عن الكرامة مرات أخرى/ نائلة منصور
ترجمةُ المفاهيم بين اللغات موضعٌ لشحنات من التساؤلات والعواطف وعدم الفهم، وأحياناً سوء التفاهم أو الشجار بين الناس. يحدث أن ينتفض أحدهم، حرفياً، لأنك ترجمت «الثورة السورية» بـ (Révolte) بدل (Révolution) رغم أن بعض المعاجم لا تعتبر الثورة بدلالتها العربية ثورةً بدلالتها الفرنسية أو الإنكليزية. إلا أن الترجمة تتيح التفكر بمفاهيم ظنناها شبه بديهية، كالكرامة على سبيل المثال. لطالما راودني إغواء الإبقاء على مفردة «كرامة» كمفردة غير قابلة للترجمة إلى (Dignité/ Dignity)، مع أني من المتهيبين من مشروع الفيلسوفة واللسانية باربرا كاسان وقاموسها للمفردات غير القابلة للترجمة. ويأتي تهيبي من رعبي من أن يصبح ما نظنه قيمنا مشابهاً لـ «الزعتر» و«اللبنة» و«الجهاد» على حد سواء: كلمات ثقافوية، لا بُعدَ كونياً لها؛ رغم إدراكي بطبيعة الحال أن هدف المشروع الفكري لكاسان هو تقاسم خصوصيات المفردات وجعلها كونية.
ولكن في الكرامة شيء لا يشبه الاستخدامات الفرنسية لكلمة (Dignité). ويأتي تطرقي للفرنسية من أنها اللغة الأجنبية الأكثر فعالية التي أعرفها1. في السياسة الفرنسية، كثيراً ما يتم استخدامها في الضفة اليمينية من السياسة، في مقام الحديث على الدولة الأمة وكرامتها بمعنى رِفعتها قبل كل شيء. أما خارج السياسة، فهي تحكي عن استمساك النفس ونوازعها وعواطفها. يُقال بالفرنسية «جنازة كريمة» بمعنى أنه لم يتم فيها كشف اللواعج وممارسة بكائيات تشبه الطقوس المتوسطية أو البكائيات التراجيدية في اليونان القديمة، ولا تشبه طقوس الندب التي كانت تُمارس في جنازاتنا. وعند طرح فكرة النفور من المشاعر القصوى واللطم، الصورةُ التي تُستدعى في مخيلتي حينئذ كانت صورة الرجل الغاضب في فيلم عمر أميرالاي الحياة اليومية في قرية سورية، الرجل الممزِق لثيابه. لم أشعر لحظةً بأن ذلك الرجل لم يكن «كريماً» في ذهابه إلى حدود غضبه بتمزيق ثيابه، فقد ظهر لي كريماً كما قد توحي الكرامة من انطباع، ولكنه قد يبدو لغيري غير كريم، ما الناظم للانطباعات؟ وندبُ نسائنا في طقوس الموت، الريفيات على وجه الخصوص، لا يبدو لي غير كريم، بمفهومنا نحن للكرامة. وتُستخدم الصفة في الفرنسية في سياق الجدارة: فلان جدير/كريم لهذه الجائزة أو المنصب أو المهمة، إلخ. استُخدم مفهوم الكرامة كذلك في السياقات الأوروبية للحديث على الموت الرحيم كموت «كريم». هل أسيء استخدامه لتشريع القتل باسم الموت الرحيم؟ بالنسبة لنا «رحيم» ليس بالضرورة «كريماً». في المفردة العربية ما زال مدلول جذر الكرم سارياً، بل أشعر أنه أساسي، مزيج الاستغناء والعطاء والترفع والتعفف عن خسّة البخل، ولا أعرف إلى مدى ما زال المدلول الصوفي لكلمة «كرامات» ملموساً، كرامات القريبة من المعنى اليوناني لـ «كاريزما»، والتي تعني مكرمة من الله يمنحها لأوليائه الصالحين لتنكشف لهم عوالم فوق عوالمنا الأرضية. الكرامة هي شرعة حقوق الإنسان كاملة في خطاب حقوق الإنسان 2. ولا يمكن لأحد إنكار ارتباط الكرامة بمفهوم الشرف، شديد السيولة بدوره 3. الكلمة-المفهوم إذاً «توحي» لي ولك ولشخصٍ آخر بأشياء و«انطباعات» مختلفة، ولا تحيل بالضرورة إلى المرجعيات نفسها بين اللغات والثقافات المختلفة.
