عن «القادم الأسوأ» في حياتنا السورية/ مصطفى أبو شمس
تقول أمي وهي تخيط ثوباً قديماً وتعيد تدويره من جديد: «بكرا أحسن إن شاء الله»، بينما تنظر في عينيَّ الحزينتين طمعاً في الحصول على لباس جديد لا يكون إرثاً متداولاً بيني وبين أخوتي. كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي. ومنذ سنوات، مع بداية الثورة السورية كانت عبارة «بكرا أحلى» تجد لنفسها مكاناً على لسان الشباب الثائر. وقبل أيام، مع حكاية قبل النوم، كانت زوجتي تخبر طفلتنا أن الحياة ستبتسم لها حين ستكبر.
ننشغل دوماً بالبحث عن الأفضل، بالقادم الذي يكون أكثر راحة واستقراراً، وربما أكثر حياةً، مع شعور دفين بأن ذلك لا يحدث، وإنما هي مسكنات ألم نعيشها في رحلتنا مع البقاء. ويتداخل هنا شعور آخر من الحنين نحو الماضي، الماضي الذي كنا نخافه ونحاول الابتعاد عنه، لنجد أنفسنا نتغنى به في ظل ما نعيشه، قبل أن يصبح الحاضر ماضياً صالحاً للتغزّل به وصبغه بعبارات عن الجمال والبركة والأيام السعيدة رغم ما يحمله من ذكريات أليمة، يرافقها جلد للواقع المعاش، والتسويف لغد نحمل في قرارة أنفسنا إحساساً بأنه لن يكون كما نشتهي إلا بعد فواته.
القادم الأسوأ من منظور ديني
ديدن الخطاب الذي كنا نتلقّفه من «شيوخ المساجد»، وكبار السن، وحتى أمهاتنا أحياناً، أن كل يوم مضى سيكون بالضرورة أفضل مما نعيشه حالياً؛ نحن نقترب من النهاية، وكلما اقتربنا من الوصول إليها تغدو الحياة أكثر قسوة وأقل خيراً وبركة، سيكون فيها القابض على دينه كقابض على الجمر، كما ورد في الحديث الشريف. وستظهر علامات جديدة بين الناس يمكن تلخيصها في الابتعاد عن الأخلاق والتعاضد والتعاطف نحو الكذب والسرقة والأنانية والظلم. ستنتظر الطعنة تلو الأخرى من أقربائك وجيرانك، سيفقد الأب احترامه بين أبنائه، ولن تعود كلمة «الكبير» مسموعة أمام صغاره وصغار الآخرين.
حين تخبر معظم السوريين بهذا الخطاب، ستجد آذاناً مصغية، سيحرك كبار السن رؤوسهم بالموافقة، وقد تقول الأمهات «والله صحيح»، يرافق كل ذلك تعليق متشابه في مضمونه بين «آخر الزمان» و«كلّو خير». بعضهم سيبدأ بسرد قصص قديمة يضفي عليها صورة «الأسطورة» عن حوادث مضت، عن الحياة الخيّرة قبل سنوات، وسيوافقه في ذلك أبناء جيله، وسيستعير قصصاً سمعها أو قرأها في مكان ما، وسيمنحها صفة الصدق دون أن يشك في ذلك، ثم سيلتفت إليك ويخبرك أن «ذلك زمن لن تستطيع فهمه.. وعليك أن تصدقه».
لستُ بصدد الدخول في مجادلة دينية، وإنما أتساءل عن رضى هؤلاء الأشخاص أنفسهم عن ما يستعيدونه أمامنا اليوم من قصص في وقتها. أخبرني صديق مسن أنهم كانوا مثلنا، ينظرون بريبة إلى ما يخبرهم به من هم أكبر سناً، ويزرعون فيهم أحلاماً عن ماضٍ أفضل وليس عن مستقبل سيكون جيداً. ولكن إن كانت الجدلية هنا أن ما سيأتي سيكون بالضرورة أقسى وأسوأ، فما الذي علينا أن نتفاءل به؟ وما الجدوى من انتظاره؟ خاصة وأن النتائج حتميةٌ بواقع أكثر مراراً.
