هل الكتابة مهنة مربحة؟/ عمار المأمون
وقّعت منذ بضعة أيام 45 شخصية ثقافية عالمية عريضةً موجهةً للمجلس الأوروبي، يطالب فيها الموقعون بالاستثمار في الثقافة أكثر، وعدم تخفيض الميزانية الأوروبية من 1.8 مليار يورو إلى 1.5 مليار، ما قد يؤدي إلى خنق الحياة الثقافية، في ظلّ التهديد الذي تتعرّض له صناعة السينما والمسرح والمتاحف، خصوصاً أن الكثير منها لن يُعاد افتتاحه أبداً، وجاء في نص البيان أن “الثقافة والمجال الإبداعي هما الموظِّف الثالث”، والثقافة “أغلى ممتلكات أوروبا” ولا بد من خطة لإعادة إحيائها، ومن الموقعين، فنانة الأداء ماريا ابراهموفبتش، المغنية بيورك، المخرج المسرحي إيفو فان هوف وغيرهم.
اقتباس عن اقتباس ثم تلفيق
“صحفي، روائي، كاتب مسرحي، شاعر”، هذا الترتيب الهرمي، من الأعلى إلى الأسفل، تشير له الباحثة الفرنسية ناتالي هانيش، في كتابها “النخبة الفنية”، في محاولة لرصد الاعتبار المادي والمعنوي الذي يناله كل واحد من هؤلاء “المنتجين”، وتقتبس من بعدها من نص للفرنسي بلزاك، قوله بأن الصحفي هو من يسعى للشهرة اليومية على حساب المجد التاريخي الذي يمتلكه الروائي، علماً أن الأول، أي الصحفي، يكسب نقوداً أكثر، ولكن شهرة الروائي أوسع، أما الكاتب المسرحي، فدخله مرتبط بالعروض المقتبسة عن نصوصه لا بنصوصه ذاتها، أي أن دخله مرتبط بعجلة الإنتاج المسرحي لا بقدرته على التأليف، أما الأخير، فهل من شاعر يعتاش من قصائده فقط؟
سبك في المعنى
الهرمية السابقة بالمقارنة مع الخبر الأول، ليستا إلا إشارات إلى واحدة من أهم مكونات الظاهرة الثقافية، أو بصورة أدق، ما يتحكّم بها ويجعلها ممكنة، أي المال والمؤسسة التي توفّره، لكن الأهم في الكتابة كصنعة، هو إدراك المؤلف لدوره ضمن المؤسسات المختلفة، فهل هو محترف يدرك قوانين السوق وأسلوب “اللعب” ضمنه، أم بوهيمي يؤمن بالفن لأجل الفن فقط، متقمّصاً صورة الكاتب الفقير والمعذب من أجل “صنعته”؟
هنا يظهر السؤال الأزلي (بعيداً عن الإيمان الرومانسي بأن الخلاص يكمن في الفن نفسه) هل امتهان الكتابة يسدّ الرمق، أو كما طرحت السؤال مجلة “قراءة/ lire” الفرنسية: “هل يمكن أن نكسب النقود من الكتابة أو ألّا نخسرها؟
الإجابة عن هذا السؤال جاءت ضمن ملفٍّ صحفي ينظر في عملية الكتابة بعد الانتهاء منها، أي في الخطوة الأولى التي يحاول فيها من قرّر امتهان الكتابة دخول السوق، ويجب ذكر أن الملف الصحفي لا يحاول أن يشير إلى شكل محدد من الكتابة بوصفه الأكثر ربحاً، بل يناقش الأساليب التي يمكن عبرها ممارسة الكتابة، بمعناها الواسع، كمهنة ذات دخل.
أسئلة ونصائح قبل النشر
القسم الأول من الملف يتعلق بالمرحلة الواقعة بين الانتهاء من الكتابة وإرسال المخطوط إلى دار النشر، والسؤال الأول هو: هل نرسل المخطوط ورقياً أو عبر البريد الإلكتروني؟ لا جواب حقيقة لهذا السؤال، فنادرة هي دور النشر التي ترفض المخطوطات الإلكترونية، أما السؤال الثاني فأقرب إلى النصيحة، وهو “اختر المحرر المناسب في دار النشر المناسبة”، إذ يعتبر إرسال المخطوط إلى كل من تقع عليه عين الكاتب من دور نشر قلّة تدبير، إذ لابد من الاطلاع على الكاتالوج الخاص بكل دار، لأن المؤلف في حال تم قبول مخطوطه، سيصبح زميلاً أو قريناً لمن نشروا سابقاً في ذات الدار، أولئك الذين يشكّلون هويتها وتاريخها، ما يحدد جدية الكاتب وإلى أي فئة ينتمي. وما يجب أخذه بعين الاعتبار أيضاً هو اختيار المحرر المناسب الذي يمكن للمخطوط أن يخاطب ذوقه، والأهم من كل هذا، هو تقديم المخطوط بصورة لائقة، أي العمل على إخراجه واحترام الشكل المقروء، أي تقديم المخطوطة وكأنها جاهزة للنشر، فالمحرر هو القارئ الرسمي الأول لأي كتاب.
