أبحاث

عن التجربة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ سوريا…

عن التجربة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ سوريا… هذا هو الدستور السوري الأول

منذ قرن مضى، واظبت بدءاً من شهر مارس من عام 1920، مجموعة تألفت من 85 رجلاً على عقد اجتماعات منتظمة في دمشق استمرت حتى منتصف يوليو. حضر بعض هؤلاء مرتدين العمائم، وبعضهم الآخر بالطربوش، وآخرون ارتدوا الحطة على رؤوسهم، بينما حضرت مجموعة ببزات عصرية. انعقدت هذه الاجتماعات في حجرة داخل مبنى العابد، وهناك تم إنهاء صياغة لمسودة أول دستور حديث في تاريخ سوريا (تشمل سوريا اليوم ولبنان والأردن وفلسطين).

هؤلاء الرجال هم أعضاء أول مجلس سوري للشعب أو ما يعرف بالمؤتمر السوري العام.

ولماذا نذكر ما اعتمروه على رؤوسهم حينها؟ لأن هيئاتهم المختلفة تلك دلت على أن لجنة المؤتمرين تتألف من أشخاص انتموا لمختلف الخلفيات الاجتماعية والثقافية كمشايخ الدين والمسؤولين السابقين في السلطنة العثمانية وعلمانيين ليبراليين من الجمعية العربية الفتاة وزعماء القبائل والطوائف. وقد نجحوا على اختلاف مشاربهم في التوصل إلى ائتلاف في ذلك الوقت لإنشاء دولة ديمقراطية مستقلة في المنطقة العربية.

ماذا حدث لمسودة الدستور تلك؟ وما الذي تعكسه إقامة دولة ديمقراطية عن المشهد السياسي والديني والاجتماعي آنذاك؟ وكيف رسم مصير هذا الدستور مستقبل المنطقة العربية حالياً؟

فترة الاستقلال الوجيزة بعد الحرب العالمية الأولى

انتهت الحرب العالمية الأولى بانهيار السلطنة العثمانية، التي مثلت بالنسبة للعرب وللسوريين حينها فرصةً لبناء دولة مستقلة. وبوحي من أربع عشر نقطة طرحها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في ميثاق عصبة الأمم، وخشيةً من الاحتلال الفرنسي، عمد الأمير فيصل إلى إعلان قيام الدولة السورية في عام 1918 واقترح نفسه حاكماً لأراضي سوريا الكبرى. كما أعلن أن الدولة يجب أن تكون ملكية دستورية، يتمتع فيها جميع العرب، سواء كانوا مسلمين أم لا، بحقوق متساوية.

وفي فبراير من عام 1919، قدم ويلسون ميثاق عصبة الأمم، وكما نصت المادة 22 منه، أقرّ الميثاق اعترافاً باستقلال سوريا، مشروطاً بانتداب مؤقت. ثم أرسل ويلسون، إثر ذلك، لجنة أمريكية لتستطلع آراء السوريين بما يتعلق بهذا الانتداب.

خلافاً للمزاعم البريطانية والفرنسية بأحقيتهم بالانتداب على الأراضي السورية، رفض السوريون تحت أي ظرف أن تخضع تلك الفترة المؤقتة للانتدابين البريطاني والفرنسي، إذ أنهم كانوا على درايةٍ بمطامعهم الاستعمارية في المنطقة. لكن اقترحوا أن تخضع البلاد لانتداب أمريكي محدود الصلاحيات لفترة وجيزة للغاية من التوجيه من قبل المستشارين الذين اشترط السوريون اختيارهم بأنفسهم.

بالرغم من ذلك، بعد تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي على رفض التصديق على هذا الاقتراح من جانبهم، أعلن المؤتمر السوري العام الاستقلال، ليتوصل بعدها إلى ما يمكن اعتباره تحالفاً تاريخياً بين دعاة الليبرالية والزعماء المسلمين المحافظين، الذين بدأوا على الفور في صياغة الدستور السوري.

الدستور السوري الأول (1920)

حلت المؤرخة والبروفيسورة الأمريكية إليزابيث طومسون، ضيفةً الأسبوع الماضي في الحلقة الأولى من سلسلة ندوات عبر الإنترنت تستضيفها الدكتورة ريم تركماني، (زميلة بحث بارزة في مشروع الشرعية والمواطنة في العالم العربي في LSE)  احتفالاً بالذكرى المئوية لمحاولات بناء الدولة في العالم العربي.

وفي حديثها عن تاريخ الدستور السوري الأول، رأت أن مسودته التي وضعت عام 1920 كانت شبيهةً إلى حد بعيد بالدستور الأمريكي الذي صاغه المؤتمر الدستوري الأمريكي في ولاية فيلادلفيا عام 1787.

في كتابها المنشور مؤخرًا، “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب“، تجادل طومسون بأن اللغة التي صيغت بها المادة الأولى من دستور 1920 تميزت بدرجة كبيرة من العلمانية، لأنها لم تحدد الإسلام كدين للدولة الجديدة، كما كان الحال تحت حكم العثمانيين. وبينما أقرت المادة نفسها أن دين الملك هو الإسلام، لم يؤد الملك القسم الدستوري على التمسك بالشريعة الإسلامية في حكمه.

كما تضمنت المادة السادسة من الدستور، التي صادق عليها أعضاء المؤتمر بالكامل، على التزام الملك “أن يقسم أمام المؤتمر على احترام القوانين الإلهية والولاء للأمة والالتزام بدستورها”. تشير طومسون إلى أن مبدأ الفصل بين الدولة والإسلام الذي توصل له السوريون في دستور عام 1920، لم يطبق في تركيا حتى عام 1928 حين قام مصطفى كمال أتاتورك باستبعاد الشريعة الإسلامية عن نظام الحكم. وهذا ما لا نجده اليوم في معظم دساتير الدول العربية في الوقت الراهن.

إلا أن مفاجأة أخرى تنتظرنا حين نعرف أن المؤتمر السوري أقر فصل الإسلام عن الدولة تحت رئاسة شيخ إسلامي هو محمد رشيد رضا، سنفرد مقالاً للحديث عنه كشخصية مؤثرة في تاريخ سوريا والمنطقة. وقد أوضح رضا، كما تذكر طومسون، أن المساواة هي مبدأ أساسي للشريعة الإسلامية، وبالتالي، فإن جعل الإسلام مصدراً للتشريع في الدولة ينتهك هذا المبدأ، لأن نسبةً تصل إلى 1/5 من السكان السوريين كانوا من غير المسلمين.

الديمقراطية السورية وفقاً لدستور 1920

استفاض الدستور بإيضاح الروح الديمقراطية التي صيغت مواده وفقها فأكد على حرية الاعتقاد والتعبير، وحرية التجمع، والحق في الخصوصية وقوانين لضمان حقوق الملكية، والحق في التعليم العام المجاني. كما أكد الدستور أن السيادة أولاً وأخيراً من الشعب.

انتُخب الملك فيصل آنذاك كأول ملك لسوريا، لم يصل إلى الحكم عن طريق سلالة حاكمة أو شرعية إلهية. كما كان رئيس الوزراء هو المسؤول عن المؤتمر وليس الملك. وأخيراً، شمل حق التصويت جميع السوريين ابتداء من عمر العشرين فأكثر، وأيدت أغلبية النواب في المؤتمر حق المرأة في التصويت، ومن بينهم أمين عام المؤتمر محمد عزت دروزة.

يُظهر هذا، كما تجادل طومسون، أن المؤتمر السوري لم يكن مسرحاً للدمى التي تحكم بها إما فيصل أو علمانيو الجمعية العربية الفتاة بحسب ادعاءات الفرنسيين. بل “مثل العديد من الفئات السورية في المجتمع السوري: ريفية ومدنية، محافظة وإصلاحية ، دينية وعلمانية”.

نهاية الاستقلال وخسارة الديمقراطية

بينما كانت دمشق تشهد ولادة دولة ديمقراطية مستقلة، اجتمع القادة الأوروبيون لمؤتمر باريس للسلام في سان ريمو بإيطاليا ليعلنوا رفضهم لاستقلال سوريا، ولسلطة المؤتمر، وكذلك لاختيار فيصل كملك. وقرروا تقسيم سوريا إلى مناطق انتداب وفق ما نصت عليه اتفاقية سايكس بيكو السرية.

حيث حضر مؤتمر السلام كل من: رئيس الوزراء الفرنسي ألكسندر ميلران، ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد، ورئيس الوزراء الإيطالي سافريو نيتي، والمندوب الياباني ماتسوي كيشيرو. تذكر طومسون أن وفداً من الحجاز فقط مثّل العرب في هذا المؤتمر وسط غياب ممثلين عن الدولة السورية الديمقراطية.

في مذكراته، ذكر رستم حيدر، مساعد الملك فيصل، الذي عمل فيما بعد وزيرا الدفاع والمالية للعراق، أن أعضاء المؤتمر السوري كانوا في الردهات خارج قاعة المؤتمر، بينما كان يتم اتخاذ القرار القاضي بتقسيم سوريا.

وعلى الرغم من أن الميثاق الأصلي لعصبة الأمم، الذي أعلن عنه ويلسون في عام 1919، وصادق عليه لاحقًا البريطانيون والفرنسيون، أعلن استقلال سوريا وأكد على سلطة الشعب وحقه في اختيار قوة الانتداب التي ستوجه انتقاله، إلا أن الانتداب الفرنسي والبريطاني فُرِض على الأراضي العربية بقوة السلاح.

برر ميلران هذا بقوله، إن إعلان الاستقلال افتقد للشرعية من الأصل، وبالتالي، رأى ضرورة حل المؤتمر الذي وصف أعضاء بأنهم “متطرفون”. ثم ما لبث أن أعطى أوامره للجيش الفرنسي، الذي بنى قواعده في وقت سابق على الشريط الساحلي اللبناني، بغزو دمشق.

ولأن الجيش السوري كان ضعيفًا في عام 1920 بسبب الحظر على شراء الأسلحة الذي فرضته بريطانيا وفرنسا، فقد كانت هزيمته سريعة ومدوية في معركة ميسلون في صباح 24 يوليو من عام 1920.

ماذا حل بأعضاء المؤتمر السوري؟

اندفع معظم أعضاء المؤتمر إلى القطارات والسيارات والعربات التي فروا منها إلى الأردن وفلسطين ومصر والعراق وحتى الحجاز.

فيصل نفسه، لجأ إلى إيطاليا، “القوة الأوروبية الوحيدة التي أظهرت تعاطفاً ما مع مطالب العرب بالاستقلال” بحسب طومسون. وقرر البريطانيون لاحقاً، تعويض فيصل عن الحنث بوعدهم له ولوالده بالمصادقة على الاستقلال، بتتويجه ملكًا على العراق عام 1921 في حكم غير ديمقراطي في ظل تمثيل برلماني ضعيف.

انقلب رشيد رضا في منفاه في مصر، ضد حلفائه الليبراليين تعبيراً عن يأسه من الليبرالية الغربية بعد سفره إلى جنيف ليقدم اعتراضاً لدى عصبة الأمم في صيف عام 1921، في نفس الوقت الذي تم فيه تتويج فيصل. وحين صوتت عصبة الأمم على مصادقة على الانتداب والمضي به، بدأ رضا بتغيير نهجه وتعليم طلابه في القاهرة أن السعي إلى العدالة لا يتم خارج الشريعة الإسلامية في جنيف وعبر عصبة الأمم.

شقاق عمره قرن من الزمن

كان من الصعب جداً تكرار ما حدث في ربيع دمشق عام 1920. وفي ظل الانتداب الفرنسي، اختفى التحالف الإسلامي الليبرالي، الذي تم تشكيله في المؤتمر بشكل كلي. وبرغم محاولات عزت دروزة في فلسطين لإحياء هذا الائتلاف عام 1931 بتنظيم اجتماعات دعى إليها الملك فيصل للتخطيط لاجتماعات لاحقة في بغداد، غير أن البريطانيين قمعوا كل هذه الجهود وأجهضوا أية مطامح في دولة ديمقراطية أخرى حتى وفاة فيصل.

في سوريا، شكل القادة العلمانيون الممثلون بالكتلة الوطنية معارضة في وجه الأحزاب الإسلامية الشعبوية الجديدة. كما واجه هاشم الأتاسي، الذي كان أول رئيس وزراء سوري في عام 1936، معارضة الزعماء الإسلاميين مثل محمد كامل القصاب الذي تبنى جمعية العلماء في دمشق أواخر الثلاثينيات. ومن المفارقات أن هذا هو نفسه القصاب الذي احتشد نصرة لقضية الاستقلال والمؤتمر العلماني 1920، والذي كان في السابق حليفاً للأتاسي، أصبح الآن منافسه السياسي.

في عام 1939، بدأ القصاب ومجموعة أخرى من الإسلاميين مظاهرات أسقطت حكومة الكتلة الوطنية عشية الحرب العالمية الثانية. وفي ظل هذه الظروف، وقفت النخب العلمانية على مفترق طرق مع الأحزاب الشعبية الإسلامية، ما أدى إلى حدوث شقاق بين الإسلاميين والليبراليين سيستمر في إضعاف المعارضة في وجه الديكتاتوريات حتى بعد قرن من الزمن.

وللمفارقة، تشير طومسون، فقد تبنت الدكتاتوريات العسكرية “العلمانية” دساتير كرست الشريعة الإسلامية كمصدر رسمي للقوانين ما يتعارض مع الأهداف الديمقراطية لدستور عام 1920. وبرأيها فإن “هذا الانقسام بين السوريين العلمانيين والإسلاميين وانعدام الثقة واعتماد التشكيك المتبادل بينهما استمرا في التزايد منذ ذلك الحين، ليضعف قوة الحركات المعارضة للديكتاتوريات في العالم العربي “.

وختاماً، هل نعتبر أن الحديث عن الديمقراطية اليوم في ظل الوباء العالمي والأزمة الاقتصادية التي تترك أعداداً كبيرة من السوريين يتضورون جوعاً أو بدون مأوى، هي رفاهية فضفاضة؟ تجيب طومسون عن هذا التساؤل باقتباسها لما قاله الاقتصادي ميشيل ماسينغ: “تحدث المجاعات في البلدان في ظل الديكتاتوريات وليس في ظل الحكم الديمقراطي”.

وفي كتابها الذي يقدم منظوراً جديداً حول تاريخ الديمقراطية في الشرق الأوسط وأسباب ضعفها اليوم، تشير طومسون إلى أن مستقبل الديمقراطية في سوريا وفي أماكن أخرى من العالم العربي “قد يعتمد إلى حد بعيد على إصلاح الشقاق للتغلب على الديكتاتوريات”، التي تعتقد أنها نشأت أصلاً نتيجة لخوف المستعمرين الأوروبيين من الديمقراطية العربية التي تشكل تهديداً لمستعمراتهم في شمال إفريقيا وعائقاً في وصولهم إلى نفط العراق والخليج. ولهذه الغاية، قرر قادة مؤتمر باريس للسلام، بالتعاون مع عصبة الأمم الجديدة، تدمير النظام الديمقراطي في دمشق، الأمر الذي ما تزال المنطقة تعيش عواقبه حتى الآن.

رصيف 22

—————————–

مائة عام على الحكومة العربية في دمشق .. مَلَكية مقيدة ودستور علماني/ صقر أبو فخر

حدث في 24/7/1920، أي منذ مائة سنة بالتمام، أن الاستعمار الفرنسي حطّم أحد أجمل الأحلام العربية، فدخل إلى دمشق عنوة وقهرًا بعد معركة ميسلون الخالدة، وأنهى الحكم الفيصلي فيها وحل الحكومة العربية، وشرع في تقسيم سورية على أسس طائفية، فأنشأ دولة للعلويين ودولة للدروز ودولتين للسُنّة (دمشق وحلب) وسنجقاً مختلطًا في الجزيرة (دير الزور – الحسكة)، وأعلن قيام دولة لبنان الكبير، لتكون دولة للموارنة بالدرجة الأولى، وكان ذلك كله تمهيدًا لتأسيس دولة لليهود في فلسطين. وفي السنوات اللاحقة، أطلق سوريون وعراقيون كثيرون اسم “ميسلون” على بناتهم، تذكارًا لذلك اليوم المهيب الذي تصدّى فيه السوريون للجحافل الفرنسية عند موقع خان ميسلون الذي استشهد فوق ثراه البطل يوسف العظمة.

