخر ذي وجود حقيقي وقوي على ساحة الصراعات السياسية الجارية اليوم في الشرق الأوسط. يمكننا متابعة هذه المقالة بقبول هذا الإفتراض، وحينها تصبح المقالة نقداً لهذا المشروع ومحاولة لطرح مشروع حواري بديل من خلال تقديم إطار نظري تحليلي جديد وأسئلة جديدة.
فيما يلي سنقوم بمهمتين: الأولى تفترض المشروع المطروح وتحاول السير به إلى ما يمكن وصفه بأنه أزمة، أزمة نظرية وأزمة تطبيقية؛ الثانية تقترح مشروعاً بديلاً يتفادى الأزمتين المذكورتين. لغرض التنظيم، نقسم كل مشروع حواري إلى ثلاثة عناصر: الإطار النظري لتحليل الدولة (النموذج التمثيلي)، الهدف الواجب تحقيقه (أو نمط الدولة الأنسب)، الوصفة العملية للفعل أو الأفعال التي ستحقق الهدف وتعالج العقبات.
المشروع الحواري المطروح: في سبيل الديمقراطية
النموذج التمثيلي للدولة
نعيد تلخيص المشروع المطروح: الهدف هو الوصول إلى نمط الدولة الديمقراطية إنطلاقاً من أحد النمطين، القومي أو الإسلامي؛ الإطار النظري لتحليل الدولة يشمل مفهومي الشرعية والسيادة؛ والوصفة العملية ستكون أحد منتجات التحليل والحوار. يجب التنويه هنا إلى أن المشروع المطروح لا يزعم إمكان اختزال الدولة بهذين المفهومين، وإنما يعتمدهما كقاعدة للمقارنة بين الأنماط الثلاثة الموجودة على ساحة التحقيق وساحة النقاش، أي الدولة القومية والإسلامية والديمقراطية. كيف يتصور كل نمط للدولة مفهومي السيادة والشرعية؟ أين يكمن الاختلاف بين تلك الأنماط؟ وإذا فهمنا الإختلاف، فهل نستطيع رسم طريق للوصول إلى الديمقراطية انطلاقاً من النمطين الآخرين؟ أو هل يمكن، وهو أضعف الإيمان، أن نعلن استحالة هذه الإنتقال؟
ظاهرياً، المشروع المطروح لا يبدأ بنمط الدولة الأنسب، وإنما يبدأ بالنموذج التمثيلي؛ فمن منطلق علمي يجب أن يسبق التحليل أية محاولة لاختيار الهدف وإيجاد الطريق لتحقيقه؛ لكن هناك افتراض ضمني أن الهدف واضح ولا يحتاج إلى إعلان مستقل. سنحاول فيما يلي المحاججة بأن مثل هذا الافتراض الأولي يؤثر في النموذج التمثيلي، أي أن الهدف يقود التحليل منذ البداية. وهذا يعني أن ترتيب عرض الحجج بهذا التسلسل (هدف، ثم تحليل، ثم تطبيق) ليس الغرض منه التنظيم فقط، وإنما إجبار الفرضية المبطنة على الظهور لأنها فعلاً هي البداية الحقيقية للمشروع. بالنسبة للمشروع المطروح، النموذج التمثيلي الأبسط للدولة يقترح حداً أدنى من العناصر المكونة، ويضع تعريفاً لها، ويحدد العلاقات القائمة بينها من خلال السببية . إذن لدينا مفهومان أساسيان لفهم الدولة، السيادة والشرعية. ولدينا ثلاثة أنظمة حكم، ونعني الدولة الديمقراطية والقومية والإسلامية؛ يعرّف كل نظام فيها المفهومين المذكورين ويستخدمهما بطريقة مختلفة عن النظامين الآخرين من خلال ربطهما بعلاقات سببية يختص بها ذلك النظام. المقارنة بين أنظمة الحكم هذه ستكون عبر مقارنة التصور الخاص لكل نظام مع تصور النظامين الآخرين لمفهومي السيادة والشرعية وللعلاقة بينهما.
النمط الأنسب أو الهدف: النمط الديمقراطي للدولة
بالنسبة للمشروع المطروح، في الدولة الديمقراطية «الشرعية مفهوم مركزي»، «تنبع الشرعية من العملية الديمقراطية (التعيين بالانتخاب والتشريع بالاقتراع)»، «السيادة في الديمقراطية هي للشعب، الذي هو منبع السلطات ومنبع التشريع».
فما هي السيادة وما هي الشرعية وما هي العلاقة بينهما في الدولة الديمقراطية؟ تعرَّف الديمقراطية على أنها حكم الشعب للشعب وبالشعب. إنه ثالوث يصعب فهمه كما يصعب فهم ثالوث المسيحية، واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد. إن الشعب لا يحكم نفسه بنفسه، وإنما تحكمه مجموعة منتقاة بحيث تمثله تمام التمثيل، حسب الزعم، فتكون متماهية معه. السيادة هنا هي احتكار الشعب لصلاحية اتخاذ القرارات التشريعية والتنفيذية، واللتان يشكل اجتماعهما ما نسميه اختصاراً بالحكم. أما الشرعية في الدولة الديمقراطية فهي قبول الشعب بالقرارات التي اتخذها من خلال سيادته، أي عبر ممثليه، والانصياع لها، دون الحاجة إلى قوة قاهرة من باب أنها قراراته وبالتالي فلا حاجة لرفضها والتمرد عليها. بالطبع الشعب، صاحب السيادة، لا يتخذ إلا القرارات التي تحقق مصالحه؛ فمن الجنون أن يتخذ المرء قرارات تضره أو لا تعبر عنه.
لكن الأمر أعقد من هذا التصور. فالشعب أكثر عدداً من أن يجتمع كله ليناقش مشاكله ويتخذ قرارات بشأنها. ولهذا فإنه يقوم، ومن خلال سيادته، بانتقاء مجموعة من الأشخاص الذين يمثلون رغباته وحاجاته ومصالحه؛ ومن ثم، يفوضهم باتخاذ القرارات نيابة عنه. تنقسم هذه المجموعة المنتقاة إلى قسمين: قسم تشريعي يتخذ القرارات بالتفاوض والإتفاق، وقسم تنفيذي يضعها موضع التنفيذ باستخدام مهارات تقنية. اجتماع القسمين يسمى الحكومة لأنها الحاكم الفعلي. ويُفترض أن التمثيل بالانتخاب كامل، أي أنه يعكس كالمرآة الشعب ومصالحه. فعندما تتخذ المجموعة المنتقاة القرارات وتنفذها فإنها تعبر عن مصالح الشعب وتحققها، وبالتالي فإن الشعب ينصاع لهذه القرارات لأنها قراراته هو نفسه. أما القضاء والشرطة فهي مجرد ضابط لبعض الأفراد المتمردين الذين تدفعهم غرائزهم غير العقلانية لعدم الإنصياع؛ فهم إما سفهاء لا يفكرون ولا يعرفون مصالحهم أو أنهم مرضى خرجوا من نطاق الشعب السيادي بسبب غرائزهم المرضية المنحرفة والمهددة لأمن الشعب؛ ولذلك تسحب بعض الولايات في الولايات المتحدة مثلاً حق التصويت من المجرمين الصادر بحقهم حكم جنائي من المحكمة.
يسمى القسم التشريعي في الحكومة الديمقراطية بالبرلمان أو مجلس النواب أو مجلس الشعب. البرلمان كلمة فرنسية انتقلت إلى الإنكليزية في العصور الوسطى، وهي تحيل إلى الحديث والمشاورة وليس إلى التمثيل. الكلمة استخدِمت للدلالة على مجلس استشاري منتقى من طبقة النبلاء لمساعدة الملك في اتخاذ القرارات التي تمس في النهاية هؤلاء النبلاء، مثل الضريبة والخدمة العسكرية. وبالطبع، متخذ القرار في النهاية هو الملك. تطورت هذه الأنواع من المجالس حتى انتهت في القرن التاسع عشر بأن تكون عضويتها مشروطة بتمثيل العضو لسكان منطقة جغرافية معينة من خلال انتقاء هؤلاء السكان له عن طريق الانتخاب من بين عدد من المرشحين. أما القسم التنفيذي، أو مؤسسة الرئاسة أو رئاسة الوزراء، فيُنتخب رأسه فقط وليس مجموع أعضائه. تاريخياً، القسم التنفيذي هو سحب لسلطة التشريع من الملك، وقصر صلاحياته وصلاحيات وزرائه على تنفيذ قرارات القسم التشريعي فقط. لكن كل الديمقراطيات تعطي القسم التنفيذي صلاحيات تشريعية إما من خلال تعميمات رئاسية أو من خلال تفويض البرلمان للوزارات المختصة بتفصيل القوانين، هذه التفاصيل التي نسميها المعايير لتمييزها عن القوانين أو التشريعات التي يقرّها القسم التشريعي للحكومة.
إن التماهي بين الشعب وتمثيله، بشقيه التشريعي والتنفيذي، أساسي لاستمرار صلاحية مفهوم الشرعية. فالشعب لا يقبل إلا بقراراته هو التي تعبر عن مصالحه ورغباته، وبالتالي فعلى ممثليه أن يعكسوا هذه المصالح والرغبات بدقة وفي كل لحظة. أي أن الدولة الديمقراطية (الحكومة بشقيها) هي مجرد مجموعة سلطات ووظائف وإجراءات مفروض عليها في كل لحظة أن تثبت أنها تنبع من الشعب وتمثله وتخدمه، وبالتالي تحقق سيادته على نفسه، مما يدفعه حتماً لإعطاء الدولة دمغة الشرعية، التي هو المالك الوحيد لها، من خلال قبول القرارات والانصياع الاختياري لها. باختصار، الديمقراطية هي تحقيق لنرجسية الشعب وهوسه بكفاية حاجاته من خلال الدولة التي يعطيها صلاحيات وسيادة مؤقتة ومشروطة عليه وعلى مقدراته؛ وبالطبع فإنه يستطيع أن يسحب هذه الصلاحيات ويعطيها لمن يشاء، حسب الزعم.
إن الإنتقال من حكم الشعب لنفسه وبنفسه إلى حكم ممثليه و الانصياع لهذا الحكم يحتاج إلى عدد كبير من الفرضيات. ويزاد عدد هذه الفرضيات إذا حاولنا التشكيك بمفهوم الشعب وحقيقة وجوده. هل الشعب هو مجموع سكان البلد؟ ومن يضع حدود البلد ويحدد شروط الإنتماء إليه؟ هل مجموع رغبات الأفراد ومصالحهم هو ما نسميه برغبات ومصالح الشعب؟ هل هذا المجموع محدود في كل لحظة أم أنه لا متناهٍ؟ هل يمكن لمجموعة منتخبة من السياسيين والتقنيين أن تحيط برغبات الشعب ومصالحه في كل لحظة وبشكل آني مهما كان عددها؟ وهل انتخاب الشعب لها هو اللمسة السحرية التي تعطيها مهارة الإحاطة بتلك الرغبات والمصالح؟ أم أنها تعتمد في عملها على مهارات أخرى ويستطيع الشعب بالإنتخاب إيجاد أفضل المالكين لهذه المهارات؟ ثم هل بالفعل تريد هذه المجموعة عكس مصالح الشعب، وهل للشعب رقابة مستمرة عليها؟ ومتى وكيف يستطيع الشعب، في حال خذلته تلك المجموعة، أن يستبدل بها مجموعة أخرى خيراً منها وأكثر كفاءة؟
ومن أجل إثبات تفوق نظام الحكم الجمهوري على النظام الملكي، حاجج منظرو التنوير الأوروبي الليبراليون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأن ذلك المخلوق الأسطوري المسمى بالشعب موجود، وقادر على التفكير العقلاني، وله رغبات ومصالح محددة ومحدودة العدد، وأن الإنتخاب يُنتج أفضل المؤهلين لتمثيل الشعب، وأن هؤلاء الممثلين قادرون دوماً على عكس رغبات ومصالح الشعب الحقيقة، وأنه يرغبون بذلك وليس لهم همّ إلاه. كان من السهل الاقتناع بمثل هذا التصور للشعب تحت الملكية، فالشعب ببساطة هو كامل السكان ناقص الملك المستبد والنبلاء أصحاب الإمتيازات. الشعب معرّف بالتضاد مع الملك وفئة النبلاء، ورغبته ليست إلا التخلص من المستبد وامتيازات النبلاء. أما سيادة الشعب فينقلها طوعاً إلى مجموعة ممثليه بعقد اجتماعي ملزم. الشعب يتفرغ لتنمية أملاكه والسعي وراء سعادته ويخول ممثليه، بعد القضاء على الملكية، باتخاذ القرارات نيابة عنه، تلك القرارات التي تضبط هذا السعي، التنافسي أحياناً، بما يضمن سلامة الممتلكات الفردية ويؤمن شروط الحرية اللازمة لاستمرار هذه السعي وتناميه. ويتعهد الشعب بالمقابل بالانصياع لتلك القرارات مادامت تعكس مصالحه ورغباته؛ وفي حال فقد ثقته بهؤلاء الممثلين فإنه يتعهد بأن لا يتمرد على قراراتهم وأن ينتظر دورة الإنتخابات المقبلة لينتقي مجموعة أخرى أنسب وأكثر كفاءة ومدعاة للثقة. الافتراض غير المعلن لتلك الليبرالية القديمة هو أن أفضل من يمثل الشعب هم أفراد الطبقة الوسطى من المتعلمين والمهنيين، القادرين على التفكير العقلاني والموضوعي والمتجرد من الأهواء الشخصية، والمتمسكين بقيم وأفكار التنوير. ولذلك فقد اقتصر حق الإنتخاب حينذاك على فئة المتعلمين والمالكين القادرين على دفع الضرائب، والتي تربطها ملكياتها بالدولة الحامية لتلك الملكيات. إنه التعريف الروماني القديم لعضوية الجسم السياسي، أي لأهلية التصويت؛ فباعتقادهم، من لا يملك شيئاً لن يهتم بمن يحكمه؛ لا بل لن يهتم بالدفاع عن الدولة لأنه لا يملك أولاً ثمن سلاحه (أبسط أنواع الضريبة) وليس لديه ثانياً ما يحارب من أجله. ولذلك كان من الأفضل لليبرالية في البداية الحديث عن النظام الجمهوري المستقى من المثال الروماني. لم يكن من الممكن الحديث عن «جنة» الديمقراطية، ذات الأصول الإغريقية المزعومة، إلا بوجود الإقتراع الشامل وتوسيع مفهوم الشعب ليشمل جميع السكان، عدا طبعاً المجرمين الغرائزيين والسفهاء ممن لا عقلانية لهم.
بالطبع، هذا الفهم الليبرالي للدولة يعتقد بأن الشعب يحقق هناءه بنفسه من خلال السعي وراء مصالحه، الافتصادية غالباً. ويمكن القول بأن الديمقراطية تاريخياً كانت من منتجات الليبرالية الاقتصادية. أما الدولة فهي مجرد ضابط لتنافس الأفراد وضامن لسلامة ممتلكاتهم وحامٍ لحرياتهم. يجب أن ننتظر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى لنشهد تحولاً في الفهم الأوروبي لدور الدولة في تحقيق هناء الشعب. بين الحربين، وبعد الحرب العالمية الثانية إلى أوائل سبعينات القرن العشرين، شهدت أوروبا الغربية والولايات المتحدة توجه الدولة نحو الإعالة والضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى تغير طبيعة دورها الضابط والضامن والحامي من ضابط لتنافس الأفراد إلى ضابط لجشع الرأسماليين، ومن ضامن لسلامة الملكيات الخاصة إلى ضامن لسلامة الملكيات العامة، ومن حام لحريات الأفراد إلى حام لحقوق العمال وكل من يمسهم جشع الرأسمالية. نظرياً، هذا يجعل الدولة نقطة التوازن بين الرأسمالية وبقية الشعب من العاملين، ويلغي ذلك العقد الإجتماعي الرومانسي بأن يجعل الدولة حلبة الصراع بين الرأسمالية والعاملين. هذا كان أول اعتراف بأن الشعب ليس كتلة واحدة متجانسة وإنما مصالح مختلفة ومتضاربة. لكن الصراع الطبقي المستعار من الأفكار الاشتراكية الماركسية حافظ على فكرة وجود رغبات محددة ومحدودة، ليس لعامة الشعب بل لكل طبقة. بالطبع لم يفكر أحد بالفلاحين وغيرهم من العاملين في أعمال فردية غير صناعية، وهو جزء لا يستهان به من السكان. هؤلاء إما رأوا الملك والكنيسة في الدولة (الفلاحين وسكان القرى) أو أنهم عارضوا فكرة الدولة من أصلها (الأناركيين من سكان المدن). في تلك الفترة أيضاً نشهد توسيع نطاق الانتخاب ليشمل النساء وغير الملاكين من الطبقات العاملة، أي ليشمل، وياللمفارقة، بقية الشعب. الآن يمكننا أن نتحدث عن النظام الديمقراطي دون اختزاله المجحف بالنظام الجمهوري التمثيلي.
وبما أننا وصلنا في رسمنا لتطور الليبرالية إلى نقطة الإعتراف بعدم وجود شعب، أو على الأقل شعب موحد في رغباته ومصالحه، فلنحاول أن نتوسع في تفصيل هذا المفهوم الغامض (المفهوم غير المفهوم). من مقولاتنا الأساسية التي نعمل على توضيحها في هذه الورقة أن النماذج التمثيلية للدولة (أو لأية ظاهرة اجتماعية)، والتي تبدأ بتعريف مفاهيمها الأساسية كماهيات وتكتفي بعلاقات سببية بين تلك المفاهيم، لا تستطيع أن تضبط حدود هذه المفاهيم ولا هذه العلاقات. إن أقل ما يمكن أن يقال عن هذه المفاهيم أنها غامضة، أو غير مفهومة بالضبط، أو يصعب تعريفها بشكل لا لبس فيه، أو يجب على كل باحث أن يبدأ بوضع تعرفه الخاص لها عند كل بحث، مما يجعل النقاش بين المفكرين السياسيين صعباً ومنتجاً لكم هائل من سوء التفاهم. إن تعريف الشعب كمجموع السكان القاطنين ضمن حدود جغرافية معينة يحيلنا مباشرة إلى قضيتين شائكتين: العضوية في جماعة الشعب، ورسم الحدود وضبطها. نحن بحاجة إلى حدود لنعرّف الشعب، وبحاجة إلى سيادة الشعب على التشريع لرسم تلك الحدود. وكذلك العضوية، فإننا بحاجة إلى تعريف العضوية لنعرّف الشعب، الذي يفترض أن يكون، وقبل كل شيء، صاحب السيادة في إصدار التشريعات التي تحدد العضوية. لكن غالباً ما نعتبر الحدود والعضوية كمعطيين أوليين مفروضين بقوة الدولة. إننا بحاجة إلى الدولة لنعرّف الشعب، قبل أن نحتاج إلى الشعب ليعرّف لنا الدولة ويحدد صلاحياتها بالتفويض. إن دمغة الشرعية التي يعطيها هذا الشعب للدستور والقوانين لاحقة لوجود الدولة وليست سابقة لها. بعبارة أدق، نحن بحاجة إلى السيادة لنعرّف الشعب، فكيف يستطيع هذا الشعب أن يملك السيادة أو يعطيها لأي كان.
إذا تخطينا تجاوزاً هذه المعضلة، وقبلنا بوجود تعريفين مسبقين للحدود والعضوية، وإذا قبلنا أن الشعب هو مجموع السكان، فإننا لا نزال بحاجة إلى قوة القانون لنحدد أفراد الشعب القادرين على التصويت (أي الشعب المفيد سياسياً). لو رفعنا سن حق الإنتخاب من 18 إلى 21 فإن الشعب المفيد سياسياً قد ينقص بنسبة معتبرة قد تصل إلى 5%. فمن يحدد أهلية أي فرد للتصويت، إنه القانون؟ ونعود هنا إلى حجة العقلانية المرتبطة جذرياً بالديمقراطية الليبرالية، فسن الـ 18 يعتبر السن التي يصل فيها الإنسان إلى بداية النضوج والتفكير العقلاني. لا أعتقد أن هذا الاعتقاد يعتمد على أية أبحاث علمية. المشرعون في فترة تاريخية ماضية قرروا أن عدد الناخبين ونوعيتهم المناسبين لاستقرار المنظومة السياسية يتحقق باعطاء حق التصويت لمن هم في الـ 18 فما فوق. لكن جميع الأحزاب، ومنذ أن نشأت الأحزاب في القرن التاسع عشر، تعرف أن طبيعة الناخبين تختلف بين من لديهم عمل ينفقون منه ومن لا يزالون عالة على أهلهم. كما أن الشباب بين سن الثامنة عشرة والخامسة والعشرين يشكلون قرابة الـ 40% من الناخبين؛ وهؤلاء لا يزال عدد كبير منهم على مقاعد الدراسة تحت التدريب، أي لا عمل لهم يعتاشون منه. فما هو نوع العقلانية التي نتحدث عنها في تحديد الشعب المفيد سياسياً، هل هي عقلانية معرفة الصح من الخطأ حسب الأعراف؟ أم هي عقلانية معرفة المصلحة الفردية، ما ينفعها وما يضرها، أم هي عقلانية معرفة المصلحة الجمعية؟ وما دمنا في حديث العقلانية، فمن هم السفهاء الذين لا عقل لديهم ليفكروا به ويعرفوا به مصلحتهم ومصلحة غيرهم؟ المجرمون أم القاصرون عقلياً، أم الإثنان؟ وما هو تعريف كل واحد منهما؟
إذا كان الشعب المفيد سياسياً هو مجموع السكان فوق حد عمري معين، فمن المنطقي أن نتوقع رغبات ومصالح بعدد أفراده. فكيف يمكن إنتاج مطالب شعبية يمكن لممثلي الشعب أن يحيطوا بها ويعبروا عنها؟ من خرج في مظاهرات 2011 في سوريا يعرف تماماً صعوبة تجميع الناس حول أية مجموعة من المطالب. ويعرف أيضاً أن المطالب التي قدمتها أية مجموعة من السكان إلى الدولة (في اجتماعهم مع بشار الأسد مثلاً) لم تكن مطالب يمكن ترجمتها مباشرة إلى منافع فردية؛ وأن هذه المطالب نتجت عن مجموعة من الحوارات الصاخبة، ومقترحات من النخب الموجِهة المحلية، وجلسات طويلة من الإقناع بأن المطالب التي سيقدمها ممثلو المجموعة بداية طيبة ومدخل جيد لعملية تغيير طويلة الأمد. وكذلك هو الحال في مشاريع القوانين التي تناقشها أية برلمانات؛ إنها مقترحات قدمتها نخب من أنواع مختلفة وجيشت حولها الدعم الشعبي. هذه المقترحات ليس لها في الغالب أي تأثير مباشر وآني على أي فرد لوحده، وإنما تأثير على البيئة المحيطة بالأفراد والتي تجعل حياتهم بالمحصل يسيرة أو عسيرة، هانئة أو كالحة. ومهما كانت الإنتخابات ناجحة في عكس مطالب نسب مختلفة من هذا الشعب، أو في التخلص من الممثلين المعيقين لتلك المطالب، فإن هذا النجاح لا ينتج عن معرفة الشعب بمصالحه ككتلة واحدة، وإنما من عملية التنافس بين المرشحين للوصول إلى مناصب الدولة من خلال إقناع الناخبين بأن أجندتهم تتطابق مع أجندة عدد كاف من الناخبين يضمن نجاح هذا المرشح أو ذاك. وهذه العدد الكافي من الناخبين غالباً ما يكون كتلاً مهنية أو أيديولوجية أو مصلحية وصلت إلى صياغة تقبل بها لمصالحها (غالباً من خلال أيديولوجيا)، مما جعلها قادرة على التصويت بهذا الاتجاه أو ذاك ككتلة (وهنا مربط الفرس، ككتلة). أي أن الشعب المفيد سياسياً (أي الذي يحقق أغلبية الناخبين البسيطة) هو نسبة بسيطة من عدد الناخبين الإجمالي. هذه النسبة تتوزع على تيارات أيديولوجية عامة، وتقوم بالتصويت وفق هذه التيارات. لا بل إن الإنتخابات في الولايات المتحدة، مثلاً، أثبتت أن الشعب المفيد هو تلك الفئة التي ترجح كفة هذا المرشح أو ذاك؛ أي أن الكتل الأيديولوجية أحياناً كثيرة لا تستطيع تحقيق الأغلبية البسيطة، فتكون السلطة كلها في تحديد نتيجة الاتخابات بيد مجموعة قليلة من الحياديين، أو الذين ينوون نقل قناعاتهم من هذه الكتلة إلى تلك. فإذا كانت نسبة الناخبين مثلاً %60 بالمئة من مجموع السكان، وكانت نسبة المصوتين في انتخابات ما نصف عدد الناخبين (أي 30% من السكان)؛ وإذا توزع المصوتون على أيديولوجيتين رئيسيتين بنسبة 40% من المصوتين لكل أيديولوجيا؛ فإن نسبة الذين يحددون نتيجة الإنتخابات هي 10% من مجموع السكان؛ وهم أولئك الأفراد الذين يقفون على الحدود بين أيديولوجيتين، لا يعرفون أيهما تحقق مصالحهم (والتي هي بعبارة أدق مصالحهم حسب ما تمليها عليهم الأيديولوجيات التي يتبعونها). الخلاصة التي نصل إليها هي أن نسبة الشعب المفيد سياسياً في أية انتخابات نسبة قليلة من مجموع السكان؛ وأن هؤلاء لا يستطيعون أن يقيموا الحجة العلمية المنطقية على ما يعتبرونها مصالحهم، لأنهم اعتمدوا في صياغة هذه المصالح (أو المطالب، وهذا مصطلح أفضل) على أيديولوجيا تعلموها من أهلهم.