النصيحة الثالثة ترتبط بالمخطوط نفسه، وكيفية حمايته من السرقة أو التسريب، وغيرها من الأساليب التي يمكن أن تهدد حقوق الكاتب، والتي تعتبر في المنطقة العربية شديدة الميوعة ولا يمكن ضبطها، خصوصاً أنه لا يوجد مؤسسة تسجل فيها النصوص قبل نشرها، بل يتم الأمر بناء على الثقة بين المؤلف والمحرر في أغلب الأحيان.
السؤال الرابع يتعلق بنسبة الكاتب من المبيعات، والتي تتراوح في فرنسا مثلاً بين 8% و10 %، هذه النسبة لا تختلف كثيراً عما نعرفه في العالم العربي، لكن عوضاً عن طباعة 10 آلاف نسخة، يطبع عادة 1000 نسخة، ولو بيعت كل النسخ الألف الأولى، يجد الكاتب نفسه أمام مبلغ زهيد نهاية العام، إلا إذا بيعت آلاف النسخ على مدى العام الواحد، وهناك أيضاً الدفعة المسبقة التي يحصل عليها الكاتب بعد توقيع العقد، والتي أيضاً لا يمكن الاعتماد عليها كمصدر دخل، خصوصاً أنها لا تتوفر لعدد كبير من الكتاب، بل لأولئك المُكَرَّسين أو من هناك ضمان ما على أنهم سيحققون مبيعات مرتفعة.
النصيحة الخامسة ترتبط بالنشر على حساب الكاتب، وهي طريقة مثيرة للجدل وتحقق حلم المؤلف بأن يرى اسمه على كتاب، لكن الربح منها غير مضمون، بسبب صعوبات البيع والتوزيع والنظرة الساخرة إلى أسلوب النشر هذا، وهنا تأتي النصيحة السادسة أشبه بمخاطرة، ألا وهي النشر الذاتي على المنصات الرقمية، أي دون وسيط أو دار نشر، في هذه الحالة تعود عائدات المبيعات بأغلبها إلى الكاتب، لكن الصعوبة فيها أن على الكاتب القيام بكل الأمور الإدارية والقانونية لضمان حقه، في ذات الوقت، هناك مخاطرة في غياب الترويج والتوزيع والحضور في معارض الكتاب، والتي تشكل عادة القسم الأكبر من المبيعات، والأهم أن الربح ليس هائلاً. أحد الأصدقاء ينشر كل فترة ما وصله إلى البنك من عائدات كتابه بصورة ساخرة، كون المبلغ لا يتجاوز الدولارات القليلة، لأن سعر الكتاب الرقمي أرخص من الورقي، وهنا تظهر النصيحة السابعة، هي توظيف وسائل التواصل الاجتماعي للترويج للذات، ورسم صورة عن الكاتب وعلاقته مع جمهوره، لكن يجب الحذر كونها قد تحول الكاتب إلى مدير صفحة إعلانات، وتبعده عن الكتابة نفسها.
ترتبط النصائح الأخيرة بالكاتب نفسه، وإدراكه لموهبته/ صنعته والأدوات التي يعمل خلالها، إذ يُنصح دوماً بتحسين “الكتابة”، سواء عبر الورشات، القراءة أو التمارين الإبداعية، أما النصيحة الأخيرة فتدور حول الوكيل الأدبي: هل كل من أنجز كتاباً بحاجة لوكيل أدبي؟
هذا السؤال على مستويين، الأول يرتبط بالنسبة المالية التي سيأخذها الوكيل، أي هل الكتاب فعلاً قادر على تحقيق الربح الذي يمكن تقاسمه أو إدراج نسبة للوكيل ضمن النسب الأخرى؟ والمستوى الثاني ذو علاقة بصناعة النشر نفسها وارتباطها مع الصناعات الأخرى “المسرح والسينما”، وهذا ما لا نراه مثلاً في المنطقة العربية، حيث لا يوجد قوانين أو حتى سلطات قادرة على ضبط حقوق الكتاب، ما يجعل الوكيل الأدبي مدير علاقات عامة أكثر منه مسؤولاً عن الحفاظ على قيمة العمل الأدبي والترويج له وللكاتب، في سبيل ربح أكبر وشهرة أوسع.
يمكن إضافة نصيحة أخيرة على تلك المذكورة سابقاً، وترتبط بخصوصية الثقافة العربية، ألا وهي الترجمة. صحيح أن الموضوع يثير الخلاف، بل أن البعض يتهم المؤلفين بأنهم يكتبون لأجل الترجمة لا لأجل القارئ العربي، لكن الترجمة ببساطة تزيد من المبيعات، وهنا لابد من وكيل أدبي أو تواصل مع دور أجنبية قادرة على إنجاز الترجمة، ولن نخوض في السؤال الثقافي العميق المرتبط بجمهور المؤلف، لكن الترجمة أصبحت جزءاً من “مهنة الكتابة”، لا يمكن التغاضي عنها أو التعصب ضدها.