كانت الحكومة العربية في دمشق تجسيداً رائعاً لليقظة العربية التي انطلقت في أواخر القرن التاسع عشر بعد ركود طال، ورُقاد تطاول في ظل الحكم التركي الذي امتد 400 سنة. واليقظة العربية تلك تمكّنت، من دون قصد، من تفكيك الرابطة الإسلامية التي استُخدمت باستمرار لتأبيد سيطرة الأتراك على العرب. آنذاك، صارت دمشق قبلة العرب وعاصمتهم ومهوى أفئدتهم وحاملة بيارق العرب كلهم وتطلعاتهم إلى الوحدة والحرية الاستقلال، وتجمّع فيها، بعد دخول الأمير فيصل بن الحسين، رجالات العرب كلهم تقريبًا. فمن العراق: ياسين الهاشمي وطه الهاشمي وجعفر العسكري ومولود مخلص وجميل المدفعي وعلي جودة الأيوبي وناجي السويدي وتوفيق السويدي ونوري السعيد وتحسين العسكري وتحسين علي وثابت عبد النور وإسماعيل نامق ورشيد الخوجة وإبراهيم كمال. ومن فلسطين: الحاج أمين الحسيني وعوني عبد الهادي ومحمد عزة دروزة ومعين الماضي وعبد القادر المظفر وسعيد الكرمي وأحمد حلمي عبد الباقي وصبحي الخضراء واسحق البديري وسعيد الحسيني ومحمد علي التميمي وإبراهيم هاشم. ومن لبنان: عادل أرسلان ورشيد طليع ورستم حيدر وفؤاد سليم وسعيد عمون وأسعد داغر ورشيد الحسامي وتوفيق الناطور ورضا الصلح ورياض الصلح. ومن سورية: هاشم الأتاسي وإبراهيم هنانو وصبحي بركات ومظهر رسلان وإحسان الجابري وأحمد مريود ومحمود الفاعور ومصطفى الشهابي، وكامل القصاب وعبد الرحمن الشهبندر وخالد الحكيم وشكري القوتلي وسلطان الأطرش ونبيه العظمة وخير الدين الزركلي وفخري الباروي ويوسف العظمة وفارس الخوري وساطع الحصري ونجيب شقير وجميل مردم. وهؤلاء وغيرهم تمكنوا من تأسيس حكومة جسدت الحلم العربي البهي الذي كان النقيض المباشر للإقليمية والطائفية، ومثّل الخلاصة الباهرة لفكرة المواطنة المتساوية في دولة عصرية ديمقراطية. فسورية آنذاك كان الملك فيها حجازيًا (الملك فيصل)، ورئيس برلمانها الموقت مصريًا من أصول لبنانية (رشيد رضا)، وقائد جيشها عراقياً (ياسين الهاشمي)، ووزير داخليتها لبنانيًا (رضا الصلح)، ووزير خارجيتها فلسطينيًا (سعيد الحسيني)، وحكام المناطق يتحدّرون من معظم بقاع العراق وبلاد الشام، والجميع سوريون، ولا أحد يستهجن ذلك قط. ومدينة دمشق نفسها التي كان حاكمها سُنيّاً دمشقيًا (علي رضا الركابي) لم تجد أي غضاضةٍ في أن يكون رئيس مجلس الشورى العسكري فيها سُنّيًا من بغداد (ياسين الهاشمي)، وأن يكون رئيس العدلية مسيحيًا من دير القمر (اسكندر عمّون)، ورئيس المالية مسيحيًا من الشويفات (سعيد شقير)، ورئيس الأمن العام مسيحيًا من طرابلس (جبرائيل حداد)، ورئيس الخارجية مسيحيًا من دمشق (توفيق شامية) ورئيس الصحة مسيحيًا من عبيه في جبل لبنان (سليم موصلّي). حتى إن محكمة الاستئناف العليا التي تطبق أحكامًا مستمدة من الشريعة الإسلامية، خصوصًا في قضايا الأحوال الشخصية (الإرث والوصية والزواج) كانت تتألف، في إحدى مراحل تلك الحقبة، من ثلاثة قضاة مسيحيين: نجيب الأميوني رئيسًا (من حاصبيا)، وأسعد أبو شعر (من دمشق)، وفايز الخوري (من الكفير).

لم ينص دستور المملكة العربية السورية الذي صدر في 13/7/1920، أي منذ قرن كامل، على دين الدولة، بل اكتفى بالنص على أن “دين الملك هو الإسلام”، وأن حكومة الملك هي حكومة مدنية نيابية. ونصّ، فوق ذلك، على عدم جواز تكليف أي شخصٍ من الأسرة المالكة تولّي الوزارة، ومنعَ النواب من عقد المقاولات مع الحكومة أو البلديات، أو حتى الاشتراك في المناقصات مباشرة أو مع الغير، ولا تجتمع الوظيفة والنيابة في شخص واحد، وكذلك رئاسة المحكمة والوظيفة. وللأسف، لم تُختبر تلك الحكومة في الميدان العملي، لأن المستعمرين الفرنسيين، وهم أسوأ ما عرفته البشرية من صنوف الاستعمار (شاهدُنا على ذلك ما فعله الفرنسيون في الجزائر وفيتنام وكمبوديا ولاوس على سبيل المثال) بادروا إلى احتلال دمشق، وألغوا الحكومة العربية فيها، ونصّبوا أعوانهم حكامًا اسميين على الدويلات السورية المزعومة.

البدايات

لم تكن العائلة الهاشمية في الحجاز ذات اتجاه قومي عربي، ولم يكن لها أي اتصال بالحركة القومية العربية التي ظهرت في إسطمبول ودمشق، لأن الهم الأساس للشريف حسين كان، قبل عام 1915، مقاتلة عبد العزيز بن سعود في نجد، علاوة على الإمام يحيى في اليمن، وابن الرشيد في حائل، ومحمد الإدريسي في عسير، وهؤلاء أشعلوا التمردات على السلطنة العثمانية، وتولى الشريف حسين بن علي، بتكليف من السلطنة التي كانت عينته شريفًا على مكة في سنة 1908، إخماد تلك التمردات طوال سنة 1913. والحقيقة أن الإنكليز كانوا وراء فرض الشريف حسين بن علي (عينته السلطنة شريفًا على مكة في سنة 1908) على الحركة القومية العربية لقيادة الثورة على الأتراك العثمانيين. وجرى اختيار مكة مكانًا لانطلاق الثورة بسبب بُعدها عن مركز السلطنة، وعدم وجود حامياتٍ تركيةٍ فيها خلافًا لدمشق التي تعجّ بالجند. وكانت لبريطانيا مصالح جمّة في الجزيرة العربية، مثل خطوط مواصلاتها مع الهند، وبالتحديد قناة السويس، وكذلك النفط المكتَشَف حديثًا في العراق والجزيرة العربية. أما اختيار الأمير فيصل قائدًا للقوات العربية التي دخلت مع قوات الجنرال أللينبي إلى الشام، فكان استمرارًا لاختيار والده قائدًا لقوات الثورة العربية في عام 1916. ثم إن فيصل كانت له اتصالات بجمعيتي “العربية الفتاة” و”العهد”. وقد انضم فيصل في دمشق في سنة 1915 إلى “جمعية العهد”، وكان انضمامه رمزيًا، ويعني قبوله ووالده الشريف حسين عمليًا المطالب القومية العربية. آنذاك، اتفق فيصل مع الزعماء القوميين العرب على أن يعلن والده الثورة ضد تركيا، وتسلّم منهم ميثاقًا يتضمن مطالبهم، ويرسم حدود البلاد العربية في آسيا الساعية إلى الوحدة والاستقلال. واتفق الجميع على أن تكون حدود المملكة العربية العتيدة كالتالي: من خط مرسين وأضنة (مرسين وأضنة مدينتان سوريتان قبل إلحاقهما قسرًا بتركيا) إلى حدود إيران شرقًا، ثم جنوبًا إلى الخليج العربي (على أن تكون الأحواز أو خوزستان أو عربستان ضمن حدود المملكة العربية)، ثم نحو المحيط الهندي، وغربًا على امتداد البحر الأحمر حتى البحر المتوسط، فإلى مرسين شمالاً عبر المدن الساحلية السورية وهي غزة ويافا وعكا وصور وصيدا وبيروت وطرابلس واللاذقية.

وصلت القوات العربية إلى ضواحي دمشق في 30/9/1918، ثم دخلت إلى دمشق في 1/10/1918، وتبعها موكب الأمير فيصل في 2/10/1918 الذي دخل دمشق من طريق حي الميدان، وكان خيالة الدروز وعشيرتي الرولى والحويطات يحفّون به، علاوة على بعض الضباط العراقيين والسوريين. وفي تلك الأثناء، وبالتحديد في 30/9/1918، أعلن الأمير محمد سعيد الجزائري الحكومة العربية في دمشق باسم الشريف حسين بن علي. وكان الأتراك قد عيّنوا سعيد الجزائري حاكمًا لدمشق، قبيل انسحابهم من المدينة نحو الشمال. فبادر الأمير سعيد وشقيقه الأمير عبد القادر (حفيد المجاهد عبد القادر الجزائري) إلى تنظيم فرقةٍ من المغاربة للمحافظة على الأمن وتنظيم عمل الإدارات الحكومية الرسمية. واجتمع بعض أعيان دمشق في دار البلدية في ساحة المرجة، وألّفوا مجلسًا للشورى، واختاروا الأمير سعيد رئيسًا للحكومة العربية المؤقتة، ورفعوا العلم العربي على بعض المقارّ الرسمية. ومع دخول فيصل إلى المدينة، عين اللواء شكري الأيوبي حاكمًا لولاية بيروت ولجبل لبنان، فأُعلنت في الأثر الحكومة العربية في بيروت في 6/10/1918 برئاسة عمر الداعوق. وفي 8/10/1918 ذهب شكري الأيوبي، ومعه رستم حيدر وجميل الإلشي، إلى بعبدا التي كانت مقرًا لسنجق جبل لبنان، وهناك أعلن حبيب باشا السعد مبايعته الأمير فيصل. لكن الجنرال أللينبي رفض ما جرى في جبل لبنان، وأنهى بالقوة مهمة شكري الأيوبي، وأنزل العلم العربي عن مقرّ الحكومة العربية في بيروت (مبنى البلدية) وعن مقرها في بعبدا (مبنى المتصرفية). وتكرر الأمر نفسه في دمشق حين بادرت القيادة العامة لقوات الحلفاء في سورية، بموافقة الأمير فيصل، إلى تنحية سعيد الجزائري، وتعيين اللواء علي رضا الركابي في 5/11/1918 حاكمًا عسكريًا لدمشق، واللواء شكري الأيوبي نائبًا له.

