بين خطاب الكراهية وحرية الخطاب/ موفق نيربية
لا تنفرد سوريا وحدها في شيوع خطاب الكراهية واستسهاله بين أهلها ونخبتها، بل هو علّة في شعوب المنطقة خصوصاً، وفي شعوب العالم على العموم. فالعرب» دخلاء» أو أن الكرد «دخلاء»، والسنة لهم الحق بادّعاء المظلومية وحدهم من الاستبداد والاستبعاد والإبادة والتشريد، أو أن العلويين لهم المظلومية وحدهم عبر التاريخ والجغرافيا والمذابح.. للجميع الحقّ، وعليهم الظلم، ولا خلاص أو مناص. في ما يلي محاولة اختراق تجريبية على جانب الموضوع.
جاء في نص التعديل الأول على الدستور الأمريكي أنه «لا يمكن للكونغرس المصادقة على قانون يحرم إقامة الدين، أو يمنع ممارسة ذلك بحرية؛ أو ينتقص من حرية الخطاب، أو الصحافة؛ أو حق تجمع الناس بحرية، أو تقديم عرائض تشكو المظالم إلى الحكومة». وجاء تفسير تعبير «إقامة الدين» كما يلي: لا تستطيع أي ولاية أو الحكومة الفيدرالية اعتماد كنيسة لها. ولا تمرير قوانين تساعد ديناً بذاته أو الأديان بمجملها، أو تفضيل دينٍ على غيره.
هذا التعديل هو الأول والأكثر أهمية بين عشرة تعديلات تُعتبر معاً بمثابة «لائحة الحقوق» الأمريكية. ويتبع بالتالي أن تكون «حرية الخطاب» أحد المقدسات الأمريكية، التي لا تُقارن بها أي حرية أخرى. ومن ثمّ فإن حرية «خطاب الكراهية» مجال مناقشات كبيرة لهذا السبب في الولايات المتحدة. في حين فرضت التجربة الأوروبية معالجة حقوقيةً وواقعاً مختلفاً، في ما يخصّ تلك المفاضلة بين حرية التعبير ورفض خطاب الكراهية بعد الحرب العالمية الثانية. بتعبير عضو في المحكمة العليا هناك ذات مرة، فإن «الكلام الذي يؤيد التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين، أو السن أو الإعاقة، أو أي أساس آخر مشابه، كريه تماما؛ لكن أكثر ما يمكننا أن نتباهى به هو فقهنا الحر، وأننا نحمي حرية التعبير عن «الفكر الذي نكرهه». ليس هنالك من قوانين ورد فيها تعريف خطاب الكراهية، أو حظره في الولايات المتحدة، على النقيض من معظم الديمقراطيات الليبرالية الأخرى، بسبب الحق الصلب في حرية التعبير الموجود في الدستور الأمريكي. وفي الواقع، فقد قضت المحكمة العليا هناك، مرارًا وتكرارًا بما يُفهم منه أن خطاب الكراهية محمي قانونياً بحرية التعبير التي فرضها التعديل الأول المذكور. أكدت تلك المحكمة العليا مراراً وتكراراً على ذلك، وعلى أن نقطة الفصل الوحيدة عن أحكام تتجاوز هذا الخط هي في احتمال أن يتسبب خطاب الكراهية بأعمال عنيفة أو إجرامية. فعندما كانت هنالك شكوى مثلاً من إحراق شبان من الكوكلاكس كلان لصلبان خشبية أمام بيت مواطن أمريكي- افريقي، حكمت تلك المحكمة بجواز هذا الفعل بناءً على التعديل الأول، بما أنه لا يؤدي إلى أذى مادي للأشخاص أو الممتلكات في رأيها.
في أوروبا تختلف زاوية النظر إلى الأمر، وربما كان ذلك للتفاعل الأكبر حجماً مع العوالم والأفكار الأخرى، وكذلك لما صنعته النازية والفاشية مباشرة هناك. ففي ألمانيا مثلاً، وهي رائدة – وربما مغالية في رأي البعض- في هذا الميدان، تنص الفقرة الأولى من المادة 130 من القانون الجنائي، على أن يتعرض للسجن من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات، كلّ من يُخلّ بالسلام العام، عن طريق «التحريض على الكراهية ضد مجموعة قومية أو عرقية، أو دينية، أو مجموعة محددة حسب أصولها العرقية ، ضد شرائح من السكان أو الأفراد بسبب انتمائهم إلى إحدى المجموعات، أو شرائح السكان المذكورة أعلاه، أو يدعو إلى اتخاذ تدابير عنيفة أو تعسفية ضدهم». وكذلك مَن ينتهك الكرامة الإنسانية للآخرين- التي كرّمها الدستور الألماني في مادته الأولى: كرامة الإنسان غير قابلة للمساس بها.
وينسحب هذا على قوانين الدول الأوروبية الأخرى في معظمها بهذا الشكل أو ذاك وبتنويعات خاصة، وكذلك على كندا المجاورة للولايات المتحدة. ووفقاً للاتحاد الأوروبي، فإن خطاب الكراهية يغطي جميع أشكال التعبيرات التي «تنشر أو تحرض أو تعزّز أو تبرر الكراهية العنصرية، أو كراهية الأجانب، أو معاداة السامية أو غيرها من أشكال الكراهية على أساس التعصب». وبخصوص تعارض منع خطاب الكراهية مع حرية الخطاب، أكدت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية ذات السلطات الواسعة، بقرار خاص منذ ثلاث سنوات، أن إدانة التحريض على الكراهية والعنف والتمييز في القانون البلجيكي، لا تخرق حق حرية التعبير، كما هو محميٌّ في المادة العاشرة من العهد الأوروبي لحقوق الإنسان. وهذا يؤكد فارقاً بين ضفتي الأطلسي، جديراً بالتوقف عنده وعند آثاره. ذلك كله ليس لمتعة البحث في حقوق الآخرين وحرياتهم وقوانينهم، بل لتحسين القدرة على مواجهة خطاب الكراهية لدينا.. نحن.
فكأنّ الانتقاص التاريخي من حرية الخطاب في سوريا سببٌ عميق لتحريك خطاب الحقيقة والمصارحة بكثافةٍ لافتة، من دون أن يكون ذلك حتى الآن باباً للحوار والمصالحة، كما كانت الثورة تريد في عامها الأول، بل للتشتّت والتفتّت وتعقيد الخروج من الأزمة، التي حلّت مكان الثورة في أكثر من موقع ومكان وشكل. ويتقدم لدينا حقلان على غيرهما من ملاعب خطاب الكراهية، يغلي فيهما ويتفاعل على الأرض، وعلى صفحات الفضاء الافتراضي خصوصاً، وهو مرآة الروح والواقع في أبشع تجلياته. أولهما في مزدوجة السنيّ- العلوي، التي ينبغي البحث في طابقين من أسبابها، واحد بعيدٍ في التاريخ يتقصّى عن المظلومية التاريخية، خارج الحكايات أو العامل الفارق من الناحية الدينية أو الطبقية، أو في توضّع الريف والمدينة أو غير ذلك. والثاني في أثر تركيبة النظام الاستبدادي الشرس، من حيث استخدامه للطائفة وللطائفية أو طائفيته المعتدية- المتعدّية، وكذلك – لاحقاً- في أثر تركيبة بعض القوى المعارضة السياسية والمسلحة، وطرائق عمل الطرفين في العقد الأخير، وخطابهما المباشر أو غير المباشر. كلا الملعبين غير ممتنعٍ على مباشرة الحوار، في حال تم توفير شروطه البسيطة غير المعقدة، ولهذا أمثلة وتجارب موجودة نصب الأعين، لمن يريد الخروج من عنق الزجاجة الخانق.
والحقل الثاني الذي يغلي ويتفاعل بحماسة مشهودة هو في مزدوجة الكردي- العربي. فالقوموية لا تقلّ نَخراً أبداً عن الطائفية (وكلاهما لا علاقة لها بحقائق الانتماء أو حقّ الاعتزاز)، وهي ذات تأثير ونفوذ كبيرين بين عرب وكرد سوريا في وقتٍ واحد، يتسابق فيها بعض الطرفين إلى ذروة التحقير والشتيمة بالطرف الآخر، في إطارٍ لا يخلو من المبالغات، وأدلجة التأريخ، وتجاوز الحدود ببساطة واندفاعٍ يكاد يكون عفوياً أحياناً. حين تكون الحقائق واضحة يتحاشاها الطرف الذي يحسب نفسه متضرراً، أو يغطيها بالضجيج، وحين تغيب ملامح هذه الحقائق أو تضعف مقوماتها ودعائمها؛ وهذا كثير وغالب؛ يكملها صاحب المصلحة بالاستناد إلى نُتَفٍ من مصادر غير مُحقّقة ولا متواترة.. وفي الحالتين تزاحم الشتائم المنطق والعقلنة، ويصل الحوار إلى نهاياته الحادة المستعصية. ويكون هذا التزاحم حادا ومريراً، عندما يكون الطرفان جيران وأهل منطقة واحدة بالأساس.
وعسى في الحقلين المذكورين أعلاه، ألّا نخلط بين «خطاب الحقيقة» والحق به، بل ضرورة تسمية الأشياء بمسمياتها الفعلية، و»حرية الخطاب» والحق بها وبممارستها، بل وضرورتها من ناحية… وبين هدف وبرنامج مواجهة خطاب الكراهية من ناحية أخرى، تخميداً وتسكيناً ومعالجةً له ولجذوره العميقة، التي تألف الاستبداد والحرمان والجهل وتتغذى عليها.
كاتب سوري
القدس العربي