لا يمكن خلال التوقف عند المنظور الديني أن نستسلم لما لُقّنا إياه. الخير موجود دائماً، وهناك تبدّلٌ في بعض المفاهيم. ولا يُشترط هنا أن تكون تلك المفاهيم القديمة أفضل من لاحقتها، إذ أن هناك تعايشاً مع دورة الحياة السريعة وما طرأ على المجتمع من تقدم في المجالات كافة، علمياً واقتصادياً وزيادة سكانية وإلى آخر هذه القائمة.
لا تحدد هذه الأحاديث زمناً معيناً، وكل جيل عاش هذه «النهاية» أو «آخر الزمان»، وتم تخويفه منها باعتباره سيكون شاهداً عليها، لتتعاظم فكرة الخوف لا اليقين، واليأس لا الأمل، ويكون هذا التخويف واللاجدوى بداية لابتعادنا عن التغير والتغيير، دون أن نحاول على الأقل فعل شيء، خاصة وأن الأحاديث الدينية لم تكن تتحدث عن الفضل إلا من ناحية العقيدة والتمسّك بها، وليس الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية أو شكل الحكم، وهو ما تتمسك به السلطة لخلق «مواطن مثال» يستطيع التعايش لا العيش مع الظروف كافة، والقبول بكل شيء، طالما أن القادم، أي قادم، لن يكون أفضل.
السياسة كرست مفهوم القادم الأسوأ
كل مجهول «مخيف». تلك عبارة خبرناها أيضاً، وهي تلتقي مع مفهوم «الأبدية» في الحكم. هذه الأبدية ليست حكراً على «رئيس النظام» في سوريا، بل في كافة الأماكن والمؤسسات الحكومية. وهناك أبدية مطلقة وأبدية مؤقتة، الثانية ستكون دائماً قرباناً لتبقى الأبدية المطلقة مطلقة دوماً، وهو ما يدفع المسيطر عليها لامتلاك السلطات كافة، فصاحبها رئيس للجمهورية وقائد أعلى للجيش وأمين عام للحزب الحاكم، وبيده مفاتيح كل شيء. بتكريس هذه الصفة منذ سبعينيات القرن الماضي، بات من غير المتوقع أن نتخيل حياتنا كسوريين بعيداً عن الأبدي، ولعل فكرة تغييره أو عدم وجوده ستشكل فراغاً لا يمكن لأحد أن يملأه.
«ما بتعرف خيرو لتجرب غيرو». نُقنع أنفسنا بذلك ونحن نبحث عن مقارنات سبقت حكم حافظ الأسد، ومن ذلك أمثلة عن أمين الحافظ كمثال أكثر حضوراً في مدينة حلب، بصورة الشخص «السكرجي والطائش»، دون إمكانية البحث فيما إن كان هذا الكلام حقيقياً. وقد ساهم في ذلك تعزيز صورة القائد المحنك سياسياً والمنتصر على أعدائه الرجعيين والبرجوازيين، والذي قدم لسوريا ما لم يقدمه غيره، وكذلك شيطنة معارضيه الساعين لضرب الاستقرار في المنطقة. في جعبة كل منا عشرات القصص، غير الموثقة والأقرب إلى الكاذبة، حول تلك الحقبة، لندخل في تناقض يغيب عن الأذهان؛ إن كان حاضرنا وقتها بذاك الجمال وقد سبقه ماضٍ سيء لا يمكن مقارنته به، فلماذا لا يحتمل القادم إمكانية الأفضل والأسوأ بنسب متساوية، ولماذا لا يكون بديل الأبدي أفضلَ منه؟
في قصة متداولة شهيرة خلال سنوات مراهقتي في مدينة حلب مثالٌ واضحٌ حول هذا التكريس، ومفاد القصة أن الوزير أو المسؤول الفاسد، الذي أمضى سنوات في منصبه، سيكون أفضل من القادم الجديد. كانوا يشرحون ذلك على لسان حافظ الأسد نفسه، بأن القديم يكون قد امتلأت جيوبه وحصل على كل شيء، ولن يقف عند قوت الناس ومشاركتهم به، بينما سيعمل الجديد لسنوات طويلة حتى يصل إلى ما وصل إليه سابقه من غنى، وفي كل مرة سيكون التغيير سلبياً على حياة الناس. المثال هنا يأتي عن «مرطبان» امتلأ إلى آخره، وآخر فارغ سيحتاج إلى زمن ليمتلئ.
