في “معنى” أن تعيش في مخيمٍ/ د: حسام الدين درويش
الوصول إلى المخيم لا يعني نهاية المعاناة، بل بدايةً جديدةً لمعاناةٍ مختلفةٍ ومديدةٍ. تبدأ تلك المعاناة، مع السعي إلى الحصول على خيمةٍ. وصعوبة هذا الأمر تجعل الخيمة حلمًا كابوسيًّا، أو تجعل الكابوس حلمًا والحلم كابوسًا. فمن نزح من بيته وأرضه وقريته، يجد أن الحياة في خيمةٍ كابوسٌ حقيقيٌّ؛ لكن لسوء البدائل الأخرى، أو عدم توفرها، وبسبب الحاجة إلى مكانٍ يأوي إليه الإنسان/ النازح، ويحتمي فيه، مع أهله وأطفاله، تصبح الخيمة حلمًا.
خلال السنوات الأخيرة، اضطر ملايين من السوريين إلى ترك بيوتهم وأراضيهم، والنزوح إلى مناطق أخرى داخل سوريا أو خارجها (أكثر من سبعة ملايين شخصٍ نزحوا إلى خارج سوريا، وعددٌ مماثلٌ تقريبًا داخلها).([1]) ولقصة النزوح تفاصيلٌ كثيرةٌ، لا يكتمل فهم معنى النزوح إلا بمعرفتها. ففي مثل هذا النزوح، يترك الناس بيوتهم وأراضيهم وقراهم، للبقاء على قيد الحياة. لكن أي حياةٍ ستكون، بعد مثل هذا الفراق؟ يترك الناس بيوتهم، وهم يعلمون أنها ستستباح قريبًا، وسينهبها المحتلون، ويعيثون فيها سرقةً وفسادًا، وسيكون مستحيلًا عليهم العودة إليها، في القريب العاجل، وربما في المستقبل المنظور، أو حتى غير المنظور. وفي مثل هذا النزوح، يكون على بعض النازحين أن “يختاروا” بين مرافقة أطفالهم أو البقاء مؤقتًا مع الأب أو العم أو كبار السن المرضى غير القادرين على الحركة، إلى أن تتوفر وسيلة نقلٍ مناسبةٍ. وفي هذا النزوح، ينبغي للمرء أن يتعايش مع بكاء الأطفال المرعوبين ونظراتهم الحزينة المتسائلة: “إلى أين نحن ذاهبون؟”. في مثل هذا النزوح، يشعر الإنسان بعجزه، لأن المطلوب منه يفوق طاقته وإمكانياته؛ لكنه يشعر بهذا العجز، في الوقت الذي يشعر فيه أنه ليس مسموحًا له بأن يكون عاجزًا؛ لأن لديه واجبات تجاه أطفاله وأهله وأناسٍ كثيرين بحاجةٍ إلى مساعدته.
المخيم بداية المعاناة لا نهايتها
الوصول إلى المخيم لا يعني نهاية المعاناة، بل بدايةً جديدةً لمعاناةٍ مختلفةٍ ومديدةٍ. تبدأ تلك المعاناة، مع السعي إلى الحصول على خيمةٍ. وصعوبة هذا الأمر تجعل الخيمة حلمًا كابوسيًّا، أو تجعل الكابوس حلمًا والحلم كابوسًا. فمن نزح من بيته وأرضه وقريته، يجد أن الحياة في خيمةٍ كابوسٌ حقيقيٌّ؛ لكن لسوء البدائل الأخرى، أو عدم توفرها، وبسبب الحاجة إلى مكانٍ يأوي إليه الإنسان/ النازح، ويحتمي فيه، مع أهله وأطفاله، تصبح الخيمة حلمًا.