ويعرف كل ناخب في الديمقراطيات القائمة حالياً أن الناخبين لا ينتقون الأفضل للوظيفة من خلال الانتخاب، وإنما ينتقون واحداً مما هو معروض عليهم في سوق الترشيحات. هذه السوق لا يدخلها إلا من ملك المال والدعاية وأدوات التجييش الأيديولوجي، وليس بالضرورة من ملك المؤهلات التقنية أو التفاوضية. وأخيراً، كيف تكون الديمقراطية حكم الشعب إذا كان على 49% من الناخبين أن يقبلوا ما اختارته أغلبية 51% من هؤلاء الناخبين. وكيف لتلك الأقلية الانتخابية أن تعيش حتى دورة انتخابية قادمة مع ما لم ترضه ولا اختارته. وليس من الغريب أن تعتقد هذه الأقلية أنها المحقة وأنها مجبورة على قبول ما اختاره «السفهاء منهم» وبما يناقض ما يرونه مصالحهم. طبعاً الجواب هو، كالعادة، فلينظّموا أنفسهم حتى يربحوا في الدورة القادمة؛ أي أن عليهم أن يعملوا بجد واجتهاد يفوق اجتهاد الأغلبية الإنتخابية حتى يستطيعوا التعبير عن مصالحهم؛ ولن يملكوا هذا الحق، الذي هو أس السيادة، إلا للحظات عند رمي الورقة في الصندوق الاقتراع. إن الناخبين لا يمارسون ما تبقّى لهم من سيادة مزعومة إلا كل دورة انتخابية، كل سنتين أو أربع أو خمس سنوات. وبعد أن يقترع الناخب فإنه يفقد أية سيادة لديه إلى حين الدورة الإنتخابية القادمة. فما دامت الحكومة قائمة فلا سيادة له عليها لأنه تنازل مؤقتاً عن هذه السيادة عندما ألقى بصوته في صندوق الاقتراع.
لا يسع المنظّر هنا إلا أن يقرّ بما يسمونه «نواقص أو عيوب الديمقراطية»؛ لكنه لن يتخلى أبداً عن الديمقراطية نفسها وسيعيد علينا تعريفها كما ذكرناه أعلاه وكأنه كلام منزل من السماء. لا مانع عندي من «قبول تلك العيوب»، لكن يجب أن لا نسميها مصالح وإنما مطالب أيديولوجية، وأن لا نسميه الشعب، وإنما الناخبون المفيدون الذين يرجحون الانتخابات، وأن لا نسميه تمثيلاً وإنما إقرار، وأن لا نسميها سيادة وإنما قبول، وأن لا نسميها شرعية وإنما أمر واقع. إن الفرضية الغائبة في النموذج التمثيلي للديمقراطية هي أن الدولة موجودة ولا يستطيع الشعب أن يطردها نهائياً بحيث يتحمل أعباء سد حاجاته بنفسه. الدولة موجودة، والشعب موجود، ولا يمكن لأيهما أن يتخلى عن الآخر؛ الشعب بحاجة للدولة ومفروض عليه أن يعترف بحتمية وجودها وسرمدية اعتماده عليها. فكيف إذن يكون للشعب أي سيادة على الدولة، إلا كل فترة محددة ولساعات قليلة حين يضطر، وبكامل قواه العقلية، لنقل اعترافه من مجموعة قائمين على الدولة إلى مجموعة أخرى. وحتى هذه السيادة اللحظية ليست كاملة، لأنها سيادة الأغلبية الانتخابية التي تفرضها على الأقلية الانتخابية. لا بل إن الناخب لا يمارس أية سيادة في عملية التصويت، بل يقامر عساه أن يكون من الأغلبية فيمارس سيادة لحظية بمفعول رجعي. إن النموذج التمثيلي الذي نتعامل معه هنا للدولة الديمقراطية بمفاهيمه وعلاقاته بينها ليس نموذجاً لواقع قائم، وإنما تبرير أيديولوجي لمنظومة حكم لا نزال بحاجة إلى دراستها موضوعياً. إن ما نسميه الديمقراطية، ونحسبه واقعاً ممكنا ومخالفاً لادعاءات قومية أو إسلامية أيديولوجية، ليس إلا أيديولوجيا أخرى نؤمن بها أو لا نؤمن، لكننا لا نستطيع أن نثبت صحتها.
أنماط منافسة أو عقبات: النمط القومي للدولة
بالنسبة للمشروع المطروح، في الدولة القومية «السيادة مفهوم مركزي»، «السيادة هنا مرتبطة بالجغرافيا، أي بالأرض التي تملكها الأمة ككل وعبر التاريخ، بأرض الأجداد»، «الأمة-الشعب مصدر السيادة»، «شرعية الدولية تنبع من تمثيلها الحقيقي للأمة-الشعب».
فما هي السيادة، وما هي الشرعية، وما هي العلاقة بينهما في الدولة القومية؟ في البداية، لا بد لنا من تعريف مفهوم الأمة بالنسبة للأيديولوجيا القومية. الأمة مفهوم غامض أكثر من مفهوم الشعب؛ فالشعب مبني على الحاضر، أما الأمة فمفهوم مبني على الماضي. أي يمكن أن نعتبر الشعب الآن، وأن نأخذ أجداده لقرون، وأن نجمع كل هذه الأجيال في مجموعة بشرية واحدة ومستمرة، عضوياً وثقافياً، فتكون تلك هي الأمة. الأمة لها روح أزلية تحملها وتعبر عنها اللغة والثقافة والوطن (أرض الأجداد)، وأحياناً الدين (وهي روح لها آمال ومستقبل ومصير، ككتلة واحدة)؛ أي أن الأمة كائن موجود وحي، كان ويبقى وسيبقى. حوامل الأمة هذه، وإن وقع عليها بعض التغيير، فإنها تحمل جوهراً واحداً لا يتغير عبر العصور هو روح الأمة. لكن الأمة تبقى تعيش في حالة جنينية مادامت تفتقد إلى دولة تحمي وطنها ولغتها وثقافتها. في الحقيقة، بالنسبة للقومية، الأمة لا توجد دون الدولة. الدولة هي التعبير الأمثل عن الأمة؛ هناك تماهٍ بين الأمة والدولة؛ والأمة ككائن حي تتوق لتحقيق نفسها من خلال دولتها السيادية. السيادة بالطبع ملك الأمة وحدها، وتشمل حماية أرضها وأحقية اتخاذ القرارات التي تحقق مصالحها وتضمن بقاءها. وبسبب التماهي بين الأمة والدولة تنتقل هذه السيادة مباشرة إلى الدولة-الأمة (الدولة-الأمة، تعبير غريب فعلاً نضمه إلى بقية المفاهيم غير المفهومة). هذا يعني أن الدولة، وبالدرجة الأولى، هي أداة عنف لحماية الأرض التي ملكتها الأمة منذ الأزل؛ ثم بالدرجة الثانية هي أداة إدارية لتأمين استمرار الأمة، بما يشمله هذا الاستمرار من تأمين المعاش والتعبير عن اللغة والثقافة والتطلعات (للأمة تطلعات مشتركة وموحَدة!). الأمة-الدولة لها أصدقاء قلائل، لكنها محاطة دائماً بالأعداء الذين يريدون سرقة أرضها، التعالي عليها أو أسرها، إيذاء شرفها وسمعتها، وسرقة مقدراتها. الأمة هي الأسرة والدولة هي الأب، الأب المسيطر والحامي والمعيل والقائد. وكالأسرة، الأمة لها أرض تملكها وتاريخ وأجداد وأولاد وسمعة وشرف وإرث؛ ولأولادها حمية ورغبة في الدفاع عنها وفدائها بالأرواح والدماء. وهي بحاجة دائمة إلى الأب، الأب الفذ الذي يقودها إلى بر الأمان، والأب الحامي الذي يصون شرفها ويعلي اسمها، والأب المسيطر الذي يقوّم مسارها ويؤدب أولادها، والأب الرحيم الذي يعيل أسرته ويضمن لها كرامتها. القومية أيديولوجيا تعشق الرموز الذكورية الأبوية، وتعيش في بارانويا دائمة مليئة بالمؤامرات والأعداء الخفيين والخوف من فقدان الهيبة والشرف، وبالتالي العذرية. ولذلك فهي دائمة مهووسة بالجيش والدفاع والفداء بالأرواح والتاريخ والأصول والأجداد والتقاليد والواجبات (الواجبات قبل الحقوق) والطاعة (طاعة الأب والقادة والدولة، ونقيض الطاعة أي التمرد والخيانة) والانضباط والتحكم بكل شيء؛ وبالطبع كل ذلك يجب أن يتم عبر الدولة.
أما الشرعية فتعطيها الأمة مباشرة للدولة-الأمة؛ وأية دولة تحمي الحدود واللغة والثقافة هي الدولة-الأمة. الدولة غير الشرعية هي تلك التي تعجز عن حماية حدودها؛ أو التي تفقد سيادتها على بعض أراضي الأمة؛ أو التي تفقد هيبتها أمام شعبها أو أمام الأعداء الخارجيين؛ أو التي لا تسعى لجمع شمل الأمة كلها تحت مظلتها؛ أو التي ترضى بأن تُحكى لغة أخرى على أرضها. أية دولة تتفادى هذه السيناريوهات، ولو كانت سيئة الإدارة، فهي دولة شرعية ويجب الاعتراف بسيادتها على شعبها. الشرعية نتيجة حتمية للسيادة الكاملة على الأرض، أي للقدرة على استخدام العنف للحفاظ على الأرض وصدّ الأعداء وملاحقة المتآمرين ومعاقبة الخونة.
وكما واجهتنا صعوبات في تحديد مفهوم الشعب في النمط الديمقراطي للدولة، فإننا سنصادف صعوبات مماثلة في تحديد مفهوم الأمة؛ فالأمة أزلية وبالتالي لا يمكن الإنتماء إليها بمجرد الحصول على أوراق تثبت الإقامة واحترام القانون؛ الإنتماء هنا لا يكون إلا عضوياً بالولادة وشجرة النسب. لكن ماذا عن الأقليات الإثنية التي تعيش على نفس الأرض وتحت سلطة نفس الدولة؟ إنهم ضيوف ويجب أن يحافظوا دائماً على أدبهم وولائهم. لكن هل يمكن لهم المشاركة باتخاذ القرارات أو على الأقل المشاركة في الدفاع عن الوطن (أي الخدمة العسكرية)؟ وماذا عن الأفراد والمجموعات الذين يتحدثون نفس اللغة لكنهم يعيشون على أرض غير تلك التي تسيطر عليها الدولة؟ إنهم أسرى في أيدي أمم ودول أخرى. لكن هل يجب إعطاؤهم الجنسية وقبول مشاركتهم في اتخاذ قرارات الدولة؟ هل هم مواطنون غير مقيمين، لكن لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات التي يفرضها الانتماء إلى الأمة؟ الأمة لا تعترف بالمهاجرين والمتجنسين؛ إنها لا تعرف إلا الضيوف والمستعمرين الأجانب.
كيف تنتقي الأمة دولتها؟ في أوروبا القرن التاسع عشر كان الاعتقاد السائد هو أن الأمة بحاجة إلى برلمان يمثلها. لكن هذا لم يمنع الفرنسيين من القبول بنابليون الأول امبراطوراً محبوباً عليهم (ولاحقاً القبول بنابليون الثالث امبراطوراً أيضاً)، ولم يمنع الألمان من التوحد تحت قيادة قيصر بروسيا، ولم يمنع الإيطاليين من التوحد تحت قيادة ملك بيدمونت. لا بل سارت عدة شعوب وراء قادتها المستبدين مثل هتلر وموسوليني، فقط لأنهم أعادوا للدولة هيبتها وكرامتها. من المسلّم به أحياناً حتمية إنتاج الأمة الحية لقائد فذ، لأب قائد تتبعه الجماهير كما تتبع الخرفان حداء الراعي، لأب مهيب يبسط سيطرة الدولة ويدافع عن حمى الأمة. من السهل جداً على الأيديولوجيا القومية اختزال الدولة بشخص قائدها (الملك أو الرئيس) بغض النظر عن كيفية وصوله إلى الحكم أو كيفية إدارته للدولة؛ فعيون القومية موجهة دائمة إلى الحدود وإلى أعداء الخارج أو الخونة في الداخل. القومية تشبه الإسلام السني القروسطي، فهي تضع الشروط المثالية للقائد، لكنها تقبل دائماً بالقائد ذي الشوكة الذي يفرض نفسه كأمر واقع. أي أن السيادة، والشرعية الآنية التي تتبعها، هي دائماً أمر واقع وليس اتفاقاً أو قراراً تتخذه الأمة. القومية لا تفكر حتى في اختراع آليات لاتخاذ مثل هذا القرار، فهي تنتظر القائد الملهم لتتبعه؛ وحين يظهر ويفرض نفسه فإنها تقبل به كما تقبل إناث الخيل بالذكر الشرس الذي يغلب الذكور الآخرين ويمنعهم من الإقتراب من إناث القطيع.
إلى اليوم، ينظر الأميركيون إلى جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، وإلى ثلة الذكور البيض من ملاكي العبيد الذين كتبوا الدستور الأمريكي (الذي لم يتغير إلى اليوم) على أنهم الآباء المؤسسون. وإلى اليوم، يبجل الفرنسيون ذكرى شارل ديغول، الصوت الذي قادهم أثناء الحرب العالمية الثانية من مقر الإذاعة البريطانية. وإلى اليوم، لا يطيق كثير من السوريين المساس بذكرى جمال عبد الناصر، رئيس دولة الوحدة لأربع سنوات تقريباً، لأنه دغدغ مشاعرهم بخطاباته الحماسية من على منبر «صوت الشعب من القاهرة». شكري القوتلي وهاشم الأتاسي لا يزالون آباء الإستقلال، الذي جاءت به طبعاً القوات الإنكليزية. حافظ الأسد، الديكتاتور الدموي، كان بطل الصمود والتصدي ضد إسرائيل والهجمات الإمبريالية. وابنه بشار الأسد، عندما ثار عليه نصف شعبه، أصبح بالنسبة لهم «بائع الجولان»، أي خاسر الشرعية لأنه فرط بأرض الوطن. أما بالنسبة لمؤيديه، فالأسد الابن هو «بطل الممانعة» (تلميح إلى مؤامرات إسرائيل)، و«قائد الجيش»، و«حامي ‘سوريتنا’» من الأعداء الداخليين الخونة. منذ بدايات الثورة السورية وإلى اليوم، لا يزال رجالات نظام الأسد يرددون بهوس عبارات «إعادة هيبة الدولة» و«معاقبة الخونة» و«عودة سيادة الدولة ووحدة أراضيها». لا بل من المضحك أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبناءاً على تجربتهم في العراق كما يزعمون، لا يزالون يدعمون وجود الأسد لأنه حافظ على «بقايا» الدولة. والأمم المتحدة أعطت الحكومة السورية التي تقتل شعبها مليارات الدولارات من أموال الإغاثة لأنها «دولة سيادية». وكما بيّنا في النمط الديمقراطي، فالدولة في النمط القومي تسبق الشعب وتملك السيادة بقوتها وتبني الشرعية من خلال الدعاية والتعليم. لا بل يمكن القول بأن الدولة هي التي تبني الأيديولوجيا القومية كوسيلة لشرعنة وجودها (وهذا موضوع لمقالة أخرى).
هل القومية معيقة للديمقراطية؟ هل يمكن الجمع بين الدولة القومية والدولة الديمقراطية؟ ذكرنا أن الأيديولوجيات القومية ظهرت تاريخياً بالتوازي مع الأنظمة البرلمانية في الحكم واعتبرت البرلمان المنتخب ممثلاً حقيقياً للأمة، أو بلغة الديمقراطية الليبرالية ممثلاً للشعب. القومية تقبل بالدولة الديمقراطية مادامت تلك الدولة قادرة على حماية حدودها، لكنها لا تشترطها. في البلدان الغربية ذات التقليد الديمقراطي، أصبحت الديمقراطية جزءاً من تعريف الأمة؛ خاصة وأن الديمقراطية تميز شعوب هذه البلدان عن بقية شعوب العالم وتعطيها إحساساً بالتفوق القومي، وهذا الإحساس هو في صلب الأيديولوجيا القومية. لكن حتى بعض تلك الدول الغربية، مثل ألمانيا وإيطاليا، أعلت في مرحلة من مراحل تاريخها من شأن حكومات غير ديمقراطية من منطلق قومي بحت. وشعوبها اليوم تعود إلى انتخاب حكومات يمينية قومية الخطاب (معادية للمهاجرين وللعالم الخارجي ومهووسة بأمن الحدود والحرب على الإرهاب) من خلال صناديق الاقتراع الديمقراطية. أما بالنسبة لبقية دول العالم فإن النخب الحاكمة تعود دائماً إلى اللعب على وتر الهجمة الخارجية كلما ضعف القبول الشعبي لها؛ أي أنها تبني شرعيتها القومية متى ضعفت شرعيتها الديمقراطية. الهند عندها الخطر الباكستاني، والصين عندها الخطر التايواني، وإسرائيل عندها خطر حماس، وإيران عندها خطر إسرائيل، وتركيا عندها خطر الإنفصاليين الأكراد، والجزائر عندها خطر المغرب، والمغرب عنده خطر البوليساريو في الصحراء الغربية، والسعودية عندها الخطران الإيراني والقطري، وسوريا بشار الأسد عندها الجماعات المسلحة الإسلامية التابعة لتركيا، وهكذا..
القومية تحيلنا دائماً إلى الشمولية والديكتاتورية لأنها تختزل الدولة بالقائد الرمز، وتعلّق القانون بدعوى الخطر الخارجي، وتقمع النشوز عن الإجماع بدعوى الخيانة أو المساس بالتقاليد ووهن روح الأمة، وتلغي حقوق الأقليات القومية والمهاجرين بدعوى النقاء القومي، وتقبل بميزانيات خيالية للقوات العسكرية بدعوى الخطر الخارجي الداهم، وتركز على هيبة الدولة وطاعة أولي الأمر بدعوى وجود خونة داخليين. الديمقراطية تحافظ على مظهر حكم الشعب للشعب، أما القومية فسرعان ما تضحي بذلك المظهر أمام مزاعم الخطر الخارجي أو الداخلي. ويمكن القول بأن أكبر خطر تتعرض له الديمقراطيات القائمة حالياً هو تصاعد الشعور القومي. وهذه الديمقراطيات استخدمت دائماً القومية كإحدى أدوات شرعيتها (التحويل من الشرعية الديمقراطية إلى الشرعية القومية كما أوضحنا سابقاً) باعتبارها الديمقراطية أحد منجزات الأمة وثقافتها وليس نموذج حكم يمكن عزله عن الثقافة. وللمفارقة، فهذه الديمقراطيات تدعو للديمقراطية كنظام حكم يمكن تصديره كأداة إمبريالية لتعظيم سلطة الأمة على الأمم الأضعف. يبدو أن هناك تناقض بين الديمقراطية والقومية في العصر الحديث، عصر العولمة، إذ لا تنمو الواحدة إلا بضمور الأخرى. أما نموذج السيادة والشرعية في الأيديولوجيا القومية فلا يشرح إلا القليل من ديناميكية الدولة كإدارة لأنه يركز على وظيفة الدفاع. وتبقى الدولة هي الواقع الذي يفرض نفسه، وليس على الشعب إلا القبول والإذعان وإلا تحوّل إلى مجموعة من الخونة والمتمردين والأعداء الداخليين المتآمرين مع الأعداء الخارجيين.
أنماط منافسة أو عقبات: النمط الإسلاموي للدولة
بالنسبة للمشروع المطروح، في الدولة الإسلامية «السيادة لله فهو المشرّع الوحيد»، «الأمة مجموعة دينية تخضع للإله الواحد وشريعته»، «الشرعية تنبع من فرض الدولة للتشريع الإلهي»، «وهي تفرض هذا التشريع من خلال قوة السلطان».
فما هي السيادة وما هي الشرعية وما هي العلاقة بينهما في الدولة الإسلامية؟ في الحقيقة، فإن السيادة كمصطلح غريبة عن الأيديولوجيا الإسلاموية. فالشعار الذي تطرحه هذه الأيديولوجيا هو فقط «الله هو المشرّع الوحيد»، وهو شعار يدل على رفض القوانين الوضعية، أي القوانين التي يضعها البشر، والقبول فقط بالقوانين التي وضعها الإله. لا تستخدم الإسلاموية مصطلح السيادة إلا حين تتكلم عن الديمقراطية، وخاصة النظام البرلماني في التمثيل والتشريع. وباعتبار أن الديمقراطية تركز على كون سيادة الشعب هي سلطته في اتخاذ القرارات وإدارة شؤونه (عبر ممثليه في البرلمان)، فإن الإسلاموية وضعت نفسها دائماً، بوعي منها أو بدون وعي، في تضاد مع الديمقراطية لأنها ترفض أن يكون الشعب مصدر التشريع، أي ترفض تعريف السيادة الذي تطرحه الديمقراطية. أما شرعية الدولة الإسلاموية فتنتج عن فرضها للشريعة الإلهية. السيادة هنا توجد بنفسها، فهي متعالية ولادنيوية ولا يملكها إلا الإله، لا الدولة ولا الأمة. أما الشرعية فتنبع من القدرة على فرض سيادة الإله بقوة، أو عنف، الدولة (وليس بقوة الإله) هنا في هذه الدنيا.