القصة تلك توضح المأساة بشكل كبير وبالغ الأهمية، إذ يُصنَّفَ المسؤولون على أنهم فاسدون بالضرورة، والفاسد القديم أفضل من الجديد، وذلك في محاولة لإقناع الناس بضرورة التوقف عن التفكير والرضا بالواقع. وحده الأبدي يكون مخلصاً من بين الفاسدين ضمن «حفلة شتائم» تطلق بعد فصل المسؤول وتحميله المسؤولية، وبهذا نُضيف للأبدي صفة أخرى هي «العدالة»، تلك العدالة التي لا يمكن تطبيقها عليه باعتباره «منزّهاً»، ولكنها تنطبق على من هم دونه.
معظم الإنجازات المنسوبة للنظام تعزز بشكل مخالف مقولة القادم الأسوأ، والتي تنطبق على الأشخاص دون الظروف، إذ يمكن للشخص نفسه تحسين الواقع، أما تغيير الشخص فسيؤدي حتماً إلى كارثة. والغريب أن هذه الصورة الذهنية كانت راسخة لدى الكثيرين في سوريا، وبقناعة تامة، ولذلك كان مشهد مجلس الشعب أو الوزراء أو حتى مذيعة التلفاز تقليدياً. هي الوجوه نفسها دائماً، تطرأ عليها تعديلات بسيطة غالباً ما يُنظَر إليها بارتياب ريثما تتقادم لتصبح جزءاً من الاعتياد اليومي والمألوف، وتأخذ مكانها في سلسلة الحياة العامة.
مع موت حافظ الأسد وتوريث ابنه في الحكم، كانت الدعوات المخالفة لهذا التوريث محدودة، وعملت ماكينة النظام (الأمنية والسياسية والإعلامية، وكذلك الدينية) على زعزعة مفهوم الاعتياد المرتبط باستقرار الحياة العامة للمواطنين. الوجه الجديد لم يكن مألوفاً بخلاف مخطط الأسد الأب الذي فشل بموت باسل، ولم يكن الوقت متاحاً لتكريس الصورة الجديدة للحاكم الجديد الذي سيضمن قادماً أفضل، لندخل في المعمعة من جديد؛ هل سنترحّم على أيام حكم الأب؟ أم أن القادم في الحقيقة سيكون أفضل خلافاً لما عهدناه واقتنعنا به؟
بدأ القادم الجديد بمحاولات للانفتاح وتحسين الواقع الاقتصادي للسكان، ولقمة العيش دائماً ما كانت الفيصل في مقارناتنا السورية، وهي مقارنة محقة في العموم، إذ بدأت شرائح من السكان تعيش شيئاً من الانتعاش الاقتصادي، ولتحقيق ذلك اتُّخِذَت سلسلة من الإجراءات مثل رفع رواتب الموظفين والسماح بدخول الانترنيت والقنوات الفضائية وتراجع سلطة حزب البعث، وكذلك الأفرع الأمنية.
كان الأبدي الجديد يحاول صنع قادم أفضل ويربطه بوجوده أسوة بأبيه الذي بقيت تماثيله في كل مكان، كتعبير عن ماض «جميل» ومخيف في آن معاً. إلا أن مجموعة القرارات التي اتخذها أثارت حفيظة كثير من الوجوه المألوفة القديمة من أصحاب السلطة، الذين طالما تغنوا بزمانهم ومقارنته بالواقع الحالي. المواطنون أنفسهم فعلوا ذلك أيضاً، ولم تبدأ المقارنات عند بركة النقود، التي فُقدت مع شكل العملة الجديدة التي استبدلت الطربوش أبو الملحفة، في إشارة لمبلغ خمسمائة ليرة سورية بشكلها الجديد أو العملة من فئة ألف ليرة، ولم تنتهي عند تطورات سياسية مثل الخروج من لبنان والتقارب التركي وغيرها من الأحداث، واستحضار صورة الماضي الذي كرس قدرة السوري على أن يكون «مرهوب الجانب». ولا نعرف سبباً للفكرة الأخيرة سوى ما تم تلقينه للناس حول ماضي القائد السابق، الذي لم تكن مثانته تنفجر خلال اللقاءات الطويلة مع المسؤولين الغربيين، والذي رفض التوقيع على صلح مع إسرائيل، والذي انتصر في التصحيح والتحرير.
