أمبرتو سَابَا: تشبه فُقَاعاتِ الصابون
اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي
وُلِدَ أُمْبِرتُو سابا، الاسمُ المستعارُ لأُمْبِرتُو بولي، في إصطاجانكو (تْريِيْستِه) في 9 آذار (مارس) 1883، لأبٍ من عائلةٍ بندقيَّةٍ نبيلةٍ، وأمٍّ يهوديَّةٍ من إصطاجانكو، هي حفيدة الشَّاعر والمؤرِّخ صموئيل ديفيد لوتزاتو، وقد اعتنق والدُ أُمْبِرتُو اليهوديَّةَ لأجل هذا الزَّواج. مع ذلك، هجرته زوجته عندما وُلِد أُمْبِرتُو، فعاش هذا طفولةً حزينةً بسبب غياب الأب، وأمضى السَّنوات الثَّلاث الأولى من طفولته في كنفِ مربِّيةٍ سولفانيَّةٍ تُدعى بِيبَّا سَابَازْ، كانت قد فقدت ابنها، فأغدقَتْ حبَّها وحنانها على أُمْبِرتُو الذي اختار اسمه المستعار: سابا من كنيتها تكريماً لها، والكلمة تعني بالعبريَّة: الجَدَّ. في سنة 1903، انتقل إلى بِيزَا ليدرسَ في جامعتها، فتابعَ في البداية محاضراتٍ في الأدب الإيطاليّ، ولكنَّه ما لبث أن تخلَّى عن ذلك لكي يتمكَّن من حضور دروسٍ في علم الآثار، وفي اللُّغتين الألمانيَّة واللاتينيَّة. في سنة 1911، نشرَ على نفقته الخاصَّة مجموعته الشعريَّة الأولى «أشعار»، تلتها في 1912 مجموعته الثانية «بِعينيَّ» التي غيَّر عنوانها لاحقاً إلى «إصطاجانكو وامرأة». عند اندلاع الحرب العالميَّة الأولى استُدعيَ إلى الخدمة، فأدَّاها بدايةً في حقلٍ للجنود النِّمساويِّين السُّجناء في بلدة كاسالمادْجورِه، ثمَّ طبَّاعاً في مكتبٍ عسكريٍّ، وأخيراً، في عام 1917، فاحصاً للأخشاب في حقلٍ لصناعة الطَّائرات. وتعود إلى تلك الفترة قراءته لأعمال نيتشه واشتداد حدَّة الأزمات النفسيَّة عليه والتي انتهت بإدخاله، في عام 1918، إلى المشفى العسكريِّ في ميلانو. عند انتهاء الحرب العالميَّة الأولى، عاد إلى إصطاجانكو، ليُصدِرَ سنة 1922 الطَّبعة الأولى من ديوان «شِعر غنائي» الذي ضمَّ كلَّ إنتاجه الشعريِّ حتَّى ذلك التاريخ. عانى بين 1929 و1931 من أزمةٍ عصبيَّةٍ أقسى من سابقاتها. في عام 1938، قبل وقتٍ قصيرٍ من اندلاع الحرب العالميَّة الثانية، ومع صدور القوانين العنصريَّة من قِبَل النظام الفاشي آنذاك، اضطرَّ إلى الهجرة مع أسرتِهِ إلى فرنسا. عاد إلى إيطاليا في نهاية عام 1939، فلجأ أوَّلاً إلى روما، حيث حاولَ أونغارِتِّي عبثاً مساعدتَهُ، ليعودَ مرَّةً أخرى إلى إصطاجانكو، لكنَّه أُرغِمَ على الهرب مع زوجته وطفلته في خريف 1943، ليختبئوا في فلورنسا. وهناك نشأت صداقةٌ قويَّةٌ بينه وبين مونتالِه، كما صدرت له في تلك الفترة مجموعةٌ شعريَّة بعنوان «أشياء أخيرة»، أضيفت في ما بعد إلى الطبعة الجديدة من ديوان «شعرٍ غنائي» الصادرة في تورينو سنة 1945.
