كتاب «في أثر عنايات الزيات»: استحضار الحياة من الموت/ إبراهيم عادل
مصادفة نادرة جمعت الشاعرة إيمان مرسال برواية «الحب والصمت» للكاتبة عنايات الزيات، التي عرفت فيما بعد أنها ماتت في شقتها منتحرة عام 1963، من هذه الرواية ومن قصة الانتحار الغامضة تلك تبدأ رحلة استكشافية طويلة، وعلى طريقة التحقيقات الصحفية تتبّع إيمان مرسال أثر عنايات الزيات وتجمع ما يمكنها الوصول إليه من أوراقها وأخبارها المتناثرة لتتعرف على سيرتها الذاتية بشكل دقيق، وما الذي يمكن أن يكون قد قادها إلى تلك اللحظة المأساوية التي قررت فيها أن تتخلى عن أحلامها وكتابتها وابنها وعالمها وتترك الحياة وتقرر أن تموت!
لاشك أن الرهان كان صعبًا، ولكن يبدو أن الصدق والإخلاص في البحث والتقصِّي وشيء من روح الكاتبة الحاضرة الغائبة، جمع كل هذه المواد المختلفة من قصاصات الجرائد والمجلات إلى أقوال الجيران والأصدقاء وشهادات الشهود، والبحث الدؤوب والإصرار على الوصول إلى كل ما بقي من أثر تلك السيدة التي مضى على رحيلها نصف قرنِ من الزمان، ولم يبق من الشهود على حياتها وماضيها إلا عجائز، ولعل المصادفة الكبرى في حياة عنايات الزيات كانت صداقتها الوثيقة بالفنانة نادية لطفي.
أحيانًا يهز كيانك عمل أدبي ما ولا يعني ذلك أنه عمل غير مسبوق في تاريخ الأدب، أو أنه أفضل ما قرأت في حياتك. إنها الصدف العمياء التي تبعث لك رسالة تساعدك على فهم ما تمر به، في اللحظة التي تحتاجها تمامًا، دون حتى أن تعرف أنك تحتاجها. الامتنان ليس للأعمال العظيمة فقط، ولكن للأعمال التي كان دورها عظيمًا في فهمنا لأنفسنا في لحظةٍ محددة، حتى إننا عندما نلتفت لحياتنا يمكننا تعريفها بهذه الأعمال.
من الرواية تبدأ إيمان مرسال رحلة بحثها، التي يسهل التعرف على أنها رواية عن الموت، ليس موت أخ البطلة فحسب بل ـعلى حد تعبير إيمان مرسال ـالموت الذي تحاربه البطلة في داخلها وضجرها بهذه الحياة، ولكنها لا تتوقف عندها، رغم ما يمكن أن يستكشفه القارئ من تقطاعات أوضحتها بين بطلة الرواية «نجلاء» والكاتبة «عنايات»، إلا أن ثمة تفاصيل أخرى غير معروفة، خاصة في سيرة حياتها وطريقها نحو الكتابة وعلاقاتها بالمجتمع، سعت إيمان مرسال باجتهاد بالغ للوصول إليها وتقفي آثارها، بدءًا من صديقتها الفنانة «نادية لطفي» التي رحبت بشدة بالتعاون معها وحكت لها كل ما عرفته عن الأديبة الراحلة، مرورًا بأختها المترجمة عظيمة الزيات والمفارقة التي جمعت بينها وبين أختها في دار النشر القومية التي ظنت أنها رفضت روايتها قبيل انتحارها، حتى تصل إلى صديقاتها في المدرسة وتعرف وتكشف لنا جوانب من حياتها كانت مجهولة للجميع!
ولعل أجمل ما فعلته إيمان مرسال في الكتاب هو طريقة السرد التي اعتمدتها والانتقالات بين الحكايات والمصادر، والتي جعلت القارئ شريكًا معها في رحلة الاستكشاف تلك، فهي تقدم كل فصل بالحكاية القديمة التي قادتها إلى معلومة جديدة، وشيئًا فشيئًا يتعرّف القارئ معها على ما تجده من مفاجآت، وهي في كل ذلك تمزج بين سيرتها الذاتية ومواقفها الشخصية وبين حياة عنايات الزيات وحكايتها، حتى أنها تتصوّر بعض المشاهد والمواقف وترسمها بخيالها بطريقة أدبية وكيف كانت يمكن تعامل عنايات الزيات معها، فترسم مشهدًا لجلستها العائلية أثناء طلب الطلاق من زوجها، تلك التي كان لها أثر سيئ وتسببت لها في الكثير من المشكلات القضائية آنذاك، كما ترسم مشهدًا دقيقًا لدخولها المستشفى التي كانت تعالج فيها من الاكتئاب فترة طفولتها، وغيرها من المشاهد والمواقف.