ملكًا دستوريًا لمئة يوم

في 7/3/1920 أقرّ المؤتمر السوري العام المنعقد في 6/3/1920 برئاسة هاشم الأتاسي انتخاب الأمير فيصل ملكًا دستوريًا على سورية بحدودها الطبيعية المتفق عليها مع فيصل منذ عام 1915، وفي اليوم التالي بدأت مبايعة فيصل. وكان المؤتمر السوري العام في منزلة برلمان سورية الذي لم يعترض عليه أحد منذ تأليفه. وفكرة المؤتمر السوري العام بدأت لدى أعضاء حزب الاستقلال العربي وهم، في معظمهم، أعضاء جمعية العربية الفتاة سابقًا. وكانت اللجنة السرية لحزب الاستقلال تتألف من أعضاء “العربية الفتاة”، فيما أعضاء اللجنة العلنية كانوا كالتالي: الأمير فيصل وشقيقه الأمير زيد وياسين الهاشمي وكامل القصاب وشكري القوتلي وإبراهيم هنانو والأمير عادل أرسلان وخير الدين الزركلي ورفيق التميمي ومحمد عزة دروزة وعوني عبد الهادي والحاج أمين الحسيني ونبيه العظمة وأحمد مريود وسعيد حيدر ومعين الماضي وجميل مردم وخالد الحكيم ورضا الركابي وعبد الرحمن الشهبندر ويوسف العظمة.

بلغ عدد أعضاء المؤتمر السوري العام 107 أعضاء يمثلون مناطق سورية كلها: فلسطين والأردن وبيروت وجبل لبنان وأنطاكيا، أي سورية قبل التقسيم. وهذا المؤتمر افتُتح في 1/6/1919 برئاسة رشيد رضا في مقر النادي العربي بدمشق، وصارت جلساته مفتوحة ودورية على غرار برلمانات العالم. ومن بين أعضاء المؤتمر تمثلت فلسطين بخمسة وعشرين عضوًا، أي ما يقارب ربع عدد الأعضاء، هم: أمين الحسيني وعارف العارف ومحمد عزة دروزة وإبراهيم القاسم وعادل زعيتر وأمين التميمي ورفيق التميمي وسعيد الحسيني وعارف الدجاني ويعقوب فرّاج وراغب الدجاني ويوسف العيسى ورشيد الحاج إبراهيم ومعين الماضي وإبراهيم العكي وعبد الفتاح السعدي وطاهر الطبري ويوسف العاقل وصلاح الدين قدورة وعبد الرحمن النحوي وحسين الزعبي وسليم عبد الرحمن وسعيد الكرمي ورشدي الشوا وسعيد مراد. واتخذ المؤتمر، في جلسته المنعقدة في 7/3/1920، قرارًا ينص على استقلال سورية بحدودها الطبيعية، وإعلان الأمير فيصل ملكًا دستوريًا عليها، واعتماد العلم العربي ذي الألوان الأربعة علمًا لسورية الجديدة. وقد أوجز صفي الدين الحِلّي ألوان العلم العربي في قصيدته “سلي الرماح العوالي عن معالينا” فقال: بيضٌ صنائعنا سود وقائعنا/ خضر مرابعنا حمر مواضينا.

ما إن انتهت عملية مبايعة فيصل ملكًا على سورية حتى بادر إلى تأليف حكومة في 27/3/1920 برئاسة علي رضا الركابي التي ضمّت علاء الدين الدروبي (رئيسًا لمجلس الشورى) ورضا الصلح من صيدا (للداخلية) وسعيد الحسيني من القدس (للخارجية) وعبد الحميد قلطقجي (للحربية) وفارس الخوري (للمالية) وجلال الدين زهدي (للعدل) وساطع الحصري (للمعارف) ويوسف الحكيم (للزراعة والتجارة والنافعة، أي الأشغال). وفي الفترة نفسها، وبالتحديد في 8/3/1920 (يوم مبايعة فيصل)، اجتمع في دمشق عدد من العراقيين، وانتدبوا أنفسهم لتمثيل جميع العراقيين، وأعلنوا استقلال العراق واتحاده بسورية سياسيًا واقتصاديًا، ونادوا بالأمير عبد الله بن الحسين ملكًا دستوريًا على العراق.

أخافت وقائع الحوادث الجارية في دمشق آنذاك قوات الحلفاء في المشرق العربي، فسارع الحلفاء إلى إجهاض الدعوات الاستقلالية العربية الجديدة التي انطلقت من دمشق لتعم سورية والعراق. وكان أن اتخذ الحلفاء في مؤتمر سان ريمو يوم 26/4/1920 قرارًا بفرض الانتداب البريطاني والفرنسي على سورية، وهو ما كان متفقًا عليه سرًا. ولم يطل الأمر حتى وجّه الجنرال غورو، بالتواطؤ مع البريطانيين، إنذارًا إلى الملك فيصل في 14/7/1920 يُرغمه فيه على وضع سكة حديد رياق – حلب تحت تصرّف الجيش الفرنسي الذي كان يُواجه بمقاومة في كيليكيا، وإلغاء التجنيد العسكري الإلزامي الذي اعتمدته الحكومة العربية في دمشق، وقبول الانتداب الفرنسي على سورية، واعتماد النقد الورقي الذي بدأ المصرف السوري يصدره تحت إدارة الفرنسيين، وتأديب “المجرمين المعادين” لفرنسا (يقصد بذلك معارضي الانتداب الفرنسي). ومع أن الملك فيصل قبل الإنذار، وبدأ تسريح الجيش العربي، إلا أن الجنرال غورور أصرّ على احتلال دمشق بالقوة، فتصدّى له ما بقي من القوات النظامية وأعداد من المتطوعين بقيادة يوسف العظمة (وزير الدفاع في حكومة هاشم الأتاسي) في معركةٍ بطوليةٍ افتقدت إلى الحد الأدنى من توازن القوة العسكرية. وقد استشهد يوسف العظمة على ثرى بلاده في موقعة خان ميسلون على الطريق الواصل بين دمشق وبيروت. ولم يكتفِ الجنرال الاستعماري الفرنسي غورو بذلك، بل سلّم الملك فيصل في 27/7/1920 إنذارًا جديدًا يبلغه فيه، بصيغة التهديد، ضرورة مغادرة دمشق في غضون أربع وعشرين ساعة، فغادرها إلى حوران ومنها إلى حيفا فأوروبا حتى قرر البريطانيون تسليمه عرش العراق.

الطور الجديد

دخل موكب الجنرال المتغطرس غورو دمشق، وكان إلى جانبه للأسف فرسان من عشيرة نوري الشعلان (الرولى). وبهزيمة الملك فيصل والحكومة العربية، تشتت رجال العرب والقوميون الأوائل في كل مكان. بعضهم التحق بالملك فيصل في العراق، أمثال رستم حيدر وتحسين قدري، وآخرون التحقوا بأخيه الملك عبد الله في إمارة شرق الأردن، أمثال علي رضا الركابي الذي تولى رئاسة أول حكومة أردنية، ورشيد طليع الذي صار ثاني رئيس لحكومة الأردن. ومنهم من عاد إلى مصر مثل أسعد داغر، وبقي كثيرون في دمشق: قسم تعاون مع الفرنسيين، مثل علاء الدين الدروبي (اغتاله الوطنيون السوريون مع عبد الرحمن اليوسف، ونجا الجنرال غورو من الموت بمعجزة)، وقسم أبى إلا أن يتابع النضال ضد الاحتلال الفرنسي، أمثال سلطان الأطرش وعبد الرحمن الشهبندر وهاشم الأتاسي وشكري القوتلي وعادل أرسلان. ولا ريب في أن معظم الحركات القومية التي نشأت لاحقاً كانت من بين الثمار التي زرعها القوميون الأوائل في دمشق، ومنها جمعية التحرير العربية التي أسسها في سنة 1929 فريد زين الدين (سوري من أصل لبناني) ودرويش المقدادي (فلسطيني) ونافع شبلي (سوري). وتمكّنت تلك الجمعية من أن تضم إليها كاظم الصلح وتقي الدين الصلح وعادل عسيران ومحمد علي حمادة وعلي بزي (من لبنان) وشوقي الدندشي من سورية. وعلى غرارها ظهرت عصبة العمل القومي في سنة 1933، وكان من أركانها علي ناصر الدين وفريد زين الدين وعبد الرزاق الدندشي وزكي الأرسوزي. وكذلك الحركة العربية السرية التي أسسها قسطنطين زريق وفؤاد مفرج وشفيق جحا، وضمت إليها درويش المقدادي وواصف كمال ويونس السبعاوي وصدّيق شنشل وناجي معروف والعقداء العراقيين الأربعة الذين أعدمهم الانكليز بعد فشل ثورة مايس (مارس/ آذار) 1941 في بغداد، وهم: صلاح الدين الصباغ ومحمود حسن سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب.

