مقالات

“جمهرة” السوريين في ظل النظام وداعش..قوالب القَسر ومنافذ الحرية/ علاء رشيدي

بمنحة من مؤسستي “اتجاهات-ثقافة مستقلة” ومعهد “غوته”، أصدر الفنان محمد عمران والكاتب عدي الزعبي، مشروعهما الفني “جمهرة”. وهو كتيب فني يجمع بين الرسم من أعمال الفنان، ونصوص ابتكرها أو اختارها الكاتب من شهادات، لتكون مرافقة لرسوم المشروع. يضم الكتيب تسعة رسوم ونصوص تستعرض تنويعات من ظاهرة التجمهر والتجمع البشري في سوريا. وتتنوع أشكال التجمهر المختارة من قبل الفنان والكاتب، لتشمل التجمهر السياسي، التجمهر الإجتماعي، التجمهر الطقسي أو الشعائري. كما أن الدوافع إلى الجمهرة تتغير من حدث إلى آخر، فمنها التجمهرات القسرية، ومنها التجمهرات الطوعية.

تحت عنوان “ليل كموج البحر” يكتب عدي الزعبي نصاً عن ذكرى وفاة حافظ الأسد. يحاول توصيف حال العاصمة دمشق خلال ذلك الحدث، ويخوض بدقة في تفاصيل إيقاع المدينة حيث يرصد سكون الناس وعدم تجمعهم، منتظرين ما يخطه القدر وما يمحوه على حد تعبيره: “أُغلق معظم المحال والمقاهي والمطاعم. لم يصدر قرار رسمي بفرض حظر التجول، لكن الشعور العام فرضه”. بينما يصف النص حركة سيارات راحت تجوب شوارع العاصمة وتهلل لانتقال السلطة إلى القائد الجديد بشار الأسد، تنتقد العبارة الأخيرة من النص بسخرية، استمرارية الحياة فجر اليوم التالي: “صبيحة اليوم التالي، عاد الناس إلى أعمالهم، صابرين متوكلين، يدندنون ساهمين أغنية عن حلوة تعجن، وديك يصيح، وصبر طال، ورزق يسعون إليه مبتسمين في مُلك الله الواسع”.

يعيد الرسم الخاص بهذه الذكرى، الصور التي ظهرت عليها جنازة  الأسد، حيث سارت مجموعة من العسكر تحمل النعش، تليهم سيراً على الأقدام عائلة الرئيس ومعها المسؤولون النافذون في الحكم والدولة. نلمح في الرسم تجمهر الناس حول نعش مغطى بالعلم السوري، تحمل تعابيرهم مشاعر الفَقد والألم والبكاء. لقد نقلت وسائل الإعلام في حين الجنازة، ردود أفعال أولئك الناس الذين عبّروا أمام الكاميرات وفي شوارع المدينة عن مشاعر الألم، البكاء، وفقدان الوعي أمام الكاميرات.

نص ورسم “القطط المذعورة”، وهو عن حالة تجمهر الشعب السوري في يوم زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى سوريا. يصف النص ذلك اليوم، بالغريب، حيث لم يدرك السوريون لماذا طُلب منهم النزول إلى الشوارع، التجمهر، استقبال رئيس الدولة الفرنسية، ويعلل ذلك بكونه رغبة السلطة السياسية في تحسين علاقتها بالرئيس الفرنسي. يصف النص كيف قاد المعلمون طلابهم بالعصي للاكتظاظ حول خط سير سيارة الرئيس الفرنسي، وراحت الجماهير تهتف بفرنسية مكسرة جملة واحدة: “فيفا شيراك، فيفا سيريا”.