لم يقتصر الأمر على سرد ومحاولة استكشاف البيئة الثقافية والاجتماعية التي عاشت فيها عنايات الزيات فحسب، بل تطور الأمر مع إيمان مرسال لوصفٍ تفصيلي متقن لعدد من المباني والمصالح الحكومية والمستشفيات، وتاريخ نشأتها وتطورها ومن كان يعيش فيها منذ عشرينيات القرن الماضي، وما آل إليه أمرها بعد ثورة 1952 وحتى الآن، كما ترسم صورة مختلفة لعدد من كبار الأدباء الذين تعرفوا على كتابة عنايات الزيات بمحض الصدفة، وكتبوا عنها بعد وفاتها مثل أنيس منصور ويوسف السباعي وغيرهم، مما يجعل من الكتاب صورة حية شديدة الواقعية والثراء تكشف عن فترة هامة من تاريخ مصر على خلفية البحث عن واحدةٍ من كاتباته، كما يعد درسًا في الصحافة الاستقصائية وطريقة البحث وراء المصادر بصبرٍ وأناة.
صورة من مآسي الكاتبات في مصر
تكشف رحلة إيمان مرسال في البحث عن حكاية عنايات الزيات وتقص في أثرها طائفة كبيرة من المآسي والمشكلات التي كانت تواجه الكاتبة أو المثقفة المصرية منذ خمسينيات القرن الماضي، وربما حتى الآن، رغم كل التغيرات التي ترصد إيمان مرسال الكثير منها، والتحولات التي جرت في مصر خلال تلك الأعوام، حروب قامت وقوانين تغيّرت وثورات كبرى حصلت، ولكن يبدو أن المرأة المصرية لم تستطع أن تحصل بعد على حريتها كاملة وحقها والتعبير عن نفسها بالقدر الكافي. وإن كانت إيمان مرسال تحكي عن عنايات التي توفيت منذ أكثر من خمسين عامًا، فإنها تنكأ جراحًا عديدة سواء في تعامل المؤسسات الرسمية مع المرأة، أو رؤية المجتمع وتصرفاته وتعامله مع المرأة بشكلٍ عام.
جمالٌ تعس، حقل الموت صامت وأرضٌ معدومة الحواس، البرودة تسري في أجساد الورود، فالحياة تمضي وتلد الموت. شاهدت في الإسكندرية مشاهد عشتها بخيالي من قبل وسمعت عبارات قديمة في أذني .. رأيت ناسًا في ثيابٍ أعرفها. لكن متى تمامًا؟ لست أدري. هناك حاجزٌ ذاب في ذاكرتي. فاختلطت الحياتان. ومع ذلك أنا لا أعرف ماذا سيجيء به الغد. إذا شاء ترك جثتي الحية تقوم على صفحة النيل لتوصلني للغد، لصفحاتٍ أخرى قديمة. إنني أحس بانفصالٍ عن الكل، وأنظر من نافذة عيني على الناس والأماكن حولي ولكني لا أتفاعل معهم. وفجأة أجدني قد انفصلت عن وجودي، وخرجت من داخلي ..
—من أوراق عنايات الزيات – 1962
لم تتمكن عنايات الزيات من الحصول على حقوقها أدبيًا ولا اجتماعيًا، وقررت في لحظة يأسٍ أن تنهي حياتها، ولكن الأقدار شاءت أن تستحضرها إيمان مرسال بعد كل تلك السنوات، وتنسج حول قصتها كتابًا توثيقيًا جميلاً، جمعت فيه بين السيرة الذاتية والسرد الروائي والتحقيق الصحفي برشاقة وذكاء، وقدمت للقارئ، رغم ما سيشعر به أثناء القراءة من ألم، صورة شبه مكتملة لحياة تلك السيدة، ومصر في ذلك الوقت الغابر، وبإمكانه بالتأكيد أن يقارن ما كانوا فيه وما نحن عليه الآن!
تجدر الإشارة إلى أن الكتاب صدر عن الكتب خان في سلسلةٍ طموحة عنوانها «بلا ضفاف» تُعنى – كما جاء في تعريفها – بنشر التجارب الأدبية الخارجة عن التصنيفات المتعارف عليها من قصة ورواية وشعر ومقال، وستكون بيتًا للنصوص التي يحار الناشرون عادةً في تصنيفها والترويج لها. ولا شك أن ذلك سيفتح المجال للكثير من الكتابة الأدبية المهمة والجادة.
إيمان مرسال شاعرة مصرية، صدر لها خمسة دواوين شعرية، كان آخرهم «كيف أتخلى عن فكرة البيوت» عن شرقيات والتنوير عام 2013، حاصلة على الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة القاهرة، تعمل أستاذًا مساعدًا للأدب العربي في جامعة ألبرتا بكندا، أصدرت كتاب «كيف تلتئم.. عن الأمومة وأشباحها» عام 2016 الذي ناقشت فيه فكرة الأمومة من منظورٍ فلسفي.