الثورة السورية والقادم الأسوأ
«من يكون البديل الأفضل». العبارة المبتذلة دائماً حول القادم الأسوأ، التي اعتمد عليها موالو النظام منذ بداية الثورة السورية، والتي نفوا من خلالها إمكانية وجود كوادر سورية سياسية أو اجتماعية أو عسكرية قادرة على تحسين الواقع الحياتي في سوريا. ومن أجل ذلك تم عقد المقارنات التي كانت تأخذ شكل السخرية، كالحديث عن العرعور في البدايات، ومن ثم الدواعش وجبهة النصرة والإسلاميين. وفي كل محافظة أو مدينة كانت هناك أمثلة لشخصيات لا يمكن، من وجهة نظرهم، أن تُقارَن برئيسهم، وهو ما كانوا يسوقونه في رفضهم للثورة واتهامها بتنفيذ أجندات خارجية وتبعيتها لدول بحد ذاتها تسعى لتقويض سوريا وتقسيمها والنيل منها.
وجد الموالون للنظام في جملة القادم الأسوأ شماعة لتبرير مواقفهم، وشعروا خلال نقاشاتنا معهم، خاصة في السنة الأولى من الثورة، بأن تلك الحجة هي الدفاع الوحيد الذي يملكونه. وفي الوقت الذي كان فيه جمهور الثورة على استعداد للتخلي عن أي شخصية جدلية لصالح الأفضل، لم يظهر أن هناك أي نية عند الطرف المقابل للتفكير بشخص بديل، حتى ولو كان ذلك البديل بعيداً عن كل ما ينتقدونه في كوادر الثورة وما يخيفهم.
ومع كل ظهور لفصيل أو تكتل، أو مع كل خلاف فصائلي أو انتهاك في مناطق المعارضة، كان الموالون يسارعون إلى تسليط الضوء عليه وتضخيمه، وغالباً ما كانت العبارة الأولى «مو قلنالكم… هاد البديل الي عبتحكو عنو» انتصاراً لوجهة نظرهم، أو إرضاءً لأنفسهم في البقاء على ما ألفوه وما اعتادوا عليه.
ولم يُشفَ السوريون المعارضون أيضاً من عقدة القادم الأسوأ، وإن كان ذلك دون مفاضلة مع زمن بشار الأسد أو أبيه، ذلك لقناعة تامة بأن ما حدث في فترة حكمهما لن يكون أسوأ من القادم أياً كانت صورته، وهو ما دفع قسماً منهم للبحث في التاريخ السوري عن شخصيات سابقة لعقد هذه المقارنات، وكذلك المقارنة بين السنوات في زمن الثورة نفسها، والتي يصنفها الأشخاص مناطقياً أو بحسب قوى السيطرة، أو بين السلمية والمسلحة، ويدافع كل منهم عن وجهة نظره بشراسة، في الوقت الذي يسعى الأشخاص الجدد (سياسياً وعسكرياً) لامتهان فكرة القادم الأسوأ، مع التركيز على المقارنة مع زمن النظام بالغ السوء لتحقيق تلك الغاية.
ليس التحالف مع أي يكن، والرضوخ لقرارات فصيل أو جهة معينة، والقبول بالموجود، غايةَ الثورة السورية، هي لم تكن مشكلة شخصية مع نظام مجرم يجب أن ينتهي فقط، بل كان الهدف منها هو التغيير إلى واقع أفضل، ولهذا بالتحديد فإن علينا أن نتجاوز أمرين أساسيين: «المواطن المثال» و«عقدة القادم الأسوأ».
المواطن المثال (أنا)
في ثمانينات القرن الماضي، كنتُ كغيري من الأطفال الباحثين عن مستقبل أفضل. كان الهم الأكبر الذي سيبدأ والدي بتعليمي إياه هو كيف أغدو مواطناً مثالياً. معظم القرارات التي كان يصدرها أبي كانت ستنفذ دون اعتراض، شكل اللباس، الطعام، طريقة الحياة، السهر، مواعيد النوم واللعب، والشيء الوحيد الذي لم يكن تحت سلطتهم هو دراستي التي يجب أن أكون متفوقاً بها.