في منطقة إعزاز وحدها، هناك عشرات المخيمات، “النظامية” أو “العشوائية”، نذكر منها مخيمات سجُّو، الإيمان، القطري، الرسالة، النور، باب السلامة، الحرمين، شمارخ، العرموطة. وثمة مخيماتٌ أخرى، في مناطق جرابلس والباب وعفرين وإدلب، للنازحين والمهجَّرين من مناطق أخرى وقعت تحت سيطرة النظام الأسدي. ويعيش في تلك المخيمات مئات الآلاف من الأشخاص (أكثر من مليون شخصٍ)([2]). ولفهم “معنى أن يعيش الإنسان في أحد تلك المخيمات”، ومعاناته من هذا “العيش”، ليس كافيًا القول بافتقار الحياة في هذه المخيمات إلى الحد الأدنى من ضرورات الحياة الإنسانية الكريمة، بل لا بد من الخوض في بعض تفصيلات هذا القول. وهذا ما سأحاول أن أفعله، في هذا النص، في خصوص المخيمات المقامة في منطقة إعزاز وريف حلب الشمالي عمومًا، وفي خصوص “مخيم العرموطة”، تحديدًا أو خصوصًا. وسأستند في توصيفي وتقييمي للوضع، في هذه المخيمات، إلى شهادات بعض المقيمين فيها، بالدرجة الأولى([3])، وإلى بعض الدراسات والتقارير والأخبار المنشورة في المواقع الإخبارية الإلكترونية، لدعم هذه الشهادات.
ما هو المخيّم؟
المخيم مقامٌ على أراضٍ ترابيةٍ،([4]) ويعاني الناس من الوجود الكثيف للفئران والقوارض والحيّات والعقارب فيها.([5]) وعند هطول المطر، تصبح كل الأراضي، خارج الخيمة، وداخلها إلى حدٍّ ما، طينيةً، وصعبة الاستخدام، وتنتشر فيها برك المياه.([6]) ولا تحمي الخيمة سكانها (كثيرًا)، لا من برد الشتاء، ولا من حر الصيف. وبسبب قدمها واهترائها، فهي بحاجةٍ إلى عمليات ترقيعٍ يوميةٍ لا تنتهي.([7]) والخيمة هي مكان الجلوس والنوم والطبخ وتناول الطعام والغسيل والاستحمام. وفي كل خيمةٍ، يعيش حوالي سبعة أشخاصٍ. والخيمة هشة البنيان، وغير آمنةٍ، عمومًا، وتتكرر حوادث وقوع الخيمات أو احتراقها، بسبب محاولات الناس الحصول على بعض الدفء داخلها.([8]) ويصعب أو يستحيل وجود وضعٍ اجتماعيٍّ مناسبٍ للعلاقات بين الزوجين أو لتربية الأطفال في المخيمات. فليس ممكنًا ولا مناسبًا الطلب من الأطفال البقاء في خيمةٍ هي “أشبه بقبرٍ”؛ لكن بقاء الأطفال خارج الخيمة، لوقتٍ طويلٍ، يجعلهم بعيدين عن رقابة الأهل، ويجعل تربيتهم وضبطهم أمرًا بالغ الصعوبة. وبسبب اعتياد الأطفال على الحياة في الخيمة والمخيم، فإنهم يجهلون ما تعنيه الحياة خارج المخيم، ويشعرون بالخوف أو الارتياب من الأشياء غير الموجودة في مخيماتهم. وقد روى لي أحد ساكني تلك المخيمات كيف شعرت ابنته الصغيرة بالخوف، عندما أخذها إلى “اعزاز”، حيث شاهدت الشوارع والأبنية، وشعرت بالرعب، عندما مشت على “أرضٍ مبلَّطةٍ”، لأول مرةٍ في حياتها، حيث اعتقدت أن “الأرض المبلَّطة” أرضٌ خطرةٌ، ويمكن أن تكون “مكهربةً”.
في المخيمات، ثمة معاناةٌ كبيرةٌ من مسألة توفير المياه، ومن نوعيتها.([9]) فليس سهلًا الحصول على مياهٍ نظيفةٍ للشرب وللاحتياجات المنزلية؛ كما أن المياه غير صحيةٍ عمومًا، بسبب نوعيتها الكلسية غير المعقّمة، وبسبب احتوائها على رملٍ وشوائب. وليس نادرًا تعرض سكان المخيم لأمراضٍ، بسبب نوعية المياه. ولا يمتلك معظم سكان المخيمات الفقراء القدرة على شراء المدافئ ووقودها،([10]) والمراوح، لهذا يضطرون إلى البحث عن أكياس النايلون وقطع البلاستيك والخشب، لحرقها، للحصول على بعض الدفء، في الشتاء القارس، كما يحاولون الحصول على “مشمَّعةٍ”، أو ما شابه، لتقيهم حرارة الشمس، في الصيف اللاهب.
تفاوت طبقي!
ثمة تفاوتٌ طبقيٌّ، (حتى) في المخيمات، ولهذا التفاوت تأثيرٌ كبيرٌ في حياة الناس. فلدى القلة من النازحين “الميسورين أو الأغنياء” وسيلة نقلٍ وتنقلٍ، غالبًا، ويستخدمونها في تدبير كثيرٍ من شؤونهم؛ ولديهم القدرة على شراء مياهٍ نظيفةٍ، وعلى شراء مدفأةٍ، ووقود للمدفأة، ومروحةٍ، على شراء الأدوية التي يحتاجون إليها، والتي لا تتوفر، غالبًا على الأقل، في المراكز الطبية الموجودة؛ ولديهم أيضًا القدرة على الاستغناء عن الوجبات المجانية التي تُوزَع في بعض المخيمات، وعلى بيع المواد الغذائية الرديئة الجودة التي تُوزَّع عليهم أحيانًا، وعلى شراء موادٍ غذائيةٍ أفضل أو أكثر جودةً. ليس لدى غالبية سكان المخيمات القدرة على هذه “الرفاهيات”. ومحظوظٌ النازح الذي يستطيع أن يشتري لأولاده بعض الثياب الجديدة في الأعياد. ومعظم المقيمين في المخيمات لم يشتروا لأنفسهم أي ثيابٍ، منذ أكثر من ثماني سنواتٍ، وهم يكتفون بأن يكسوا أنفسهم وأطفالهم بالثياب “البالة” العتيقة التي توزعها أحيانًا بعض منظمات الإغاثة على سكان المخيمات. وتشبه الوجبة الغذائية اليومية التي تُوزع في بعض المخيمات النظامية “أكل الجيش”، مع اختلافٍ وحيدٍ، هو أنها خاليةٌ من اللحم، غالبًا.
الوضع الصحي
ولا يختلف الوضع، في المستوصفات والمراكز الطبية، عن وضع “الطبابة في الجيش”، فثمة “حبَّاتٌ بيضاء” يصفها الأطباء لمعظم المراجعين، على اختلاف أمراضهم. وحين يصف الطبيب للمريض دواءً آخر، فنادرًا ما يكون هذا الدواء موجودًا في المستوصف، وعلى المرضى شراؤه من الصيدليات الخاصة، وقلةٌ قليلةٌ منهم تستطيع فعل ذلك، وتفعله. ومن أبرز الأمراض المنتشرة بكثافةٍ في المخيمات، بسبب بيئة المخيم وضعف أو غياب الرعاية الصحية والنظافة ومتطلباتها، تأتي أمراض الجرب والقمل واللشمانيا.([11]) ووصف أحد النازحين وضع الطبابة والمستوصفات بأنه “شل بل”، وبأن هذا الوضع يمثِّل أسوأ الجوانب التي يعانون منها،([12]) لكن تفاصيل أوضاع الجوانب الأخرى تبيِّن أنها تنافس الجانب الطبي/ الصحي، في سوئه، بل ربما تزيده سوءًا.
