تمثيلات المهمَّش في التاريخ ما بعد الكولونيالي/ عباس عبد جاسم
منذ البدء، تقوم هذه المقاربة باستبدال مفهوم (التابع) بالمهمَّش، أي الهامش الذي يسعى إلى تقويض المركز، خلافا لطبيعة (التابع) المحكوم بتبعية المتبوع، وتقوم هذه المقاربة أيضا باستبدال مفهوم (الطبقة) بالجماعة، لأن (الطبقة) لم تعد المحرِّك الأساسي لصراع المهمشين مع النخب البورجوازية التي نشأت في حقبة الحضانة الاستعمارية. وبذا من الخطأ أن تخـــتزل الماركسية – صراع السرديات، أو سرديات الصراع، وفق قوانين حركة التاريخ والتاريخانيـــــة الجديدة إلى مفهــــوم (الطبقة). ورغم أن «المؤسسات الديمقراطية، جاءت فقط من الصراعات من الأسفل، لا بفضل الطبقات المتنورة الرأسمالية» (تيبور- جاكومين/ شبح المادية: الصراعات القادمة من الأسفل/ ترجمة خاصة: عرب 48)، فإن هذه الديمقراطية قد تعايشت مع السيطرة والإخضاع، خاصة بعد أن اتجهت سياسة ما بعد الاستعمار إلى نشر الديمقراطية بآلة الحرب العسكرية، من دون تحديث البنيات الاجتماعية التحتانية.
ورغم أن هذه المقاربة، لا تتبنّى فكرة تاريخ (التابع) من الأسفل، فإن هذه الفكرة تعود إلى المفكر الإيطالي انطونيوغرامشي، لتمثل أول خروج على سياق الحتمية التاريخية الماركسية لستالين. كما قام ماركسيون بريطانيون بتوظيف فكرة «التاريخ من تحت»، وفق مفهوم الطبقة العاملة البريطانية، حيث اتخذوا منها محورا لحركة التاريخ، غير أن هذا التاريخ كان في جوهره يمثل تاريخ البورجوازية الأوروبية، أي انهم كتبوا تاريخ المهمَّش من خلال تاريخ النخب الكولونيالية. (محمد سامي الكيال/ ما بعد الاستعمار: هل أمكن للتابع فعلا أن يتكلم ؟). وإن كانت كلمة (التابع) تقوم على مفهوم الهيمنة، وتُعنى بماضي الجماعات التابعة كذوات محكومة بتاريخ الاستتباع، فإن كلمة المهمَّش تقوم عندنا على مفهوم «القهر الكولونيالي» القائمة على محو الهوية، واستلاب الذات وتدمير الإرادة الإنسانية. ويعني مصطلح (التابع) حرفياً «ذا المنزلة الدنيا» (زكية عرعار- أ. د بلقاسم مالكية/ إعادة كتابة التاريخ في الخطاب النقدي مابعد الكولونيالي/مجلة الأثر/ 2017)، كما تعني الكلمة «الخادم»، وتشير إلى أدنى رتبة عسكرية.
كما تتجاوز هذه المقاربة «طقس التابع المغيّب»، من حيث الإرادة والوعي، التي انطلقت منه المفكرة الهندية غياتري سبيفاك من طقس «ساتي – sati»، الفتاة الهندوسية التي تحرق نفسها، كشكل من أشكال الرفض والاحتجاج على الزواج بمَن لا تريد، وما تقوم به الزوجة الهندوسية الأرملة بحرق نفسها أيضاً، في الوقت الذي حرّر الاستعمار البريطاني المرأة من طقس «ساتي»، فإنه أبقى على تمثيلها كذات مضطّهدة مستلبة الوعي (محمد يحيى حسني/ إشكالية التمثيل والوصاية»، هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ 29 سبتمبر/أيلول 2018)، ويمثل هذا الطقس «نساء مهمشات بين المهيمنات الكبرى للنصوص الدينية والهندوسية» و»بين فكرة تبعية المرأة للرجل بفعل هيمنة الثقافة الذكورية، ثم هيمنة الأبوية، والهيمنة الاستعمارية» (نقلاً عن: ريتا فرج/ النسوية ما بعد الكولونيالية.. تفكيك الخطاب الاستشراقي حول نساء الهامش»).