في المدرسة كانت القوانين الصارمة التي تمنح للمدرس كافة الحقوق، أيضاً دون اعتراض أو نقاش. عليك أن تتعلم ما يقوله دون أن تجادله، وباستثناء قلّة قليلة، كان المدرّسون يمارسون من أجل ذلك سلطة العقوبات التي كان الضرب أولها، ضمن مبدأ «اللحم إلك والعضم إلنا». وكان عليَّ في الحالتين أن أتقبل هذه القرارات والعقوبات الأبوية والمدرسية بصدر رحب ، فهي من أجل مستقبل أفضل لي ولأقراني. وعلى الرغم من قسوة وسوء ما كنت أشعر به حيالها في ذلك الوقت، إلا أني سمعت من رفاقي بعد سنوات أحاديث كثيرة عن الفضل الذي كان لهذه العقوبات والقسوة في بناء شخصيتهم التي لا يعتبرونها أفضل بحال من الأحوال، إلا حين يتكلمون عن أجيال عديدة، أساءت التربيةُ والتعليمُ وقوانينهما الحديثة إليهم بمنحهم حرية في التعبير وإلغاء العقوبات، فتحولوا إلى جيل «مايع وهش»، وهو ما يخالف الحقيقة بمقارنة ما يملكونه ويعرفونه، وما نملك أو نعرف.
غالباً ما كانت السلطة الأبوية والمدرسية بشخوصها يمنون علينا بالعقوبة، إذ أنها من وجهة نظرهم، أقل بكثير مما عاشوه هم في زمانهم، شاكرين فضل آبائهم ومدرسيهم أيضاً، ولعلّ السلسلة ستطول.
مع بداية المراهقة، وما تفرضه من تمرد، كان الهاجس الوحيد الذي لا يمكن التمرد عليه هو السلطة وحكم الدولة. ومنذ ذلك الوقت ستبدأ بإطباق فمك دائماً خوفاً من حديث عابر قد يودي بك وبأهلك إلى السجن أو الموت، وسيرافقك في سنوات حياتك القادمة أن القادم الأسوأ يفرض عليك التغني بما عشته في السابق من مساحة حرية طفولية هي أيضاً كانت مقموعة بدرجة كبيرة. ستنتسب للشبيبة والحزب، وستبدأ بسماع وصناعة الخطاب الخشبي لتكون ببغاء لما يقال من قصص وأحاديث، وستثبت في كل مرة ولاءك مع الرضا والتعايش.
ستنقل أساطير وقصص عن محافظ حلب الذي يخرج متنكراً دون عشرات السيارات، ويركب مع سائق تكسي مستغلٍّ ويخالفه، وكذلك سيقف في طوابير الخبز الطويلة ليخالف أحد الأفران. ومثله شرطي المرور وموظف التموين، دون أن يمر الحديث على فرع الأمن السياسي القريب من مدرستي ليبحث عن أحوال المعتقلين «الخونة»؛ أولئك لا يستحقون قادماً أفضل، نحن فقط من نستحق.
ستحب فتاة وتتركها لأنك لا تملك قدرة على الزواج، وستُزَّجُ في خدمة العلم لتتعلّم التنفيذ دون اعتراض. سترشي ضباطاً للحصول على إجازة من حقك، ستعمل حاجباً لتحصل على وجبة تسد جوعك، وستردد شعارات لم تفكر يوماً في مدى صدقها ومطابقتها للواقع.
ستعمل في واحدة من الوظائف القليلة، ربما تنتظر سنوات للحصول عليها. ستقول إن الراتب لا يكفيك حتى منتصف الشهر. ستترك شهادتك الجامعية لتعمل كأجير في بستان في لبنان، أو في مكبس للحجارة، أو كسائق تكسي أو نادل في مطعم. ستدّخر أمك لك النقود لتزوجك.