هنا يجب التنويه إلى أن الشريعة الإسلامية لا تفرّق بين الدولة وبين شخص السلطان. المعنى المعجمي للدولة يحيل إلى انتقال القوة الضاربة المسيطرة من شخص إلى آخر أو من مجموعة إلى أخرى. هذا الإنتقال (أو التداول، الأمر دولة بينهم) يعيدنا إلى الفكرة القديمة عن «دولاب الحياة» الذي يعلي من شأن البعض ليعود فيحط من مكانتهم، يعطيهم الثروة والسلطان ليعود فيأخذهما منهم. فنقول «دولة المأمون» أو «دولة بني العباس» أي انتقال السلطان إليهم وبقائه فيهم. أما الدولة بتعريفها الحديث، أي المؤسسات والدستور والوظائف والصلاحيات، فلا تزال الشريعة الإسلامية بعيدة عن فهمها وإدخالها في منظومتها الفكرية. ولذلك فإن الحديث عن الدولة عند الإسلامويين لا يعني الحديث عن الدولة عند المفكرين المسلمين القدماء أو عن الدولة في الشريعة الإسلامية. الإسلامويون يجابهون الدولة الحديثة كل يوم ويتعاملون معها ويثورون عليها بأدوات حديثة، لكنهم لم يطوروا أية أدوات تحليلية خارج إطار فهم كتب الشريعة القديمة لـ«دولة السلطان». يمكن القول بأن الإسلامويين هم فقهاء السياسة الشرعية في العصر الحديث، لكنهم ليسوا فقهاء الشريعة. وهم الذين يتصدون، ضمن إطار المعتقدات الإسلامية العامة ومفاهيم الشريعة عن «دولة السلطان»، إلى مهمة التعامل مع الدولة الحديثة وإعادة تعريفها على أسس يعتقدون أنها إسلامية، لكنها في الحقيقة أسس مستحدثة.
بالنسبة للإسلاموية، لا توجد أية علاقة بين السيادة والشرعية؛ ولا يمكن للدولة أن تملك السيادة، لكنها تستطيع امتلاك الشرعية أو فقدانها. وفي الحقيقة، لا نعرف بوضوح الحد الفاصل بين امتلاك الشرعية وفقدانها. فقهاء الإسلام السني، وهو المعني في هذه المقالة، فصّلوا شروط الإمامة أو الخلافة على مقاس الحاكم الذي كتبوا مؤلفاتهم من أجله، واعترفوا دائماً بسلطة الأمر الواقع. فإذا فرض السلطان نفسه بالعنف فهو مقبول ما دام يحمي الأمة ويطبق الشريعة. وحتى هاتين الوظيفتين تتلاشيان أمام خطر الفتنة، أو اقتتال المسلمين بسبب الإختلاف على شرعية الحاكم. ولا توجد هناك مساحة كبيرة تفصل بين عدم احترام القانون (وهو هنا نقد السلطان) وبين تحدي شرعية السلطان (أو ما يسمونه «الخروج على الحاكم»). هذا يعني أن حوار الشرعية سرعان ما يخفت تماماً أمام خطر الفتنة، وتصبح طاعة السلطان فضيلة وضرورة. التركيز دائماً على شخص السلطان بحيث يتماهى مع الدولة. وبالرغم من ضخامة مؤسسات الدولة الحديثة، إلا أن الإسلامويين لا يتخلون عن الأدوات المفهومية القديمة التي ذكرناها، حيث يتماهى السلطان مع الدولة، وحيث يقتصر الحكم على عدالة السلطان من خلال تطبيقه للعدالة الإلهية (سنعود إلى هذه النقطة لاحقاً). ولذلك يجب التمييز وبوضوح بين الإسلاموية والإسلام، وبين القانون والشريعة، وبين السلطان ومؤسسات الدولة، وبين «السياسة الشرعية» والسياسة الإسلاموية، وبين إعادة الخلافة وبناء الدولة الحديثة. هذه الإنتقال الحر بين المصطلحات الحديثة والمصطلحات القديمة للشريعة، واعتبارها متساوية في المعنى والدلالة، هو الذي يخلق المساحة الفكرية التي يتحرك ضمنها الإسلامويون ويستطيعون ضمنها نقل مفاهيم السيادة والشرعية من الدين الإسلامي إلى السياسة الحديثة.
نأخذ هنا كمثال الانتقال الحر، أو المماهاة، بين مصطلحي الشريعة والقانون. الشريعة هي الأحكام (الأخلاقية والجنائية والتجارية والأسرية والعقائدية) التي ذكرها القرآن وصرحت ببعضها السنة، واستنبطها الفقهاء، بناءاً على القرآن والسنة وبعض المبادئ العامة، على مر العصور. الشريعة الإسلامية ليست مقولات مسلسلة ومرقمة (لتسهيل الإحالة إليها) ونصها ثابت ومضمنة في كتب معروفة وتشمل كل نواحي نشاطات المجتمع والدولة ويدرسها المحامون والقضاة والسياسيون والبيروقراطيون. هذا التعريف ينطبق على مصطلح القانون ولا ينطبق على مصطلح الشريعة. مواضيع الشريعة أشمل من مواضيع القوانين؛ القوانين لا تشمل الأخلاق إلا في حالات قليلة (مثل التعري علناً، الدعارة، أو الكذب تحت القسم وأمام محكمة مكلفة)؛ والقوانين لا تشمل الشعائر الدينية ولا الزكاة ولا الزنا (إلا كأساس للطلاق) ولا العقيدة ولا أنفال الحرب. الشريعة تقبل الاختلاف بين الفقهاء ولا تجبر القاضي على الالتزام بنص محدد؛ ولا تضبط عمل الدولة إلا من خلال معان غامضة عن العدالة والشورى والإمامة التي تنطبق على أشخاص وليس على مؤسسات. الشريعة تحتاج إلى أن يختص الفقيه في نصوص مقدسة محددة (وبعض الأدوات المنطقية البسيطة مثل القياس الأرسطي) ولا تقبل التشريع بالتفاوض أو التصويت أو الاتفاق (رغم قبولها بمفهوم غامض، يسمونه الإجماع)؛ كما لاتعير اهتماماً للفلسفات الحقوقية والقانونية والأخلاقية والسياسية التي طورتها البشرية خلال القرون القليلة الماضية. لكن الشريعة لا تدرس ميزانيات، ولا تضع معايير للأبنية السليمة والطرقات والأدوية، ولا تضبط حركة السير، ولا تقرّ اتفاقيات دولية، ولاتفصّل في النظام القضائي (المحاماة، الاستئناف، النقض، النقض العليا)، ولا تحدد صلاحيات الرئيس والوزراء والبرلمان وكيفية تعيينهم، ولا تفصّل الضرائب، ولا تضبط عمل البنوك أو أسواق البورصة أو الشركات أو المؤسسات العامة. لكن كل هذا لا يهم، فبالنسبة للإسلامويين، القانون من وضع البشر (أي متغير حسب أهوائهم) والشريعة من وضع الإله (أي ثابتة حسب السنن الكونية التي وضعها هو نفسه). إنهم يريدون الدولة الحديثة أن تفرض الشريعة الإسلامية، وهذا ما يسمونه بالسياسة الشرعية (وهو نقل آخر لمفاهيم قديمة). مفهوم «السياسة الشرعية»، أي قيادة المجتمع والدولة حسب أحكام الشريعة الإسلامية، كان فكرة مستحدثة قال بها ابن تيمية في القرن الثالث عشر الميلادي. ولم يكن الغرض من هذه الفكرة الحد من صلاحيات الملك، بل بالعكس، فإنها استُحدِثت لشرعنة الدولة المملوكية وللحض على الإذعان لقرارات حكامها العسكريين. ثم استخدمها الإسلامويون لتعني كل أمور ومؤسسات ووظائف الحكومة الحديثة. بأن جعلوا القانون هو الشريعة ومجلس الشعب هو مجلس الشورى والرئيس هو السلطان.
لكن الإسلاموية لم تكن دائماً على تناقض مع النظام البرلماني في سن القوانين. مصلحو القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ونسختهم الحركية المتمثلة بجماعة الإخوان المسلمين، لم يكونوا يرفضون البرلمانية. كثير منهم عادوا السلطان عبد الحميد الثاني لأنه عطل الدستور وحل مجلس النواب (مجلس مبعوثان). وبعض هؤلاء المصلحين شاركوا في مشاريع لتقنين الشريعة الإسلامية، أي كتابتها على شكل قوانين يمكن للقضاء في الدولة الحديثة استخدامها والإحالة إليها دون لبس أو آراء فقهية متضاربة. الدولة العثمانية، ومنذ بداياتها، كانت تطبق نوعين من التشريعات: «الشريعة الشريفة» التي كان يعمل بها القضاء الشرعي (وهي اليوم محتواة في قانون الأحوال الشخصية ضمن القانون الموصوف بالوضعي)، وما كان يسمى بـ «القانون» الذي كانت تعمل به المحاكم التجارية والعسكرية، والذي كان يتضمن أحكام السلطان (ومن هنا جاء لقب السلطان سليمان، أي القانوني). منذ بداية الإسلام اعترف الفقهاء بحاجة الملك إلى سن قوانين إجرائية لتنظيم دولته، واعترفوا بضرورة الإذعان لصاحب الشوكة ولو كان مستبداً ما دام يحارب الفتنة ويحمي الأمة.
اليوم، الدولة، بما هي أداة فرض بالعنف، تشكل مركز الأيديولوجيا الإسلاموية. أينما حلت الإسلاموية يحتدم الصراع على القوة الضاربة للدولة. لقد جعلت الإسلاموية الدين حبيساً للدولة، لا يمكن أن يقوم ويستقيم إلا بها، وأخضعت المجتمع بالكامل لسلطة الدولة-الدين (الدولة=الدين). إن الإسلاموية أكثر شمولية من أي نظام سياسي شمولي حديث لأنها «دين ودولة» (الإسلام الجديد)، أي لأنها تزعم امتلاك الشريعة والقانون (من حيث أن الشريعة تشمل القانون)، أي صلاحية تنظيم وضبط كل شيء من الأفكار الشخصية والمعاملات بين الناس إلى وظائف مؤسسات الدولة. باعتقادي، تعبّر الإسلاموية عن قلق عميق تجاه التغييرات الجذرية والشاملة التي بدأت مع الثورة الصناعية في أوروبا. إنه قلق وجودي لا يستطيع أن يرى الفرد إلا ضمن الجماعة (تصور معين للجماعة كتوسيع للأسرة، أي الجماعة كحارة أو كقرية)، ولا يستطيع أن يتصور الجماعة دون الشريعة الإلهية (الثابتة) التي تضمن هناءها في الحياة وخلاصها في الآخرة (لكنه قلق عبرت عنه أيضاً أنظمة شمولية مثل الفاشية والشيوعية). إنه قلق معنى؛ أي ما معنى حياة الفرد في مجتمع لا تجمعه التقاليد وتضبطه خشية الإله، وإنما يجمعه احترام القانون وخشية قوة الدولة المؤسساتية غير المشخصنة؟ ما معنى حياة الفرد ضمن هامش حرية عريض تحدده قوانين متغيرة (أي غير إلهية)؟ حدود الله (كتشريعات) كانت حدود المجتمع التي تضمن بقاءه، أما اليوم فما هو ضامن بقاء المجتمع؟ كيف ستتغير تحت الدولة الحديثة معاني العدالة، الحرية، الأخلاق؟ إن الدولة السلطانية القديمة متعالية وبعيدة تضمن الأمان ولا تطلب إلا الطاعة والضريبة، ويمكن دائماً فهمها من خلال المثال الأسري (أي السلطان يساوي الدولة وهو نفسه الأب، والرعية هم الأولاد). أما الدولة الحديثة فتدخل في كل تفصيل من تفاصيل حياة الإنسان ولا يمكن فهمها بالمثال الأسري؛ مما يسبب القلق.
باعتبار أن الشرعية تنبع من القدرة على فرض سيادة (أو شريعة) الإله بقوة الدولة، فهذا يعني أن هناك سيادة من نوع آخر، سيادة مشتقة، ونعني الحق في فرض الشريعة الإلهية (وهو الحق الذي تدعيه وتحتكره الدولة الإسلاموية)؛ وهي سيادة تنبع من الشرعيّة. الشرعية هي القدرة على الفرض، والسيادة المشتقة هي الحق في ممارسة هذا الفرض. وبسبب ربط الإسلاموية للدين بالدولة، ومنحها السيادة المشتقة للسلطان، فإنها تضع السيادة الإلهية في خطر. فإذا اختار السلطان فرض تشريعات بشرية المصدر أو استبد في حكمه، ثم خرج عليه البعض ولم يستطيعوا إزالته من سدة الحكم، فإن الإله بحاجة إلى معاقبة هذا السلطان بنفسه وبتدخل مباشر بحيث يرى الجميع يد الله الضاربة (صاحب السيادة ومصدر الشرعية). فإن لم يفعل فإنه سيفقد شيئاً فشيئاً سيادته (أي احتكار التشريع) وستصبح السيادة المشتقة هي سيدة الموقف. إن ربط الدين بالدولة بالطريقة الإسلاموية يلغي تماماً الحاجة إلى يوم الحساب وبالتالي الحاجة إلى الإله نفسه، ويصبح الكفر بالدولة طريقاً سهلة للكفر بالإله. يبدو هنا أن علمانية الدولة ضرورة لبقاء الدين واستمراره في العصر الحديث (سنعود لهذه النقطة لاحقاً).
أما الأوامر الإلهية، مصدر التشريع وأساس السيادة، فإن النموذج الإسلاموي يفترض أنها معروفة وواضحة وضوحاً لا لبس فيه أو غموض. لكن هذه الأوامر في النهاية لا يمكن للإنسان معرفتها إلا من خلال النصوص المقدسة، التي تحتاج بدورها إلى فئة من العلماء المختصين الشارحين والمفسرين. وإذا أقررنا بأن عدد الأوامر الإلهية في النصوص المقدسة محدود ولا يشمل كل حاجات المجتمع البشري المتغير، فإن الحاجة إلى هؤلاء العلماء تزداد ليستنبطوا أحكاماً مناسبة للحالات الجديدة المحدثة التي لا تشملها القوانين الإلهية الصريحة. إن نقل الصفة الإلهية من النص المقدس إلى النص المستنبّط لحاجة محدثة يفترض قدرة المنطق المستخدم في الاستنباط على الوصول إلى النتيجة التي كان الإله نفسه سيصل إليها حتماً وبالضرورة لو طرِحت عليه تلك الحاجة المحدثة نفسها. إن ضعف المنطق يعرّض قداسة الأحكام المستنبَطة للنقصان؛ وإن استسلام العلماء المستنبطين لأهوائهم ينفي هذه القداسة نهائياً. فنعود عندها إلى معضلة السلطان نفسها ومحورية التزامه الذاتي وصحة اجتهاده في فهم الشريعة الإلهية. إن السيادة والشرعية في الدولة الإسلاموية أكثر هشاشة منها في الأنظمة الأخرى.
النمطان القومي والإسلاموي متقاربان في نواح كثيرة، رغم زعم الإسلاموية أن الرابطة الدينية الإسلامية أوسع وأقوى من الرابطة القومية، العربية أو غيرها. إن محاربة الإسلاموية للأيديولوجية القومية ليست بسبب صراع الإسلاموية مع الديكتاتوريات العربية ذات النزعات القومية غالباً، بل لأن الإسلاموية والقومية تحملان أفكاراً متشابهة، وبالتالي فهما تتنافسان على نفس الشريحة الاجتماعية من الأنصار والأتباع. ويمكن اعتبار الإسلاموية أيديولوجيا قومية دينية، فمفاهيم الدين والأمة الإسلامية ودار الإسلام في الأيديولوجيا الإسلاموية تقابل مفاهيم الثقافة والأمة القومية وأرض الأجداد في الأيديولوجيا القومية. شرعية الدولة القومية تنتج من حمايتها لأرض الأجداد وتراث الأمة (أعراف وعادات ولغة وثقافة)؛ وشرعية الدولة الإسلاموية تنتج من حمايتها لدار الأمة الإسلامية ودينها (باعتباره تراث الأمة) وتطبيقها للشريعة الإلهية (التي تعتبرها أساس الدين، لا بل متماهية معه). في اللغة العربية، تشترك الأيديولوجيتان في استخدام المصطلح نفسه للتعبير عن الجماعة، ونعني مصطلح الأمة، مما يسهل الانتقال من إحداهما إلى الأخرى، وهذا بالتحديد هو أساس الخلاف بينهما. لا بل إن تعريف الأمة من منطلق قومي يشابه في غموضه تعريف الأمة من منطلق إسلاموي: من هم الأعضاء؟ كيف يدخل الفرد في العضوية أو يخرج منها؟ ما حكم الفرد المنتمي إلى الأمة لكنه يعيش خارج دولتها؟ ما حكم الفرد الذي لا ينتمي إلى الأمة لكنه يعيش داخل دولتها؟ الدين الإسلامي والأمة الإسلامية حسب الإسلاموية لا يستطيعان الحياة دون الدولة الإسلامية (الدولة=الدين)، والثقافة القومية والأمة القومية لا تستطيعان الحياة دون الدولة القوية (الدولة=الأمة). ورغم ادعاء الإسلاموية لمبدأ أممي يتخطى حاجز القومية الإثنية، إلا أن الجماعات الإسلاموية التي نجحت في الوصول إلى الحكم، كما في إيران أو غزة أو باكستان أو السعودية، تدغدغان المشاعر القومية الضيقة لرعاياها من خلال المماهاة بين الدين والثقافة بحيث يصبح الدين عنواناً للتفوق الحضاري القومي. وقد رأينا مثل هذا الاستخدام للقومية في الدول التي تعتمد النمط الديمقراطي. إن أي فقدان للشرعية حسب الأيديولوجيا الأولى (الديمقراطية أو الإسلاموية) يمكن تعويضه من خلال الشرعية حسب الأيديولوجيا القومية.
هل الإسلاموية معيقة للديمقراطية؟ هل يمكن الجمع بين الدولة الإسلاموية والدولة الديمقراطية؟ الإسلاموية السلفية التي ترفض القوانين الوضعية وترفض إعطاء ممثلي الشعب (أو الأمة) حق التشريع لأن ذلك الحق هو لله وحده، هذه الإسلاموية ترفض الديمقراطية فكرةً وأدواتاً وممارسةً. لكن رأينا أن الإسلاموية الإخوانية (الأكثر انتشاراً والأقدم تاريخاً من السلفية كما نعرفها اليوم) لا تعادي النظام البرلماني ومبدأ الإقتراع في اختيار الممثلين ورأس السلطة التنفيذية، وترحب بالبيروقراطية ومؤسسات الدولة الحديثة. لكن هناك حدود لهذا القبول ومخاطر لهذا الترحيب.
أولاً، ترى الإسلاموية في تطبيق الشريعة الإسلامية (كقانون للدولة وبعنف الدولة) هدفها الأسمى (الدولة=الدين). لكنها تعترف أن عقبات كثيرة تعترض الوصول إلى هذا الهدف: هناك الغرب العلماني الذي يعادي الإسلاموية ويستطيع بقوته الاقتصادية والعسكرية أن يعيق وصولها إلى الحكم واستقرارها فيه. المفارقة في الأمر هي أن الغرب يرى في الأيديولوجيا الإسلاموية ردة فعل قومية محلية على طغيان الثقافة الغربية؛ وكذلك الإسلاموية تنظر إلى الغرب بمنظار قومي كقوة استعمارية تهدف إلى سرقة الأرض (دار الإسلام) والقضاء على الثقافة (أي الدين) واستغلال الموارد (ما أعطاه الله للأمة). وهناك أيضاً فكرة ممثلي الشعب، البرلمان، التي لاقت قبولاً واسعاً في كل بلدان العالم، من منطلق قومي حيث البرلمان يمثل الشعب، ومن منطلق مشاركة الشعب في اتخاذ القرارات التي تهمه. فكيف تزاوج الإسلاموية بين حاكمية الشعب (سيادته) من خلال البرلمان أي التشريع والحكم، وبين حاكمية الله (سيادته) من خلال الشريعة ودولة الإسلام التي تطبق شريعته؟ رغم تصريح الإسلاموية الإخوانية بقبول البرلمانية، إلا أنها تفرغها من محتواها بحيث يصبح البرلمان مجلس شورى السلطان (يقدم النصح فقط) وتصبح قدرة البرلمان على التشريع محدودة باستحالة معارضتها لحدود الله (الأحكام القرآنية التي فيها نص) وكذلك باعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأوحد للتشريع (أو المصدر الأساسي للتشريع). هذا المادة، التي جاء بها دستور عام 1950 في سوريا، تعني بأن أي تشريع صادر عن البرلمان يجب أن يحصل على دمغة «الإسلامية» من ممثلي الدين والقائمين عليه، أي من علماء الدين. مهما حاول الإسلامويون إخفاء هذه النقطة المحورية، فإن أية دولة يتصورونها لا بد أن تشتمل على نوع من أنواع ولاية الفقيه. ولا ينفي الإخوان المسلمون انبهارهم بالنموذج الإيراني في الحكم، والذي زاوج بمهارة بين البرلمانية (باعتبارها مجرد أداة تقنية في الحكم) وبين ولاية الفقيه (الذي يمارس الوصاية على البرلمان وينصحه في حال مخالفته لتعاليم الشريعة الإسلامية كما يراها الفقيه).
هذا النقاش يقودنا إلى الحديث عن موقف الإسلاموية من العلمانية، التي يعتبرها البعض أساساً من أسس الديمقراطية. لابد من الإعتراف بأن الإسلاموية لا تنظر بعين الارتياح إلى ابتعاد قانون البلاد عن الشريعة الإسلامية، لأن المماهاة بين القانون والشريعة من أهم أسس الإسلاموية، ولأن الدين كما تراه الإسلاموية لا يستقيم دون اضطلاع الدولة بتطبيق التشريع الإلهي. هذه المعضلة عادت وتعود بصياغات مختلفة: فهناك صياغة الحاكمية والسيادة (الحاكمية والسيادة لله والسلطان للأمة)، والصياغة الدستورية (القرآن دستورنا، أو نص الدستور على أن الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع)، والصياغة القومية (الشعب هو الأمة ودين الأمة هو ثقافتها) والصياغة القانونية (رفض القوانين الوضعية لأنها من وضع البشر وبالتالي فهي تتغير مع تقلبات أهوائهم)، والصياغة العلمانية (الإسلام دين ودولة، لا يمكن عزل الدين عن الدولة). هناك فهمان رئيسيان للعلمانية الغربية، الفهم الفرنسي والفهم الأنكلوساكسوني؛ لكن تطبيق كل دولة غربية لأحد هذين الفهمين يختلف عن الأخرى مما يوحي بأن علمانية الدولة في الأنظمة الديمقراطية الغربية هي من نتاج تاريخ تلك الدولة، تماماً كما هي ديمقراطيتها (ليس هناك نموذج ديمقراطي واحد). منذ قيام الثورة الفرنسية والفكر التنويري الفرنسي مهووس بمعاداة الكنيسة الكاثوليكية باعتبارها حليفاً للملكية والأرستقراطية. لكن القانون الفرنسي لم ينص على «فصل الدين عن الدولة» (ويعنون فصل الكنيسة الكاثوليكية عن أموال الدولة ومنع الدولة من أن يكون لها دين رسمي) إلا عام 1905 بعد أزمة سيطرة الكنيسة على التعليم الابتدائي، وفي أعقاب الدور التهييجي والعنصري الذي لعبته الكنيسة في قضية الضابط اليهودي درايفوس الذي اتهم زوراً بالعمالة لألمانيا (1894-1906). أما الدستور الفرنسي فلم يذكر صراحة أن الدولة الفرنسية «هي دولة علمانية (لائيكية)» إلا عام 1946. أما العلمانية الأنكلوساكسونية فتطلب من الدولة أن تعامل كل الأديان بالتساوي (وهذا غالباً ما كان يعني معاملة الكاثوليك والبروتستانت غير الأنجليكانيين بالتساوي مع البروتستانت الأنجليكانيين). ولا تزال ملكة بريطانيا رأس الكنيسة الأنجليكانية، ولا تزال كثير من دول أوروبا الشمالية تعترف بدين الملك كدين رسمي وتجبي ضرائب الكنيسة نيابة عنها، ولا يزال الخضوع للإله الأوحد جزءاً من قسم الولاء (غير الرسمي لكن المعمول به في كل مكان) في الولايات المتحدة. في كل الأحوال، لا يزال النقاش قائماً حول معنى «فصل الدين عن الدولة» في كل الدول الغربية والولايات المتحدة، خاصة فيما يخص أديان المهاجرين غير المسيحيين. وإذا افترضنا وجود أيديولوجيا ديمقراطية واحدة (وهذا غير صحيح باعتقادنا) عالمية وقابلة للتصدير من الغرب إلى العالم، فإن العلمانية ليست شرطاً من شروطها ما دامت قرارات البرلمان هي القوانين الوحيدة المعتبرة في البلاد (حتى وإن كانت قوانين ذات منشأ ديني).