إلا أن هذه المقاربة ـ تتبنّى مقولة «التابع بوصفه صانعا لمصيره»، انطلاقا ً من وعي المهمَّش بذاته، ولإرادته في استعادة الوعي بإعادة كتابة تاريخه السياسي بنفسه. وإن كان المهمَّش ينطبق على مَن ليس له موقع ضمن سياق التاريخ الكولونيالي، ومَن ليس له موقع ضمن سياق التاريخ الرسمي للنخب القومية في دولة ما بعد الاستعمار، فإن أحد أهم الأسئلة التي طرحتها سبيفاك: «هل توافرت السياقات الثقافية المواتية للتابع كي يتكلم؟ هل يتمكن من الحديث كي يُسمع صوته؟». إذن المهمَّش لا يتمثل التاريخ الكولونيالي، ويرفض التاريخ المكتوب عنه، من خلال النخب القومية ما بعد الكولونيالية الموالية للاستعمار. لهذا وظفت سبيفاك مفهوم (التمثيل) في «دراسات التابع»، ففي مقالها «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ « ـcan the subaltern speak 1998)) تؤسِّس لمفهوم تمثيل المهمش لذاته التاريخية، وتحرير الجندر من هيمنة الاستتباع لـ»جعل التابع صانعا ًلمصيره».
ورغم أن تمثلات السرد الاستعماري للمهمَّش، لا تخرج عن إطار المركزة والتهميش والسيطرة والتدجين والاستعلاء، فإن المهمَّش لم يعد عاجزا ًعن تمثيل نفسه تحت هيمنة ما بعد الاستعمار. لهذا قامت دراسات المهمَّش بتفكيك التاريخ المكتوب من منظور قومي نخبوي متوافق مع السياسة الرسمية لـ»حداثة ما بعد استعمارية»، أو ما يسميها ديبيش شاكرابارتي «حداثة ما بعد كولونيالية « (ديببش شاكرابارتي/ دراسات التابع والتاريخ ما بعد الكولونيالي/ ترجمة ثائر ديب/ مجلة أسطور/ ع (3) 2016).
ومنذ الثمانينيات، أخذ المهمَّش يشكل تاريخه الذي رفض فيه إتباع (المتبوع)، انطلاقاً من المدرسة الهندية الجديدة ضد قوى التهميش، التي مارستها النخب القومية المحلية ضد الفلاحين والعمال والفقراء والمعدمين، وكان من أهم روّاد هذه المدرسة: راجانيت جوها، فقد أعادت هذه الجماعة كتابة تاريخ المهمَّش بصيغ مغايرة ومضادة للنخب التي كتبت تاريخ المهمَّش بوعي زائف يتمثل سياسة ما بعد كولونيالية، لتتسع تأثيرات هذه المدرسة لتوسِّس نقاط تحوّل جذرية في فهم حركة تاريخ المهمَّش المقموع بالسيطرة والإخضاع، خاصة في بلدان العالم الآسيو- افريقية. وقد انطلقت «دراسات التابع» من المهمَّش بصيغ تتجاوز خيانة المثقف النخبوي لبلاده، الذي تبنّى رؤية التنوير الأوروبي ومرجعياته الاستعمارية.
وفي هذا السياق تنبّهت سبيفاك في بحثها «تفكيك الكتابة التاريخية» إلى غياب الجنوسة والجندر في دراسات التابع المهمَّش من منظور النخب التي صوّرت الاستعمار في بلادها على أنه مشروع حداثة وتمدّن وتحرّر. ومن هنا أخذ المهمش يتجّه بقوة الاختلاف مع التاريخ ما بعد الكولونيالي لتفكـــــيك التاريخ ما بعد القومي، خاصة بعد أن أخذ يتكلم، ويرى، ويمارس الحجاج والتمرّد بصيغ محايثة لعملية تفكيك الاستعمار ومقاومته في آن.
٭ ناقد وكاتب من العراق
القدس العربي