أمام سياسة الجزرة المتبعة لا تجد وقتاً للقراءة أو البحث عن حقوقك، وعند اكتشافك لأحد الحقوق فإن عليك أن تطرد الفكرة بسرعة، فالمواطن المثالي عليه أن يرضى بما هو فيه. وأمام عقدة القادم الأسوأ، كنا نقبل بكل القرارات الجديدة وارتفاع الأسعار وغلاء الإيجارات والرشى والإتاوات. في الأصل نحن جاهزون لكل ذلك، ما الضير إذن إن خففنا الوجبات لاثنتين أو واحدة بدلاً من ثلاثة، أو بقينا بلباس واحد نرتديه طيلة العام، ونحن نعلم مطلقاً أن تلك «نعمة ومنّة» سنخسرها في الأيام القادمة، وعلينا أن نجهز أنفسنا ونجترح حلولاً لذلك.
ليست أمور السلطة والحكم من اختصاصنا، وما يريدونه لنا سنكونه. سنصفق للقادم الجديد ونشتم الراحل، وربما نتغنى به وننظم فيه القصائد إن أرادوا لنا ذلك. سنبتعد عن التجمعات، باستثناء المسيرات المؤيدة والاحتفالات الرسمية. سندبك حتى نتعرّق، ونحاول استلام الأول كي يرانا من يرضى عنا ونخاف غضبه، هو أيضاً سيشاركنا الدبكة حتى رأس الهرم.
كـ «مواطن مثال»، لم أشهد حتى بداية الثورة احتجاجاً ولم أشارك في نقد. كرهتُ أنور السادات وسمير جعجع وميشيل عون وصدام حسين وتركيا وياسر عرفات والملك حسين وأمريكا وأوروبا، وأملك مشاعر محايدة تجاه حسني مبارك والملك فهد وأمراء دول الخليج وقذافي ليبيا، وأحب بشغف حسن نصر الله وحزب الله وإيران وأحمد جبريل وروسيا وكاسترو كوبا، وجاهزٌ لتبديل هذه المواقف متى أردتم لي ذلك، أما ما لا يقبل التغيير فكرهي لـ «عصابة الأخوان المسلمين العميلة»، ذلك أن كرهها صدر بقرار لا رجعة عنه، ولا تعديل على سياسته.
ما الذي تَغيَّر
في كل وقت، ومع دخول كل فصل مناخي أو تغير في خارطة السيطرة الثورية، وعند كل مجزرة، ومع كل انتهاك جديد أو قصف، أو تردٍّ في الوضع الاقتصادي، نجد أنفسنا أمام عبارتين هما «غير مسبوق» و«أسوأ»، يبدأ بهما الكتاب والصحفيون مقالاتهم، والسكان تعابيرهم، وكذلك المسؤولون أجوبتهم.
وإن كان هذا الأمر مفهوماً فيما يخص حياة السكان المعيشية التي تزداد سوء عاماً بعد عام، إلى الدرجة التي يمكن القول فيها، وبحسب الإحصائيات، إن معظم السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأكثر من نصفهم يعيشون في فقر مدقع، مع غياب الحلول وتراجع الدعم الحكومي ودعم المنظمات الإنسانية، وهو ما لا يملك السكان تغييره لأسباب كثيرة تتعلق بالاستقرار وطول سنوات الحرب وتضييق الخناق وغياب الحلول الناجعة، واللجوء إلى المُسكنّات. فالخيام لا تصلح لسكن دائم على سبيل المثال، وسكانها وفي كل عام سيعانون حرارة الصيف وبرد الشتاء وغرق المخيمات وانعدام النظافة وكثرة الحشرات والأمراض، وهو أمر لا يمكن تغييره إلا بتأمين مساكن بديلة، هي أيضاً لا يمكن إيجادها، لكلفتها العالية من جهة وكذلك لأسباب تتعلق بالاستقرار والتغيير الديموغرافي وإعادة الإعمار المرتبطة بالحل السياسي.