أما الإٍسلاموية فلا تفهم من العلمانية (أياً كان شكلها) إلا فصل القائمين على الحكم عن أديانهم (وبالتالي عن أخلاقهم، مما يعني عدم كفاءتهم للمنصب الذي يشغلونه)، في أسوأ الأحوال، ورفض الدولة للشريعة الإسلامية كقانون (ودائماً الشريعة ككتلة واحدة وليست كأحكام منفردة)، في أحسن الأحوال. الدين لا يتجزأ، والشريعة ليست نصوصاً منفصلة عن بعضها البعض، ومناقشة البرلمان لأي حكم من أحكام الشريعة يعتبر إهانة لقدسيتها ومصدرها الإلهي (فقط لأن هناك احتمال، ولو بسيط، أن البرلمان سيرفض الإقرار بنص حكم الشريعة). في الحقيقة فإن الإسلاموية تخشى من العلمانية لأن الأخيرة، بمعنييها الفرنسي والأنكلوساكسوني، تشكل تهديداً للسيادة المشتقة كما وصفناها أعلاه. من الواضح أن الإسلاموية لا تعتقد بأن الإله سيطبق شريعته بنفسه، وأنها تعتقد بحاجة الإله إلى الدولة لتطبيق تلك الشريعة (التشريع لله والسلطان للأمة). وكما وضحنا فأن نقل القدسية من القرآن إلى القانون (أو نقل السيادة من الإله إلى الدولة) يعتمد على اجتهاد الفقهاء (استخدام منطق القرآن نفسه في استنباط الأحكام) وعلى ورع الحكام (استخدامهم لقوة الدولة في فرض الشريعة بوازع ذاتي). من الواضح أن هذا الإجتهاد وذلك الورع خاضعان تماماً للنفس البشرية (التي لا يثق بها الإسلامويون، من باب «ولا تكلنا لأنفسنا ولو طرفة عين»)، وبالتالي فإن الحفاظ على السيادة المشتقة للدولة لابد لها من جرعات مستمرة من الدعاية لإسباغ نوع من القدسية على الفقهاء (ولاية الفقيه) وعلى الحكام (السلطان). لا بد أن يستمر الشعب بالاعتقاد بالتأييد الإلهي للفقهاء والرضى الإلهي عن الحكام، وبالتالي فلابد من أن يظهر هؤلاء وأولئك بمظهر الورع والتقوى وطاعة الإله والخشية من عقابه. و هذا الإشهار للورع والتأييد الإلهي معروفان، فهما من أدوات الكهنوت الرئيسية والأساسية. فإما أن يكون الحكام من الفقهاء أو من القائمين على الشعائر الدينية أو أن يظهروا دائماً بصحبة بعضهم البعض في أماكن العبادة يقومون «بما يرضي الله» من شعائر وأركان دينية. ولذلك فإنه من المهم مثلاً لرئيس إسلاموي مثل الرئيس التركي أردوغان أن يظهر على شاشات التلفزيون يقرأ القرآن، وأن يظهر الرئيس المصري الراحل محمد مرسي يؤم وزراءه في صلاة الجماعة، وأن يظهر المجاهدون الإسلامويون في سوريا يصلون وأسلحتهم الروسية إلى جانبهم والقرآن بأيديهم، وأن يظهر السياسيون الإخوانيون وزبيبة الصلاة على رؤوسهم، وأن يستقبل رئيس الشيشان قاديروف شعر النبي محمد بخشوع. إن إشهار التدين (أو كما وصفه القرآن بدقة «رئاء الناس»، أي حتى يراه الناس) حاجة عملية أساسية للإسلامويين لن يستطيعوا البقاء في الحكم دونها مهما حاججوا عكس ذلك. إن اقتراب السياسيين الإسلامويين من مصاف الكهنوت (بالمضمون أو بالمظهر) ضرورة نظرية أساسية لاكتساب السيادة المشتقة وبالتالي الشرعية. العلمانية الغربية ليست من شروط الديمقراطية، ولا تشكل خطراً على «حاكمية الله» وإنما تشكل خطراً على شرعية الدولة الإسلاموية. ولذلك فإنه يمكن القول بأن هوس الإسلامويين بنقاش العلمانية لا يأتي بالضرورة، أو بالكلية، من هوس الغرب بمعاداتهم (وهذا هوس موجود)، وإنما من حاجة الإسلامويين الماسة إلى لبس ثياب الكهنوت. إن «ولاية الفقيه» حتمية طبيعية للإسلاموية حتى ولو أنكرها أتباعها.
ثانياً، ونعود إلى نقاش العلاقة بين الإسلاموية والديمقراطية، تفهم الإسلاموية الاقتراع في النمط الديمقراطي على أنه «ديكتاتورية الأغلبية»، أي أن الرأي هو دائماً ما تراه الأغلبية (مجرد 51% من الناخبين أو المقترعين). في حين ترى الديمقراطية أن الأغلبية مرتبطة بموضوع النقاش (أي أن الأغلبية هي أغلبية انتخابية تتغير بحسب الموضوع)، ترى الإسلاموية أن الأغلبية هي الأغلبية الطائفية. ولم لا، فإذا كان البرلمان يناقش القوانين التي تعبر في النهاية عن مصالح الشعب، فإن القوانين كلها موجودة في الشريعة والتي هي تماماً ما يريده الشعب (الشعب المفيد الذي يحقق الأغلبية الإنتخابية). الإفتراض الخفي هنا هو أن الأغلبية الطائفية هي نفسها الأغلبية الإنتخابية مهما تغير موضوع النقاش، لأن المسلم الحقيقي لا يستطيع أن يرفض تطبيق شريعة الإسلام باعتبار أن الشريعة هي الدين، والخروج عليها هو خروج من الدين ومن الأمة، وبالتالي هو خروج من المواطنة وحق الإقتراع. الإسلاموية تماهي عملياً بين الأمة بمفهومها القومي والديمقراطي وبين الأمة بمفهومها الديني. الأمة التي تمثلها الدولة (الشعب أو الأمة القومية) هي نفسها الأمة الدينية (أي الأغلبية المسلمة). وبالتالي فإن المواطنة (المفضية إلى حق الإقتراع) لا تشمل عملياً إلا المسلمين، لأنهم الشعب المفيد سياسياً، أي الأغلبية الإنتخابية.
إن محاربة الإسلاموية الشديدة لما يسمونه بالقوانين الوضعية جاءت، وهذه فكرة بحاجة إلى إثبات، من تجاربها السيئة مع الدول القومية التي نشأت بعد الاستقلال (الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية)؛ وهي أول تجارب في منطقة الشرق الأوسط للدولة الحديثة ذات التوجه التنموي وذات الوجود الكثيف في حياة المجتمع من خلال بيروقراطيتها المتضخمة أبداً ومدارسها العمومية وجيشها القائم على الخدمة الإلزامية ووسائل إعلامها واستخباراتها. وكلما ازدادت تلك الدولة تغوّلاً، كلما ازداد عداء الإسلامويين لكل ما يمت لها بصلة. المفارقة هي أن الإسلاموية تؤمن بالبيروقراطية الحديثة وبالتكنولوجيا الحديثة وبالإستخبارات الحديثة وبوسائل التواصل والإعلام الحديثة، وتستخدمها بكثرة، لكنها تختار أن تقف عند التشريع والقضاء فتردهما إلى الكتب القديمة. ويزداد عداء الإسلاموية للبرلمانية كلما توغلنا في أفكار السلفية الجديدة (غير سلفية المصلحين) وخاصة السلفية الجهادية. اليوم أيضاً، كثيرون من الإسلامويين فهموا خطورة هذه الأفكار الشمولية بعد أن رأوا تطبيقها ونتائجها في سوريا. فبدؤوا يفرّقون بين الشريعة والقانون، وبدؤوا يعطون أهمية للمؤسسة والإجراءات. لكن هذا التنازل البسيط للبشر والاعتراف بقدراتهم العقلية يأتي من باب «أنتم أعلم بأمور دنياكم» (بينما الإله أعلم بأمور أخراكم، وما الدنيا إلا طريق إلى الآخرة) وبشرط أن يتضمن القانون النصوص التشريعية القرآنية الصريحة (الإرث، الزواج والطلاق، المحرمات والحدود) دون أن يكون للبرلمان أية صلاحية في مناقشتها أو تغييرها. فإذا توقفت الإسلاموية عن محاربة النظام البرلماني كمصدر للقوانين، وقصرت فهمها للتشريع على النصوص القرآنية الواضحة، وقبلت بالقانون الوضعي من باب «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وقبلت بالنظام القضائي الحديث، وعزلت بين دور الفقهاء والمشايخ الديني وبين دورهم في مشاورة الدولة ، وتركت اعتمادها على إشهار التدين من أجل دعم شرعيتها، ووسعت فهمها للعدالة من السلطان إلى مؤسسات الدولة، فإنه يمكن الحديث عن ديمقراطية إسلاموية. إنه من الأنجع للإسلامويين على المدى البعيد أن يقتصروا على مرجعية أخلاقية وثقافية إسلامية في عملهم السياسي من أن يصروا على اعتبار الشريعة الإسلامية كتلة واحدة يجب على الدولة تطبيقها دون الحاجة إلى أية مشاركة شعبية «بشرية» في صنع القوانين أو الحاجة إلى أية رقابة شعبية مجتمعية على الحكومة الإسلاموية.
الإنتقال إلى الديمقراطية: أزمة الطرح أم أزمة الواقع؟
لقد وصلنا إلى العديد من النتائج باعتمادنا المشروع التحليلي المطروح: الديمقراطية كهدف ونمط أنسب للدولة، ومفهوما السيادة والشرعية والعلاقة بينهما كنموذج تمثيلي للدولة. يمكن تلخيص هذه النتائج باختصار: أولاً، الدولة واقع قائم بغض النظر عن مفاهيم الشرعية والسيادة؛ فسيادتها نابعة من احتكارها للعنف وشرعيتها مجرد أيديولوجيا تسمح للدولة بالاقتصاد في ممارسة العنف من أجل إخضاع الرعايا ودافعي الضرائب. تاريخياً، لم تقم الدولة لتحقيق سيادة الشعب أو الأمة أو الإله؛ فهذه ليست إلا أيديولوجيات لتبرير احتكار الدولة للعنف. أي أن النموذج التمثيلي المعتمد ليس إلا نموذجاً أيديولوجيا لا يعبر عن أي واقع قائم. ثانياً، الديمقراطية أيضاً أيديولوجيا تبرر تسلط الدولة، لكن نجاح الديمقراطية لم يكن في قدرتها التبريرية (فهذه القدرة تذوب أمام التحليل كما تذوب تبريرات الأيديولوجيات الأخرى) وإنما في أنماطها المؤسساتية المختلفة التي وصلت إليها تاريخياً في الدول الغربية. مقولة «الديمقراطية هي النمط الأمثل للدولة» ليس إلا استخداماً لمعايير العقلانية لتبرير وجود النمط الديمقراطي. وسنوضح لاحقاً أن اعتماد الديمقراطية كهدف يجب الوصول إليه أدى بالمشروع الحواري المطروح إلى أزمة حقيقية، فكما بيّنا أعلاه، لا يتلاءم النمطان القومي والإسلاموي للدولة مع النمط الديمقراطي، ولا يمكن في كثير من الأحوال الانتقال من هذين النمطين إلى الديمقراطية، أو على الأقل تصور هذا الإنتقال نظرياً. ثالثاً، لا تعطي الأيديولوجيات الثلاثة، الديمقراطية والقومية والإسلاموية، أية خطوات عملية للوصول إلى الهدف المعلن، أي تحقيق نمط الدولة الذي تقول به تلك الأيديولوجيات. والأسوأ من ذلك هو أن اعتبار الديمقراطية مناقضة للقومية والإسلاموية يضعنا في مأزق عملي حقيقي، فالديمقراطية نفسها لا تعطينا أي تصور لكيفية الانتقال إليها من الأنماط «الأكثر دونية». ولذلك، نرى ضرورة إعادة صياغة المشروع الحواري بطريقة تمكننا من وضع هدف ممكن وملائم وتعطينا القدرة على تصور خطوات عملية نحو هذا الهدف. وهذا ما سنقوم به فيما يلي من هذه المقالة. لكن لا بد أولاً من التوسع في فهم الأزمة التي نزعم أن المشروع الحواري يوصلنا إليها. وسنستخدم لتحقيق ذلك التقسيم الثلاثي الذي اعتمدناه في البداية: الإطار النظري لتحليل الدولة (النموذج التمثيلي)، الهدف الواجب تحقيقه (أو نمط الدولة الأنسب، مع تحفظات كثيرة على هذا الوصف سنبينها لاحقاً)، الوصفة العملية للفعل أو الأفعال التي ستحقق الهدف وتعالج العقبات.
الهدف (المعنى) أولاً أم الفهم أولاً
اعتبرت الفلسفات الإغريقية بعد السقراطية السياسة، أو فن ممارسة الدولة، الطريق للسعادة المجتمعية، أو هناء المجتمعات. فأكدت أن الإنسان كائن لا يعيش إلا ضمن الجماعة؛ وأن السياسة ليست إلا حوارات وصراعات واتفاقات الجماعة التي تنظم حياتها من خلال الدولة؛ وأن هذا التنظيم هو نفسه الهناء المذكور إذا كان يحقق كرامة الإنسان. بالطبع، بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة فإن هذه الكرامة كانت تنبع من الشرف والواجب؛ أي من مثاليات الجماعة بعد إعلاء هذه المثاليات إلى مصافي المطلقات ما فوق الطبيعية. أما اليوم، فكرامة الإنسان قد تنبع من الوفرة والعيشة المريحة للفرد أو للجماعة ككل. مهما كان تعريف الهناء المجتمعي، فإن الفلسفات القديمة والحديثة تعتبره هدف الدولة وسبب وجودها. وتضيف الأيديولوجيات السياسية إلى ذلك تعريفها الخاص لهناء المجتمع، وأيضاً مقولة «حتمية تحقق الهدف من الدولة من خلال نمطها وفقط من خلاله»، القومية ترى هناء المجتمع في الدولة القومية، والإسلاموية في النمط الإسلاموي، والديمقراطية في النمط الديمقراطي.
لكن السؤال الغائب دائماً هو: هل للدولة فعلاً هدف؟ هل تقوم المجتمعات البشرية بوعي وإدراك منها بإنشاء دولة تحكمها من أجل تحقيق هدف معين تليولوجي (سابق لوجود الدولة). ويمكننا هنا أن نبرر أسئلة مشابهة، هل لوجود الخلية هدف، هل لوجود الإنسان هدف، هل لوجود الكون هدف؟ لا أريد إيصال القارئ إلى العدمية، فمن المنطقي والممكن أن تصور هدفاً لكل هذه الكائنات، أن نؤمن به، وأن نسعى إلى تحقيقه، حتى ولم يكن لوجود سابق لوجود الكائنات نفسها. قبل أن توجد الخلية، لم تجتمع مكوناتها لتضع لنفسها هدفاً لا يتحقق إلا بوجود بخلق الخلية. ولم تتصور أعضاء الإنسان هدفاً يحتاج تحقيق إلى وجود الإنسان. ولا تصورت المجرات هدفاً يحتاج تحقيقه إلى وجود الكون. لكن متى وجدت الخلية، ولأي سبب كان، فإنها ستسعى إلى البقاء. كل الكائنات تسعى للبقاء، ولا يمكن البقاء إلا بقصر عمل الأعضاء على وظائف محددة تؤدي إلى البقاء. إذن قبل وجود الكائن لا يوجد هدف، لكن بعد وجود الكائن هناك هدف واحد لكل أعضائه هو بقاء ذلك الكائن كوحدة مستقلة. إن وظيفة الأعضاء ضمن الكائن هي مساهمة كل منها في الهدف الأعلى، أي بقاء الكائن. الغائية لا توجد إلا بعد وجود الكائن، وهذا ما يفسر النزوع الطبيعي للإنسان نحو الغائية. والدولة، ككل الكائنات ليس لها هدف يسبق وجودها؛ لكنها متى وجدت فلابد لها من هدف تؤمن به جميع عناصرها وتعمل من أجله. هذا الهدف يحدد وظيفة الأعضاء ويصبح معنى وجودها. إن وظيفة الأيديولوجيات السياسية، كعنصر أساسي من عناصر الدولة ككائن، هي صياغة معنى لوجود الدولة سابق لوجودها ومبرر له وضامن لاستمراره. إن وظيفة الأيديولوجيات السياسية أن تقول أن الأمة مثلاً، حسب الأيديولوجيا القومية، كائن ميتافيزيقي سابق للدولة، وأنه يحتاج إلى الدولة ليحقق وجوده الواقعي، وأن نمط الدولة القومية هو الأنسب لتحقيق هذا الهدف واستمراره. وكذلك تفعل الديمقراطية والإسلاموية، أو أية أيديولوجيا سياسية أخرى. إنها محاولات لإعطاء معنى للدولة، للواقع القائم والمفروض بالقوة.
بالنسبة لمشروعنا، فإن هذا يعني أن فهم الواقع يجب أن يكون سابقاً للأيديولوجيا (أي سابق للهدف والبحث عن معنى). وبالتالي تصبح أزمة الإنتقال إلى الديمقراطية أزمة طرح وليست أزمة واقع مستعصي ومنحرف. إن اتخاذ الديمقراطية كهدف فرض علينا النموذج التمثيلي، وهو هنا السيادة والشرعية، وفرض علينا نتائج التحليل. ولا ينبع هذا من الديمقراطية وحدها وبحد ذاتها، بل ينبع من جعل الهدف سابقاً للتحليل وموجهاً له. لا يمكن لمشروع حوار يحاول الخروج بنتائج نظرية وعملية مرضية (حول مسألة تغيير نمط الدولة) أن يبدأ بالهدف ويجعله أساساً للمقارنة. لا يمكن البدء بوضع هدف ثم إنتاج النموذج التمثيلي بناءاً على الهدف، فهذا جزء من تعريف الأيديولوجيا، إنها تبدأ بالهدف وتحلل الواقع على أساس البعد أو القرب من الهدف. إن اعتماد الهدف قبل التحليل يجعلنا نتحرك ضمن فضاء مفاهيمي غير قادر على تمثيل الواقع الموضوعي، إنه فضاء مفاهيمي غائي لا يرى الواقع إلا على أنه مسخ للهدف الأسمى.
النموذج التمثيلي: من الماهيات إلى المتغيرات
كأي موضوع نقاش فلسفي، أو مشروع معرفي، فإن المفاهيم المطروحة على ساحة النقاش تبدأ كتعاريف واضحة ومحددة؛ وكذلك تكون العلاقات بين هذه المفاهيم. ثم مع احتدام النقاش وتنوع وجهات النظر، تبدأ المفاهيم والعلاقات بالتضخم والتنوع ليتحول كل مفهوم إلى حزمة أفكار غائمة الحدود، لتتحول كل علاقة ثابتة الاتجاه والسببية والطبيعة إلى علاقة ديناميكية معقدة ومتغيرة قد تنعكس فيها الإتجاهات وتذوب السببية وتتعدد العوامل المكونة. المفاهيم الثابتة والعلاقات السببية لا تصمد أمام التحليل، وتتفكك بسرعة متحولة إلى مجموعة تناقضات ومفاهيم غير مفهومة.
بشكل عام، يمكن القول بأن السيادة تحيل إلى السلطة على المجتمع، والشرعية تحيل إلى قبول المجتمع بتلك السلطة والانصياع لها. لكن كل أيديولوجيا تصوغ هذه الإحالات بطريقتها الخاصة التي تؤدي في المحصل إلى اعتبار هذا النمط الدولة الذي تدعو إليه هو الأمثل. فإذا اعتبرنا الديمقراطية النمط الأنسب، أي اعتمدنا الأيديولوجيا الديمقراطية، فإن فهمنا للسيادة والشرعية سيؤدي بالضرورة إلى تناقض مع تصور الأيديولوجيات الأخرى لهذه المفهومين. إن وظيفة الأيديولوجيا أن تعادي الأيديولوجيات الأخرى وتتهمها بالبعد عن الواقع والفشل في الوصول إلى الوضع الأمثل (الهناء المجتمعي). حتى تتحرر مفاهيمنا التحليلية من سلطة الأيديولوجيا وغائيتها وحتميتها وجب علينا إخراجها من حيز الإطلاق والثبات إلى حيز التغيير المستمر، من حيز الماهيات إلى حيز المتغيرات.
المفهوم الذي نحاول تحديده بالتعريف ليس في الحقيقة إلا منتجاً من منتجات الواقع الديناميكي وأحد متغيراته. إنه متغير خاضع لتقلبات التفاوض والبيئة والحسابات المصلحية. لا يمكن تعريف السيادة لأنها متغيرة، وكذلك الشرعية. هذه المتغيرات غير خطية (أي علاقتها بالمتغيرات الأخرى وبالزمن غير تناسبية، يزداد أحدها بازدياد أو نقصان المتغيرات الأخرى) والعلاقات بينها غير سببية (أي أن السببية لا معنى لها إذا كانت الشرعية تؤثر في السيادة وكذلك السيادة تؤثر في الشرعية). أي لتحليل الدولة لا بد من نموذج تمثيلي ديناميكي يقوم على متغيرات وليس تعريفات، وعلى علاقات غير خطية وغير سببية.
من الفهم إلى الفعل
يقول ماركس أن الأيديولوجيا السياسية (وبالتالي الدولة) وعي زائف للواقع تصوغه النخب المسيطرة اقتصادياً لتبرر سيطرتها على الفئات التي تُخضِعها وتستغلها. هذا صحيح، لكن الماركسية أيضاً في تصورها للنمط الشيوعي للدولة لا تحررنا من الأيديولوجيا بل تنقلنا إلى أيديولوجيا أخرى تبرر وجود نمط آخر من الدولة. فإذا كان حال البشرية هكذا منذ الأزل وإلى الأزل، فلماذا نضيع الوقت في إثبات أيديولوجية تلك الأيديولوجيات، أي كونها وعياً زائفاً؟ في الحقيقة، فإن الأيديولوجيا، كأي نوع من أنواع المعرفة البشرية، تحمل قدرة تحليلية وقدرة تركيبية في الوقت نفسه (سنتحدث عن ذلك لاحقاً). أي أن الأيديولوجيا مفيدة في تفسير، أو تبرير، الدولة؛ وكذلك فهي مفيدة في بناء الدولة وإعطائها معنىً وهدفاً. لكنها تعجز أحياناً كثيرة على تصور طريق الإنتقال من نمط معين من الدولة إلى نمط آخر؛ أو لنقل الإنتقال من نمط غير ملائم إلى نمط أكثر ملائمة، أو من نمط دون الأنسب إلى النمط الأنسب (طبعاً الإطلاق بأل التعريف هو أحد وظائف الأيديولوجيا، إذ قد توجد عدة أنماط ملائمة في الوقت نفسه). تتوضح الصورة أكثر إذا أدخلنا مفهوم التطور بالإضافة إلى مفهوم الأيديولوجيا. الأخيرة تفسر الحاضر وتعطي تصوراً للمستقبل لكنها لا تعرف الطريق ولا تنجح في توقع الشكل الواقعي الحقيقي للمستقبل. الأيديولوجيا دائماً في صراع مع الواقع باعتبار أنه مخالف للمثل الأعلى (مما يعطي دفعاً لتصحيح المسار حسب الأيديولوجيا، أو على الأقل تقييم الواقع وانتقاده). ولذلك جاء مفهوم التطور والاصطفاء الطبيعي الدارويني بثورة فكرية لأنه أنقذنا من «نق الأيديولوجيا وتعذيبها للضمير» وأعطانا بعض الأدوات التي يمكن أن نستخدمها لفهم عملية التغير، أو الانتقال من نمط سياسي إلى آخر، تتعدى الإحساس الدائم بالذنب والتقصير الذي تفرضه علينا الأيديولوجيا. مفهوم التطور بالاصطفاء تبعاً لملاءمة الكائن للوسط المحيط أعادنا إلى أرض الواقع، فإذا أردنا طرح فهم لواقع ما وإذا أردنا أن يحمل هذا الفهم قدرة تحليلية أكثر من الأيديولوجيا فإنه علينا أن نركز على ذلك الواقع باعتباره «مقبولاً» و«قابلاً للفهم»، وليس مجرد انحراف مرضي عن المثال الأيديولوجي.