في سنوات ما بعد الحرب، عاش سابا تسعةَ أشهرٍ في روما، ومِن ثمَّ في ميلانو التي أقام فيها لمدَّة عشر سنواتٍ تقريباً، تخلَّلتها بعض الزِّيارات إلى إصطاجانكو. في تلك المرحلة، تعاون مع صحيفة «إلْ كورييرِه دِلَّا سِيرا»، ونشرَ المجموعة الأولى من شذراتِه بعنوان «أقصر الطرُق». في سنة 1946، تقاسمَ مع سيلفيو ميكِلِّلي الفوز بجائزة «فيارِدْجُو» عن فئة قصيدة ما بعد الحرب، تلتها في سنة 1951 «جائزة أكاديميَّة لينسيان»، و«جائزة تاورمينا»، بينما منحته «جامعة روما لا سابيينتزا» الدكتوراه الفخريَّة سنة 1953. بعدما نالَ سابا شهرةً واسعةً، تحوَّلَ إلى الكاثوليكيَّة، وتعمَّدَ، لكنَّ زواجه رُفِضَ في الكنيسة بذريعة غياب الاستعداد الكافي. في عام 1955، مُتعَباً ومريضاً، وفوق ذلك مُضطرِباً لعدم استقرار حالة زوجته الصحيَّة، دخل إلى أحد المصحَّات في مدينة غوريتسيا، ولم يغادرها إلَّا لحضور جنازة زوجته الحبيبة التي توفِّيت في الخامس والعشرين من تشرين الثَّاني (نوفمبر) 1956. بعد تسعة أشهرٍ من ذلك، في الخامس والعشرين من آب (أغسطس) 1957، توفِّي سابا.
لتسليط الضَّوء على السِّمات الرئيسة لقصيدة سابا، يمكن الرُّجوع إلى النصِّ النثريِّ الذي كتبه في إصطاجانكو سنة 1912، بعنوان «ما يتعيَّن على الشُّعراء فِعلُه». في هذه الصفحات، ذكر سابا بإيجازٍ ما ينبغي أن تكون عليه القصيدة، وهو أن تكون قصيدةً قادرةً على التعبير بصدقٍ ومن غير مُغالاةٍ عن الحالة الوجوديَّة للإنسان، وأن تكون تمثيلاً للواقعِ اليوميِّ، لا لواقعٍ خارجٍ عن المألوف. وقد ترتَّب على موقفه ذاك بعض النتائج الهامَّة على مستوى مضمون القصيدة، مثلما على مستوى شكلِها. على الشاعر، في رأي سابا، أن يكون وفيّاً لروحِه الخاصَّة. ومن هنا تتجلَّى قصيدته بوصفها سبراً داخليَّاً مستمرَّاً، وحَفْراً متواصلاً في طبقاتِ الوعي. من هنا، فمن المهمِّ أيضاً عدم إغفال العلاقة بين سابا والتحليل النفسي، تلك العلاقة التي جعلت من قصيدته أداةً لتوضيحِ الذَّات، ولفهمِ الجروح النفسيَّة الداخليَّة والصراعاتِ التي تمزِّق شخصيَّة الإنسان، وللكشفِ عن أصولِ العصابِ فيه. هكذا، تعرضُ لنا قصيدةُ سابا واقعَ البشرِ جميعاً وأحوالَ أيَّامهم كلِّها، فهي تتحدَّث عن إصطاجانكو، بمقاهيها وشوارعها وأشجارها وبحرها، وتصفُ شخصيَّاتٍ متواضعةً وحيواناتٍ مُستأنَسة. غير أنَّ تلك البساطة والارتباط بالواقع اليوميِّ ينبغي ألَّا يدفعا إلى التفكير بأنَّها قصيدةٌ موضوعيَّةٌ مُجرَّدةٌ عن الغرض، فسابا في النهاية يصبُّ فيها همومَه الداخليَّة، ويمكن القول إنَّ لغته الشعريَّة بسيطةٌ ومألوفة، تميل إلى البُنى التقليديَّة مقارنةً بالقصيدة الحرَّة التي جاءت بها الحركة المستقبليَّة.
