جرح ميشيما المفتوح/ صبحي حديدي
بعض الأعمال الأدبية، الروائية بصفة خاصة ولكتّاب كبار على نحو أخصّ، تلاقي سلسلة من الأقدار المتداخلة العجيبة، لا تُبعدها عن الأضواء والشهرة أو حتى السجال إيجاباً أو سلباً، فحسب؛ بل يطويها مزيج من النسيان والإهمال والتجاهل، حتى تأتيها برهة خاصة بدورها، ليست أقلّ عجباً، تعيد تقديمها وامتداحها وتكريمها، لدى جمهرة القراء وصفوة النقاد في آن معاً. الأمثلة كثيرة بالطبع، ولكن هذه السطور سوف تتوقف، هنا، عند مثال حديث العهد هو رواية «حياة للبيع» للمسرحي والروائي والشاعر الياباني الشهير يوكيو ميشيما (1925 ــ 1970)؛ التي نُشرت، سنة 1968، مسلسلة في النظير الياباني لمجلة «بلاي بوي»، واعتُبرت في زمانها حاشية عابرة في تراث أديب كبير. لكنها عادت مؤخراً بقوّة إلى قلب السجال حول حاضر اليابان، والعالم المعاصر بأسره على نحو ما، فتحولت إلى مسلسل تلفزيوني في اليابان، وتُرجمت إلى الإنكليزية السنة الماضية (نقلها ستيفن دود، وصدرت عن منشورات بنغوين)؛ وإلى الفرنسية مؤخراً (بترجمة دومنيك بالميه، عن منشورات غاليمار)؛ بين لغات حية أخرى.
هانيو يامادا، بطل الرواية الذي امتلك الكثير من أسباب التمتع برغد العيش، أو البقاء على قيد الحياة في أقلّ تقدير، يقرر الانتحار فجأة بناء على تساؤل ظلّ يقضّ مضجعه: «لماذا يتلهف الناس على الحياة؟». وإذْ يفشل في الموت، ويستفيق حياً في مستشفى، يستأنف يامادا قرار الانسحاب من الحياة، فيستقيل من عمله المريح كمحرّر في شركة أعمال كبرى، وينشر في إحدى صحف التابلويد الإعلان التالي: «حياة للبيع. يمكنكم استخدامي كما يحلو لكم. أنا ذكر في السابعة والعشرين. الكتمان مضمون. ولن أسبب أيّ متاعب على الإطلاق». ولأنّ صاحبنا وضع اسمه وعنوانه الفعلي، فإنّ طارقي بابه طلباً لحياته يتقاطرون، ومعهم تتعاقب الفصول الـ55 من الرواية؛ حاملة غرائب طلبات الاستخدام، وعجائب الراغبات والراغبين: من مصاصة دماء، إلى متلهف على إهانة زوجته جنسياً، مروراً بمؤسسات مال وأعمال وسياسة وتجسس واختبار…
هذا الخيار في تنشئة الفصول هو البوابة الأولى التي تكشف براعة ميشيما في تقنيات السرد وعمارة الحكاية وبناء الشخصية ورسم المناخات، فهذا هو الكاتب الكبير الذي أعطى الأدب الياباني، والثقافات الشرقية والآسيوية، ثمّ العالم بأسره في الواقع، حفنةً من أرفع الأعمال في المسرح والرواية. وفي حياته ظلّ جرحاً مفتوحاً في الضمير الياباني طوال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال أطوار الهزيمة العسكرية والثقافية التي تعرّضت لها اليابان على يد الولايات المتحدة. وفي أواسط سبعينيات القرن الماضي قال ياسوناري كاواباتا، أوّل روائي ياباني يفوز بجائزة نوبل، إنّ ميشيما «أديب من طراز رفيع لا يجود الزمان به إلا مرّة واحدة كل 200 أو 300 سنة». بعدئذ، في أواسط التسعينيات اعتبر كنزابورو أوي، الياباني الثاني الفائز بجائزة نوبل، أنّ ميشيما كان ضحية التنميطات الزائفة التي صنعها الغرب لاختزال اليابان، ولاستكمال مهمة الجنرال الأمريكي ماك آرثر في إخضاع البلد.
وههنا، كذلك، روائي فذّ الموهبة أدخل أدب الاعتراف السادي والسيرة الذاتية المازوشية إلى مشهد روائي هادىء يهيمن عليه ضمير المتكلم الوديع، بين قطبين روائيين شامخين (جونيشيرو تانيزاكي وكاواباتا)؛ ومسرحي يفجّر شاعرية فاتنة في تقاليد مسرح الـ»نو»، ويُدخل عليها تقنيات جسورة وثورية لا سابق لها؛ وشاعر تلعب قصائده في فضاء كثيف محيّر، بين شفرة السيف وشيفرة زهرة الأوركيد؛ ومخرج سينمائي يلعب دور قاطع طريق، ويظهر عارياً في أكثر من مشهد؛ و وأخيراً، وليس آخراً: معلّق رياضي، وسياسي، وعسكري… لماذا، والحال هذه، تعثر استقبال «حياة للبيع»، رغم أنّ ميشيما كان في ذروة شهرته حين استُكملت حلقاتها، قبل سنتين فقط من انتحاره الشعائري الشهير على طريقة الـ»هاراكيري»؟
هل كانت اليابان عازفة عن نمط «بيع الحياة» الذي تقترحه الرواية، في غمرة إقبال اليابانيين على الاستهلاك والإفلات من صرامة التقاليد وتقليد أنساق الحياة الأمريكية؛ وغير راغبة في تكرار أمثولة الساموراي الإمبراطوري التي سعي ميشيما إلى إحيائها، هو الذي لم يتورع عن تأسيس ميليشيا عسكرية، وتنظيم سرّي، للإطاحة بنظام الحكم وإحياء ماضي اليابان الإمبراطوري؛ والذي حلم بهجوم يقوده شخصياً ضدّ ثكنة عسكرية، في انقلاب ثوري يحتجز خلاله كبار جنرالات الجيش؟ أم أنّ اليمين الياباني المتطرّف، وذاك القومي المتشنج أو المعتدل، انكبّ في المقابل على الانتساب إلى تراث ميشيما، وتوظيف شخصيته في هذه الحقبة تحديداً؛ حين يهيمن على اليابان قلق الهوية، وتجوس حاضرَ البلد كوابيسُ الماضي الحافل بالمتناقضات؟
قد لا يكون القارئ غير الياباني لرواية «حياة للبيع» معنياً بهذه الأبعاد، السياسية والاجتماعية والثقافية، لحضور ميشيما في وجدان اليابان المعاصرة؛ غير أنّ المؤكد، انطلاقاً من التجربة الشخصية لقارئ مثلي، أنّ حشداً غير قليل من أبعاد النفس البشرية المعاصرة إنما تعيد في هذه الرواية استجماع معانٍ ورموز ودلالات متشابكة، هي بنت المشهد الإنساني المعاصر، الكوني بامتياز لأنه يتجاوز المحلي والإقليمي. وحين يفتح يامادا عينيه في المستشفى، بعد فشل عملية انتحاره، على ضياء يخطف الأبصار ونافذة تسبح في البياض؛ فإنّ الصداع الشديد يُبعده عن استيهام الشعور بأنه نزيل السماء، إذْ «كيف للصداع أن يكون قرين الفردوس»!
القدس العربي