ورغم اعترافنا بأن الأيديولوجيا وعي زائف للواقع، إلا أننا لا ننبذها ولا نقلل من الحاجة إليها في تصور التغيير والتجييش له. ولسنا هنا بصدد إثبات عدم قدرة الإنسان على إنتاج معرفة موضوعية تعكس واقعاً، فمثل هذا النقاش لا يزال غير محسوم، وهو في النهاية نقاش سلبي لأنه يعطل قدرة الإنسان على الفعل، والفعل هو لب مشروعنا. فما هي إذن المعرفة، سواءً الموضوعية أو غير الموضوعية، التي يستطيع الإنسان استخدامها لإنتاج أفعال تعود بالفائدة على نفسه؟ الفائدة مشروع مستقبلي دائماً، وإن كان مبنياً على معطيات سابقة هي في الغالب معطيات أيديولوجية (مثل الهدف والمعنى). التحليل والفعل مرتبطان دائماً سواء اعترفنا بذلك أم أنكرناه؛ والمستقبل يقع دائماً في منطقة تقاطع وتوازن بين الموضوعية والأيديولوجيا؛ هذا هو التحدي. ولذلك، وإذا أردنا أن يحمل النموذج التمثيلي للواقع القائم قدرة تركيبية (قدرة على الفعل والبناء) أكثر من الأيديولوجيا، فإن اعتماد الهدف يجب أن يلي التحليل، لا أن يسبقه. المشروع الحواري المطروح يعتمد تسلسل «هدف، فهم، فعل»، أما المشروع البديل فسيعتمد تسلسل «فهم، هدف، فعل». كما يجب أن يكون الهدف ممكناً ومبنياً على فهم البيئة المحيطة. فإذا كان لابد للدولة من هدف (نمط) ومعنى فلا يجب أن يكونا بعيدين عن الواقع ومخالفين لمعطياته. وسنتابع في بقية المقالة اعتماد مفهوم الهناء المجتمعي، دون تحديد، فالتحديد يجب أن ينبع من فهم الواقع، كهدف ومعنى للدولة (إنه تعريف يجمع بين الفردي والجماعي دون إخضاع الفردي لمصلحة الجماعي أو تبسيط الجماعي واختزاله في مصالح الأفراد). فمثلاً، وبناءاً على هدف الدولة في تحقيق الهناء الإجتماعي، فإنه من غير الممكن لأية دولة حديثة أن تكون متعالية تماماً عن رعاياها، كأن تكون مسؤولة أمام الإله فقط وليس أمام الرعايا. المجتمعات الحديثة مجتمعات استهلاك ورفاهية ووفرة؛ وهذه الوفرة غير ممكنة دون إعادة توزيع الثروة من خلال الضريبة؛ ولا يمكن تبرير هذه الضريبة وعملية إعادة توزيعها إلا من خلال دولة الخدمات (معنى الدولة الحديثة)؛ ودولة الخدمات لا تتحقق إلا بمشاركة أوسع الشرائح الإجتماعية؛ وهذه المشاركة غير ممكنة دون مساءلة من الرعايا. وهذا يجري أيضاً على دولة الإحتكار والاستبداد بمثالها الأسدي، باعتبار أنها غير قابلة للمساءلة من الرعايا، وأنها تحتكر الثروة ولا تساهم في إعادة توزيعها.
إن تحدي أي مشروع فكري عن الدولة ليس في فصل الأيديولوجيا عمّا يمكن اعتباره موضوعياً، أو الإلتزام بالتحليل وترك الفعل للمختصين به، وإنما في معرفة العلاقة بين الأيديولوجيا والموضوعية، وبين التحليل والفعل، وتحقيق التوازن بينهما بما يساعد على تحقيق هدف الهناء المجتمعي (دون تحديد طبيعة هذا الهناء).
أحمد نظير أتاسي: أستاذ التاريخ الشرق أوسطي في جامعة لوزيانا التقنية في الولايات المتحدة. مهتم بالتحديات التي طرحها الربيع العربي، بالتاريخ الاجتماعي، وبفلسفة المنظومات كأدوات تحليل وممارسة.
——————————-
تحديات الشرعية والديمقراطية/ موريس عايق
يطرح تقدم الأحزاب اليمينية الشعبوية من الهند إلى أوروبا، وظهور شخصيات سلطوية ذات شعبية واسعة في روسيا والمجر وتركيا، السؤال حول أزمة الديمقراطية التي تحيل إلى توتر سبق ورصده كارل شميت في عمله عن أزمة الديمقراطية البرلمانية1 في الثلاثينيات. فقد أشار إلى تناقض ترزح تحته الديمقراطية البرلمانية، التناقض بين مبدأين أساسيين وهما المبدأ الديمقراطي والمبدأ الليبرالي.
ينطلق المبدأ الليبرالي من الأفراد وحريتهم بوصفها القاعدة الأساسية. هنا لدينا أفراد أولاً، يجتمعون فيما بينهم في تعاقد لتشكيل مجتمع وسلطة، تعاقد نجد شكله المثالي في التعاقدات في السوق. حيث يبدو السوق الشكل المثالي للمجتمع، ساحة عامة ومفتوحة للأفراد ليتعاقدوا فيما بينهم بخصوص أمور محددة. عقود تتضمن وعوداً عليهم الالتزام بها وواجبات من المنتظر أن يؤدوها، حيث تكون هذه العقود نتاج خيارات شخصية ومحددة بمضامينها، وربما مقيدة زمنياً، ويمكن اختيار العرض الأفضل من بين عروض كثيرة مُتاحة. البداية من الأفراد تضمن إعطاءهم حقوقاً أصلية سابقة على إدعاءات الجماعة أو الدولة.
بالمقابل، يقوم المبدأ الديمقراطي على التماهي بين الحاكم والمحكومين، بمعزل عن كيفية تعريف المحكومين لأنفسهم، سواء أكانت فكرتهم عن أنفسهم قومية أو طبقية أو دينية. يُحيل المبدأ الديمقراطي إلى حكم الجماعة، الأغلبية. فالديمقراطية لا تبدأ من أفراد، بل من الجماعة التي تحدد المقبول والشرعي والقانوني (الحلال) في مقابل المرفوض وغير الشرعي (الحرام)، وهذه الجماعة لا تُرَدُّ إلى مجرد اجتماع أفراد، بل إلى نقطة بداية أصيلة في ذاتها، تُعرف بواسطة التقاليد والقيم المشتركة.
اعتبر شميت التناقض بين المبدأين تناقضاً أساسياً لا يمكن حله، حيث يحيل كل مبدأ إلى نقطة بداية مغايرة للآخر وإلى ترتيب مغاير للحقوق والشرعية، وبالتالي إلى تصورين متناقضين للسياسة.
ما يعنينا أن الديمقراطية باعتبارها حكم الأغلبية تطرح تحدياً يتعلق بحقوق الأفراد الأصلية وحمايتها من «عسف» الأغلبية (والذي لن تراه الأغلبية بالضرورة عسفاً، بل حماية لنظامها الطبيعي –النظام العام-، وهو تعبير قانوني يشيع في أدبيات الوسطية الإسلامية مثل محمد عمارة وحزب الوسط المصري)، فوضع حدود على حكم الأغلبية تبدو في ذاتها فكرة مناهضة للديمقراطية. لهذا، لا يبدو ممكناً اشتقاق هذه الحدود من الديمقراطية نفسها، سواء انطلاقاً من «تصورات» ما تتعلق بحقوق أصلية للأفراد لا يحق للأغلبية أن تنتهكها، أو من تقسيم للسلطات يجعل من سلطة غير تمثيلية، مثل القضائية، موازية لسلطة تمثيلية ومنتخبة من الغالبية. لا يمكن تبرير هذه القيود باسم الديمقراطية، بل بالاستناد إلى مرجعية مختلفة، المبدأ الليبرالي، كما في حالة الحقوق الأصلية للأفراد. لهذا، لم يكن عبثاً أن غالبية الحركات الثورية التي تحدثت باسم الشعب كانت ذات مواقف متشككة ومعادية لفصل السلطات، باعتبارها تقييداً لسلطة الشعب.
التركيز على الأغلبية والتماهي بين الحاكم والمحكوم باعتباره أساس الديمقراطية يجعل التحدي الذي تثيره سياسات الهوية في الديمقراطيات المعاصرة مفهوماً. ليس بسبب مناهضة سياسات الهوية للديمقراطية، بل لكونها مناهضة للمبدأ الليبرالي القائم على الاعتراف بحقوق أصيلة للأفراد. إن جوهر السياسات الشعبوية (سياسات الهوية) هو وضع الشعب في مواجهة النخبة، وهذا الشعب متخيل يتم تعريفه بهويته التي ترسم حدود الشعب، ومن ينتمي إليه، ومن يقف خارجه.
لندفع المسألة خطوة للأمام، وعوضاً عن مقابلة الجماعة (المبدأ الديمقراطي) مع الفرد (المبدأ الليبرالي)، لنفكر بمجتمعات تتكون بدورها من جماعات عضوية مختلفة، طوائف أو اثنيات أو قبائل، وليست أمة مكونة من مواطنين أحرار. هنا يصبح تحدي الديمقراطية مضاعفاً، من ناحية مواجهة بين الجماعات العضوية نفسها، ومن ناحية أخرى بين الجماعة العضوية والأفراد المنضوين فيها. فقد تُفهم الديمقراطية بوصفها سيادة الجماعة الغالبة (الأكثرية)، كذلك يدفع التنافس بين الجماعات العضوية الأفرادَ إلى الانسحاق تحت ضغط جماعاتهم باعتبارها الشكل الوحيد للتعبير عنهم، فهم كأفراد لن يكون لهم نصيب في الدولة القائمة على أساس من جماعات عضوية. الوصول إلى الدولة/السلطة يبقى محصوراً في يد الجماعات، التي تؤمن لأعضائها منفذاً إلى السلطة والثروة انطلاقاً من انتمائهم لها، وفي مقابل ذلك تطلب منهم ولاءً تاماً.
تحمل الديمقراطية منذ البداية أسئلة مقلقة حول السلطة وممارستها، سواء سلطة الجماعة في مواجهة الفرد، أو علاقات السلطة بين الجماعات العضوية. الديمقراطية بشكلها المباشر –حكم الشعب- لا تقدم ضمانة للأفراد أو الجماعات الصغيرة في مواجهة استبداد الأغلبية. استبداد أغلبية لطالما انتهى إلى استبداد فرد يتماهى مع الشعب. إن منع تحول الديمقراطية إلى استبدادا الأغلبية يتطلب أمراً يتجاوز المبدأ الديمقراطي نفسه، وهو ما قدمه المبدأ الليبرالي في سياق الخبرة التاريخية للديمقراطيات الواقعية. بالمقابل، لم يكن تحقق الديمقراطية ممكناً دون فكرة سيادة الشعب، الأمة بوصفها صاحبة السيادة، وأن شرعية الحكم مستمدة من تمثيله لهذه الأمة. وهنا يمكن الحديث عن معضلة الديمقراطية المتمثلة بالجمع بين شروط الديمقراطية المتمثلة بسيادة الأمة والشرعية المستمدة من تمثيل هذه الأمة في ممارسة السيادة من جهة، وعدم تحول الأمة إلى «هوية» تستبد بالأفراد والجماعات الأصغر من جهة أخرى، بحيث تكون الأمة أمة سياسية وليست جماعة عضوية. وهذا يقودنا إلى أسئلة تخيّل الجماعة والسيادة والشرعية.
الشرعية والسيادة
في عمله الدولة المستحيلة2 حاجج وائل حلاق باستحالة «الدولة الإسلامية» لكون المفهوم متناقضاً. فحلاق يرى تناقضاً بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي فيما يتعلق بمفهوم السيادة. فالدولة الحديثة تملك السيادة، فيما تعود السيادة إلى الله في نظام الحكم الإسلامي.
سبق لشميت أن حاجج بأن مفهوم السيادة مفهوم لاهوتي مُعلمَن. فحيازة السيادة تعني حيازة إقرار القانون، وضمنه حق تحديد الحلال والحرام، المسموح والممنوع. فالسيادة تعكس سلطة موازية لسلطة الله في المجتمعات ما قبل الحديثة، فتصير الدولة صورة أرضية لله بحيازتها السيادة. تاريخ الدولة الحديثة هو تاريخ احتكارها للسيادة، احتكار العنف والتشريع وضبط الحياة اليومية. حيث تقر الدولة الحديثة القوانين وتعاقب مخالفيها، تنشئ المدارس والجامعات وتحدد ما يُدرس فيها، تحتكر حق ممارسة العنف وإنزال العقاب والقتل بصفه عنفاً شرعياً، تُلزم مواطنيها بدفع الأموال لها بوصفه حقاً (الضرائب)، وتملك حق سوق الشبان إلى الجيش وامتلاك سنوات عديدة من حيواتهم ودفعهم للموت من أجلها. الأهم، أنهم لا يفعلون هذا قسراً (وإن تحقق بالقسر والعنف) ولكن لاعتقادهم التام بأن هذا هو الصواب والواجب الذي عليهم تجاه الدولة. كل هذا يتم باسم سيادة الدولة وحقها في ممارسة هذه السيادة والقبول بهذه السيادة. بالمقابل –كما يشير حلاق- ينطلق نظام الحكم الإسلامي من موقف مغاير فيما يتعلق بالسيادة، التي تعود إلى الله وليس إلى الدولة أو السلطان. فالسلطان في الحكم الإسلامي مقيد بالشريعة، التي تمثل ضميراً أخلاقياً للأمة، ويتحدث باسمها الفقهاء. تُعرَّف الأمة باعتبارها الجماعة التي تلتزم وتمارس الشريعة، وليس بالإحالة إلى الدولة. بهذا، تكون الشرعية في الإسلام مؤسسة على الدين. يعكس التباين بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي حول موضوع السيادة تناقضاً جوهرياً، يتجلى لاحقاً في ترتيب علاقات الانتماء والجماعة وممارسة السلطة.
يفترض نظام الدولة الحديثة استقلال النسق السياسي عن النسق الديني، حيث تكون القواعد التي يخضع لها كل نسق مستقلة عن تلك التي يخضع لها النسق الآخر. لا يتعلّق هذا الاستقلال بالعلمانية ولا يستدعيها، فاستقلال النَسقَين لا يعني الفصل بينهما، طالما أنهما يتقاسمان الحضور في المجال العام، بينما تحصر العلمانيةُ الدينَ –بإعادة تعريفه- في المجال الخاص. وهكذا، يمكن للسياسي أن يبرر إخضاع النسق الديني للسياسي لمواجهة النزاعات التي يمكن أن تنشأ عن تباين التصورات الدينية في الدولة. بدورها، لا تتعارض فكرة الحكم المطلق القائم على الحق الإلهي مع هذا الاستقلال، فالملوك، بوصفهم الحاكمين في النسق السياسي، يملكون السلطة بفضل الحق الإلهي، بالمقابل تملك الكنيسة السلطة في النسق الديني. الاستقلال لا يعني الفصل أو الوصل، بل فقط تمايز المعايير والقواعد التي يخضع لها كل مجال.
وقد سمح استقلال السياسي عن الديني بطرح سؤال الشرعية في المجال السياسي. فلم يطرح هوبز3 تحدياً لسيادة الدولة المطلقة (الحاكم)، لكن إسهامه تمثل في نقل مصدر سيادة الحاكم المطلق من الحق الإلهي إلى التعاقد بين أفراد، يتخلون عبر هذا التعاقد عن حرياتهم مقابل الأمن. عندها، تصبح شرعية الدولة شأناً طبيعياً ونتيجة لتعاقد الأفراد فيما بينهم، وتكف عن كونها نتيجة حق إلهي لا يمكن مساءلته. وهذا ما دفع الملك والكنيسة إلى رفض أفكار هوبز، لإدراكهم للتهديد الذي مثلته.
كانت الخطوة التالية تقييد السلطة المطلقة، التي أصبحت تستمد شرعيتها من التعاقد، بحقوق طبيعية وأصلية للأفراد العقلانيين. عندها تتوقف الدولة عن كونها مطلقة السيادة، لتصير سيادتها مقيدة بهذه الحقوق4. الخطوة اللاحقة هي السيادة الشعبية مع نشوء السياسات الجماهيرية، حيث تستمد الدولة سلطتها وسيادتها من الشعب وتكون مؤسسة على العقد الاجتماعي، فتصير الدولة ملزَمة باحترام الحقوق الأصلية لهؤلاء المتعاقدين الحائزين على السيادة الحقيقية. سيادة الشعب فتحت الباب للديمقراطية، مثلما أن حقوق الأفراد الأصلية مكّنت من تقييد هذه السيادة.
سعت غالبية المجتمعات إلى مقاومة بناء سلطة متفردة ومتعالية كالدولة، وقد عرفت العديد منها نجاحاً بفضل اتباعها استراتيجيات منعت نشوء الدولة بوصفها سلطة وسطوة متمايزة عن المجتمع، أو على الأقل قيدت هذه السلطة بشدة. مثلاً، ساهم البوتتلاش (Potlatch)، وهو طقسٌ مُمارس في بعض مجتمعات السكان الأصليين في أميركا الشمالية ويقوم على تدمير الثروة وإحراقها عبر ممارسات تنافسية، في منع تراكم الثروة في أيدي مجموعات بعينها كان يمكن لها وبفضل هذه الثروات المتراكمة امتلاك قوة أكبر من الآخرين تمكّنها من تأسيس مصدر سلطة مستقل لها، يكون لاحقاً أساساً لنشوء دولة.
في السياق الإسلامي، تم النجاح بالحد من سلطة الدولة وتسلطها بفضل الفقهاء وتصورهم عن الشريعة. فشرعية نظام الحكم في الإسلام استندت على مركزية الشريعة باعتبارها ذات مصدر إلهي تحكم شؤون الحياة بعمومها وتشكل نظاماً أخلاقياً ملزماً للجماعة الإسلامية، يتولاه الفقهاء ويعنون بنقله وتعليمه بفضل حضورهم المباشر في مجتمعاتهم المحلية وصلتهم بها عبر المسجد والمدرسة، كما أن الدخول إلى جماعة الفقهاء لم يكن محصوراً في طبقة بل مفتوحاً للجميع، شرط الحصول على الشروط المؤهلة.
علينا أن ندرك أننا، حين نتحدث عن نظام الحكم في الإسلام تاريخياً، فإننا نُحيل إلى حكم لم يكن يتمتع بأية قدرات توازي قدرات الدولة الحديثة، فلا جيشَ نظامياً ولا تجنيد إلزامياً، ولا مدارس رسمية يدرس فيها الشعب، ولا إدارة للاقتصاد لتحقيق التنمية ورسم خطط اقتصادية. هذه الأمور كانت متروكة للجماعات الأهلية وتقاليدها، أحياناً بدعم ما من الدولة عبر رعايتها لبعض المدارس أو تأسيسها أو القيام ببعض الأعمال المدنية. حيث لم تتولَ الدولة مسؤولية العديد من الأمور التي نعتبرها بشكل طبيعي اليوم من وظائفها ومن أسس شرعيتها، مثل مسؤوليتها عن الوضع الاقتصادي والتعليمي والرعاية الاجتماعية والصحية. وبفضل اعتمادهم على مصادر مستقلة للثروة (الوقف)، تمكّنَ الفقهاء من القيام بعدد من هذه المهام، مثل تمويل المدارس والطلبة والجوامع ورعاية الفقراء ودعمهم وتأمين أعمال للعديد من الأشخاص يتقاضون عليها أجوراً وهلم.
قامت علاقة الفقهاء بالسلطة على وظيفتين5، تبريرية ومعيارية، حيث تولى الفقهاء تبرير الحكم وإعطائه الشرعية، ومن ناحية أخرى مارسوا سلطة معيارية عبر فرض حدود ورقابة على هذه السلطة استناداً لكونهم الناطقين باسم الشرع. وهنا يمكن التمييز بين دورين للسلطة ميز الفقهاء بينهما، الحكم والمُلك. بالنسبة للحكم، فهو يتم من خلال الالتزام بالشرع والحكم بمقتضاه باعتباره مصدر الشرعية والسيادة، وهنا يكون الفقهاء رقباء عليه لدورهم كناطقين باسم الشرع الذي يشكل ضميراً أخلاقياً للجماعة من جهة وأيضاً بوصفه، أي الشرع، المحدد لهوية الجماعة نفسها بوصفها جماعة المؤمنين الملتزمين به والمستندين إليه. أما المُلك فيعود للسلطان، الذي قد يتولاه بالغلبة. يمارس الفقهاء دوراً رقابياً ومعيارياً كونهم ناطقين باسم الشريعة وضامنين للعمل بمقتضاها، ودوراً تبريرياً للسلطان بإضفاء الشرعية على حكمه وضمان قبوله، وذلك بحضّ الجماعة على الطاعة والصبر على الحاكم وعدم الخروج عنه بذريعة الفتنة. من هنا لا يثير السلطان ووصوله إلى الحكم، بالبيعة أو بالسيف، إشكالاً دينياً، فالشرعية لا تقوم داخل النسق السياسي نفسه. فلم يكن ممتنعاً على الفقهاء الوقوف إلى جانب صاحب الشوكة وتبرير وجوب طاعته لدرء الفتنة، طالما أن الشرعية تقع في مكان آخر تماماً وتتحدد عبر الالتزام بالشرع والعمل بمقتضاه. بلغة معاصرة، يمكن اعتبار السلطان في الحكم الإسلامي (الدولة) بمثابة السلطة التنفيذية، فيما مثل الفقهاء شكلاً من السلطة التشريعية التي تقيد التنفيذية وتنظم عمل السلطة القضائية حتى ولو خضعت الأخيرة للسلطة التنفيذية6. إضافة إلى تغول السلطة السياسية، واجه الفقهاء خطراً آخر تمثل في الخوارج، الذين سعوا إلى إحلال السياسي في الديني بشكل تام، محولين بذلك كل خلاف سياسي إلى خلاف ديني والعكس صحيح، بما يهدد بفتنة مستمرة.
إن إخضاع السياسي للديني فيما يتعلق بالشرعية لا يعني إحلاله في الديني، بل يحافظ السياسي على تمايزه. تمتد العلاقة بين السياسي والديني على طيف واسع يمكن رصد أربع إمكانيات داخله: الانفصال كما يُقدَّم في العلمانية، فيتم تعريف الديني بما يحصره في الخاص؛ الاستقلال الذي يعني أن كل نسق يخضع لقواعد مستقلة تنظمه وتنظم أسئلة الشرعية الخاصة بكل نسق دون أن تلغي تداخلهما الممكن؛ التمايز الذي يقر برد قواعد أحدهما للآخر دون أن يتماهيا، وهو ما نشهده في السياسة الشرعية، حيث يُخضع السياسي للديني، دون أن يلغي تمايز السياسي كوظيفة ودور مختلف؛ وفي المستوى الأخير تتم مماهاة السياسي والديني بشكل كلي، والذي نشهده لدى الشيعة والخوارج.