الشذرات
حَيًّا، كنتُ أخاطبُ مَعْشَرَ مَوْتَى. ميِّتاً، أرفضُ إكليلَ الغار وأطلبُ النِّسيان.
¡¡¡
الإيطاليُّون ليسوا قَتَلَةَ أبيهم؛ إنَّهم قَتَلَةُ أخوتهم. يريدون نَذْرَ أنفسهم للأب، وأن يحصلوا منه، في المقابل، على الرُّخصةِ في قتل أخوتهم الآخرين.
¡¡¡
الجوائزُ الأدبيَّةُ شيءٌ وحشيٌّ. خاصَّةً بالنِّسبة إلى أولئك الذين لا يفوزون بها.
¡¡¡
حذارِ من الكتَّاب الذين يَقِفُون أنفسَهم على الموضوعاتِ الكبيرة، على تَراجمِ الشَّخصيَّات العظيمة. أولئك مَثَلُهُم كَمَثَلِ الذي تركَ لحيته تطول ليُخْفي بها قِصَرَ ذقنه.
¡¡¡
أنتم تعلمون ذلك، أيُّها الأصدقاء، وأَعْلَمُهُ أنا. حتَّى القصائدُ تشبه فُقاعاتِ الصَّابون؛ واحدةٌ ترتفعُ وأخرى لا.
¡¡¡
لماذا جميع الفنَّانين، حتَّى أولئك الذين يملكون وعياً منسجماً وعميقاً ومشروعاً بقيمتهم، يصبحون بلا عزاءٍ أمامَ الفشل؟
¡¡¡
صيحاتُ الأطفال الحادَّةُ في المُهُود، أو في العربات إذْ تأخذهم أمَّهاتٌ رؤوماتٌ إلى الخارج ليتشمَّسوا، إنَّما تُذَكِّرُ، إنْ نحن تفحَّصناها عن كثبٍ، بصيحاتِ: قريباً فرنسا! قريباً بولونيا! لأدولف هتلر.
¡¡¡
الأشخاص الذين يحترفون الصِّدق، أولئك الذين يُقال إنَّ «قلوبَهم في أفواههم»، هم الأكثر زيفاً. إنَّهم يبوحون بكلِّ شيءٍ، وللجميع، لكي يُواروا شيئاً واحداً.
¡¡¡
للشَّاعر أيَّامُهُ المعدوداتُ، كما كلُّ البشر؛ ولكن أوَّاه، أوَّاه كم تختلف!
¡¡¡
الفاغنريُّون كانوا موضعَ شُبهةٍ، ليس لأنَّهم أحبُّوا فاغنر؛ ولكن لأنَّهم أحبُّوا فاغنر فحسب.
¡¡¡
لا يبدو أنَّ المحتضرين يعانون من الموت، وإنَّما من الصِّراع بين الرَّغبة (الواعية) في الحياة والرَّغبة (اللَّاواعية) في الموت.
¡¡¡
لم أكن سوى صندوقِ صوتٍ لمصائرِ الجميع.