من يكسب أكثر: الصحفي أو الكاتب؟
ليس من السهل معرفة أرباح أي دار نشر، حتى النسب التي تتوزع على العمليات التقنية والفنية والترويجية ليست علنية، لكن، هناك دوماً تهويل حول خسارة صناعة النشر وعدم قابليتها لسد الرمق، ويقع أيضاً لوم هائل على القرّاء الذين لا يقرأون ولا يهتمون بالكتب، ما يعني نهاية العوائد القليلة للكاتب.
هناك أيضاً إشكالية القرصنة التي تجعل تكلفة الكتاب العالية بلا قيمة، لكن، لا يوجد في العالم العربي، كما فرنسا مثلاً، ما يسمى “قانون لانغ” الذي يضبط أسعار الكتب ويمنع تجاوزها حداً معيناً، وهنا تظهر المشكلة الرئيسية، غلاء الكتب، التي تواجه القرّاء في العالم العربي. وفي تحقيق في موقع الجمهورية يشرح مصعب النميري، عبر عدة لقاءات، مشكلات النشر في العالم العربي والصعوبات التي يواجهها، لكن نعود للسؤال، هل الأمر مربح للكاتب؟ الرسم البياني التالي يوضّح نسب توزيع ثمن كل نسخة من كل كتاب وما يعود للكاتب في فرنسا، وفي حديث سريع مع صديق نشر روايته الأولى، وحققت نسبة مبيعات عالية، 3000 نسخة ورقية، 6000 نسخة رقمية، يقول أن نسبته منها 10%، وبعملية حسابية صغيرة ، نكتشف أن المبلغ الذي سيعود له لا يتجاوز الألف دولار، ولن يحصل عليه بعد نفاذ النسخ، بل عليه انتظار عام بأكمله، يمارس خلاله مهنة ثانية، ذات الأمر مع صديق آخر، إذ أردد مازحاً أمامه، أن الكتابة الصحفية عن كتابه تحقق ربحاً أكثر من مبيعات الكتاب نفسه.
الجوائز والمسابقات والتمويلات والإقامات و”مهنة أخرى”
يَنصَح كُتّاب الملف بالمشاركة في المسابقات والجوائز الأدبية، لكن هذه النصيحة في العالم العربي لا تصلح دائماً، كون الجوائز العربية معدودة ومسيّسة جداً، والأهم أنها لا تقيم اعتباراً في الاختيار لأي جماليات روائية، فالنتائج متنوعة إلى حد لا يمكن معه التنبؤ بالفائز إلا من جنسيته، أما المسابقات المحلية والوطنية فعائداتها رمزية، لكن أمام الكاتب فرصة المشاركة في المهرجانات والفعاليات المختلفة المدفوعة طبعاً، وهذا أيضاً محكوم بالسياسة في العالم العربي، لكن الربيع العربي ورحيل الكثيرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، جعل فئة كبيرة من الكتاب تنخرط في هذه الفعاليات، التي تعتبر جزءاً من صناعة النشر و مهنة الكاتب نفسه، الذي لا بد له من التواجد في عدد من الفضاءات العامة، والبحث عن تمويلات وإقامات فنية وأدبية. وهذه “المنح” عادة لا ترتبط بالقيمة الروائية، بل بقدرة الكاتب على الترويج لنفسه ومنتجه بوصفه جزءاً من القطاع الثقافي والفاعلين ضمنه، لكن كل ذلك لا ينفي، أهمية مهنة أخرى مع “الكتابة”، مهنة أشد أمناً من “مغامرة الفن” وأكثر قدرة على تأمين مقومات الحياة.
الكاتب الشبح: ذاك المختفي الأشدّ كسباً
نفاجأ في نهاية الملف أن الأكثر “ربحاً” هم الكتاب الأشباح، أو الذين لا تظهر أسماؤهم على المنتج النهائي، سواء كانوا مؤلفين أم مترجمين، فهم الذين يبيعون “جهدهم” دون أي اعتراف بهم، فالكاتب الشبح مختف دوماً، وعادة ما “يُفضح” أمره إذا صرّح هو بذلك، أو نتيجة خلاف ما مع من “يدفع” له، وهنا تظهر قدسية مهنة “المؤلف” الذي لا يجوز أن ينوب عنه أحد في الكتابة، ولا نحاول هنا أن نكون ساذجين، لكن غلاء الكاتب الشبح لا يأتي من “مهارته” فقط، بل من تلاشيه الطوعي، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالأسماء الكبيرة أو الأبحاث الأكاديمية، التي يمكن لها كسب الكثير حين امتهان الفساد ضمن هذه القطاعات.
رصيف 22