ماذا عن التعليم في المخيمات؟
فثمة معاناةٌ هائلةٌ في المجال التربوي/ التعليمي. ولإظهار فشل أو سوء العملية التربوية/ التعليمية في المخيمات، سأكتفي بالإشارة إلى أمرين فقط. من جهةٍ أولى، كل الطلاب ينجحون دائمًا تقريبًا، ولا يوجد طلاب راسبون، مطلقًا، أو إلا فيما ندر. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، ليس نادرًا أن ينجح التلاميذ، في الصف السادس، وأن ينهوا المرحلة الابتدائية، بدون أن يكونوا قادرين على القراءة والكتابة. وقد يكون ضروريًّا التشديد على أنه لا يجب أن نقول إن كل العاملين، في هذا المجال، غير مكترثين بالطلاب وبتعليمهم، وإنهم مهتمون فقط بقبض راتبهم، وإرضاء رؤسائهم ودافعي أجورهم؛ فمن بينهم، قد يوجد، على الأرجح، من يهمه مصلحة الطلاب ومستقبلهم. لكن “ألا يكفي المجال التعليمي قبحًا أن تعد محاسنه؟”. ولسوء التربية/ التعليم نتائج خطيرةٌ على حياة الطلاب ومستقبلهم. ويبدو أن (بعض) المسؤولين عن هذا الموضوع يفتقرون، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل، إلى الإحساس بالمسؤولية في هذا الخصوص. لكن إذا جاز استخدام مصطلح “مرتزِق” خارج نطاق الجيش، والعمل العسكري، ألا يبدو أن بعض هؤلاء العاملين، هم أشبه ﺑ “المرتزقة”، لأن اهتمامهم الأكبر أو الوحيد، إنما يتمثل في المال وفي ضمان الحصول عليه، بدون اكتراثٍ كبيرٍ بالناس/ المرضى؟
وباختصارٍ، معظم ساكني المخيمات هم من “الفقراء المعدمين”، غير القادرين على تأمين مسكنٍ وغذاءٍ (جيدٍ) لهم ولأطفالهم، فهم يأكلون كل ما يستطيعون الحصول عليه، بغض النظر عن جودته؛ وهم عاجزون عن الحصول على مياهٍ صحيةٍ نظيفةٍ، وعاجزون عن شراء الملابس التي يحتاجونها، وعاجزون عن الحصول على التدفئة (المناسبة)، في الشتاء، وعلى ما يخفف عنهم حرارة الشمس، في الصيف، وعاجزون عن الحصول على العناية الطبية المناسبة، وعاجزون عن شراء الأدوية التي يحتاجون إليها، في حالة المرض، وعاجزون عن توفير التربية المناسبة لأولادهم، في خيم المخيمات، أو في المدارس.
لا عمل لأهل المخيمات.. “رزق الطير”
الأسوأ من ذلك كله، أو أحد أهم الأسباب المنتجة لكل حالات العجز السابقة، هو عدم وجود فرص عملٍ لمعظم هؤلاء النازحين من سكان المخيمات. فلا أراضٍ زراعيةً ليزرعوها ولا مصانع أو ورشًا ليعملوا بها، ولا رأس مالٍ ليتاجروا به، ولا مستقبلًا واضحًا ليخططوا له، وعلى أساسه. محكومٌ على النازحين البقاء في تلك المنطقة، وغير مسموحٍ لهم العبور إلى تركيا، وغير متاحٍ لهم العودة إلى قراهم التي لا تبعد، أحيانًا أو غالبًا، إلا كيلومتراتٍ قليلةٍ عن خيمهم ومخيماتهم. نسبة الأشخاص العاملين في هذه المخيمات ضئيلةٌ عمومًا، وهم يعملون إما في مجال التربية والتعليم، أو في مجال الطبابة والمستوصفات، أو في مجال الأوقاف والمساجد، أو مع الشرطة المحلية، أو مع منظمات الإغاثة الموجودة في المنطقة. وفيما عدا ذلك، لا فرص عملٍ للأغلبية الساحقة/ المسحوقة من الناس. هم مجبرون على أن يعيشوا “عيشة الشحادين”؛ لأنه لا يوجد أي جهةٍ تساعدهم على أن يعملوا، بدلًا من أن ينتظروا “رحمة الله” أو “رحمة منظمات الإغاثة” أو تلقي مساعدةٍ ما من جهةٍ ما. شبَّه أحد ساكني المخيمات حياته أو رزقه بأنه “مثل “رزق الطير”، أي أنه خاضعٌ للقدر لا يمكن التنبؤ به، وهو، عمومًا، محدودٌ جدًّا ومرهونٌ بإرادات الآخرين، وبأوضاعٍ كثيرةٍ يصعب التنبؤ بها.