ما قام به الفقهاء ليس مجرد «تبرير» للسلطة، بل قدموا استراتيجية ناجحة في لجم السلطة والحد من نفوذها وإلزامها بمعايير تقع خارجها وتمنعها من التغول على مجتمعها. لكن هذه القيود اعتمدت نقل مناط الشرعية من النسق السياسي نفسه إلى خارجه، إلى الشريعة. فلم يعد النسق السياسي يتمتع باستقلال خاص به لجهة وجود قواعد ومعايير خاصة به تسمح له بطرح السؤال الشرعية من داخله، بل توجب عليه العودة إلى النسق الديني لتأمين هذه الشرعية. يمكن القول، بعبارة بيير بروديو، أن نجاح هذه الاستراتيجية عنى نجاح الفقهاء في احتكار الرأسمال الرمزي في مواجهة نظام الحكم.
من النتائج المترتبة على هذا النجاح أن مفهوم الأمة أصبح مقروناً بجماعة المؤمنين التي تعترف وتسلم بسيادة الشريعة وتعمل بمقتضاها في كل شؤون حياتها. لهذا، غاب مفهوم التمثيل، تمثيل الأمة أو جماعات ذات مصالح أمام الدولة التي تعترف بهذه التمثيلية وبدورها الرقابي من جهة والتشريعي التي يسعى إلى تلبية مصالح هذه الجماعات بمقتضى ما يطلبه هؤلاء الممثلون. فاختُزل التمثيل إلى علاقة مرتبطة بالشريعة والعمل بها، وهو ما يتولاه الفقهاء على كل حال. إضافةً إلى الفقهاء، كانت هناك الجماعات الأهلية من نقابات وأشراف وطرق صوفية، يتم التشاور معهم بخصوص ما قد يهمهم ويعنيهم دون التمتع بصفة رقابية وتشريعية.
جادل برتران بادي في الدولتان في أن الفرق بين الغرب والإسلام يكمن في استقلال النسق السياسي عن الديني في الغرب، والذي تمثل بخضوع كل منهما لقواعد خاصة تنظمه، الأمر الذي سمح لاحقاً بطرح أسئلة الشرعية والسيادة والتمثيل على المجال السياسي. بينما غاب استقلال النسق السياسي في الإسلام، الذي خضع للنسق الديني الذي يقوم عليه الفقهاء، الأمر الذي جعل من «فكرة الشرعية غير مستقرة في الثقافة الإسلامية بسبب غياب مقولتين مناوبتين لها في الشرعية الغربية: إنهما مقولتا السيادة والتمثيل»7. وهذا هو الثمن المدفوع نظير نجاح الفقهاء في الحد من سلطة الدولة وتقييدها تاريخياً.
تشير النقاشات المعاصرة إلى هذه الإشكالية فيما يتعلق بسؤال الديمقراطية إسلامياً، حيث يصرح العديد من الإسلاميين بقبولهم الديمقراطية إجرائياً ورفضها فلسفياً، وهم يعنون في هذا رفضهم لمقولة السيادة الشعبية التي لا سند لها في التراث الإسلامي. فهي تطرح تحدياً صريحاً على التقليد الإسلامي، حيث تعود السيادة لله وليس لأحد آخر، سيادة يعبر عنها الإلتزام بالعمل بمقتضى الشرع كأساس لسؤال الشرعية. إنَّ أقصى ما يستطيع الشرع تقديمه توجزه مقولة تقي الدين النبهاني «السيادة للشرع والسلطان للأمة»، أي إعادة إنتاج الموقف الكلاسيكي حيث يكون الله مناط السيادة فيما تستند الشرعية إلى الحكم بالشرع. لكن السلطان، الذي قبله الفقهاء مرة بحكم الغلبة، يكون هذه المرة مُمثِّلَ الشعب/الأمة الذي يصل بآلية ديمقراطية إجرائية مثل الانتخابات. لا يواجه الفقهاء مشكلة فيما يتعلق بالطريقة التي يظهر بها السلطان (السلطة التنفيذية)، سواء بالغلبة أو بالديمقراطية، طالما أن السلطة التشريعية المحددة للشرعية تخضع للشرع الذي يعين لنا الأمة وحدودها التي لا تطابق حدود الدولة. هكذا نجد أنفسنا أمام مفهوم عضوي للشعب والأمة يتعين بالتقليد ولا يتحدد بالسيادة والتمثيل، ويبقى خارجاً عن السياسة.
الدولة العربية الحديثة
في مواجهة تحدي الغرب، توجَّبَ على الدول الإسلامية الشروع بالإصلاح تحت تهديد فقدان استقلالها، وهي حاجة لم تكون وليدة المجتمعات المحلية نفسها. تولت الدولة، وبشكل خاص الفئات المتأثرة بالغرب، أمر الإصلاح، فقدم غالبية الإصلاحيين العثمانيين من مكتب الترجمة. هذا الدافع للإصلاح أثَّرَ بدوره على طبيعته، حيث بدأ من الجيش، فكانت أول المعاهد والكليات تابعة للجيش. بدوره، احتاج الجيش الحديث اقتصاداً حديثاً، وعليه استهدف الإصلاح الاقتصادي تعزيز قدرات الدولة ومواردها بالوصول المباشر إلى رعاياها، متجاوزة الفئات الوسيطة التي توسطت بين الدولة ورعاياها وحازت شكلاً من السيادة على جماعاتها. أطلق الإصلاح عملية بناء وتوسيع قدرات الدولة بشكل هائل لتعزيز قدراتها على المواجهة الخارجية، وهذا لم يكن ممكناً في حالتنا إلا عبر استغلال المجتمع المحلي نفسه وفتحه أمامها بغياب القدرة على إطلاق عملية استعمارية لمناطق أخرى. أعادت عملية البناء هذه النظر في موقع الدولة وعلاقاتها بالمجتمع والجماعات المحلية والوسيطة ومنهم الفقهاء، وبالتالي قادت إلى إعادة ترتيب كاملة لمسائل السلطة والشرعية.
تحت الضغط الغربي، انطلقت إصلاحات تشريعية تستهدف خلق بيئة قانونية حديثة، ومنها المساواة بين جميع المواطنين بمعزل عن انتماءاتهم. لكن هذا واجه تحديات متنوعة تمثلت بمعارضة فئات واسعة من داخل الدولة تعرضت للتهميش والتهديد بفقدان المكانة، مثل الإنكشاريين، وأيضا الجماعات الوسيطة8. تمثَّلَ التحدي الأبرز في سؤال الشرعية التي استُمدت من التقليد الديني القائم على الشريعة، التي تم التخلي عنها بشكل متزايد تحت ضغط الإصلاح وحصرها في قضايا الأحوال الشخصية. لكن من أين تستمد الدولة شرعيتها؟ التداخل بين التحديث القانوني ومركزية الشريعة في ضمان الشرعية ووعي الجماعة الإسلامية لنفسها (وشرائع الملل الأخرى لنفسها)، واستمرار العمل بالشريعة في مجالات مختلفة من خلال قوننتها، غَيّرَ من طبيعة العلاقة التي ربطتها بالناس9، كل هذا أدى إلى الازدواجية القانونية واضطرابها الذي ورثناه وظهر جلياً في قانون الحسبة وتطبيقه في حالة حديثة مثلاً (نصر حامد أبوزيد).
ترافق هذا مع سؤال الأمة والجماعة. فالمساواة المُقرة بين الرعايا لم تعنِ أو تترافق مع الاعتراف بهم كمواطنين لهم حقوق وواجبات ويربطهم تعاقدٌ بالدولة، أيضاً تحدت هذه المساواة مصادر الشرعية لدى النظام التقليدي القائم على تراتبية بين الجماعات بحسب هويتها وانتمائها، خاصة مع بقاء الشريعة (وما يقوم مقامها لدى الملل الأخرى) كقانون فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وبذلك هددت آليات التضامن الداخلية لدى كل جماعة. لم يقتصر رفض الإصلاح على السنّة الذين رأوا فيه تهديداً لمكانتهم وتفوقهم، بل امتد لجماعات أخرى رأت أن مكانتها، الأفضل قياساً بغيرها، مهددة كذلك، أو شعرت بخطر يتهدد التضامن الداخلي بين أعضائها ويضعف من سلطة القائمين عليها تجاه أعضاء هذه الجماعة.
كيف يمكن جعل جماعات مختلفة يحكمها نظام دقيق للتراتب، قائمٌ على التقليد الديني والعرف، أمةً عثمانيةً يتساوى أفرادها فيما بينهم دون تحطيم هذا التقليد؟ كيف يمكن بناء الأمة العثمانية دون ما يترتب على هذا من سيادة شعبية، وبالتالي إبقاء المواطنين مجرد رعايا خاضعين للسلطان؟ إن بناء أمة مرهون بقدرة الدولة على احتكار الرأسمال الرمزي، وبالتالي السيادة والشرعية، وهو ما يدخلها في مواجهة غير مأمونة العواقب مع الشريعة والتقاليد الدينية الأخرى للجماعات الأهلية. بالمقابل، فقد كان للسلطان وحاشيته أسبابهما الكافية للخشية من الطبقة الوسطى الحديثة، الناشئة والمنخرطة في الإصلاح انطلاقاً من مقولات الثورة الفرنسية، فرغم أن مشروع هذه الطبقة هو تعزيز الدولة والهوية المرتبطة بها، لكن تحقيق هذا كان بدوره تهديداً للسلطان وحاشيته. تناقضٌ نراه أيضاً في المرحلة الليبرالية للدولة العربية، عندما يتناقض مشروع بناء الدولة مع مصلحة الوجهاء المسيطرين عليها.
كان نشوء مجال عام حديث قائم على السياسات الجماهيرية والسلطة الشعبية السبب في نشوء الإسلام السياسي بوصفه ظاهرة حديثة، تشكلت على أساس أسئلة فرضها الواقع الجديد، أسئلة تسعى لإيجاد أجوبتها في التراث. لكن التراث لن يسعف في تقديم هذه الاجابات، فهو لم يعرف مجالاً سياسياً عاماً ولا مشاركة شعبية. الأمر الذي فرض «إعادة اختراع» التراث، عبر قراءة معانٍ وإشكالات معاصرة فيه. لكن مركزية التراث تمثلت في أن الشرعية والسيادة لا تؤسَّسان في النسق السياسي نفسه، بل في النسق الديني.
في المرحلة الليبرالية، ومع نشوء طبقات وسطى حديثة متأثرة بالغرب وبمقولات الثورة الفرنسية، تسعى إلى تسويغ دخولها إلى المجال العام والسياسة والمشاركة في الحكم، ظهرت البرلمانات وأُقرت دساتير شارك رجال الدين في صياغتها، ولاحقاً أصبحت البرلمانات سمة للحكم الليبرالي. غير أن الطبقة الوسطى الحديثة بقيت هامشية في مجتمعاتها التقليدية، وحتى مع صعود وسائل الاتصال الحديثة، فإنها لم تستطع النفاذ إلى العمق الاجتماعي. بالمقابل، تمتع ممثلو الهويات المحلية، وجهاء ورجال دين، بقدرة أكبر على الوصول إلى المجتمع سواء عبر الأشكال التقليدية للعلاقات والولاءات أو بفضل الاستخدام الناجح لوسائل الاتصال الحديثة، فالجريدة والمجلة لم تعد مقتصرة على أنصار الحداثة، فقد نجح التقليديون بدورهم في استخدامها بكفاءة، كما بادروا إلى إنشاء المدارس وتعزيز التعليم وغيره10. نجح الفقهاء في معارضتهم للدساتير والقوانين الحديثة التي هددت سلطتهم أو سعت تعزيز المساواة القانونية، سواء بين الأفراد كمواطنين أو حتى الجماعات الأهلية (القانون الفرنسي للطوائف على سبيل المثال).
في مواجهة عجز الطبقة الوسطى الحديثة عن تحقيق الإصلاح عبر الديمقراطية مع سيطرة الوجهاء وإفسادهم للديمقراطية لمصلحتهم، اتجهت هذه الطبقة إلى الراديكالية السياسية. كانت الدولة، وفي قلبها الجيش باعتباره المؤسسة الأكثر حداثة وتنظيماً والأكثر استقطاباً لهذه الطبقات، الرافعة لتنفيذ البرنامج الثوري التحديثي للطبقة الوسطى. في المرحلة الثورية، بررت الدولة نفوذها وسيطرتها بشرعية التحديث، فالمجتمع يئن تحت وطأة التقاليد البالية والرثة بسبب الاقطاع، والدولةُ هي الجهة الوحيدة القادرة على إنجاز التحديث وتحقيق أهداف الشعب. شكلت الإيديولوجيات التحديثية في منتصف القرن العشرين أساس الشرعية للدولة في مواجهة مجتمع منقسم ومتأخر11. بالمقابل، فإن الشعب الذي لم تَعنِهِ مقولات السيادة والشرعية والتمثيل انحاز لهذه الدولة الراعية، ووقف أحياناً وبشكل صريح ضد الديمقراطية التي لم تعنِ له سوى حكم الوجهاء. وفي حالة الهلال الخصيب، حيث نشأت الدول كتعبير عن إرادة الاستعمار، فإن الشعب لم يعد يحيل إلى شعوب الدول، بل إلى شعوب تتجاوز الدول، وهكذا فإن سيادة الشعب لا تحيل إلى مواطني الدول نفسها، بل إلى شعب مُتخيل يتجاوز هذه الدول. وهكذا صرنا نقف أمام مفارقة تتمثل في أن النظام يكسب شرعية الحكم عبر نفي شرعية الدولة القائمة التي يحكمها. وبهذا الشكل لم تعد شرعية الحكم تنتظم حول العلاقة الداخلية للدولة بشعبها، بل خارجية مرتبط بالمهمات المطروحة على الدولة.
بشكل موجز، بِدءاً من الاصلاح المدفوع بالرغبة في تعزيز قدرة السلطة التنفيذية (الدولة) على مواجهة الغرب، لم تعن عملية بناء الدولة سوى تعزيز السلطة التنفيذية ومراكمة القدرات في يدها دون أن تترافق مع تأسيس شرعية مستندة إلى استقلال المجال السياسي والتمثيل الشعبي. فالدولة –من ناحية- لم ترغب بمثل هذا التمثيل الذي يهدد مشروعها الإصلاحي من طرف المجتمع التقليدي، أو يهدد سلطة الطبقات المسيطرة على الدولة في مواجهة ادعاءات الطبقات الوسطى الحديثة.
بفضل هذا التحديث للدولة، ظهرت أشكال حديثة من التنظيم البيروقراطي والجيش النظامي والسلاح الحديث، وتضخمت قدرات الدولة بشكل هائل مقارنة بمجتمعها العاجز عن تطوير استراتيجيات موازية لمواجهة هذا الاختلال الخطير في توازن القوى. عجز المجتمع في مواجهة الدولة يجد جذوره سواء في مخيلة سياسية مغايرة لنظام الدولة الحديثة، فلا تعبأ بأسئلة الشرعية والتمثيل والسيادة الشعبية، أو بسبب انقسامات اجتماعية جعلت جماعات مختلفة ومتباينة تتنازع ادعاءات الأمة والسيادة من تحت أو فوق الدولة. ولهذا لم تلعب الديمقراطية والسيادة الشعبية دوراً مهماً في تاريخ النضالات الشعبية، وغابت بشكل كبير عن نضالات مدينية ظهرت منذ بداية العصر الحديث، بل وأحياناً تحركت الجماهير مباشرة ضد الأشكال الديمقراطية ولمصلحة الادعاءات الشعبوية، كما حصل في مصر 1954. بقيت اللحظات الديمقراطية مقتصرة على الفترات التي تداخل فيها النضال مع لحظة الاستقلال الوطني في مواجهة الاستعمار الأجنبي، ولكن الديمقراطية لم تعد مدرجة على أي برنامج نضالي محلي في الدولة الوطنية ما بعد الاستعمارية، وهو ما سبق ودلل بادي عليه. هذا الاختلال يعبر عنه تماماً الاختلال المرتبط بقدرة الدولة العربية الحديثة على مراكمة مصادر القوة المادية، من ثروة وقدرة قمع، وعجزها عن مراكمة واحتكار الرأسمال الرمزي، الشرعية. فلم تؤسس الدولة العربية الحديثة شرعيتها على أساس من العلاقات الداخلية التي تجمعها بمواطنيها، من حيث تمثيليتها لهم وباعتبارها تعبيراً عن إرادتهم الجماعية، بما يلزمها أن تحظى بقبولهم وتولي عناية بآرائهم وتفضيلاتهم في تشكيل سياساتها. بل لجأت إلى إدعاءات شرعية خارجية بالنسبة إلى هذه العلاقة، وتقوم على أساس «مهمة تاريخية» منوطة بالدولة والجماعة التي تحوز السلطة فيها، سواء كانت مهمة تحديثية أو مهمة توحيد قومي. فبقيت مسألة الشرعية غائبة عن علاقة الدولة بشعبها، ومعها تحولت المعارضة إلى مناوءة للدولة ومنازعة تهدد بالفتنة (راجع بادي – الفصل السابع).
صار الوصول إلى الدولة والسلطة غير متاح عبر الديمقراطية أو النضال الاجتماعي أو حكم الجدارة، بل عبر السيطرة على مصادر القوى في جهاز الدولة، الجيش والأجهزة الامنية (بعبارة تشارلز تيللي، الدولة عصابة)، وهو ما تم على أساس العلاقات الأهلية، القرابة والمحسوبية والراعي-الزبون للولاء الشخصي. فنجح المجتمع الأهلي في النهاية في غزو الدولة وإعادة إنتاج تناقضاته الأهلية بشكل جديد عبر الدولة، وطبعاً مضخمة ومستقطبة بما يسمح بالحفاظ على السلطة، عكس التناقضات التقليدية التي عرفتها المجتمعات الأهلية. فصارت الدولة العربية الحديثة في النهاية شكلاً محدثاً للحكم السلطاني/المملوكي، ولكن بقوة فتاكة تتجاوز ما كان للأخير تاريخياً.
في مواجهة مأزق شرعية الدولة، بقيت الديمقراطية معضلة لغياب فكرة السيادة الشعبية عن المخيال السياسي المترافق مع طغيان سياسات الهوية القائمة على التقليد في «المجتمع»، بما يجعله مجرد جماعات عضوية متواجهة. هكذا صارت الديمقراطية موضع نزاع أكثر من كونها محل إجماع في مواجهة تضخم الدولة وتسلطها. في الغرب، كان هناك «لاهوت» الحقوق الطبيعية وحكم العقل بوصفه المساحة التي سمحت للديمقراطية بالاستقرار وتشكيل أمة سياسية من مواطنين أحرار، فيما مجتمعاتنا منقسمة إلى جماعات عضوية تتعرف على نفسها عبر التقليد والهوية، بما يجعل سياسات الهوية السياسة الأكثر حضوراً وهيمنة.
خاتمة
معضلة الشرعية في الدولة العربية لها وجهان، يتمثل الأول في الدولة العربية الهجينة والمتغولة على مجتمعها بدون اعتبار لسؤال لشرعية، ويتمثل الثاني في الثقافة السياسية، بما تعنيه من قيم وترتيبها وذاكرة تحدد الهوية والولاءات، المتخارجة مع منطق الدولة والديمقراطية والسيادة الشعبية. هذا ما يدفع للسؤال عن أشكال أخرى من الاجتماع السياسي تأخذ بعين الاعتبار أنماط الشرعية والانتماء للجماعات الأهلية من ناحية، وحماية الأفراد والجماعات الصغيرة وتقييد سلطة الدولة الحديثة وتغولها على مجتمعها من ناحية أخرى. قُدِّمَت عدة اقتراحات سعت للعودة إلى التقليد لبناء أشكال من الشرعية تؤسس وتدعم النسق السياسي وتُقيّد سلطان الدولة والقائمين عليها، دون إحلال الدولة في الدين ومصادرة التقليد الديني واحتكار الكلام باسمه. وبالتالي جعل التقليد يلعب دوراً موازياً لحقوق الانسان الطبيعية في الغرب كإطار مقيد للسلطة.
يدافع رضوان السيد12 عن إعادة الاعتبار للتقليد الاسلامي في مواجهة المعسكرين اللذين تناوبا على منازعته. الحداثيون الرافضون للتقليد من جهة، والاسلام السياسي الذي فجر التقليد الإسلامي من داخله عبر إحلاله السياسي في الديني وتحديد الشرعية بحاكمية الشريعة ليكون في هذا استمراراً لتقليد الخوارج. وفي مقابل هذه المواجهة وما آلت إليه، استبداد الدولة الحديثة وغياب الشرعية في حالة الحداثيين، والحرب الأهلية والحكم الثيوقراطي في حالة الإسلام السياسي، يدعو السيد إلى إعادة الاعتبار للتقليد عبر تقديم فهم حديث له، مدافعاً عن الديمقراطية والمدنية عبر وضع السلطان في الأمة، باعتبار الدولة والشرعية شأناً مدنياً متروكاً للأمة، في مقابل حفظ السيادة لله. لكن هذه الدعوة تعيد مداورة أسئلة الشرعية مع تخارج الدولة والأمة. فالأمة في التقليد هي جماعة المؤمنين والمعرفة بالتزامها بالشريعة، الأمر الذي يجعل من الأخيرة معيارية في تعريف الأمة لذاتها وأساساً للشرعية بحسب التقليد نفسه.
بدورها، تأخذ هبة رؤوف عِزّت على الإسلاميين سعيهم «لإعادة التأسيس للرابطة السياسية الإسلامية على قاعدة الدولة الحديثة التي تقوم على مصادرة وتقويض مفهوم الجماعة والأمة والناس الإسلامي التعددي»، وتُقدم مخيلة مغايرة قائمة على القيم الإسلامية «وذلك كما صاغه دستور المدينة مؤسساً على مرجعية الشرائع الدينية لجماعات عضوية متحالفة ضد تحول السلطة إلى مُلك، وضمان الحريات في المجال العام وتفصيل الخاص والخصوصية في قضايا القيم والأخلاق والعام والمدني فيها». فعِزّت مدركة للمعضلة التي تمثلها الدولة الحديثة لمجتمعاتها، وللخطر الذي يحمله مشروع أسلمة هذه الدولة من حيث إعادة إنتاجه لتسلط الدولة الحديثة لكن بلبوس إسلامي. في المقابل، تطالب بشكل آخر من أشكال التعاقد بين الجماعات العضوية، يراعي هذه الجماعات ويضمن حقوقها وحرياتها. لكن ما يبقى مطروحاً، كيف يمكن أن يكون شكل العقد الاجتماعي بين الجماعات العضوية؟ هل يضمن مساواة هذه الجماعات أم يخضعها لتراتبيات معينة مشتقة من تقاليدها؟ ويبقى السؤال المركزي، هل يتسق مفهوم التعاقد بالأساس مع مفهوم التقليد والجماعة العضوية؟
هنا تعوزنا الإجابات، وتبدو هذه التصورات متناقضة في ذاتها، فهي في مسعاها إلى بناء شرعية «تعاقدية» للسلطة مستندة إلى الأمة، تَردُّنا إلى الجماعة العضوية التي تشكل هذه الأمة. كما أن التعاقد يفترض مساواة المتعاقدين وحرية مصونة لهم، بينما لا تقدم التقاليد مثل هذه الضمانات، بل إنها تتعارض مع فكرة التعاقد من حيث كونها تقليداً.
لا ينتقص هذا من جدوى هذه المقاربات وأهميتها القائمة على إعادة النظر في الدولة الحديثة ومساءلتها ومساءلة أنماط الشرعية التي تنظمها، وإعادة الاعتراف بالحاجة إلى التقليد لجهة الاستراتيجيات التي اتكأ عليها لتقييد جموح السلطان. لكنها تبقى بعيدة عن تقديم حل للمعضلة الأساسية، والمتمثلة بطبيعة القواعد التي تنظم النسق السياسي وشكل الشرعية التي يستند إليها، وهي أشياء لا يسعفنا التقليد الديني في حلها إلا بردها إلى نسق آخر غير سياسي (ديني)، بما يستدعي الخروج من التقليد نفسه أو إعادة تأسيسه أو مقاربته بطريقة أكثر جذرية، أو أن ننغلق في تناقض الدولة الحديثة والإسلام بما يحتم علينا الاختيار بينهما.