لا يحكم النص على أن هذا النوع من التجمهر كان قسرياً، فبينما يبين أن التهديد كان بالحرمان من الإمتحانات، أو حتى الاعتقال كخيار مفتوح، يعيد في العبارة التالية التوضيح بأن العقوبات لم تقع: “لم يتعرّض طالب للعقاب بسبب تغيبه عن المسيرات الجماهيرية. صحيح أنهم كانوا يجمعون المتخلّفين والهاربين، وأعدادهم دوماً صغيرة جداً، ويسجلون أسماءهم في قائمة خاصة؛ إلا أنهم، في النهاية، كانوا يقبلون كل الأعذار والتذلل، بلا استثناء”. أما في الرسم الخاص بهذه الذكرى، فنجد الموكب الرئاسي في مقدمة الصورة، تفصله مسافة الشارع العريضة، عن تجمهر الناس على طرفي الطريق، بينما يحجب رجال الأمن الجماهير عن الموكب الرئاسي.

نص “طريق حمص” مقتبس من نص للفنان خالد الخاني “عشت لأروي لكم طفولتي”، يروي فيه تجمهر العائلات في مدينة حماه على طريق حمص في انتظار خروج أبنائها من المعتقلات العام 1982. يجسد الرسم ما ورد في النص، احتشاد الأمهات على مدخل المدينة الجنوبي، كلما سمعن باحتمال خروج معتقلين من السجون. كنّ يوقفن الباصات ووسائل النقل الآتية من حمص، ليبحثن عن أبنائهم وآبائهم: “كل منهم يصرخ بأسماء مفقوديه: أمّ تصرخ باسم ابنها وامرأة باسم زوجها، أو حتى طفلة صغيرة تبحث عن والدها الذي صار شكله منسياً بالنسبة لها. البكاء لا يتوقف، ويستمر هذا المشهد طوال اليوم في حالة من الفوضى والقهر والبحث عن مفقودين”.

الرسم بعنوان “تأملات شخصية على ديالكتيك الأنا والنحن”، يجسد الخطاب الذي ألقاه حافظ الأسد في العام 1992 أمام مجلس الشعب. نجد صورة الرئيس السوري الراحل تعلو فوق أعضاء مجلس الشعب الذين يجلسون في حال من الإنصات الساكن. يشحن الفنان الرسم بأسلوبية مهيبة تقاربه مع عوالم رواية “1984” لجورج أورويل. إن صورة الأب القائد ترتفع في الوسط وتحتل كامل الجزء العلوي من اللوحة، بينما يتراص أعضاء مجلس الشعب المُنصِتين في الجزء السفلي من اللوحة.

ينتقل بنا الجزء المعنون “نوارس تدور على أبواب الجنة والنار” إلى مرحلة تاريخية أقرب، وإلى فعل تجمهر يجمع السياسي بالشعائري، وهي الجنازات الشعبية التي كانت تجمع طقس الدفن بفعل التظاهر. أصبحت الجنازات نقاط انطلاق التظاهرات، وفي كل جنازة سقط ضحايا جدد، يموت الناس ويأتي غيرهم كي يشيعوهم. لقد حول الناس الجنازة إلى فعل سياسي، وأنشدوا فيها الغناء وأقاموا الرقص على أنغام الأغاني الوطنية والثورية. وفي الرسم المعبّر عن ذلك، نلمح الأكفان المرفوعة على الأكتاف، وتجمهر الناس وهم يؤدون إشارات الدعاء، الغناء، رفع الأذرع تعبيراً عن التظاهر، فتتداخل تعابير الألم والغضب، وتتداخل حركات الدعاء، الغناء، والإعتراض.

في رسم بعنوان “المشط الأصفر”، يعرض محمد عمران لأحد أشكال التجمع القسري في سوريا، وهو الاعتقال. يرسم الفنان المعتقل كمكان تتراص فيه الأجساد في مساحة ضيقة، تتكاثف أجسام المعتقلين وقوفاً عند الجدران، تحتشد للنوم على الأرض أو تتربع عند زوايا اللوحة. تختلف أحجام أجساد المعتقلين وهيئاتهم، لكن الاكتظاظ داخل المعتقل يفرض عليهم وضعيات محددة، روَتها شهادات المعتقلين، وانطلق منها الرسام في تجسيد عمله الفني.