أسّ المشاكل
“الفوضى” هي أسّ المشاكل، في المخيمات وأمها. وتعني الفوضى في هذا السياق، الافتقاد للنظام الواضح والعادل عمومًا. فلا يعرف سكان هذه المخيمات ما الذي سيحصل لهم ولمخيماتهم، في المستقبل البعيد، بل وحتى في المستقبل القريب. فليس واضحًا إن كانوا سيبقون في مخيماتهم (الحالية)، أم سيُنقلون (فجأةً) إلى مخيماتٍ أو أماكن أخرى، كما حصل لسكان عددٍ من المخيمات الأخرى.([13]) وعدم الوضوح هذا يصبغ حياتهم بما هو مؤقتٌ وعرضيٌّ، بشكلٍ دائمٍ وجوهريٍّ. فبسبب عدم وضوح هذا الأمر، لا يستطيع معظم الثائرين/ النازحين التخطيط، على سبيل المثال، لأي مشروعٍ يتعلق بسكنهم، أو حتى التفكير بإقامة الورش، وبعض المشاريع الحرفية، وما شابه. فالنازحون “الميسورون/ الأغنياء” وحدهم من يدعمون خيمهم بجدران من البلوك والإسمنت، ويردمون الأرض المحيطة بخيمهم، ويمكنهم أن يقيموا بناءً ما، قرب الخيمة للعمل أو للسكن … إلخ.([14]) من حيث المبدأ، لا يستطيع النازحون الفقراء تحمل تكاليف القيام بمثل هذه الأمور، ويستحيل عليهم التفكير فيها، والعمل على تنفيذ بعضها، في حال توفرت لديهم الإمكانية لذلك، إذا لم يكونوا واثقين، أو لديهم معرفةٌ ترجِّح أنهم سيبقون في هذه المخيمات، في المستقبل المنظور أو لفترةٍ طويلةٍ نسبيًّا. منذ أربع سنوات، على الأقل، يعيش معظم الثائرين/ النازحين في خيمٍ ومخيماتٍ، تبدو كما ولو أنها مكان سكنٍ مؤقتٍ، لبضعة أيامٍ أو أسابيع، على الأكثر. لا يملك سكان المخيمات “حق تقرير مصيرهم”، ولا حق تقرير مكان سكنهم، ولا يبدو أن هناك من هو مهتمٌّ بتقرير مصير (سكن) هؤلاء النازحين، ناهيك عن الإقرار الفعلي بحقهم في “تقرير (هذا) المصير”.
الفوضى القائمة لا تتمثل في عدم الوضوح فحسب، بل وفي الافتقار أيضًا إلى العدل، بوصفه أس القيم الأخلاقية. ففي المخيمات، عمومًا، لا الشخص المناسب في المكان المناسب، ولا عدلٌ في الثواب ولا العقاب، ولا في توزيع الخيرات المادية والمعنوية، ولا رقيبٌ ولا حسيبٌ، غالبًا، على من يخطئ ويتجاوز، ولا جهةٌ يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها. وثمة الكثير من الجهات التي يمكن أن تشتكي عليها، لكن ليس هناك جهةٌ تشتكي لها، وتعتقد بإمكانية تلافيها للخطأ وإحقاقها للحق.