كثيرون كنّا، وما زلنا على ما أظن، من أشد المدافعين عن موضوع «الصورة الكريمة»، في خضمّ استباحة غير مسبوقة وطويلة الأمد لصورة السوري المكسور، وهو ما يستحق مبحثاً منفصلاً. ولكن في لحظات كثيرة ضمن حُمّى هذا السجال، لم يتفق المعنيون في النقاش حول مفهوم الكرامة وما ينتهكها، وشعرنا كذلك بأن بعض المعنيين بعيدون جداً عن أن يفهموا الكرامة كجوهر إنساني لا يُستلب، بل كان فهمهم لها مرتبطاً بالمقام والقيمة المضافة والجماليات، بمعنى أن الكرامة شيء قابل للقياس، قيمة تضاف إلى رأسمال ما، رأسمال يُغرَفُ منه تعريف الهوية الفردية، ويأخذنا شطط ما أحياناً لنسبغها على شعب بأكمله: «الشعب السوري ما بينذلّ!». شعرنا أحياناً أن المدافعين عن «الكرامة» هم في صراع هوياتي مع أنفسهم ومع سوريتهم، وأن الصراع من أجل الكرامة هو صراع يشبه الصراع الاقتصادي للطبقات، نريد أن يتملك البشر بالتساوي نفس الرأسمال الجمالي والمقامي للكرامة، ولكن أليست الكرامة كذلك؟ تشبه إلى حد كبير مفهوم (Dignitas /Dignus) القديم، والذي استمدت منه اللغات اللاتينية مفهوم الكرامة؟
جزء كبير من السجال الفلسفي حول مفهوم الكرامة في أوروبا يدور اليوم حول نهاية الحياة والشيخوخة والموت الرحيم، بعد أن كان يدور عقب الحرب العالمية الثانية حول معسكرات الاعتقال النازية وشرط الإنسان في الجزء الأول من القرن العشرين. ولكنه مع ذلك سجال مفيد جداً لننظر عبره، وعلى مسافة تفصل بين اللغتين، إلى عباراتنا ومروحة مدلولاتها حول الكرامة، القيمة العليا التي حملت اسم ثورة السوريين عام 2011: «الموت ولا المذلة»، «عزة النفس»، «عندو من نفسو/حالو»، «الشرف»، «الاستباحة» (كمفهوم مرتبط بقوة بالكرامة في الحالة السورية)، «الشعب السوري ما بينذلّ»، «أنا إنسان ماني حيوان».