العربي الجديد

——————————————

عشية معركة ميسلون: حكومة عربية لم تسقط بالمؤامرة وحدها/ محمد. م الأرناؤوط

مع الذكرى المئوية للحكومة العربية في دمشق 1918-1920، التي تتمثّل هذا العام بيومين فارقين في التاريخ السوري (إعلان الاستقلال في 8 آذار/مارس 1920 وتبنّي نظام نيابي ملكي يقوم على اللامركزية لحفظ حقوق الأقليات، ومعركة ميسلون في 24 تموز/يوليو 1920 التي أنهت الحلم بدولة عربية مستقلة خلال ساعات)، لم تسمح الظروف للأسف باستعادة ما جرى ويجري وما صدر ويصدر من كتب بمناسبة الذكرى المئوية. ولا شك في أن هذه فرصة للمقارنة بين ما كُتب في العربية، وفيه تقصير من ناحية واجترار من ناحية أخرى، وبين ما صدر من دراسات في أوروبا والولايات المتحدة التي كانت معنية بما حدث في دمشق خلال 1918-1920.

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى الكتاب المهم للمؤرخ الأميركي جيمس ل.غلفن James L.Gelvin الذي صدر بعنوان “الولاءات المنقسمة: القومية والسياسة الجماهيرية في سورية مع انهيار الإمبراطورية” (Divided Loyalities: Nationalism and Mass Politics in Syria at the Close of Empire) الذي صدر في الذكرى الثمانين لإعلان الحكومة العربية، عن منشورات جامعة كاليفورنيا. وعلى حد علمنا، فقد مرّ هذا الكتاب المهم وكأنه لم يكن، حيث لم يحظ بعرض ولم يطّلع أو يستفد منه مَنْ كتب عن تجربة الحكومة العربية 1918-1920 في لغتنا، بينما كان من الضروري ترجمته الفورية نظرا للمقاربة الجديدة له في محاولة تفحص أسباب فشل الحكومة العربية في تنفيذ أجندتها القومية العربية التي كانت تهدف لبناء نظام سياسي جديد بالاستناد إلى جهود واضحة في حشد الشارع السوري بوسائل مختلفة لكي يدعمها في مواجهة دول الحلفاء للمطالبة بإنشاء دولة عربية مستقلة على نمط الدول المتمدّنة.

ومن هنا كان يؤمل من صدور هذا الكتاب أن يكون مناسبة لمراجعة شاملة ونقدية لتجربة الحكومة العربية في ذكراها المئوية، وليس مجرّد احتفالية تجترّ المعلومات وتمجّد ما حدث وتُلقي بمسؤولية فشل هذه التجربة على العنصر الخارجي فقط (التآمر الإنكليزي- الفرنسي).

    خسرت الحكومة العربية معركتها قبل ثلاثة أيام من ميسلون

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الكتاب في الأصل رسالة دكتوراه في التاريخ الحديث شارك في مناقشتها مؤرخان خبيران في هذا المجال (فيليب خوري وزخاري لقمان)، وقد مهّد له المؤلف (أستاذ التاريخ المساعد آنذاك في جامعة كاليفورنيا) في نشر عدة دراسات في مجلات علمية معروفة مثل “استعراض الطوائف الدينية في سورية بعد نهاية الحكم العثماني” (1994) و “الأصول الاجتماعية للقومية الشعبية في سورية” (1994) و “قومية عربية أخرى: الشعبوية العربية السورية في إطارها التاريخي الدولي” (1997).

ويبدو من عناوين هذه الدراسات أن المؤلف يتابع ما بدأه فيليب خوري في كتابه “أعيان المدن والقومية العربية”(1983) بالحفر في الخلفيات الاجتماعية للشخصيات والحركات الفكرية- السياسية التي ظهرت في نهاية الحكم العثماني وتبلورت بشكل أوضح خلال عهد الحكومة العربية 1918-1920، قبل أن تدخل البلاد تحت حكم الانتداب الفرنسي- البريطاني، لكي يفهم ويفسّر انقسام السوريين في ولائهم بين طرفين اتّسعت الهوة بينهما خلال 1919-1920 لتصل إلى الاشتباك المسلّح في دمشق (20-21 تموز 1920) عشية معركة ميسلون التي تحولت إلى معركة رمزية بأسلحة بسيطة ضد الجيش الفرنسي المسلّح بالدبابات والطيران والمدفعية.

وفي الحقيقة يقرّ غلفن في البداية بأنه لم يُرد أن يسلسل الأحداث التي جرت خلال عهد الحكومة العربية 1918-1920، على اعتبار أن هذه الأحداث غدت معروفة مع ما نشر في الإنكليزية أو العربية سواء مع كتاب ملكولم رسَل “الدولة العربية الحديثة الأولى: سوياً تحت حكم الأمير فيصل 1918-1920” (1985) أو مع كتاب خيرية قاسمية “الحكومة العربية في دمشق بين 1918-1920” (1982) وكتاب علي سلطان “تاريخ سورية 1918-1920: حكم فيصل بن الحسين” (1987)، بل يريد أن يفهم ويفسّر ما حدث من سقوط لمشروع الحكومة العربية في الداخل (المواجهات المسلّحة في أحياء دمشق مع ما بقي من “الجيش العربي” خلال 20-21 تموز 1921) قبل سقوط هذا المشروع أمام جيش الاحتلال الفرنسي في ميسلون في 24 تموز/يوليو 1920 وإرغام الملك المتوّج فيصل بن الحسين على مغادرة دمشق إلى المجهول.

ولأجل هذا البحث (رسالة الدكتوراه) فقد تمكّن المؤلف من حشد وثائق كثيرة سواء من مراكز الوثائق الأميركية أو الأوروبية (التي عكست اهتمام الحكومات الغربية بما كان يجري آنذاك في سورية) بالإضافة إلى مذكرات المشاركين في الأحداث والصحافة اليومية التي واكبت الأحداث ووفّرت مادة غنية للمؤلف مثل جريدة “الكوكب” التي كان يموّلها “المكتب العربي” (الواجهة الإعلامية للمخابرات البريطانية) في القاهرة وجريدة “العاصمة” الناطقة بلسان الحكومة العربية في دمشق الخ.

في المدخل النظري ينطلق المؤلف من مقاربة ديالكتيكية ترى أن ما تمّ حتى ذلك الحين من دراسات تركّز على حصر القومية في “الشرق الأوسط” في نطاق النخبة القومية غير مقنع أو غير كاف. فمع عدم التشكيك بدور تلك النخبة، التي يرتبط نجاحها بقدرتها على جعل شعاراتها تنسجم مع طموحات الفئات الأُخرى في المجتمع، إلا أن هذه المقاربة غير كافية لأنها تركز على لحظة واحدة من الديالكتيك القومي (القومية العربية التي جاءت مع النخبة الجديدة إلى دمشق) وتستبعد اللحظة الأخرى (القومية المحلية أو الشعبية التي تتمثل في اللجنة الوطنية العليا). وبعبارة أخرى، إن إدماج اللحظة التاريخية الأخرى (الحركة السياسية الموازية والمنافسة للحركة القومية العربية) في الديالكتيك القومي مع ما مهّد لها ونتج عنها (أحداث 20-21 تموز/يوليو 1920 في دمشق) للوصول إلى تركيب أو طباق جديد “هو الهدف من هذا الكتاب” (ص 9).

بالاستناد إلى هذه المقاربة يعتمد المؤلف في التحليل لمصادره الكثيرة والمتنوعة إلى التمييز بين الخطابين القوميين (الأول للنخبة القومية العربية التي كانت نواتها “جمعية العربية الفتاة” وكيانها الجديد “حزب الاستقلال” وتمحورت حول الأمير/ الملك فيصل، والثاني للقومية الشعبية أو السورية المحلّية التي تبلورت في “اللجنة الوطنية العليا” برئاسة الشيخ كامل القصّاب) من خلال تحليل أشكال المظاهرات والاستعراضات والشعارات واللافتات وافتتاحيات الجرائد والخطب والإشاعات والمسرحيات التي تباينت بين الطرفين المتنافسين للسيطرة على الشارع.

وبعبارة أخرى، يقوم المؤلف هنا بتفكيك الخطاب القومي لكل طرف لكي يعود في النهاية إلى تركيب المشهد من جديد ليفسّر ما حدث عشية معركة ميسلون في دمشق خلال 20-21 تموز 1920 حين استخدم السلاح في المواجهة بين الطرفين وسقط مئات القتلى والجرحى، وهو ما يشمل مراجعة “الأسطورة” المؤسسة للحكومة العربية في دمشق باعتبارها ضحية للتآمر الخارجي فقط.