إلا أن «القادم الأسوأ» لا يمكن القبول به في مناحي الحياة الأخرى، السياسية والاجتماعية والقانونية وغيرها، ونتحمل هنا جميعاً مسؤولية الخلاص من عقدة الأسوأ وجلد الذات، إلا أنا سلطات الأمر الواقع الجديدة لم تغير من نهج العمل على «تحويل المواطن إلى مثال». خلال الحديث مع أشخاص مختلفين في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، نجد أن عدم الرضا هو الجو السائد ضد القوى المسيطرة، لكنا لا نشهد في الوقت نفسه احتجاجات لتغييره، وليس هناك سوى محاولات من بعض الأشخاص وفقاً لردة فعل ضد أمرٍ محدد وبأعداد قليلة؛ لا نجد ذلك في أماكن سيطرة هيئة تحرير الشام ولا تلك الخاضعة لسيطرة فصائل الشمال السوري التابعة للحكومة التركية، وكذلك لا نجد أي مطالبات جدية سوى بعض الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي ضد فرض العملة التركية على سبيل المثال، أو ضد قرار رفع سعر الخبز، أو تحسين الواقع الخدمي، واعتبار ما تجود به هذه القوى «منّة» علينا أن نشكرها لا أن نطالب بتحسينها أو تغييرها، أو الانتقال إلى حالة مدنية في اختيار الأشخاص الذين يتم تعيينهم بموافقة تركية أو أمنية من قبل الهيئة، وهو يشبه إلى حد كبير ما عشناه سابقاً في التعايش مع الواقع دون السعي إلى تغييره، ذلك أن القادم أسوأ، فانتقاد تركيا يعني عودة النظام، والحديث عن الهيئة يفرض بدائل أكثر سوءاً، هذا إن استثنينا الخوف الذي قد يودي بك إلى المعتقل أياً كانت القوة المسيطرة.
اليأس والتشاؤم
ليس «القادم الأسوأ» مقتصراً على سوريا وحدها، إذ يحضر هذا الشعور في أنحاء العالم بعد تراجع النظريات الكبرى التي تحدثت عن حياة أفضل قادمة، لكن لّعل ما يحضر في سوريا بوضوح هو غياب الخط الفاصل بين اليأس والتشاؤم؛ نبدو مستسلمين لهذا الفكرة ويائسين من تغييرها، حتى تكاد تغيب عندنا محاولات تجاوزها. وإن كان السوريون قد استطاعوا الثورة على نظام الأبد، ودفعوا خلال ذلك أثماناً باهظة، وما زالوا يدفعون يومياً، فلماذا يركنون بالمقابل تجاه سلطة أخرى أقل وحشية ودموية؟ لماذا لا ينفتح باب الاعتقاد بـ «قادم أفضل» أمام الأجيال الجديدة التي عاشت زمن الثورة، ولم تعش حالة الاعتياد لتتآلف مع فكرة الأسوأ القادم الراسخة، وهؤلاء سيكون تخلصهم من حالة اليأس التي أدمناها أقل صعوبة وأكثر جدوى. لماذا نعيد على مسامعهم أن كل المآسي والموت والفقر الذي عشناه، سيكون بالضرورة أفضل مما ينتظرهم، وكأننا نخبرهم أن فعل الثورة، في حد ذاته، كان خطأ علينا أن لا نقع فيه مرة أخرى.
الثورة ليست حالة اعتيادية، وهي لم تكن كذلك يوماً، ولا يمكن تأطير ما حدث في سوريا خلال السنوات الماضية بالمقولة التي تخبرنا أن كلاً منا وجد نفسه في المكان الذي اختاره، وبات عليه دفع الثمن، وعليه الرضا والقبول بذلك، دون محاولة لتطوير هذه التجربة أو تغيير ملامحها. هنا علينا أن نسأل: ما الذي نعرفه عن حقوقنا، وكيف يمكن لنا أن نطالب بها؟ نحن لا نطالب بأكثر من ذلك، أن نعرف ما لنا وما علينا ضمن الحقوق الإنسانية، ونحاسِب ونُحاسَب بناء على ذلك، ومن ثم نختار الأفضل ونتحمل مسؤولية قراراتنا حتى وإن كانت خاطئة. هذا هو القادم الذي نريده، والذي من أجله تحمل معظم السوريين كل تلك السنوات من القهر والنزوح والفقر، أما أن نعيش كل ذلك لنحصل مجدداً على صفة «المواطن المثال»، فلا أعتقد أن الأمر كان يستحق كل ذلك العناء.
موقع الجمهورية