في بحث عن المفهوم-الكلمة في اللغة الفرنسية، نجد أن معضلة انطباعية الكرامة لا تخصنا وحدنا، فهي تحمل التناقضات نفسها في الحالة الفرنسية. يستهلّ أستاذ الفلسفة والأيطيقا في جامعة شرق باريس-فال دون مارن، إيريك فيات، كتابه الفلسفي التاريخي عن الكرامة 4 بهذه المفارقة الشائعة واليومية، حين يردد المرء صباحاً أنه «ينبغي احترام الكرامة الإنسانية»، لينعت أحدهم في مساء اليوم نفسه أنه «بلا كرامة». في الجملة الصباحية ينتمي المرء إلى منظور في الحياة يرى أن الكائن البشري تعريف كريم، والكرامة مرتبطة بالحياة الإنسانية ولا يمكن أن تُفقد بأي حال من الأحوال؛ بينما من يطلق الحكم المسائي يرى أن الإنسان متفاوت الكرامة، يمكنه أن يفقد كرامته كما يفقد الإنسان شعره أو صحته، حيث المنعوت بـ «بلا كرامة» يقع في أسفل الباروميتر أو «الكراماميتر» بحسب التعبير الطريف للكاتب نفسه. يؤكد فيات إذاً أن المفهوم درج كثيراً في العالم، في مدونات حقوق الإنسان، وفي الكثير من القضايا السياسية، وفي خطاب ثورات الربيع العربي مؤخراً؛ ولكنه مفهوم إشكالي، يوحي ويحيل ويترك انطباعات دون أن يكون له تعريف واضح. يتأرجح المفهوم بين أن «لا يكون شيئاً» بحسب شوبنهاور؛ وبين أن يكون الجوهر الأنطولوجي للكائن البشري بحسب المفهوم الكانتي للكرامة أو الهيغيلي، أو بحسب الفلسفة المسيحية للكائن البشري الذي خُلق على صورة الله، وهي مقاربات ساهمت في دمقرطة مفهوم الكرامة؛ وبين أن يكون مفهوماً «مقامياً» (Posturale) بحسب المنظور البرجوازي والحداثي للكرامة، والذي في تأرجحه بين المفهومين ينحو إلى كسف المعنى الأنطولوجي وإبراز معنى المقام والقيمة.
ودائماً بحسب العرض التاريخي الفلسفي لإيريك فيات، فالقدامى، من فلاسفة الإغريق والرومان، لم يكونوا يعتقدون أنه يكفي أن تكون إنساناً لتكون كريماً، ولا أن الكرامة مكوّن جوهراني ملازم لحياة الفرد. عند الرومان، (Dignitas) هي حمولة ضمن الفضاء العام، شيء من قبيل المقام أو الصفة الاجتماعية، فالمرء يُرعى ويُربىّ ليصل إلى كرامة/ مقام السياسي أو العالِم إلخ. وليس الجميع جديرين بأن يتقلدوا هذه الكرامة، فالنساء مثلاً لم يكنّ متساويات مع الرجال في مبحث الكرامة، شأنهن شأن العبيد والبربر الأغيار. إذاً، الكرامة في العالم القديم امتياز وليست مشاعاً، ومن رواسب هذا الفهم أن يُقال في الفرنسية في عالمنا الحاضر «لقد نشأ فلان على كرامة (بمعنى الأخلاق) الفرسان». إلا أنه من المؤكد أن عالمنا مرّ من حالةٍ تُعتبر فيها الكرامة امتيازاً إلى عالم أضحت فيه الكرامة، إلى حد ما، خيراً عاماً.
يلخص فيات التيارات التي قاربت الكرامة بخمسة: البرجوازية في تطورها على النظام الأرستقراطي والفروسي القديم؛ الديانات التوحيدية الإبراهيمية وعلى الأخص المسيحية؛ مقاربة إيمانويل كانت، وهو فيلسوف الكرامة الإنسانية بامتياز؛ مقاربة هيغل العلائقية للكرامة؛ والمقاربة الحداثية للكرامة.