الافتراق بين “القوميتين”

كانت السيطرة في البداية للنخبة القومية العربية، المدنية والعسكرية، التي جاءت مع الأمير فيصل إلى دمشق بطموح كبير لتأسيس دولة عربية مستقلة. وقد نشطت هذه النخبة مع واجهاتها الحزبية والثقافية (“حزب الاستقلال” و”النادي العربي” الخ) في تأسيس البنية التحتية للدولة المنشودة (مدارس وجامعة ومجمع علمي وجيش وقوانين ومشروع دستور الخ) وفي تحشيد الشارع بتسيير مظاهرات واحتفالات في الأعياد القومية الجديدة (عيد الثورة العربية في 27 نيسان/إبريل، عيد الفتح أو تحرير دمشق في 30 أيلول/سبتمبر الخ) التي كانت تتميز بشعار “الدين لله والوطن للجميع” للإيحاء لدول الحلفاء والعالم بأن الشعب السوري منسجم ومتّحد وراء قيادته المطالبة بالاستقلال. وفي هذا السياق كانت من المناسبات المهمة سفر الأمير فيصل إلى أوروبا للمطالبة بحق العرب في الاستقلال وعودته منها، حيث كانت تنظّم المظاهرات المؤيدة له.

    تصارعت بالسلاح “القومية الشعبية” مع “القومية العربية”

ومن ناحية أخرى شكّل وصول الوفد الأميركي المؤلف من هنري كينغ وتشارلز كرين، الذي كان جزءا من اللجنة الدولية التي اقترحها الرئيس ولسون بعد سماعه لخطاب الأمير فيصل في مؤتمر الصلح ورفضت فرنسا وبريطانيا تسمية ممثلين فيها؛ ذروة التحشيد للشارع من قبل النخبة القومية في صيف 1919 الذي أصبح له هيئة تمثله أيضا (المؤتمر السوري العام)، وهو ما انعكس في تقرير الوفد الذي لم يصل إلى الجهة المعنية (عصبة الأمم) ولم ينشر إلا في 1922 بعد أن أصبحت الوقائع على الأرض مختلفة تماما.

في هذا السياق، يركز المؤلف عند الخلفية الاقتصادية- الاجتماعية التي تغيّرت منذ خريف 1919 وشكلت حاضنة لقومية أخرى (اللجنة الوطنية العليا برئاسة الشيخ كامل القصاب) تعبّر “عمّا هو موجود” وليس “عمّا هو منشود”. والمقصود هنا الاتفاق البريطاني- الفرنسي في 15 أيلول/سبتمبر 1919 على تعديل اتفاق سايكس – بيكو 1916، الذي أدى إلى ضمّ ولاية الموصل إلى العراق وسحب القوات البريطانية من سورية لكي تحلّ محلها القوات الفرنسية وتعمّد تأخير دفع المعونة الشهرية للحكومة العربية كأداة للضغط عليها .

فقد أدّت هذه الإجراءات بسرعة إلى تخلخل اقتصادي في الشمال، مع انفصال حلب عن مجالها الاقتصادي الحيوي في الموصل والأناضول، وضيق في النفقات في دمشق لمواجهة تدفق اللاجئين من الأناضول (السوريون المسرَّحون من الجيش العثماني والأرمن وغيرهم) بعد تمنّع بريطانيا عن دفع المعونة الشهرية (75 ألف جنيه شهريا) في موعدها، إلى عجز الحكومة عن دفع رواتب الموظفين والجنود مما اضّطر هؤلاء في بداية 1920 إلى بيع ملابسهم العسكرية في سوق الخجا / الحميدية لشراء القوت لأسرهم. وفي هذا الوضع لم يعد أمام الحكومة سوى زيادة الضرائب 50%-100% والإعلان عن قرض عام مما زاد في أعباء المعيشة على السوريين. فقد كانت المشاركة في القرض تطوعية نظريا ولكن الحكومة كانت في حالة عجز دفعتها إلى دعوة الموظفين للمشاركة في القرض العام براتب شهر، وتفويض المخاتير في الأحياء بحضّ التجار على المشاركة (ص 36-39).

في هذا الإطار الجديد، وخاصة مع عودة الأمير فيصل إلى دمشق في كانون الثاني/يناير 1920 بعد توقيعه على الاتفاق مع رئيس الحكومة الفرنسية كلمنصو الذي اعتبرته المعارضة الصاعدة “خيانة” لفلسطين، لم يعد الشارع حكرا على النخبة القومية كما كان بل برزت فيه أيضا بقوة القومية الأخرى (“اللجنة الوطنية العليا” حسب المؤلف) التي كانت تعبّر أكثر عن الأحياء الدمشقية العريقة (حي الشاغور والميدان والقنوات وغيرها) التي أصبحت حاضنتها الشعبية والتي كانت لها إديولوجيتها أو “نظرتها المختلفة تماما عن العالم” (ص 21).

كانت بداية نقطة الافتراق بين القوميتين حسب المؤلف في صيف 1919 مع اقتراب قدوم الوفد الأميركي للجنة الدولية التي أقرّتها عصبة الأمم لاستطلاع آراء السكان حول مستقبلهم. فقد أعدّت النخبة القومية العربية مظاهرات وحملات دعاية بهدف إقناع الرأي العام الخارجي بصورة أُمّة متطوّرة ومستعدة للاستقلال ولكنها فشلت في أن تضمّ إلى برنامجها القومي غالبية الشعب، حيث أنها لم تتفاوض مع الشعب حول أيديولوجيتها أو برنامجها القومي ولم تعدّ خطابا سياسيا مناسبا لغير النخبة، ولم تُقم صلات مع السكّان تشابه ما كان موجودا بين النخبة القومية والشعب في أرجاء العالم (ص 35).

في هذا السياق من تفاقم السخط بسبب تراجع الأحوال الاقتصادية والمعيشية جاء قرار الحكومة العربية بإصدار قانون التجنيد الإجباري في كانون الأول/ديسمبر 1919 ليفجّر السخط لأول مرة على شكل احتجاجات ضد الحكومة العربية في دمشق ودرعا وحاصبيا وغيرها، وظهرت ملصقات على الجدران تجاوزت الخطوط الحمراء مع مقارنة الحكومة العربية بحكومة الاتحاد والترقي البغيضة، واضطرت الحكومة العربية إلى إرسال 400 جندي لإخماد أعمال الشغب والاحتجاجات في حيّ الميدان (ص 43)، الذي كان قد استقبل الأمير فيصل بالهتافات والزغاريد لدى دخوله إلى دمشق في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1918.

ولذلك، في تحليله للتنافس على كسب الشارع، يلاحظ المؤلف أن “اللجنة الوطنية العليا” كانت أولا تسيّر المظاهرات الاحتجاجية التي تنتهي بتقديم عرائض الاحتجاج إلى “الحكومة العربية” لكي تسلّمها بدورها إلى ممثلي دول الحلفاء. ولكن مع تعاظم دور “اللجنة الوطنية العليا” في الشارع تجاوزت “اللجنة الوطنية” الحكومةَ العربيةَ حيث أصبحت تقوم في نهاية المظاهرات بالتوجه إلى ممثلي دول الحلفاء لتقديم عرائض الاحتجاج بشكل مباشر، وسيّرت خلال ربيع وصيف 1920 الكثير من المظاهرات الاحتجاجية في دمشق وحلب وحمص وحماه وغيرها التي كانت تندّد بالهجرة الصهيونية إلى فلسطين وسياسة فرنسا في لبنان ومقررات سان ريمو (ص 281)، بما يتجاوز موقف الحكومة التي كانت تعبّر عنه الصحافة الناطقة باسمها في دمشق وحلب.

المسرح أداة تحشيد

ولكن الشارع لم يعد وحده المجال الذي تتنافس فيه القوميتان، حسب تعبير المؤلف، أو النخبة القومية العربية الممثلة في “الحكومة العربية” والقومية الشعبية الممثلة في “اللجنة الوطنية العليا” التي أصبحت المسافة بينهما تتباعد. فقد غدت المقاهي والمسرحيات مجالا مهما لحشد الشارع أيضا نظرا لأن غالبية السوريين لم يكونوا يقرأون الصحف الناطقة بلسان الحكومة أو المدعومة منها. وفي حين أن الحكومة العربية دعمت عرض المسرحيات التي تستلهم “الثورة العربية” سواء في المدارس الحكومية أو الحربية نجد أن اللجنة الوطنية كانت مقصّرة في هذا المجال بسبب سلفية رئيسها الشيخ كامل القصاب، الذي كان في الوقت نفسه مديرا لـ “المدرسة الكاملية” التي أسّسها في حي البزورية العريق. فقد كان أسعد الحكيم معلما في المدرسة وانشغل أيضا بتدريب الطلاب للتمثيل، ولكن وجهاء الحيّ لم يرحبوا بذلك وقام رجال الدين بجمع الفتاوى التي تحرّم مثل هذا النشاط (ص 559).

في نهاية الكتاب يرى المؤلف أن الحكومة العربية ورغم سبقها في الحشد الجماهيري لأجندتها القومية العربية من خلال الصحافة الناطقة بلسانها أو المدعومة منها وتسييرها للمظاهرات بالاعتماد على طلاب المدارس الحكومية “لم تنجح لأن هذه الأيديولوجية بدت غريبة للكثير من السوريين”. ويبدو هذا في المظاهرات التي سيّرتها الحكومة للترحيب بالأمير فيصل بعد عودته الثانية من باريس في كانون الثاني/يناير 1920، التي بدت أقل حماسة من تلك المظاهرات الأولى التي خرجت للترحيب به عند عودته الأولى من باريس في أيار/مايو 1919، بل إن هذه المظاهرات حملت شعارات تمسّ الأمير فيصل نفسه “الموت لمن خان فلسطين” في إشارة إلى توقيعه للاتفاق المذكور مع كلمنصو (ص 571).

ومع هذا الانعطاف تزايد تأثير “القومية الشعبية” بتعبير المؤلف أو “القومية السورية” التي كانت تشدّد على عدم التفريط بفلسطين واستقلال سورية الطبيعية بما فيها فلسطين في المؤتمر السوري العام، ولذلك يؤيد المؤلف ما قاله آنذاك الجنرال ألِنبي من أن الأمير فيصل كان يعرقل دعوة المؤتمر السوري العام إلى الانعقاد بعد عودته من باريس وتوقيعه للاتفاق مع كلمنصو، الذي يمنحه نصف استقلال على المنطقة الشرقية أو سورية فقط، لعلمه بنتائج ذلك ولكنه رضخ أخيرا في 6 آذار/مارس 1920 ودعا أعضاء المؤتمر إلى الانعقاد بعدما أدرك أن زعامته أصبحت في خطر.

ولكن يلاحظ المؤلف هنا أن الأمير فيصل في دعوته لأعضاء المؤتمر إلى الانعقاد طلب منهم اختيار نظام حكم مناسب لسورية في المستقبل دون الإشارة إلى إعلان الاستقلال، تاركا بذلك الباب مفتوحا لحلّ وسط مع فرنسا وبريطانيا. ولكن المفاجأة جاءت من رأس اللجنة الوطنية العليا (الشيخ كامل القصاب) في اجتماع المؤتمر السوري يوم 7 آذار/مارس 1920 حين رفع السقف إلى الاستقلال الكامل لكل أرجاء سورية الطبيعية، بما في ذلك فلسطين، وهو الخطاب الذي بادرت اللجنة الوطنية إلى توزيعه في الأحياء عشية قرار المؤتمر بإعلان استقلال سورية الطبيعية باعتباره يعبّر عن الأمة (الممثلة في المؤتمر السوري) التي هي مصدر الشرعية وليس الحكومة العربية (ص 247).

كان كامل القصاب نفسه هو بطل المشهد في أحداث 20-21 تموز 1920 حين كان يجول الأحياء ليحثّ السكان على التجمّع والتسلح والذهاب إلى ميسلون للدفاع عن الوطن، بعدما قامت الحكومة العربية بتعليق جلسات المؤتمر السوري وحلّ الجيش بعد إنذار الجنرال غورو المعروف. وبعبارة أخرى فقد كانت الحكومة العربية خسرت المعركة في دمشق مع اللجنة الوطنية قبل أن تخسرها بسقوط وزير الحربية يوسف العظمة في أرض ميسلون أمام الجيش الفرنسي. وهكذا يقول المؤلف في السطور الأخيرة من كتابه إن العهد الفيصلي في سورية على الرغم من قصره (5 تشرين الأول/أكتوبر 1918-24 تموز/يوليو 1920) شهد “بروز سياسة القومية الشعبية في “الشرق الأوسط” العربي، وهي التي استمرّت حتى الآن بشكل أو بآخر” (ص 247).

* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

——————————

سنوات الديمقراطية .. في مئويتي سوريا الدولة والاحتلال الفرنسي/ محمد علاء الدين

يحمل العام الجاري (2020) اثنتين من الذكريات المئوية، شديدتي الأهمية والمفصلية، في تاريخ سورية والمنطقة. الأولى في 8 مارس/ آذار 1920، وهي الذكرى المئوية لإعلان أول دولة تحمل اسم “سورية”، هي المملكة السورية العربية. والثانية ذكرى معركة ميسلون، وقد مرت يوم الجمعة الماضي (24 يوليو/ تموز 1920)، والتي دخلت بعدها القوات الفرنسية دمشق، ليبدأ عهد الاحتلال الفرنسي لسورية قبل مائة عام.

سورية جغرافياً، وعبر معظم التسميات الموثقة تاريخياً، من قرون قبل الميلاد إلى الحرب العالمية الأولى، هي المنطقة الممتدة من كامل الساحل الشرقي للبحر المتوسط إلى منتصف البادية، فنهري الخابور ودجلة شرقاً، ومن جبال طوروس شمالاً إلى ما بعد العقبة وغزة جنوباً، وكأنها السور الشمالي لصحراء الجزيرة العربية، بل إن مؤرخين يرَوْن أن اسم سورية يعني السور مع وجود آراء مختلفة حول أصل التسمية.

أما تاريخياً، المنطقة، وبشبه إجماع من علماء الآثار والتاريخ، هي الأقدم عالمياً، باستمرارها السكاني وتعاقب الحضارات على أرضها منذ العصر الحجري. تُعزّز ذلك المكتشفات الأثرية العائدة إلى آلاف من السنين قبل الميلاد، والدالّة على تطور الزراعة، والتحول إلى السكن المتحضر، والانتقال المعرفي لاختراع الكتابة واستخدامها، فالأرض السورية على امتدادها لم تنقطع في أي مرحلة عن الركب الحضاري، إذ نشأت فيها ممالك قديمة كثيرة عظيمة الأهمية (إيبلا، ماري، أوغاريت، راميتا، أفاميا، والممالك الآرامية المتعددة..)، وخضعت قبل الميلاد أيضاً لتعاقب معظم الإمبراطوريات التاريخية من “سومرية، أكادية، حثية، بابلية، إغريقية، رومانية، بيزنطية”. وفي الحقبة الممتدة بين الميلاد والإسلام، شهدت بقاع منها قيام إمارات ودويلات ذات شأن وحضارة متميزة، كالتدمريين والأنباط وسواهما. أما بعد الفتح العربي الإسلامي، خلال الخلافة الراشدة، فخضعت في عمومها إلى ما شهدته المنطقة من حكم الأمويين ثمّ العباسيين وما أعقبهما من غزو مغولي ثم تتري ثم صليبي، وصولاً إلى المرحلتين، الأيوبية والمملوكية، فالحكم العثماني الذي استمر أكثر من أربعة قرون متواصلة، وانتهى بعد الحرب العالمية الأولى والدعم البريطاني لما عُرفت بالثورة العربية بقيادة الشريف حسين التي أتمت سيطرتها على سورية الطبيعية عام 1918… واللافت بعد هذا السرد التاريخي أن سورية الجغرافيا والأرض التي تعاقبت فيها كل تلك الدول والممالك، لم تحمل أية دولة فيها اسم “سورية”.

الثورة العربية ونهاية الحكم العثماني

خلال أربعة قرون من الحكم العثماني، لم تظهر حركة عربية سياسية أو ثورة تدعو إلى الانفصال عن دولة الخلافة، ولكن مع تمكّن “الاتحاديين”، بدعم أوروبي، من خلع السلطان عبد الحميد الثاني (1909)، والاضطرابات التي شهدتها مرحلتهم من صراعاتٍ وفوضى، تزامناً مع خسارتهم مزيداً من أراضي السلطنة، كالبلقان وليبيا، وأدّت إلى فقدانهم الحكم الذي استعادوه في انقلاب (1913). وبرزت بعده دعوات العصبية العرقية، فتمّ تطبيق سياسة التتريك القسري للتعليم في المدارس العربية، والتي قوبلت مباشرة بدعوات قومية من المتنورين العرب، خصوصا في دمشق وبيروت، وتجلّت بانعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس (1913)، فكانت المطالبة بحكم ذاتيّ للمناطق العربية، ولم تصل إلى دعوة إلى الانفصال أو الاستقلال التام.