¡¡¡
للجنون والانحراف أكثر من ملجأ: السجون، المصحَّات العقليَّة… وغير ذلك. هل سيأتي يومٌ يُسلَبون فيه، بِفِعْلِ فاعلٍ جَسُورٍ، ميزةَ السَّقف الآمن؟
¡¡¡
ليس لديَّ شيءٌ أقوله للفلاسفة؛ ولا هُمُ لديهم شيءٌ يقولونه لي. حين أدنو منهم يصيرون سائلاً؛ يتوسَّعون إلى العموميَّاتِ لئلَّا يكون من الممكن لَمْسُهُم في نقطةٍ حسَّاسةٍ واحدة. ما طرائقُهُم كلُّها سوى «رُقَعٍ» يُوَارُون بها «فَتْقَ الحقيقة». الشعراءُ يَعِدُون أقلَّ ويحفظون الوعدَ أكثر.
¡¡¡
بيتهوفن يتكلَّمُ كما لو كان الجميع صُمّاً. يُعلِنُ، يؤدِّي، ينوِّعُ، يكرِّرُ (بلا نهايةٍ). حين تظنُّهُ انتهى، وتوشِكُ أن تتنفَّسَ الصُّعَداء، يبدأ من جديد. إنَّه يتبطَّأ كثيراً، حتَّى في فراديسه.
¡¡¡
الشعراء (أعني بالأخصِّ الشعراءَ الغنائيِّين) إمَّا أطفالٌ يغنُّون أمَّهاتهم (بترارك)، وإمَّا أمَّهاتٌ يغنِّين أطفالهنَّ (ساندرو بنَّا)، وإمَّا (وهذه الحالةُ الأخيرةُ أقلُّ شيوعاً: ربَّما يجسِّدُها شكسبير في سونيتاتِهِ) هذا وذاك معاً. أودُّ القولَ إنَّ القصيدةَ الغنائيَّةَ (مع أنَّ ظواهر الأمور تدلُّ على عكس ذلك) لا تستطيع الخروجَ من هذه الحلقة المسحورة؛ وإنَّنا ههنا، ههنا بالتَّحديد، نقبضُ، في نهايةِ المطاف، على لُبِّ الإلهام الشِّعريِّ.
¡¡¡
أبحثُ عن زاويةٍ في هذا العالَم، عن الواحةِ الملائمةِ لأطهِّرَكم بدموعي من الكِذْبةِ التي أَعمَتْكُمْ.
¡¡¡
رحيلُ السنونو، هذا العام، سوف يعتصرُ، لهاجسٍ استبدَّ بي، قلبي.
¡¡¡
مَثَلُ الذين يبحثون عن سببٍ لأيِّ حَدَثٍ كَمَثَلِ من يسيرُ في جبالٍ شاهقاتٍ، ما إن يَعْبُر جبلاً حتَّى يَعْرِضُ له آخرُ، ثمَّ آخرُ فآخرُ. الورقةُ لا تسقطُ عن غصنها لسببٍ واحدٍ، بل لمجموعةٍ معقَّدةٍ من الأسباب، بعضُها بَيِّنٌ لنا، والبعضُ الآخرُ (النجميُّ، والكونيُّ، وما هو وراء ذلك) يبقى (وربَّما سيبقى دائماً) خارجَ حقلِ مداركنا.
¡¡¡
حتَّى حضارة آكلي لحوم البشر تركَتْ لنا، بعد موتِها، شيئاً جديراً بالتَّقدير: القُبلة.
¡¡¡
[الفنَّانون] ينبغي ألَّا يؤخَذوا كثيراً على محمل الجِدِّ. إنَّهم جميعاً – بمن فيهم دانتي – أطفالٌ معاقَبون.
¡¡¡
بقيَ هوميروس حيَّاً ألفَي سنة. الحربُ والسَّلام، والتي ربَّما ليست أقلَّ جمالاً من الإلياذة، شاخَتْ بعد خمسين سنة.
¡¡¡
الأدبُ بالنسبة إلى الشعر كالكَذِبِ بالنسبة إلى الحقيقة.
¡¡¡
أظنُّ أنَّ مهدي قُدَّ من خشبٍ مختلف. دائماً ما تتوقُ نفسي إلى أثرٍ لا تتوقُ إليه نفوسُ أقراني اللطَفاء.