يبدو أن الـ (Dignité) بالمعنى الحديث هي اجتراح برجوازي، فالنبلاء في النظام القديم لم يكونوا يكترثون بهذا المعنى، إذ لديهم مفهوم الشرف (Honneur) (مرة أخرى، الشرف بمفهومنا المتوسطي المشرقي مختلف عن هذا المفهوم للشرف عند النبلاء الأوروبيين)، وهو من القيم الأسمى التي لا يتحصّل عليها إلا النبلاء أنفسهم. ومهما بلغت ثروة ومكانة البرجوازي أمام النبيل، لم يكن له إن ينافسه على الشرف، حتى أن النبيل لم يكن ليبارز برجوازياً إن استفزه هذا الأخير. بهذا المعنى، البشر ليسوا متساوين، فهناك من يتلقى أو يرث قيمة الشرف دون غيره. من هنا تأتي الرغبة الدفينة التاريخية عند البرجوازيين بأن يتمثلوا أخلاق وعادات النبلاء، هم المحرومون من جنة «الشرف»، وهذا ما أبرزه موليير في مسرحيته الساخرة: Le Bourgeois Gentilhomme وبطلها، البرجوازي «المتنبّل». وحين طال صبر البرجوازيين ونفذ بانتظار التنبّل، أرادوا أن يُعترَفَ بهم كبرجوازيين، ودفعوا باتجاه قيمة غير الشرف الذي لا يمكنهم منازعة النبلاء عليه، فرفعوا «الكرامة» كقيمة أثبتت حضورها الكبير خلال الثورة الفرنسية التي ساهم البرجوازيون فيها إسهاماً كبيراً. والمقولة مفادها أن الإنسان يصنع كرامته مهما كان مولده، بسلوكه، ولا يتلقاها أو يرثها. وهي مقولة حققت تقدماً كبيراً، بيد أنها مع ذلك لم تساوِ تماماً بين البشر جميعاً باعتبارها الكرامة ملازمة للحياة البشرية، كمكون أنطولوجي، فهناك من اتخذ سلوكاً كريماً وهناك من لم يتخذه. المفهوم البرجوازي، بهذا المعنى، مفهوم تمييزي وتراتبي، فهناك من هو كريم ومن هو غير كريم، وهناك من هو أكرم من آخر على مقياس الكراماميتر. وفي توصيف السلوك الكريم يوصي فيات بالرجوع إلى مترادفات الكرامة في قواميس القرن التاسع عشر، وكذلك إلى أدب موباسان، ليتبين أن كرامة امرأة برجوازية في الفضاء العام، على سبيل المثال، هو رديف للتحكم وضبط الجسد والنفس وصونهما، استمساك وتحكم بكل فوهات الجسد ومصرّاته وبما يخرج منها من سباب أو بصاق أو بول أو براز أو أشياء أخرى. المرأة الكريمة هي التي لا تنوس بردفيها ولا تفلت ضحكتها مثل المومسات، ولا تفلت شعرها ولا تبول في الشارع كما قد تفعل المرأة المتشردة. حتى أن هناك تعبيراً قديماً في الفرنسية للإشارة إلى المرأة المحلولة الشعر، بمعنى غير الكريمة: المرأة بشعر (Femme en cheveux). الكرامة هنا إذاً وقارٌ وضبطٌ وصونٌ ومراقبةُ فتحات ومصرّات الجسد كي لا يخرج منها شيء لا إرادي: هي محاولة للابتعاد قدر الإمكان عن العناصر الحيوانية للإنسان على المستويين الجسدي والأخلاقي. الكرامة بظواهريتها البرجوازية هذه تصنع تمايزات اجتماعية حكماً، فالفلاح الذي يصرخ ويضحك بعفوية ويتشدق دون تحفظ ليس كريماً، مع إمكانية أن يصبح كريماً. على المستوى السلوكي والأخلاقي، على البرجوازي الكريم ألا يستغرق ويبالغ في انفعالاته ومشاعره وألا يجعلها مشاعاً، ألا يبكي وألا يضحك فالمشاعر للحيّز الخاص، ولغة الجسد حينها لها شيفرتها الخاصة، لا قريبة ولا بعيدة، فقط ما يلزم من المسافة. جرّاء الإرث البرجوازي هذا للكرامة، تصبح الشيخوخة ونهاية الحياة، وكذلك الإعاقة الحادة، مسائل إشكالية، تغذي حجة الموت الرحيم، أو لنقل عدم تجريم الموت الرحيم. فلم يعد بإمكان الكثيرين من الداخلين في الحداثة تحمّل مشهد تداعي الجسد الذي يخرج من فوهاته ما لا يُتحكَّم به، الجسد الذي ضعف أداء دماغه أو غاب تماماً، في حالة الألزهايمر، الجسد الذي يقترب من الآخرين دون حفظ المسافة، في حالة الإعاقة، أو الجسد الفائح أو الشعر المنفوش.