يقول عدي الزعبي بأنه لجأ إلى قصيدة “أمثولة فارسية”، للشاعر البولندي ألكسندر وات، للتعبير عن الرسم المتعلق بتجمهر لعناصر من تنظيم داعش يقومون بقطع رأس طفل، بما عرف من التعامل الوحشي لأفراد التنظيم مع الطفولة: “لقد لجأت لهذه القصيدة للتعبير عن الشر المرتبط بحضور داعش”. نتبين في الرسم تجمعاً بصفوف طويلة لمقاتلي داعش وهم يرفعون الرايات السود، ويرفعون البنادق والأسلحة من يمين إلى يسار الرسم، بينما يتقدم الصورة مقاتل ملثم يمرر السكين على رقبة فتى يركع مستعداً للموت. إن فعل التجمهر هنا، يتعلق بتلك التجمعات التي كان أفراد التنظيم يقيمونها للقيام بعمليات قطع الأعناق والترهيب، ومنها تلك التي كان يصورها داعش أمام جمهور غفير يجعله شاهداً على أفعال إجرامية ترهيبية.

ويقدم رسم بعنوان “حنين” إعادة إنتاج بالحبر الأسود على الورق، للصورة الفوتوغرافية الشهيرة لخروج المحاصرين والمحتجزين من مخيم اليرموك. الرسم يقدم للتجمهر البشري الخارج من 8 أشهر من الحصار بسبب الصراع المسلح. يحافظ الرسام في النسخة التي ينتجها من الصورة على الكثافة البشرية للعائلات والأفراد الخارجين من الممرات المؤدية إلى الأبنية المهدمة والمدمرة. النص المختار ليرافق هذا الرسم هو شهادة مكتوبة من قبل تسنيم الخطيب، تروي فيها تجربة الحصار والخروج مع أهالي مخيم اليرموك: “8 أشهر من الانتظار، ثم خرجنا. هكذا، وحدنا إلى أي مكان. مات الكثيرون يومها، ماتوا من القنص والقصف، وماتوا اختناقاً من التدافع. اتجهنا نحو المدخل. هدأ القنص والقصف قليلاً، ومشى الناس بصمت تقريباً. همهمة غير بشرية ما زالت تطن في أذني”.

العمل الأخير بعنوان “الأمل”، يجسد واحداً من طقوس التجمهر السورية في أيام العطل، وهو “السِّيران”، حيث تختار العائلات أماكن خضراء للاسترخاء والنزهة عند أطراف العاصمة دمشق، ويتضح في الرسم نصب الجندي المجهول حيث يجري هذا النوع من التجمهر. إنه الرسم الوحيد الذي يحوي أطفالاً تلعب، عائلات تتبادل الحديث حول موقد ومشاريب ومائدة. إنه تجمهر من نوع اجتماعي أراده صانعو العمل الفني تحت عنوان الأمل، مرفقاً بقصيدة “الأمل”: “صديق الأحلام، شقيق الخيال، هو ظلك بالذات، لكنه دائماً أمامك، كالضوء لا ملامح له، كالريح لا يهدأ أبداً”، وكلها توصيفات تعيد إلى مفهوم الأمل.

شغل مفهوم التجمهر، الفنان محمد عمران، طوال مسيرته الإبداعية، وإن كان قد بدأ العمل عليه مع أعماله النحتية الأولى، إلا أنه استعاد العمل عليه بعد العام 2011، وذلك عبر وسيط فني جديد هو الرسم. الرسوم التسعة التي تؤلف الكتاب، منفذة بالحبر الأسود على الورق، فظهرت الرسوم مقتصرة على اللونين الأسود والأبيض وتدرجاتها. فقد ربط الفنان هذا الخيار اللوني بأن الأحداث والمشاهد البصرية التي تجسدها الرسوم تتعلق بالذاكرة الجمعية. فكان الخيار اللوني المقتصر على الأبيض والأسود، بغاية تحقيق الإيحاء البصري والذهني المطلوب تكوينه عند المتلقي.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى