حرب السرديّات السورية على الإنترنت
تشغل مسألة السردية في الحرب الأهلية السورية جبهةً متنازعًا عليها بوسائل غير مسبوقة، وعلى نطاق غير مسبوق، تغذّيها التقنية (التكنولوجيا) ويشنّها محللون، ودعاة حقوق الإنسان، ومجتمع مدني مزدهر، وفصائل الصراع العديدة، وتحاصرهم المنافسة لتشكيل ذاكرة الأحداث التاريخية.
تتزامن أهمية السردية في سورية مع حقبة من وسائل الإعلام الرقمية والحرب الإعلامية التي تتطور بسرعة، والتي أصبحت عنصرًا أساسيًا شبه كوني في الكفاح المسلح المعاصر. وقد لاحظ علماء الإجراءات الفعالة، مثل الدكتور توماس ريد، أن تسييس المعلومات ليس شيئًا جديدًا، لكن العصر الرقمي فتح الطريق لأمرٍ “أكثر نشاطًا وأقلّ قياسًا أو دراسة”.
اليوم، يمكن للناس الوصول إلى كل منصات الوسائط الإعلامية، عبر الإنترنت، مثل (تويتر وفيسبوك ويوتيوب)، حيث يمكن تحفيز التفاعل البشري عبر الخوارزميات، أو من خلال محاكاة شبكات الروبوت. وعلى الرغم من أن مثل هذه الديناميكيات تسمح بنشر المعلومات المضللة بشكل أسرع من أي وقت مضى، فإن أدوات التحقيق المتاحة ومفتوحة المصدر عممت التأكد من الحقائق. وقد عجلّت هذه التطورات مجتمعة في ظهور الفهم المتنامي بأن وسائل الإعلام الحديثة محلّ اعتراض من قبل الحزبيين، لكنها لم تترك -مع الأسف- سوى القليل من الوسائل لتقييم نطاق أو تأثير أنشطتها.
وبذلك، أصبح سباق التسلح بين المعلومات والتضليل أمرًا جوهريًا، بالنسبة إلى الصراع السوري، حيث إن التحكم في السردية هو وسيلة لتأمين الرعاية والدعم من القوى الأجنبية، وتلقي الأسلحة والدعم الجوي، وكفالة فرض الخطوط الحمراء أو التخلي عنها، وضمان الاعتراف بجرائم الحرب أو رفضها.
السردية: جبهة جاذبة للاهتمام في سورية
الحالات المهمة واللافتة للانتباه لسردية سورية، على الإنترنت، تسيطر على العناوين الرئيسة، مثل مزاعم جرائم الحرب، التي تثير الاهتمام الدولي، وتنتزع بخصوصها تصريحات علنية من الأطراف الرئيسة في الصراع. إن استخدام الأسلحة الكيمياوية هو مثال على هذا النوع من نقطة الانعطاف، حيث يشكل تحديد المسؤولية ومدى الخسائر المدنية تصورات عن الشرير والضحية، ويفتح شهية التدخل العسكري الدولي.
في نقاط مفصلية عدة في الصراع، حمّلت كلّ من الأمم المتحدة وبعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، نظامَ بشار الأسد مسؤولية الهجمات الكيمياوية. وردًا على ذلك، رفضت الحكومة الروسية نتائج البعثة، وقدمت سردية مضادة ألقت اللوم والمسؤولية على المعارضة في استخدام الأسلحة الكيمياوية.
بحلول كانون الأول/ ديسمبر 2019، لاقت الاعتراضات الروسية الدعمَ من عضوين منشقين من فريق منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، وانتقلت إلى نطاق العلن، من خلال منظمة ويكيليكس (WikiLeaks)، وهي منظمة دولية غير ربحية تدّعي الاستقلالية، على الرغم من وجود مزاعم عن تعاونها مع السلطات الروسية. وفي شباط/ فبراير، ذكرت منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية أن أعضاء الفريق المنشقين ليس لديهم سوى القليل من المعلومات المباشرة أو الدور في التحقيق، غير أن الرواية كانت قد حققت تداولًا واسعًا. الجهود الموازية للمحققين من المصادر المفتوحة مثل بيللنغ كات Bellingcat [موقع صحافة استقصائية على الإنترنت متخصص في التحقق من الحقائق والاستخبارات مفتوحة المصدر] أضافت جهة فاعلة أخرى غير حكومية إلى المجموعة، حيث وضّح باحثوها المسألة بالتفصيل، ودانوا نظام الأسد، وقد جعلهم ذلك موضوعَ إدانة روسية رسمية وهجمات مزعومة على الإنترنت.
وبسبب دورهم المزدوج في توثيق ومعالجة ضحايا الهجمات الكيمياوية، إضافة إلى التعامل مع الأشكال الأخرى من العنف العشوائي ضد المدنيين؛ أصبح العاملون في الرعاية الصحية السوريون نقاط جذب للجدال السردي. وعلى وجه الخصوص، حقق أفراد الإنقاذ المتطوعين في الدفاع المدني السوري، المعروفين باسم “الخوذ البيضاء“، شهرة دولية، وأصبحوا نقطة انعطاف أخرى في حرب السرديات على الإنترنت.
تتهم وسائل الإعلام التقليدية، مثل صحيفة الغارديان (The Guardian) التي انضمت إليها مجموعات المناصرة المتعاطفة مع المعارضة، مثل حملة سورية (Syria Campaign)، روسيا ونظام الأسد بتزعم جهود التضليل المنسقة ضد “الخوذ البيضاء”. وتصف هذه المصادر حملة تجمع بين وسائل الإعلام الحكومية، والنقاد المهمشين المناهضين للغرب، والعمل السري عبر منافذ وسائل التواصل الاجتماعي، وهي حملة يتزايد نشاطها بوضوح بعد أن تقع الأحداث البارزة والمهمة، مثل الهجمات الكيمياوية، أو ترشيح مؤسس “الخوذ البيضاء” لجائزة نوبل.
بدءًا من عام 2018، تعزو حملة سورية (Syria Campaign) جهود التضليل التي تصل إلى ما يقدر بنحو ستة وخمسين مليون شخص، وتنشيط (هاشتاغات) مثل # سورية هواكس #Syria Hoax (خدعة سورية)، إلى صدارة (تويتر) في الولايات المتحدة. ويتم التلاعب بالسردية بهذا المدى، من خلال الهيمنة النسبية لمصادر نظام الأسد روسيا وإيران على عقود وسائل التواصل الاجتماعي. من خلال الاستثمار غير المتناسب في شبكات المنافذ الإعلامية، تنتشر السرديات الموالية للنظام بسرعة أكبر، وتحقق مشاهدة أكبر من المعلومات المضادة من مصادر إعلامية مستقلة أو غربية.
هذا النمط من الطعن في السردية البارزة يعمل أيضًا خارج وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة. بصيغة الأفلام، تعرِض الأفلامُ الوثائقية السورية، مثل فيلم (الخوذ البيضاء) الفائز بجائزة الأكاديمية (الأوسكار) لعام 2017 والفيلمين: (الكهف) The Cave، و(من أجل سما) For Sama، المرشحين لتلك الجائزة للعام 2019 (الفائز أيضًا بجائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام (BAFTA) لعام 2019) محنة المدنيين المحاصرين في سورية والعاملين في مجال الرعاية الصحية، وذلك في سياق عروض جوائز الترفيه الشهيرة. من خلال الوصول إلى مثل هذه الجمهور، يقدّم الموثقون السوريون فهمًا عالميًا لمنظورهم يتجاوز تأثير المبارزة الصحفية الحكومية. وردًا على ذلك، غالبًا ما يقوم مؤيدو النظام ببناء سرديتهم المضادة حول تشويه سمعة صانعي الأفلام والأشخاص العاملين في أفلامهم الوثائقية.
في مثال واضح من عام 2017، اتهم الحساب الرسمي للسفارة الروسية في لندن الضحايا وأول المستجيبين الذين تم تقديمهم في فيلم (الخوذ البيضاء) بأنهم عملوا مقابل المال المدفوع لهم. وترافقت منشورات مواقع السفارة مع رسم كاريكاتوري لشخصية أسامة بن لادن يرتدي خوذة بيضاء تتناول تمثال أوسكار.
بعد ترشيحهم لجائزة الأوسكار وفوزهم بجائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام (البافتا)؛ تلقت الشخصيات الأساسية في فيلم (من أجل سما) معاملة مماثلة، حيث اتُهم الدكتور حمزة الخطيب، وهو شخصية محورية في الفيلم الوثائقي، بالانتماء إلى مجرمي الحرب الجهاديين. لاقت السردية/ الرواية المضادة الدعمَ من سلسلة من الصور المتداولة على الحسابات الموالية للنظام، ومن تلك المرتبطة بقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد بشخص مصطفى بالي، رئيس المكتب الصحفي لـ (قسد). وعلى الرغم من ظهور الدليل على التلاعب الفظ نسبيًا بين الصور، فإنها انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
“المجداف” في حرب السرديات على الإنترنت
على الرغم من أهمية فهم حرب السرديات على الإنترنت في سورية، هناك شعور مجنون بأن القياس/ الإجراء التحليلي لا يفِي بالغرض. صحيح أن ظاهرة المعلومات المضللة تخضع للتدقيق من خلال البحث الصارم، إلا أن الجهود المبذولة لتحديد الصحفيين ذوي الأجندات الحزبية تشير إلى حجم المشكلة الأوسع. لقد كُتب كثير عن ظاهرة “المتصيدين” أو روبوتات الإنترنت. وبالمثل، ثبت أن الدول تعمل بنشاط على صياغة سردية عبر الوسائط الرقمية. ومع ذلك، يبرز سؤال بخصوص الطاقة المستثمرة في هذا العصر الجديد من حرب المعلومات: أين تكمن فاعلية حرب الروايات؟ بصورة محبطة، تكافح الدول والباحثون المستقلون على حد سواء لتقديم إجابات محددة.
في أعقاب الضربات ضد نظام الأسد عام 2018، قدرت وزارة الدفاع الأميركية زيادة نشاط التضليل الروسي-الإيراني بنسبة 2000 في المئة، وهو رقم لم تتمكن أفضل جهود مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي التابع لمجلس المحيط الأطلسي من التحقق منه. لقد بذلت المؤسسة الأخيرة، إلى جانب موقع بيلينغ كات (Bellingcat) للصحافة الاستقصائية، جهودًا كبيرة لتبديد ضباب الحرب السائد هذا، مشيرين إلى العبء الكبير المطلوب لتقديم البرهان لفصل النشاط الحقيقي عن غير الحقيقي على وسائل التواصل الاجتماعي.
وبالمثل، زادت وسائل الإعلام الدولية نسبة تغطية المعلومات المضللة المتعلقة بنشاط “القزم الروسي”. لسوء الحظ، حتى المنظمات ذات الموارد الجيدة مثل نيويورك تايمز قد ارتكبت خطأ فادحًا، عن طريق إساءة التمييز في تعريف المدونين الذين نادرًا ما يقرأ أحدٌ لهم، كممثلين رئيسين في شبكات التضليل التي ترعاها الدولة. وما يثير الارتباك خصوصًا أن عمل علماء المقاييس النشطين مثل الدكتور ريد Rid أثبت أن كلًا من مرتكبي التضليل ومدققي الحقائق يفتقرون إلى وسائل فعالة لقياس تأثيرها على الرأي العام.
إن فهم تلك العيوب لا يجب أن يحجب -بأي حال من الأحوال- أهمية حرب المعلومات، التي غدت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتغيير النظرة الدولية للصراعات مثل الصراع في سورية. القضية هي أن سوء تحديد المصطلحات أو إساءة استخدامها -مع استمرار المعارك عالية الخطورة حول السرديات- يزيد الطين بلّة. عندما تقترن بنقص المقاييس الواضحة لتقييم الأثر، تزداد الوصفة المثالية للتغلب على الموقف والتقليل من قيمته، وهي حالة عدم اليقين التي تُسكت الضحايا وتساعد عمل مرتكبي التضليل.
اسم المقالة الأصلي The Syrian online war of narratives
الكاتب كارل نيكولاس لايندنلاوب، Karl Nicolas Lindenlaub
مكان النشر وتاريخه المجلس الأطلسي، Atlantic Council، 8 تموز/ يوليو 2020
رابط المقالة https://bit.ly/32lzitn
ترجمة أحمد عيشة
مركز حرمون