المساهمة الجوهرية للديانات الإبراهيمية، اليهودية والمسيحية والإسلام هي فكرة أن كل إنسان هو شخص فريد، لا يمكن التعويض عنه، أي أن في كل إنسان ما يتسامى عن الحاضرة الاجتماعية، في هذا ما ينهى عن معاملته كوسيلة في خدمة الجماعة. ما يصنع كرامة الإنسان هو أنه صُنع على صورة الإله، وهذه الصورة لن يفقدها أي إنسان. بهذا المعنى، يمكن القول أن الديانات التوحيدية هي التي خلقت فكرة الإنسانية الكونية. على عكس الإغريق والرومان، تعتبر الديانات الإبراهيمية أن لكل البشر «أب» واحد، وكلهم أخوة ضمن جمهورية الجنس البشري، الكوزموبوليس. أي أنه لا يمكن لأي إنسان أن ينحطّ به الحال إلى مكان لا تطاله المحبة أو الرعاية الإلهية، وهو ما يُعرَفُ في المسيحية بمفهوم «الكينوس»، حين ينزل الله من عليائه، يفرغ جوهره الإلهي في محبة البشر. ينزل الله ليتجسد في محبة رضيع على مهد القش أو مصلوباً على الصليب (إحالات فيات إلى الديانات التوحيدية تبقى مسيحية كما نرى). لا أحد يفقد كرامته عند الله، لأن لا أحد يمكنه أن يصل إلى ما تحت الدرك الذي وصله المسيح في الصورة غير الكريمة. تجسد الآلهة لم يكن جديداً، لكن التجديد في المسيحية أن الله يمكن أن يتجسد في أضعف خلقه. يبقى أن هذه الفكرة الجوهرية حول الكرامة مرتبطة بشرطين: وجود الله، وأن الله صوّر الإنسان على صورته، فماذا لو يكن الله موجوداً؟ ويبقى كذلك أن هذه المساهمة الكبرى في الكرامة البشرية تحمل في لدنها مكموناً لانحرافات، من نمط أن المعاناة، وربما الذل والقهر والمرض، ليست إلا الصليب المحمول باتجاه ملكوت الله.
ودائماً بحسب ايريك فيات يأتي هنا دور إيمانويل كانت، الذي أحدث ثورة في مفهوم الكرامة، عمّمها مقارنة بالبرجوازيين وعَلمَنها مقارنة بالديانات التوحيدية، حين أكد في كتابه أسس متافيزيقيا الأخلاق أن البشر متساوون في كرامتهم وينبغي احترامهم حتى لو يكن الله موجوداً، ويطلق إحدى أهم المقولات: «أن للأشياء ثمنها وللإنسان كرامته، والكرامة لا تتضمن درجات ولا أجزاء». كل حساب اقتصادي لكينونة الإنسان هو عدم اعتراف بكرامته. الكرامة كلٌّ كامل، وطبعاً بالنسبة لِكانت لا كرامة لغير العاقل من أشياء وحيوانات. يبقى سؤال من أين تتأتى هذه الكرامة الجوهرية التي لا تُستلب عند كانت؟ خاصة إن لم يكن الله هو من يصنع الإنسان على صورته؟ تتأتي الكرامة من وجود القوانين الأخلاقية وملزماتها القابعة في قلب وضمير ودواخل كل إنسان، أكبر منه هو نفسه، وعصيّةٌ على التفحص الدقيق من قبله أو من قبل غيره. حتى في مكنونات الإنسان المتداعي جراء الألزهايمر، ما زال القانون الأخلاقي موجوداً وينبغي احترمه، والاحترام هو ذاك الفعل الذي ينظر فيه المرء إلى تلك الكينونة الداخلية عند الآخر، والتي لا يمكن سلبها مطلقاً، هذه الكينونة هي القانون الأخلاقي أو الكرامة. تبقى نظرة الاحترام على ما هي عليه بغض النظر عما يظهر للعيان من حال المنظور إليه، والذي ربما ما يكون متداعياً لا يسر الخاطر. ويرى كانت أن الوصول إلى الموضع الداخلي ذاك يتطلب من المرء تمريناً رياضياً مستمراً للعقل.