في هذه الحياة التي “تشبه الغابة”، يترافق غياب الضوابط الخارجية مع ضعف الضبط الداخلي، ويفضي إليه. وتنحدر “الأخلاق السائدة”، لدرجةٍ لا تسمح بظهور “المرتزقة” فحسب، بل وتسمح أيضًا بظهور من يفتخر ﺑ “ارتزاقه”، ويرى في نفسه، ويراه كثيرون غيره، النموذج الذي ينبغي أن يحتذى. لكن يبقى الارتزاق نتيجةً، أكثر من كونه سببًا، وهامشًا، أكثر منه مركزًا.
المراجع:
([1])في دراسةٍ ﻟ “مركز بيو للأبحاث”، عام 2018، كان عدد النازحين السوريين، داخل سوريا وخارجها، أكثر من 13 مليون نازحٍ، أكثر من ستة ملايين منهم نزحوا إلى مناطق أخرى في الداخل السوري. وخلال الأيام القليلة الماضية نزح مئات الآلاف من السوريين نتيجة لهجوم قوات النظام على مناطق في إدلب وحلب. ويوم الخميس 30.01.2020، نقلت وكالة رويترز إفادةً صحفيةً للمبعوث الأمريكي الخاص بشأن سوريا جيمس جيفري، جاء فيها “نحو 700 ألف نازح في شمال غرب سوريا ”يتحركون باتجاه الحدود التركية وهو ما سيثير أزمة دولية“”.
([2])لأسبابٍ كثيرةٍ، يصعب الوصول إلى رقم محددٍ ودقيقٍ لأعداد قاطني المخيمات من النازحين. ويأتي في مقدمة هذه الأسباب، استمرار عمليات النزوح وتصاعدها. ووفقًا لإحصاءات “فريق منسقو استجابة سوريا”، في نهاية العام الماضي، “عدد المخيمات في الشمال السوري بلغ 1153، في وقت بلغ عدد المخيمات العشوائية: 242، وعدد النازحين ضمن المخيمات: 962,392 نسمة، أما عدد النازحين ضمن المخيمات العشوائية: 121,832 نسمة”. انظر: “إحصائية لـ “منسقو استجابة سوريا” ترصد أوضاع المخيمات شمال سوريا”، شبكة شام، 11 ديسمبر/ كانون الأول 2019.
([3])هناك صعوبةٌ كبيرةٌ في الحصول على شهاداتٍ شخصيةٍ موثقةٍ عن واقع حال النازحين، وآرائهم، في هذا الخصوص. وثمة أسبابٌ كثيرةٌ وراء هذه الصعوبة، ووراء تحفظ النازحين أنفسهم، ومحاولة معظمهم، على الأقل، تجنب التواصل مع الإعلام أو التعبير الصريح عن آرائهم، في هذا الخصوص. ويأتي في مقدمة هذه الأسباب خوف النازحين من تعرضهم أو تعرض أحد أقاربهم أو معارفهم لممارساتٍ انتقاميةٍ من عددٍ من الجهات، إذا انتقدوها، وأشاروا إلى (بعض) سلبياتها. والجهات الرئيسية التي يخاف النازحون من إغضابها/ انتقامها هي السطات التركية والمؤسسات السورية التابعة لها، و”قوات البي كي كي/ الأكراد” والنظام السوري. فهناك خوفٌ من أن تؤدي تصريحاتهم، المرفقة بأسمائهم، إلى عواقب سلبية على أحد أقاربهم أو معارفهم المقيمين في المناطق التي تسيطر عليها (إحدى) الجهات المذكورة. وقد ذكر لي أحد المقيمين في تلك المخيمات، أن العاملين مع أو في مؤسسات التعليم والأوقاف والشرطة، في تلك المناطق، قد وقعوا، في العام الماضي، على تعهدٍ بعدم انتقاد المؤسسات المذكورة أو الدولة والجهات التي تشرف عليها وتتحكم بها، تحت طائلة التعرض لعقوباتٍ شديدةٍ، قد تبدأ بالفصل من العمل، ولا تنتهي بالملاحقة والاعتقال. وانطلاقًا مما سبق، لم أذكر أسماء الأشخاص الذين تواصلت معهم، التزامًا مني بالأخلاقيات المعروفة والمعتمدة، في مثل هذه السياقات.