إن ما نحتاجه الآن هو الكثير من الخيال.
1. Carl Schmitt, The Crisis of Parliamentary Democracy. MIT Press 2000.
2. الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي وائل حلاق. ترجمة: عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.
3. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة توماس هوبز، ت: ديانا حبيب حرب وبشرى صعب. الفارابي وهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث. 2011.
4. في محاضراته في الكوليج دو فرانس لعام 1987-1979 ناقش فوكو (انظر: The birth of biopolitics. Palgrave macmillan. 2010) هذا التمييز بين شرعية الدولة بوصفها مطلقة السيادة وشرعية الدولة عبر خضوعها لنظام الأشياء القائم على حقوق أصلية وطبيعية عبر مناقشتها نمط الشرعية للدولة الليبرالية في القرن العشرين. هذه المسألة كانت مجال سجال، حيث سعى الليبراليون إلى نقد هذا التصور «اللاهوتي» للسيادة باخضاعها لمبادئ وحقوق طبيعية أولى، الفرد والعقل، وهنا يمكن مراجعة نقد هابرماس لشميت في ورقته «المعنى العقلاني لميراث اللاهوت السياسي المريب» في قوة الدين في المجال العام، ت: فلاح رحيم. دار التنوير للطباعة والنشر. 2013. أخيراً، إن النقد الرومانسي للحداثة، وفي حالتنا الإسلامية مثل وائل حلاق وهبة رؤوف عزت وسيف الدين عبد الفتاح، يقدم نقداً للدولة عبر تقديهما في بعد وحيد متمثل في هذا الشكل السيادي الأقصى، متجاهلاً الإسهام الليبرالي في تقييد هذا التصور المطلق للسيادة واعتباره غير مؤثر في طبيعة الدولة.
5. راجع دولة الفقهاء: بحث في الفكر السياسي الإسلامي، نبيل فازيو. منتدى المعارف.
6. مقاربة نوح فيلدمان للشريعة في اعتباره اياها شكلاً للسلطة التشريعية التي تقيد السلطة التنفيذية، ولهذا يرى فيلدمان أن شعار الحكم بالشريعة الذي ترفعه الحركات الإسلامية ويحظى بشعبية هائلة في المجتمعات الإسلامية هو استجابة لرغبة العدل وتقييد جور السلطان وعسف الحكام بفضل الشريعة التي تمثل تقليدياً السلطة التشريعية. راجع سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها، نوح فيلدمان. ترجمة: الطاهر بوساحية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008.
7. الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام، برتران بادي، ت:لطيف فرج، مدرارات للأبحاث والنشر. 2017. ص 111. يقدم بادي مرافعة واسعة حول العلاقات التي حكمت النسق السياسي مع النسق الديني في الغرب والإسلام، مبرهناً على ما تمتع به النسق السياسي من استقلال في الغرب مقابل غياب هذا الاستقلال في الإسلام وما ترتب عليه، وهي الأطروحة التي تستند عليها الورقة بشكل كبير.
8. يبقى موقف الفقهاء من هذا الإصلاح القانوني، الذي عنى تحجيم سلطتهم وتهديدها مباشرة، مسألة مثيرة للاهتمام. وقد اختلفت مواقفهم باختلاف طبقاتهم وعلاقاتهم مع الدولة، فعموماً مال كبار الفقهاء والمنخرطين في جهاز السلطة إلى قبول هذه الإصلاحات انطلاقاً من إدراكهم لطبيعة الضغوط والتحديات التي تواجهها الدولة، بما يستوجب قبول هذه الإصلاحات وإن يكن ضمن حدود. في المقابل، رفضها مثلاً رجال الدين الفقراء والمرتبطون بالعامة باعتبارها تهديداً للإسلام وللمسلمين ومركزهم في «دولتهم». من أجل مراجعة أكبر لمواقف الفقهاء من الإصلاح راجع العلماء العثمانيون والتغريب في زمن سليم الثالث ومحمود الثاني في الشرق الأوسط الحديث، المجلد الأول. تحرير ألبرت حوراني، فيليب خوري وماري ويلسون. ت:أسد صقر. مدارات للأبحاث والنشر. 2015
9. هذا التحول الذي أصاب الشريعة بتحولها إلى قانون درسه حسين عجرمة، من خلال دراسته لعدة لقضايا تم الحكم فيها بالمحكمة وبالاستناد إلى الشريعة وحالات أخرى تم حلها بالعودة إلى مؤسسة لجنة الفتوى التابعة لمؤسسة الأزهر، وكيفية علاقة الناس وتعاطيهم في الحالتين، المحكمة ولجنة الفتوى، واختلافاتها. مساءلة العلمانية، حسين علي عجرمة، ت: مصطفى عبد الظاهر، مركز نماء للبحوث والدراسات.2017.
10. لمراجعة واسعة عن خطابات عصر النهضة ووسائل الاتصال الحديثة المعتمدة في بناء هذه الخطابات وحجم النخب الحديثة مقارنة مع تلك التقليدية، راجع ثقافة النهضة العربية وخطابات الهويات الجماعية في مصر وبلاد الشام. قيس ماضي فرو. الفارابي. 2017
11. لم يقتصر هذا فقط على تلك المرحلة، بل ما يزال معاصراً إلى اليوم في خطاب تحديثي يؤمن شرعية الدولة في مواجهة مجتمعها المتخلف من ناحية، وفي تصور معياري للدولة بوصفها الفاعل المعياري والأكثر عقلانيةً والمستقل عن الانقسامات الاجتماعية المفوتة (قبلي وإثني وطائفي وهلم)، بما يضفي عليها قيمة أخلاقية ويعطيها حقاً وواجباً أخلاقياً في «توحيد» مجتمعها وتحديثه. مثل هذه القراءة للدولة حيث يتداخل الوصفي والمعياري في مقاربتها نجده لدى عبد الإله بلقزيز، الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، الشبكة العربية للأبحاث، 2008.
12. محاضرته «الجماعة والتقليد والإصلاح:سياسة الدين في أزمنة التغيير»، في المؤتمر السنوي الثاني لمؤسسة «مؤمنون بلا حدود» في مراكش، 2014. أيضاً «الدين والدولة من منظور إسلامي عصري ومنفتح» في الدين والدولة في الوطن العربي: بحوث ومناقشات مركز دراسات الوحدة العربية والمعهد السويدي بالإسكندرية. 2013.
———————–
شرعيةٌ متغلّبة وسيادةٌ مفتّتة/ محمد عثمانلي
ستحاول هذه الورقة الكشف عن التغيُّر في السلطة ضمن المجال العثماني، من خلال طرح العلاقة بين مفهومي السيادة والشرعية في عصر التنوير العثماني، القرن التاسع عشر، كما ولن تغفل النظر في المقدمات الأساسية ذات الصلة، لكون هذا العصر لا ينفكُّ عضويًا عمّا سبقه من أزمنة الإمبراطورية الطويلة، وقد سبق هذا العصر كثيرٌ من المحاولات السابقة لتكوين تنوير ما، ولكن الجهود في الدولة لم تتكاتف حتى مطلع القرن التاسع عشر، مع التأكيد على أن هذه المحاولات لمجاراة عصر التنوير الأوروبي قبل هذا القرن، يمكن أن تُقرأ من لحظة استفاقة المسلمين على إثر مغلوبية العثمانيين بتوقيع معاهدة كارلوفيتسا.1
لذلك، فإن هذه الورقة تبغي الكشف عن صدى هذين المصطلحين في مؤسسات الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. وباعتبار أنّ السلطة قد يُعبّر عنها من خلال السيادة والشرعية، فإنّ قراءة هذين المصطلحين، تعني الوصول إلى نوع من فهم مسار هذه السلطة، والتي يُعبر عنها بالإرادة السنيّة «السلطانية» İrade-yi Seniyye.
حاولت الدولة العثمانية الخروج من عباءة نظام الحكم القديم، متحركة نحو تأسيس النظام الجديد؛ Nizam-ı Cedid كما هو متعارف عليه في أدبيات التنظيمات العثمانية، والتي لا يَخفى تأثرها بالثورة الفرنسية التي تحرّكت لتحطيم ما يسمّى L’Ancien Régime، أي الثورة بتغيير الدولة السلطانية2، التي تمثّل الحكم المونارشي؛ تلك الدولة المتمثلة بحاكمٍ أعلى، هو خليفةُ سائرِ المسلمين، ويليه في التراتبية، ولا يشترط في مصدرية الحكم «الشرعية»، من يُسمَّون بأهل الحلّ والعقد في أدبيات «السياسة الشرعية»، التي لا يمكن أن تمثّل فقهًا سياسيًا واضح المعالم3؛ وأهل الحل والعقد هم أولئك المؤثّرون بقوتهم من الطبقة الدينية والاقتصادية العسكرية، ومن ثمّ تأتي بعدهم أجهزة ومؤسسات الدولة التنفيذية المختلفة.
كان رجال الأعيان الذين برزوا في القرن الثامن عشر صدى وبقايا الثورات الجلالية، التي تنوعت في سبب انبثاقها وإقلاقها النظام الحاكم في القرن السادس عشر ومبتدأ السابع عشر. وإذا كان الأعيان هم أقل حدّيةً من الجلالية، ولكن كلا الطرفين كانا يشكّلان تهديدًا لـ «مركزية الدولة» وسيادتها، الرمز الأساسي الذي سعى السلطان سليم الثالث، أبو التنظيمات في القرن التاسع عشر، لإعادة تشكيله، ولكنّ محاولاته فشلت بعملية اغتياله في نهاية المطاف.
عايشت هذه الدولة التغيرات الأوروبية المتسارعة في ثورتها العلمية والصناعية دونما توازٍ في التغير، أي أن الدولة العثمانية كانت تشهد تأخرًا ملحوظًا، ويمكن الحديث عن الأثر الواضح الممتد لتفجّر الثورة الفرنسية على العثمانيين، وحتى يكون القول محددًا، على النخب الإدارية العثمانية بشكل أبرز، وهو الأثر الذي امتدّ إلى مقتبل القرن العشرين، مع نهاية الدولة، ولم ينته بنشوء الجمهورية التركية، وريثة الإمبراطورية بكل عللها وحسناتها وثقافتها العامّة.
إنّ معاصرة الدولة العثمانية عهدين من الزمان جعلها تعيش في حالة مفارقة، عهدين كبيرين، وقد لا تكون هذه الدولة ذات طبيعة متناقضة في هذا الحال، بقدر ما أصبحت مظاهر الدولة منبثقة عن دواخل أكثر عمقًا، من العمامة إلى الطربوش؛ بين البزة العسكرية الحديثة وتلك الإنكشارية القروسطية؛ بين العمارة القديمة والباروك، الأدب «الفرنجي» الأوروبي والعثماني الإسلامي، التوجهات4 الوضعانية «الملحدة» taklidçiler والتقليدية muhafazakârlar، وغيرها من «التناقضات». ولكن هل نقول إنها تشكّلات طبيعية؟ وهل يجوز اعتبار الثقافة العثمانية مفصولة عن غيرها من الثقافات؟ هذه المظاهر أخفت وراءها قضايا معقدة تستحق البحث، كان أكثرها لفتًا للانتباه الحديثُ عن الإرادة السياسية المترددة ومكانتها في العهد العثماني.
شرعية فعّالة بين إرادة السلطان ورجال الدولة
قبل ولوج الدولة في القرن التاسع عشر، كانت الأنظمة فيها آخذة نحو تغيّر ما، تغير قد لا يأخذنا نحو ابتداءه من نقطة ما، بل من شبكة معقدة من هنا وهناك. ولا يمكن في حقيقة الأمر حدّ أسباب تأخر هذا التغير بواحد أو اثنين، بل هنالك أسباب عامّة ليست موضوع النقاش في هذا الإطار، ولكن لا بد من ذكر أهمّ مصادرها، وهي وجود أكثر من مؤسسة [فِرَقٍ؟] تتنازع الحكم في الدولة العثمانية، المؤسسة الدينية İlmiyye والعسكرية Seyfiyye، مع بيروقراطية الدولة الحديثة السياسية الناشئة في القرن التاسع عشر، والتي تطورت عن الفرقة الثالثة؛ الكتّاب Kalemiyye، ويقابل ذلك عدم وعي كلٍّ من الفرقتين الأوليتين بمستجدات العصر.
ومن هذا الإطار يمكن الحديث عن وجود النمط الكلاسيكي في تنازع مقادير السلطة في الإدارة العثمانية، والذي يظهر بشكل واضح في القرن السادس عشر، الذي يتوسط بين نشوء الطور الإمبراطوري من الدولة بدخول العثمانيين مناطق المياه الدافئة، وبين ولوج الدولة في القرن السابع عشر، وامتداده لأبواب القرن التاسع عشر، مع التحولات الأوروبية المتسارعة، واكتشاف نوع هائل من التأخر في الدولة. كذا وتدوين إحدى أشهر السفارات لـ«يرمي سكيز محمد تشلبي»، والتي لا تعد أكثر من جولة [سياحية؟] سريعة في مقتبل القرن الثامن عشر، لم تستمر إلا لعدة أشهر، ولم تكن كافية وفق كثيرٍ من الباحثين الأتراك لتعطي العثمانيين آنذاك نظرة قريبة عميقة عن أوروبا ومجريات الأمور فيها.5
عملية الكشف عن العيوب في الدولة في منتهى القرن الثامن عشر ومقتبل التاسع عشر، يمكن ملاحظتها في التقارير التي أمر بإجرائها السلطان سليم الثالث للكشف عن مواطن الضعف في الدولة، وهي مجموعة من المدونات أمر بها المقربين من رجال دولته؛ لتقديم معاينة عامّة تبين ما يمكن تداركه من موضوع تحديث الدولة على الأصعدة الدبلوماسية والعسكرية والإدارية والمالية، خاصّة بعد احتلال مصر والبنية المهزوزة للإنكشارية، وكذا توقيع معاهدات مع كلٍ من روسيا والنمسا وبريطانيا سببت قلقًا للداخل العثماني، لذلك يمكن اعتبار أن محاولة سليم الثالث للإصلاح كانت تنظيراً لعهد تنظيماتٍ قادم.
يتّضح كذلك من علاقة السلطان بالوزراء6 في القرن السادس عشر، بعد نيل العثمانيين الخلافة، أن السلطان كان مربوطًا بنوع من البيروقراطية لإسداء أي قرار يريده في الدولة7. صحيحٌ أن إعلان الحرب وعزل بعض الوزراء لأخطاء فاحشة، وغيرها من القرارات المصيرية التي تعتبر قرارات «سيادية»، كانت تُتخذ بأوامر ومراسيم مباشرة، هي سيادية لأنها من ملامح الدولة الأولى، كإعلان الحرب وتقرير ما يؤدي إلى الخيانة العظمى، وكانت بالفعل تحتاج إلى سرعة التحرك قفزًا عن بيروقراطية الدولة؛ ولكن جلّ قرارات الدولة، في ذاك القرن على وجه التحديد، لم تكن تُتخذ بهذا الشكل، بل كان السلطان بحاجة إلى نوع من موافقة مجلس الوزراء، وإجراء العديد من المشاورات مع وزرائه، في إدارة الدولة على وجه التحديد.
مثلًا، حتى الآن لا يمكن الوصول إلى حكم جازم في معرفة سبب إعدام السلطان سليمان القانوني لوزيره المحبوب المقرّب، إبراهيم باشا، بل وحينما سأله وزيران في الدولة عن سبب قتله قام بعزلهما، وهنا يمكن أن نقرأ كيف كان هنا نوع من دائرة التصرّف المطلق للسلطان قبل العصر الحديث8. أي أنّه كان يقوم بممارسة سيادته الخاصة، حينما أراد ذلك، وهو أحد أهم أشكال النظام القديم الذي حاولت حركة التنظيمات مبتدأ القرن التاسع عشر التخلص منه. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار أن هذه التنظيمات في القرن التاسع عشر قد حدّت من سلطة السلطان، إذ إننا نلحظ العهد المتأخّر للتنظيمات، عهد عبد الحميد الثاني، زمن إقرار القانون الأساسي9، حيث نكشف عدمَ وجودِ ضغطٍ معينٍ من جهة شعبية أو ممثلة للشعب في إقراره، بحيث أن هذا القانون تم إقراره من خلال ما يتعارف عليه بالإرادة السنيّة من السلطان، وليس هو بيان ثوري أو إعلان جمهوري İlân كما يُتصوّر.10
هذه السيادة كانت قد كُسرت بالفعل في عهد عثمان الثاني الذي تمّ اغتياله عام 1622 على يدّ قوات الانكشارية، وإن كان أخوه مراد الرابع قد جاء وعاقب هذه القوّات بتجبّر، تمامًا كما حصل في مقتبل القرن التاسع عشر، عندما جاء محمود الثاني بتجبّر على قتلة سليم الثالث. ولكن بعد قتل السلطان العثماني لأول مرّة على يد القوات الإنكشارية، نجد أن عدّاد الاجتراء على نهب الشرعية وكسر السيادة قد فُتح، فحصلت عملية خنق إبراهيم (1648) وقتل سليم الثالث (1808)، وكذلك المسألة العويصة المشتبه بها لقتل عبد العزيز (1876).
مستمدّات الشرعية
نٌقشت عبارة «السلطان ظل الله في الأرض» على أحد نواصي قصر توبكابي، القصر الذي أسماه السلطان الفاتح بالسراي الجديد Saray-ı Cedid، وهي جملةٌ مأخوذةٌ من أثر في التراث الإسلامي11، ويعبّر نقشها على قصر الإمبراطورية الوليدة عن بروز مُلك حاكم البريّن والبحرين، ملك العرب والعجم والفرنجة franks، الذي يستمدّ شرعيته الجديدة من تنفيذ أوامر الله.
لعل النظر في هكذا استدلالات يُفصح لنا شيئًا من فك عُقدِ اصطلاحاتنا، فالسيادة للإله وشرعه، ولكن السلطان له حكم نافذ بشرعية هذا الإله. كانت المصطلحات عُلوية الترتيب، فالأولوية لمن في الأعلى، ولم تكن دنيوية من أسفل؛ أي لم يكن الشعب هو المحدِّد أو صاحب الوزن في الشرعية، هذا في العهد العثماني الكلاسيكي، منذ الفاتح وحتى قرنين مستمرين بعده، ويبدو أن مثل هذه المفاهيم تسرّبت حتى القرن التاسع عشر، وأعاقت الجو الإصلاحي الذي كان ينشده السلطان أكثر من أي شخص آخر في ذاك القرن!
ومع ولوج عهد التنظيمات12، بدأ السلاطين العثمانيون يغيّرون مكان إقامتهم، إلى قصر دولمه بهجة وسراي ييلدز على سبيل المثال، أي أنها خطوة رمزية قد تعني النقص في شرعية «ظل الله» عبر الخروج عن باحة قصر توبكابي، بدأت مع ولوج العثمانيين عصر تنويرهم المتأخر، وتواجد مد الوضعانية الذي معه تم «البدء بالنظر إلى الإمبراطورية بنوع من الإزدراء دوليًا، والتقليل من هيبة السلطان المرتبطة بها داخليًا، بحيث يمكن القول إنّها على أقل تقدير حافظت على سمعتها ولم تنتقص حتى منتهى القرن الثامن عشر»13، فما كان من محمود الثاني، «السلطان الراديكالي»، إلا بمواجهة هذه الموجة بالقوة، بحيث نجى من قتلة ابن عمله سليم الثالث، ومرّرَ مشروعه عليهم جبرًا.
كذلك لا يمكن إغفال العادات التركية التي جلبها العثمانيون متأثرين من أسلافهم السلاجقة، ومن بدو التركمان في الأدبيات التركية السابقة لدخولهم الإسلام، في التأسيس لجعل القدر الإلهي سببًا في اختيار السلطان، وإعطاءه الشرعية لذلك. ذُكر في التراث السياسي التركي «يا بخت اولا، يا تخت اولا»، وهي عبارة تشي بنوع من ولوج هذه الثقافة ليس فقط عند إسلام الترك، بل وإبّان اختلاط ثقافتهم بالتراتيب الإدارية الفارسية، وهي تعني: إما يأخذك بختك للمقتل أو تصعد على تخت -عرش- الحكم.
مثل ذلك نجده في تشريع الفاتح لقتل الإخوة بقوله «وأولادلرمدن هر كيمه سلطنت ميّسر اولا، قارنداشلرى -نظام عالم ايجون- قتل اتمك مناسب در، بو أتام وددم قانونى در، وبنم داخى قانونمدر، بونى أكثر العلماء تجويز اتمشدر، انكْله عامل اولا لر»14، أي «وإن تيسرت السلطنة لأحد من أبنائي، فإنه ومن أجل المصلحة العامة يصح له قتل إخوته، إن هذا قانون آبائي وأجدادي، وهو كذلك قانوني، ولقد أجاز [أكثر؟] العلماء ذلك، فليُعمل بموجبه حالًا». وهكذا فإن التيسير وترك الأمور للقدر والظروف هو ما يُفهم من هذا القانون، والحظّ السماوي kut لدى الشامان هو ذاته القدر الإلهي لدى مُسلميّ الترك15.
وضع السلطان الفاتح القانون، ولكن غير المتدارك لدى بعض الكُتّاب في هذا المجال هو أن هذا القانون ليس مفروضًا على من يأت من بعده، فكان يمكن مثلًا للسلطان بايزيد الثاني أن يغيّره، إلا أن قوة شخصية حفيد الفاتح، سليم الأول، خليفة العالم المستقبلي، جعلته يستعمله بشكل أساسي في مواجهة تهديد انقسام أبناء بايزيد، أي أنه استعمله كنوع من الغطاء القانوني kılıf. غير أن حالة الحرابة بين سليم وإخوته ليست مطابقة لحالة القانون المسنون، فمن الذي يستطيع الوقوف أمام كلمة فاتح القسطنطينية ومحقق حديث النبي محمد! ثم تلاه سلطان لا يقل قوّة عمّن سبقه، القانوني سليمان، الذي كان بيده التغيير، وهو لم يطبق قانون الفاتح في قتل مصطفى ولا ابنه بايزيد، ولكنه كان مواتيًا لحالة أحفاده، أبناء بايزيد، وطبعًا كانت إشارة شيخ الإسلام أبو السعود، صاحب تفسير القرآن المشهور عربيًا أكثر مما هو مشهور عند الأتراك، كافية لطمأنة القانوني بخصوص هذه العملية، لحماية الدولة والتضحية بالدماء الشريفة للسلالة.
ما أريد الإشارة إليه هنا هو أن أي سلطان قادم كان بإمكانه تغيير هذا القانون، فعندما نقول إنّ أحمد الأول (1617)، الذي واجه في عصره العديد من التحديات، منها ثورات الجلالية، وكذلك تغيرًا خطيرًا في سيادة الدولة المعنوية، إذ كان في عصره أوّل اعترافٍ عثمانيٍّ بمساواة السلطان العثماني بأباطرة أوروبا، وزوال استعلائه عليهم16، هو من «رفع» قانون القتل في وراثة العرش، وعلى ضعف الظروف في عهده، فإنه بالتأكيد كان بإمكان من هم أقوى منه أن يغيّروا هذا القانون، أي إننا أمام نوع من إرادة السلطان مرة أخرى، التي هي نافذةٌ وبشكل قوي. ولو كان السلطان أحمد الأول، الشاب الذي لم يتعدّ العشرين من عمره، قد فرض سطوته على العلماء المُقرين لأفعاله، وعلى العسكر الذين سيهددون ابنه عثمان الثاني من بعده، فهنا يمكن القول إن القانون هو قوة السلطان بالدرجة الأولى.