في منظور هيغل، أن يعترف بالإنسان إنسانٌ آخر ليس فائضاً على إنسانيته المكونة. وهذا الاعتراف يؤسس ويحقق ويجدد إنسانية المرء، فالعلاقة بين البشر هنا أساسية وليست ثانوية، ففي نظرة الآخر المحترِمة تكمن كرامة المرء كذات، مهما كان شرطه. في الاحترام هناك «الأنا التي تستيقظ بفعل اعتراف الأنت» حسب تعبير باشلار الذي ينقله فيات. ويستذكر الأمثولة الجميلة التي صنعها كوكتو من كل ذلك في الجميلة والوحش، قصة الأمير الملعون بلعنة لا يستطيع عقبها أن يعطي عن نفسه إلا الصورة الفظيعة لوحش دميم، ويردد في حواراته مع الأميرة «لا تنظري إليّ أرجوك! نظرتك تحرقني، لا أطيق تحمل نظرتك! أغلقي الباب أغلقي الباب!» ولكن الوحش في النهاية يرجع إلى هيئته كأمير وسيم، فنظرة الفتاة له، حين «رأته» حقاً أعادته، أو خُلق من جديد، كإنسان. علينا ألا ننسى هنا أن النظرة ينبغي أن تبقى خفرة وتحترم خفر الآخر. ها هنا شرط أساسي في الاحترام.
في الفهم الحداثي للكرامة، ورغم هيغل وكانت، يثبت العالم من جديد أن الكرامة ليست قيمة كونية يتقاسمها البشر بالتساوي. هي التحكم والسيطرة والاستقلال، هي أن يكون المرء صاحب القرار فيما يتعلق في شؤونه وكلامه وصورته ومصرّاته، وربما في شؤون غيره. هي إعلاء لقيم تتصل بالأداء والسيرة المهنية والشباب والجمال والسرعة. في هذه المنظومة، يتواطأ المسنّ ليقدم نفسه أضحية على معبد هذه القيم المتعلقة بالسيطرة والقوة والتحكم، ليكره نفسه ولا يتقبل ضعفه في نهاية حياته، ويطلب الموت الرحيم. عدم قبول نفوذية الكائن البشري وانتهائه وضعفه ترعب الإنسان الحداثي.
بالنتيجة، يبدو أن الكرامة بمعناها الواسع لا تُدرك إلا ظواهرياً حسب كل سياق وكل ثقافة وكل طبقة 5، والحالة السورية ليست استثناءً في تنويعاتها. الطبقات مهمة جداً في تمثيلها للكرامة، وأحياناً كثيرة حين تنحو الكرامة إلى الدخول في الجماليات الأكثر تعقيداً حول المقام والهيبة والوقار والرصانة والصورة والتمثيلات، إلى ما هو أبعد من التأكيد البسيط والأخلاقي على الطريقة الهيغلية بأن النظرة ينبغي أن تكون خفورة نحو الآخر، نشعر حينها أنها دخلت في «طبقة» أخرى غير محددة المعالم وشعورية بشكل أساسي، ليست قيمة بالمعنى الأخلاقي. هذا لا يعني عدم شرعيتها، فالهم الجمالي في تمثيل النفس حال البشر، ويمكن في لحظات كثيرة أن يعطوه مسميات من نوع الكرامة، ولكن مدلولها حينها حتماً لا يرتبط بمقولة الكرامة التي نبحث عنها. وهناك الكرامة كشعور نابع عن نرجسية مجروحة مرضوضة، وهو الشعور الذي يُنكَز على أبسط الأشياء، تلك الكرامات ابتعدت عمّا يبدو أنه محمول الكرامة في انتفاضة السوريين الأولى، والتي يمكن تمثلها على لسان كل معتقل حتى الآن، لأنها بدئية، وملحمية ببدئيتها، ولا تعريفَ لها إلا بالنقض. في كتابها حكم العنف 6 تفيدنا الباحثة سلوى اسماعيل في التبحر في مفهوم (Abject) و(Abjection)، والذي