([4])يشير بشير نوفل إلى أن المخيمات العشوائية “مقامة على تربة حمراء غير قابلة لتأسيس أو تشييد أي نوع من المخيمات”. بشير نوفل، “مخيمات النازحين في شمال سوريا بين كوارث مضت وأخرى على الطريق”، سوريا على طول، 08 أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
([5])انظر، على سبيل المثال، “”الجرذان” تهاجم سكان مخيم إعزاز بريف حلب”، أورينت نت، 12 يناير/ كانون الثاني 2019.
([6])انظر، على سبيل المثال، تقريرين/ خبرين في موقع العربي الجديد، عن وضع المخيمات عند هطول الأمطار وتشكُّل السيول. عنوان التقرير الأول “الأمطار والسيول تغرق مخيمات النازحين شمالي سورية”، وهو منشور بتاريخ 20 يناير/ كانون الثاني 2018، وعنوان التقرير الثاني، الذي كتبه عبد الله البشير، “أمطار السيول تُغرق المخيمات العشوائية في إعزاز السورية”، وهو منشور بتاريخ 20 ديسمبر/ كانون الأول 2018.
([7])في “التقرير التفاعلي لمراقبة المخيمات”، أظهرت دراسة “وحدة التنسيق والدعم”، جرت خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول 2019، وغطَّت 266 مخيمًا ضمن 13 تجمعٍ في محافظتي حلب وإدلب، “وجود 8505 خيمةٍ بحاجةٍ لإصلاحٍ ووجود 7967 خيمةٍ بحاجةٍ إلى تبديلٍ مع العلم أن القسم الأكبر من الخيم مضى عليها أكثر من سنتين دون استبدالٍ”.
([8])انظر، على سبيل المثال، لبنى سالم، “طين ودخان… شتاء مخيمات النزوح”، العربي الجديد، 11 يناير/ كانون الثاني 2017.
([9])في المقال المستند إلى “التقرير التفاعلي لمراقبة المخيمات”، تؤكد الكاتبة: “يعتبر الحصول على المياه من أكبر المشاكل التي تعاني منها أغلب المخيمات السورية”. يمان الدالاتي، “مخيمات اللاجئين السوريين.. مأوى وحيد يهدده قدوم الشتاء”، نون بوست، 25 أوكتوبر/ تشرين الأول 2019.
([10])انظر، على سبيل المثال، عبد الله البشير، “الشتاء… معاناة سورية مستمرة”، العربي الجديد، 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018.
([11])يمان الدالاتي، “مخيمات اللاجئين السوريين.. مأوى وحيد يهدده قدوم الشتاء”، نون بوست، 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
([12])أشار “التقرير التفاعلي لمراقبة المخيمات” إلى أن أكثر من 75% من سكان بعض المخيمات يعانون من نقص في الرعاية الصحية، وتقييم الخدمات الصحية فيها ضعيفٌ”.
([13])هذا ما حصل، على سبيل المثال، لقاطني “مخيم التضامن” الذين نُقلوا إلى “مخيم البل” شمال مدينة صوران، حيث اتخذ “المجلس المحلي في مدينة اعزاز” قرار النقل، استجابةً لطلب “أصحاب المحلات التجارية في السوق”. انظر، ““محلي اعزاز” يبدأ بنقل قاطني مخيم التضامن”، عنب بلدي، 28 مارس/ آذار 2019.
([14])انظر، على سبيل المثال، “نازحون سوريون يستبدلون خيمهم بمنازل بدائية قبل الشتاء”، العربي الجديد، 17 أوكتوبر/ تشرين الأول 2016.
أكاديمي وباحث في الفلسفة الغربية والفكر العربي والإسلامي
حكاية ما انحكت