يجب التأكيد على أن السلطان أحمد الأول رفع القانون، ولم يقم بإلغائه، فكان كل سلطان قادم من الممكن أن يطبق القتل أو يرفعه. طلب عثمان الثاني تطبيق القانون لقتل أخيه الصغير محمد أثناء ذهابه لغزو بولونيا، من شيخ الإسلام أسعد أفندي، إلا أنّه لم يعطه الإذن، فما كان من عثمان إلا الذهاب لقاضي العسكر في منطقة إيالة الروم17 (رتبة دينية أقل من شيخ الإسلام) كمال الدين أفندي، وأخذ الفتوى منه.
اعتمد محمد الفاتح على وجود مذاهب، أو أقوال في مذاهب سابقة، في إقرار قانونه، ثم كانت الفتاوى التي يستجدُ الحصول عليها من شيخ الإسلام أو من غيره حين اللزوم، لتثبيت الحالة وتطبيق هذا «القانون»، أو لنقل مقولة السلطان المعرّضة للتغيير مع مجيء كل سلطان جديد. وكما يتضح، فإن الإرادة في النهاية بيد السلطان، ولكنها محتاجة لفتوى دينية، ويمكن الحصول على هذه الفتوى في حال الطلب، بحيث لم يتم الحديث عن «قانون» بمعنى القانون إلا عند تطبيق القانون الأساسي في عام 1876، وغير ذلك لم يكن هنالك ما يعني كلمة قانون أكثر من كونه عرف وعادة töre، وهنا يتّضح معنى من معاني الدولة السلطانية، المتمثلة بإرادةٍ ذاتِ شرعيةٍ متغلبةٍ، وسيادة مفتتة بين مؤسسات [أحزاب؟] الدولة، والتي أراد السلطان سليم الثالث (1807) تغيير معالمها وتنظيمها، أي الحديث عن موجة القوننة الحقيقية Kanunlaştırma التي أراد البدء بإنفاذها، وجاء ابن عمّه محمود الثاني ليقيمها بعده.
أقنعة شرعية لسيادة واقعة
كذلك يمكن الحديث عن الأمانات المقدسة وآثار الرسول التي تعطي العديد من الإشارات والشرعية للحاكم، ومظاهر دينية أخرى كترميم القانوني لقبة الصخرة المروانيّة، والخوف من معاداة الشريعة في قوانينه التي أراد دفنها في عمامته الشاهانيّة -السلطانية- معه في الكفن.
كان المبدأ الذي سنّه المسلمون (من يُعرفون بمتكلمي أهل السنّة والجماعة) في الأدبيات السلطانية، المعروف بـ«فقه التغلّب»، هو الأساس «الخطير» الذي جيّر الخلافة لصالح غير قريش، ومع فتاوى مختلفة هنا وهناك، شرّعت خلافة سليم الأول، وهي فتاوى أمر واقع أكثر من كونها نابعة من تشريع ذاتي، فهو لم يكن محتاجاً لها ولا منتظراً نزولها من السماء حقيقة.
مع عدم نسيان أن مفهوم الخلافة من أصله يعني خلافة الإنسان للكون وفق القرآن، ومع اختلاف المختلفين حول نوع هذه الخلافة، إلا أن الإنسان في النهاية هو كائن سياسيّ، ولا بد له من فهم المصطلح الديني تحت مضمون السيطرة على الكون، ولا خلاف في هذا بين الإنسان القرشيّ والعجمي. فحين تكشَّفَ الفراغ في سلطان الخلافة العبّاسية، وكانت الظروف مواتية، عندها جاء «بادشاه» [سلطان] الخلافة العثمانية؛ جاء في مناح مواتٍ جدًا، مع جمع من الظروف أهمّها كون هذا الباشاه سنّيَ العقيدة، والظروف الأخرى القابلة لطرح فتوى نقل الخلافة، وثالثها الفراغ الإمبراطوري الكوني لأهل السنة، لكون سيادة الخليفة العباسي قد تعرّضت لنوع من الصدأ بحيث ابتلع المغول قلب الفريسة، ولم تستطع جهود قطّز «العظيمة» استكمال نصره في عين جالوت لتأسيس خلافة سنيّة كونية. ولم ينته هذا التآكل في السيادة بنقل مقامه إلى مصر ومحاولة اقتيات المماليك على العظام المتبقية من سيادة العباسيين في سبيل نيل الشرعية عبر وجود الخليفة في مصر. هنا، ومع هذه الدماء، كان المسلمون قد قبلوا «مبدئيًا» بالحجامة العثمانية لدمائهم18.
وكون السلطة لشيخ الإسلام في خلع السلطان، جعلت من الشرعية، شرعيةً دينية، قد لا تكون كَنَسية، ولا يشترط بنا تشبيهها لا بما حصل في أوروبا، ولا بما حصل في الصين حتّى، ولكنها تحت شروط دينية في النهاية، سلطة شيخ الإسلام، وهيمنة السلطان على الحكم، واعتبار جيوش الانكشارية ووزراء الدولة أبناءَ السلطان وعبيده المطيعين، عبيد من نوع آخر، جيش يستعبد نفسه للسلطان ولكنه يسمح بقتله، كما حصل مع أكثر من سلطان؛ عبيدٌ كان بإمكان أحدهم أن ينال منصب رئيس الوزراء “الصدارة العظمى”، وأن يتحكّم بمناطق حساسة في الدولة مثلًا: (محمد باشا الصقلّي، إبراهيم باشا المقبول، كيديك أحمد باشا، ووزراء «الدولة داخل الدولة» من عائلة كوبرولي). كل هذه المعادلات المعقّدة هي التي كانت محلّ النزاع في مقتبل عملية التغريب، التي أراد منها العثمانيين ولوج ساحة العالم مرّة أخرى.
الشرعية المتغلبة بيد الأقوى في سبيل أي سيادة؟
من خلال النظر في حادثة خلع ثمّ قتل السلطان سليم الثالث الدرامية، والتي تكاتفت فيها ثلاثة شخصيات، شيخ الإسلام عطاء الله أفندي، والقائم بمقام الصدارة العظمى موسى باشا، و«العاصي» القائد في سلاح حفظ أمن المضيق مصطفى قاباقجي، وطبعًا من وراءهم الصدر الأعظم إسماعيل باشا، الذي أخفى معارضته للسلطان محرِّضًا الأعيان عليه، قائلًا لهم: «احذروا فإنّ السلطان يبيت لكم النيّة، وهو سيجزّ رؤوسكم بالسيف».
يضاف إلى ذلك انتشار دعايات في صفوف الجيش من قبيل: «نحن الإنكشارية، العبيد أبًا عن جد، لا نلبس لباس النظامات الجديدة»، وكذلك بين الوزراء: «أمان يا صاحب الشريعة أمان من هذا النظام الجديد»، وبين أئمة الجوامع مثل: «إن إلباس العسكر لملابس النظام الجديد يأتي على إيمانهم بالخلل». كل هذه المظاهر تنبيء عن خلل عام أكبر، وإن لم تكن سلطة الشعب قادرة على فعل شيء، لكون الوعي الديموقراطي لا يمكن أن يحسب له حساب إذ كان معدوماً، فإننا ما زلنا نتحدث عن أهم دواعي فشل السلطان سليم في إصلاحاته، وهي عدم وجود رجال الدولة الموافقين على خطواته، وكذلك لكونها الخطوة الأولى «شبه الناجحة» من نوعها في الدولة، والتي لا بد أن تلاقي هكذا معارضة لأسباب متعلقة بمصالح الحاشية، وكذلك الأسباب الدينية غير المنفكّة عن الأسباب الاجتماعية.
فوق كل هذه الأسباب، لا بدّ من التأكيد على إرادة السلطان النافذة، وضعف شخصية السلطان سليم الثالث بالمقارنة مع خلفه محمود الثاني، وهو ما يقودنا إلى استنتاج أن نظام الدولة السلطانية القروسطية كان ما يزال يشتغل في بنية الدولة، وأن كل شيء بيد السلطان، حتى أنم وجود سلطان قوي مثل محمود الثاني كان يعني مرور هذه الإصلاحات من فوق الجميع سواء كانوا عسكرًا أم شيوخًا، في حين أن غيابه سيؤدي إلى ما حصل مع سليم الثالث. وبالنظر إلى حالة عبد الحميد الثاني، فإنه أقرب إلى سليم في الشخصية، مع احتفاظه بسلطاته القوية، ووجود تطور في جهاز البيروقراطية بالتوازي مع قوّته، ما رجّح كفّتهم ومكّنهم من خلعه في نهاية المطاف، طبعًا بالاستفادة من «العرف» الذي يفيد بضرورة وجود فتوى من شيخ الإسلام، باعتبار أن الجانب الديني لم يتغير في الدولة العثمانية، أي أنها دولة خلافة، للمؤسسة الدينية عرف قديم فيها لم يتغيّر مع الزمان.
هذه المؤسسة، التي وإن كان لها تأثير روحي قوي على امتداد الدولة، إلا أنّها تفتقد لجهاز خاص بها، مما يعرّضها للاستغلال من قبل قوة السلطان أو قوى أخرى عسكرية أو مدنية، فلا يمكن إغفال وجود قوة السلطان بالتأثير عليها. ومع هذا التأثير السلطاني، الذي يمكن أن يزداد وينقص متأثرًا بتلك القوى، نجد أن ضعف السلطان يمكن أن يؤدي إلى استقطاب هذه القوّة الروحية لصالح قوى أخرى، هي البيروقراطية الحديثة ذات الخلفية العسكرية في عهد عبد الحميد الثاني، وهي مجموعة القوى العسكرية الكلاسيكية في عهد سليم الثالث.
نحو تقييم عام لعلاقة الشرعية بالسيادة عند العثمانيين
تُستمد الشرعية من ثقافة «العامّة» الشعبية بشكل أكبر من كونها مستمدة من مصدر قانوني، لذلك فقد يُعتبر الشرع الديني هو مصدر الشرعية، وقد يكون الوضع الدنيوي كذلك. قد يكون الحاكم المستبد في ثقافة شعب ما هو الشرعي، وغيره هو اللاشرعي. والحديث عن الدولة السلطانية، هو أمر متعلق بهذه القضية، فهنالك خليفة، خليفة لسائر المسلمين، وإن تعددت الخلافات، وهناك «أهل حل وعقد»، وإن لم يكونوا ممثِّلين ديمقراطيًا، وهنالك شورى، ولو كانت مُعلِمة، لا ملزمة، ولا قيمة لها عند هذا الخليفة. وهنا يمكن القول بأنّه لا تخفى مظاهر الاستبداد عند هذا الخليفة، ومع ذلك، يكون شرعيًا عند الشعب، لكونه يمثّل الشرع، دونما حاجتهم لتمثيل ديمقراطيّ، قد لا يكون متحققاً في وعي الشعب من أصله، لذلك قد ترتبط الشرعية بشكل كبير بثقافة الشعب ومدى وعيه، بينما نجد إن هذه المعادلة غير مقبولة في الثقافة العامة ما بعد الثورة الفرنسية.
يمكن القول إن الدين كمصدر عُلوي، أكثر من كونه بنية اجتماعية أو مؤسسة دينية، هو الذي كان يرفد إرادة السلطان بالشرعية، وكان ينالها فقط عند ظهور قوته الذاتية، هذا ما يتوجّب على السلطان فعله أمام أهم مؤسسة على مدار الدولة العثمانية، المؤسسة العسكرية، التي هي الأخرى كانت تستمد قوّتها من حماية الدين، ولكنها أيضًا كانت تعتمد على شرعية عرفية رسّختها أجيال عن أجيال، والتي هي مؤسسة العبيد kölelik sistemi. وهنا نجد أثر هذه الشرعية المتغلبة على بعضها في سيادة الدولة، فكلما نجد توازناً بين هذه القوى يتحقق الثبات في السيادة للدولة أمام الدول الأخرى، وكذلك في التخلص من عمليات عصيان تهدد مركزية الدولة لصالح سيادات قبلية أصغر.
العلاقة بين الشرعية والسيادة في الفقرة السابقة كان لها كذلك جانب قانوني، هو قانون عرفي أكثر من كونه قانوناً نظامياً، وبالطبع فإن الدين حاكم عليه. هنا نفهم، مرة أخرى، أن الفتاوى الدينية كانت تطلب من أصحاب القوى طلبًا، ولم تكن تفرض نفسها فرضاً. كان شيخ الإسلام يستطيع بفتواه خلع السلطان، وتذييل «قانون الفاتح» بفتوى لتطبيقه، ولكن إذا، وفقط إذا، كانت الإرادة السلطانية تطلب هذا. وبالمثل، مع ضعف السلطان، تأتي قوى العسكر، لدواعي مختلفة، تطلب خلع، ومرات قتل، السلطان، وهنا تتكون سيادة مؤسسية ضمن سيادة الدولة الكلية، بحيث يضطر السلطان للتفرغ لأحوال الداخل على حساب الخارج. وهكذا نفهم كيف أن السلطان قد تنزل مرتبته من حاكم للشرق والغرب إلى قاضٍ بين فرق متنازعة، وهو الحاصل لرتبته التي انخفضت عن سابقها في القرن السابع عشر.
قد لا تكون الشرعية الدينية هنا صلبة مادية متمثلة في مؤسسة ذات تسلط، بقدر ما هي عُلوية سائلة يمكن أن تتشكل وفق قالب القوى المتواجد في الدولة، ولا يعني هذا سهولة الحديث عن صلاح الشرعية المستمدة من الشعب، فكما يمكن استغلال الدين لصالح قوى عادلة أو ظالمة، فيمكن بالمقدار ذاته الحديث عن استغلال شرعية الشعب لصالح قوى مختلفة، وما يحكم في النهاية على وجود شرعية حقيقية هو محاكمة مستمرة حيّة للنظام القائم، وعدم تركه لتوازنات تؤدي إلى هلاك المجتمع.
سأقدم نصّين أخيرين، يمكن استنباط ملاحظات متعددة منهما، متعلقة بهذا الموضوع، وبشأن الدعايات التي هجمت بها الإنكشارية على السلطان سليم الثالث:
«انظروا لهذا السلطان! لقد اتفق مع الروس والإنكليز من أجل إزاحة الجيش الإنكشاري، لقد رست سفن الإنكليز في مضيقنا، وكل ذلك بسبب معاونة السلطان لهم، وبالطبع لن يلبث الروس إلا قليلًا من أجل أن نراهم في عاصمتنا، إستنبول، وحتى ذلك الوقت سترون كيف سيتم تحطيم عساكر الإنكشارية واستبدالهم بـ النظام الجديد»19. ثم قالوا في دعايتهم الموجّهة ضد السلطان: «شاه واقف كرك در أحوله.. وكلاء يه قاليرسه واي حاله!!»20، أي «كفى! يجب أن ينتبه السلطان لأمور الدولة، إنّه غير مكترث، ولو تركها للوزراء يا ترى لأي مصير سيرمي الدولة له!».
هذا النص الدعائي الذي يوجهه الإنكشارية، بالدرجة الأولى، يوضّح بالفعل تدخل العسكر في شوؤن الدولة السياسية، ومعاهداتها، أي تقديم أمور الدولة وفق سيادتهم الخاصة وشرعيتهم الضيّقة، دون النظر إلى الحاصل مثلًا في مصر، وحسابات السلطان لما يقوم به نابليون مثلًا، أي تهديد سيادة الدولة الأكبر، والتي هي من وظيفة السلطان. هنا نرى استلاب شرعية السلطان وتفتت سيادته، وعدم وقوفه بالقوة لمثل هذه الأمور، يعني أن الشرعية الدينية التي هي بالدرجة الأساسية من مسؤولية الخليفة، خليفة المسلمين، قد تقلصت لصالح قوى الجيش، أي أنّها أصبحت متغلبة لصالحهم، ورمزيةُ رسو السفن الروسية والإنكليزية المستخدمة في هذا النص تدل على أنّ هذا السلطان يتعامل مع «الكفار» بحيث أنّه تعدّى على الشرعية «المتخيلة» للانكشارية، وفي ذيل تلك الدعاية يعتبرون أن السلطان ما عاد صاحب كفاءة، ووجب اليوم أفوله وخلعه.
كما ويلخّص السلطان سليم الثالث في أبيات شعرية له وضع الدولة العام آنذاك:
باع عالم اجره ظاهر ده صفا در سلطنت *** دقت ايتسه كْ معنوي قوغا يه جار در سلطنت
بو زمانكْ دولت ايله كيمسه مغرور اولماسين *** كام اليرسه عدل ايله اول دم بجا در سلطنت
كسب ايدر مى وصلتكْ بيكْ ييل ده بر عاشق آنكْ *** ميل ايدر كيم كورسه اما بيوفا در سلطنت
قيل تفكر اي گوكْل چرخكْ هله دورانكْى *** كه صفا ايسه ولو اكثر جفا در سلطنت
بو جهانكْ دولتنه ايلمه حرص وطمع *** بك ساكن إلهامي زيرا بيبقا در سلطنت
وترجمة هذه الأبيات:
تبدو هذه السلطنة ذات جلال وبهاء للناظر من جنة الكون *** دقق النظر! ففي باطنها تنادي الخراب والدمار!
لا ينبغي لأي من رجال دولة الدهر هذه أن يبدي الغرور *** فهي تقوى بالعدل الرفيع وحسن الإدارة.
هل كسب العاشق الوصال لعمره مرة في ألف سنة؟ *** قد يميل القلب! ولكن من يدققّ يجد أنها سلطنة لا وفاء لها!
تأمل لبرهة ماذا فعل دوران أفلاك القلب بها *** فإن الجفاء يملؤ صفاء هذه السلطنة!
فلا تجعل الحرص والطمع عنوانًا لدولة العالم *** وانتبه يا إلهامي 21[سليم الثالث] فإنها سلطنة زائلة!
محمد عثمانلي: طالب دكتوراه تاريخ حديث «عثماني» في جامعة باموق قلعه في تركيا، ومترجمٌ في التاريخ التركي والدراسات العثمانية.
1. ينظر ثلاثية المسلمون والحداثة لخالد زيادة، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ولمثل هذا الطرح بتكون وعي إصلاحي معيّن عند العثمانيين بعد تاريخ 1699، يُنظر: Yılmaz Özakpınar, Kültür Değişmeleri ve Batılaşma Meselesi, ötüken yayınevi, 5. Basım, 2015, s. 185.
2. الفقيه والسلطان والذاكرة والتاريخ.>
3. تقييم حسن الترابي في الحديث عن كون «السياسة الشرعية» في التراث الإسلامي «أدبيات سلطانية» أكثر من كونها «أحكاماً فقهية سلطانية»، ويمكن التوسّع به في كلٍّ من: السياسة والحكم وفي الفقه السياسي.
نحو مركزية الدولة
4. أنوّه إلى أنّه لا يمكن قراءة المصطلحات العثمانية التي استعملها العثمانيون عن العربية على أنّها تأتي بالمعنى المعجمي العربي نفسه، فهنا «التقليدجي» يعني مقلد الغرب وليس التقليدي، بينما استخدم العثمانيون كلمة «محافظة كار» بمعنى التقليديون أو الساعون إلى ما يسميه مؤرخون أتراك التوجّه الإرتجاعي İrtica أي «الرجعي المتخلف».
5. وفق ما يؤكّد عليه Osmanlı Müesseseleri Tarihi, Mehmet Ali Ünal.
6. كان الترتيب الإداري للديوان (مطبخ الحكم) في العهد العثماني ما قبل ولوجه القرن التاسع عشر، رجوعًا إلى عهد الدولة الكلاسيكي yeni çağ tarihi، يتكون من السلطان ثم الوزير الأعظم (الصدر الأعظم)، ثم الوزراء وعددهم يصل إلى خمسة، ثم قضاة العسكر وعددهما اثنان، ثم الدفتردار (مسؤول المالية)، ثم النيشانجي، القائممقام المسؤول عن أوراق الدولة الرسمية ومكتوباتها والتوقيع عليها. حتى جاء سليم الثالث في مقتبل القرن التاسع عشر، وابتدع الوزراء والوزارات المختلفة حذوًا بالسنة الفرنسية، مغيرًا تراتيب الدولة ومبتدأً العصر الحديث yakın çağ tarihi.
7. هذا ما يشير إليه فاضل بيات في الدولة العثمانية في المجال العربي، وكذلك في مجموعة الفرمانات المترجمة في هذه الفترة تحت عنوان الأحكام السلطانية للمؤلف ذاته.
8. يمكن قراءة مثل هذه الأحداث والتصرفات المتكررة في مجموعة مخطوطات لمؤلفين مجهولين، عائدة لعهد سليمان القانوني تحت عنوان Tevarih-i Al-ı Osman.
9. يمكن مراجعة مواد القانون الأساسي، وكذلك الهامش التالي.
10. يمكن الرجوع إلى ترجمة خطاب السلطان عبد الحميد لمحمد عثمانلي، والنظر في لغته التي هي نوع من الخطاب النازل من عطف ومودة أبويّة من السلطان لشعبه، وليس بإرادة صاعدة من أدنى، ولهذا إشارات متعددة منها عدم وجود وعي عام= =بالمشروطية، والتي هي ليست ديموقراطية كما تُشبّه، بحيث لا تعدو كونها مونارشية مشروطة، وفق لغة النائني، العالم الشيعي الإصلاحي. رابط الخطاب مترجمًا في يوتيوب.
11. انظر\ي: قلائد العقيان للمفتي الحنبلي، واستخدامه هذا الأثر -مع الشكّ الحائم حوله- لنيل الشرعية، وثمة خلاف على صحة هذا الحديث، فيمكن أن يكون ضعيفًا وحسنًا من طرق مختلفة، ولكن الأهم هو ابداع وابتداع الحكّام في استثماره السياسي لنيل الشرعية في تطبيق أيّ سلوك سياسيّ مُراد.
12. لا يمكن الاكتفاء بإطلاق لفظ التنظيمات على أفعال السلطان عبد المجيد الأول، لذلك فإن القرن التاسع عشر وفق الأدبيات الأكاديمية التركية هو قرن التنظيمات بالكامل، وفيه التنظيمات المبكرة (عهد سليم الثالث مثلًا) وتلك المتأخرة (عهد عبد الحميد الثاني).
13. من مقابلة الكاتب مع رئيس قسم التاريخ في جامعة باموق قلعة في ولاية دنيزلي التركية، المتخصص في تاريخ الثقافة والمجتمع التركي والمؤسسات العثمانية؛ البروفيسور محمد علي أونال.
الشرعية القانونية والعرفية
14. هنالك أكثر من صيغة لهذا القانون «المقولة»، وهذه واحدة منها.
15. للمزيد من المعلومات عن قتل الإخوة وتشريع الفاتح وشرحه من أحد متخصصي بتاريخ القانون عند العثمانيين، يمكن النظر في هذه الترجمة لكاتب هذا المقال نفسه.
16. يمكن الكشف عن أحوال عهده في البيان الجيّد لـ Feridun Emecen في Osmanlı Sultanları II.
17. يلحظ في هذا المقال تعريبي للمصطلحات، فمثلًا لم أقل «روم إيلي» وقلت إيالة الروم، وهذا لغايات سهولة القراءة، ولكنني في المواد الضخمة أتجنب التعريب وأدوّن الكلمة بالعربية كما ترد في التركية والإنكليزية وغيرها من اللغات.
18. من أجل التوسّع في طبائع استقبال أهل الشام ومصر للفتح العثماني بشكل أعمق، من الممكن مراجعة النقد الذي قدّمه خالد زيادة في الكاتب والسلطان.
19. يمكن مراجعة المصادر الأساسية كالسجلات الإخبارية المتنوعة ومدونيّ الدولة في ذلك الزمان، لتجد العديد من هذه الدعايات مثل تاريخ جودت وتاريخ نوري باللغة العثمانية.
20. الترجمة الحرفية: «يجب أن يقف السلطان على رأس عمله، ولو يتركها للوزراء يا للخراب حينها».
21. اعتمد الشعراء من السلاطين العثمانيين مجموعة من الألقاب عند كتابة أشعارهم سمّيت بـ «المخلص» Mahlas، والسلطان سليم الثالث هنا كان لقبه إلهامي، والسلطان محمد الفاتح لقبه عوني وهكذا.
—————————-
==========================