تقترح أنه المعادل «للذلّ» في كونه أوسع من الإهانة، وأنه أسلوب حكم في النظام الأسدي. ودون الدخول في المعترك الفلسفي لـ «الأبجكت» بحسب المقاربة النفسانية لجوليا كريستييفا مثلاً، والذي تمر عليه اسماعيل في كتابها، فالـ «أبجكت» هو الوسخ، الخسيس، الدنيء. وهو الوسخ كذلك بالمعنى الأول الحيواني، في اقتراب الإنسان من الأرض، في اختلاطه مع فضلاته وقاذورات الآخرين دون أن يتمكن من رفع رأسه كإنسان. أن يُضرب ويُطمش و«تُكسرعينه». محمول الكرامة في سوريا تراجع وما فتأ يتراجع أكثر فأكثر إلى حيزٍ ما قبل سياسي، وكذلك ما قبل أخلاقي، وحتى ما قبل حقوقي. هو الحالة النقيضة لحالة الحيونة بحالتها الفجّة، الحالة التي كتب عنها بريمو ليفي وحنة أرنت حين أعلنا: «الموت ولا المذلّة» في استرجاع لصورة «المسلم» المستسلم لقدره في حالة الحيونة في المعتقلات النازية. هي لحظة تأسيسية وملحمية لأنها الفصل بين الإنسان والحيوان في «أنا إنسان ماني حيوان»، المقولة الأهم والأصدق، أهم من مقولة دون معنى، برأيي، من نمط «الشعب السوري ما بينذل». «الشعب السوري ما بينذل» مرحلة متقدمة جداً ومتخيلة في بناء الهوية.
في الحقيقة، هناك الكثير من مفاهيمنا لا تُفهم إلا بالنقض.
1. لفت نظري صديق متحدث باليابانية أن مدلول الكرامة يسيل بين ثلاث مفردات، إحداها وهي الأقرب إلى الشرف تحيل إلى الالتزام بالعمل والإنجاز، والثانية قد تشير إلى الفخر، وأخرى أقرب ما تكون إلى الكرامة حين نترجم مثلاً «ثورة الحرية والكرامة». في العربية الجزائرية يُشار إلى مزيج الكرامة والفخر بـ «النيف» أي الأنف، الأنف المرفوع، وهو مفهوم قد يشير إلى الكبر في ثقافات ثانية.
2. في كتابه خطاب الكرامة وحقوق الإنسان، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2017، يعالج الباحث رجا بهلول هذه القضية، وعلاقة مفهوم الكرامة الغائم مع حقوق الإنسان.
3. (3للإطلاع على إحدى المقاربات الأنثروبولوجية لمفهوم الشرف، انظر: Johnson, Michael. All Honourable Men : the social origins of war in Lebanon, Bloomsbury Academic 2001)
4. Fiat, Eric. Grandeurs et misères des hommes- petit traité de dignité. Philosopher, Larousse. 2010
5. في كتاب ممتع عن الحس العام عند «الطبقات العاملة»، أو لنقل الطبقة الشعبية في إنكلترا، يفرد السوسيولوجي ريتشارد هوغارت فصلاً تحت عنوان «هم» «نحن» يتحدث فيه عن مفهوم العزة أو الكرامة عند الطبقات العاملة، والمتعلقة أحياناً كثيرة بنزع السحر عن «هم»، والمقصود الأغنياء أو أصحاب السلطة، أو ربما الموظفين الصغار في مراكز العمل والضمان الاجتماعي. ونزع السحر يأتي بالسخرية والسينيكية وبالتأكيد على «أننا» لن نصبح «هم» مهما حصل.
Hoggart, Richard. The Uses of Literacy. Chatto and Windus, 1975
6. Ismail, Salwa. The rule of violence. Oxford. 2018
موقع الجمهورية