مع بداية الحرب العالمية الأولى (1914)، وقرار الاتحاديين دخولَ الحرب إلى جانب ألمانيا بعد إعلانهم الحياد في بدايتها، وجدت بريطانيا الفرصة سانحةً لمخططاتها في المنطقة، مستغلة مشاعر الاستياء العربي من محاولات التتريك، ومحاولة النيْل من العنصر العربي في سلوك الاتحاديين ومناهجهم الدراسية، فبدأت المراسلات بين البريطانيين (والشريف حسين بن علي) لإعلان ثورة عربية تنطلق من مكة، وتشمل الأراضي العربية لتحريرها من الحكم (التركي) وليحكمها عرب من نسل (الشريف)، مستغلين رمزيته الدينية والقومية. استنزفت الحرب موارد سورية الطبيعية وشبانها (سفربرلك) وذاقت البلاد ويلات المجاعة، خصوصا في لبنان (1915). ومع نهوض بعض الحركات السياسية وبدايات تشكِّل أحزاب، أقدم والي البلاد الشامية، جمال باشا، على إعدام عشرين من كبار المتنورين العرب في يومٍ واحد في بيروت ودمشق (6 مايو/ أيار 1916)، فكانت الفرصة مواتيةً لإعلان الشريف حسين من مكة انطلاقة الثورة العربية الكبرى (1 يونيو/ حزيران 1916)، وسرعان ما تمكّنت قواتها المتزايدة، والمدعومة بريطانياً من مدن الحجاز لتصل عام 1917 إلى ميناء العقبة، وتسيطر عليه، إثر معركةٍ بقيادة الضابط البريطاني الشهير، لورانس، فكان ذلك مفتاحاً للامتداد شمالاً باتجاه سائر المدن السورية.

وكان لوصول دعم الجنرال اللنبي، قائد قوات الحلفاء في الشرق، كبير الأثر في دخول القدس، ومن ثَمّ السير باتجاه معان التي شهدت معركةً ضاريةً، أُبيد فيها كثير من القوات العثمانية، لتتلوها عمّان فدرعا التي كانت معركتها آخر مقاومةٍ حقيقية، حتى أن الوالي العثماني في دمشق أخلى المدينة من حاميته وجنده في اليوم الأخير من معركة درعا، فتسارع وجهاء دمشق لتشكيل حكومةٍ برئاسة محمد سعيد الجزائري، مهمتها الأولى ضبط الأمن، فعملت ثلاثة أيام فقط، ريثما وصلت طلائع القوات العربية (1 أكتوبر/ تشرين الأول 1918)، دخل بعدها الأمير فيصل بصحبة نوري الشعلان وعودة أبو تايه ولورانس على ظهور الخيول، ومعهم 1200 مقاتل، قوبلوا باستقبال حافل وحماسي من الأهالي وبقية القوات، وأعلن الأمير فيصل (بأوامر من الجنرال اللنبي) تأسيس أول حكومة عربية في دمشق، وتكليف الفريق علي رضا الركابي برئاستها. بعدها توجّه فيصل إلى حمص وحماة فحلب التي انسحبت منها القوات العثمانية تباعاً خلال أيام قليلة.

لم يرُقْ لفرنسا التمدّد السريع للقوات العربية في مدن الداخل السوري، فسارعت خلال الشهر ذاته إلى إنزال قوات سيطرت على الشريط الساحلي، من بيروت إلى مرسين شمالاً، لضمان ما اتفقت عليه مع بريطانيا (سايكس بيكو) ومن مرسين اتجهت إلى أضنة بقوة من متطوعي (الجيش الأرمني الفرنسي) وتابعت شرقاً إلى إقليم كيليكيا ومدن مرعش وعنتاب وأورفة وماردين، التي أخلتها لها بحسب الخطة القوات البريطانية المتقدمة من جهة الموصل ليغدو الساحل والشمال السوري بأكمله تحت السيطرة العسكرية الفرنسية.

وفي العام 1919، باتت الدولة العثمانية في أسوأ أحوالها منذ نشأتها، فجيوش عدة داخل كبريات مدنها، بما فيها العاصمة إسطنبول، فاضطرت مع شريكتها ألمانيا إلى توقيع معاهدات إذعان، من أشهرها فرساي وسيفر، القاضيتان بمنح الممتلكات الألمانية والعثمانية الخارجية (من ضمنها سورية الطبيعية) للانتدابين البريطاني والفرنسي، فيما كان رأي الولايات المتحدة، برئاسة ويلسون، إعطاء حق تقرير المصير للشعوب المستقلة. ولأجل ذلك شَكّلت “لجنة كينغ – غراين”، لتجوب المنطقة، وتتقصى إرادة أبنائها، ما دفع النخب السياسية السورية إلى الدعوة إلى عقد مؤتمر سوري منتخَب، يستطيع التعبير عن الإرادة الشعبية وصياغة متطلباتها وإعلانها. سرعان ما أقيمت أول انتخاباتٍ بعد الحكم العثماني، وعلى الطريقة التي كانت متبعة سابقاً في اختيار ممثلي الولايات لمجلس المبعوثان (البرلمان العثماني)، والتي تتكوّن من مرحلتين. في الأولى ينتخب عامة البالغين ممثليهم. وفي الثانية، ينتخب الممثلون العدد المطلوب لكل ولاية أو قضاء (طريقة ما زال باحثون يرونها أكثر حصانة للديمقراطية من مخاطر الشعبوية).

لظروف المرحلة وسرعة الإنجاز، أُجريت الانتخابات مباشرة ضمن المرحلة الثانية. أما في المناطق التي عرقل فيها الفرنسيون والبريطانيون الانتخابات، فتمّ الأخذ بتوكيلات الأهالي بديلاً عن الصندوق الانتخابي. عاينت لجنة كينغ – غراين الأميركية الواقع السياسي والجماهيري الجامح للاستقلال التام، ووضعت ذلك في تقريرها الذي كان في حوزة الرئيس ويلسون في مؤتمر باريس للصلح، والذي عُقد نهاية العام 1919 بين المتحاربين عالمياً، وحضره الأمير فيصل منتدباً من أبيه. أقرّ مؤتمر باريس معظم الاتفاقيات والمعاهدات المبرمة لمصلحة المنتصرين. وفي ما يخص المسألة السورية، بقي الرأي الأميركي غيرَ مقرٍّ بالانتداب، من غير أن يُظهر تقرير اللجنة (لم يُنشر إلا بعد ثلاثة أعوام)، فيما تحفظت الدولة العثمانية على الإقرار بضمّ أضنة وكيليكيا والمدن الشمالية ولواء إسكندرون للدولة العربية المزمعة، خصوصا أن تلك المناطق ما زالت تشهد حرباً بينهم وبين الفرنسيين، وهو ما تمّ لهم لاحقاً بعد حرب التحرير الكماليّة، واستعادتهم السيطرة على أضنة وإقليم كيليكيا، وتعديل المعاهدات السابقة باتفاقيتي أنقرة 1921 ولوزان 1923. أما لواء إسكندرون الذي بقي مصيره معلّقاً، فأخلته فرنسا لتركيا عام 1939، لتضمن وقوفها على الحياد في الحرب العالمية الثانية.

إعلان قيام الدولة السورية

بالعودة إلى مجريات الأمور في سورية، بعد انتهاء مؤتمر باريس، وإعلان قيام عصبة الأمم مطلع 1920، وعودة الأمير فيصل إلى دمشق، فقد اتضح أن اتفاق سايكس بيكو ماضٍ إلى التنفيذ، على الرغم من التحفظ الأميركي الخجول، وأن وعد بلفور ليس مجرّد دعوة إلى هجرة اليهود إلى وطنٍ لا يحكمون فيه، كما كانت التطمينات البريطانية لفيصل وأبيه (مراسلات حسين – مكماهون).

تداعى “المؤتمر السوري العام” للانعقاد عاجلاً، وفي اليوم التالي (8 مارس/ آذار 1920) أعلن قيام “المملكة السورية العربية” على كامل الأراضي السورية، ومبايعة الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سورية، كما شكّل المؤتمر لجنة لصياغة الدستور، مكتسباً صفة المجلس التأسيسي، داعياً إلى رفض كل محاولات فصل الشريط الساحلي وتجزئته (لبنان غرباً وفلسطين جنوباً)، كما وجّه الدعوة إلى قيام وحدة عربية، خصوصا مع العراق المتصل بسورية جغرافياً. يلحظ الباحثون أن الدعوة إلى مملكة عربية موحدة مع الحجاز التي يحكمها الشريف حسين لم تخرج عن المؤتمر، لأن القضية سبق وحسمتها بريطانيا مع الشريف قبل مدة، وأقنعته بوجوب أن تكون هناك دول قائمة وممالك تتنادى لتنصيبه (بحسب ما كشفت المراسلات).

لم تلقَ المخرجات الحماسية عالية الطموح للمؤتمر السوري العام، ونزعته الاستقلالية الكاملة، ترحيباً في أوساط دول الحلفاء، وكانت فرنسا قد استبقت بتعيين الجنرال غورو مندوباً سامياً لسورية ولبنان الذي توسعت قواته داخله. فيما مضت حكومة هاشم الأتاسي الذي كُلِّف بعد الركابي باتخاذ إجراءات تدعم الدولة المستقلة، كإصدار عملة جديدة وتأسيس جيش وطني وتنظيم الحياة الإدارية. تصاعدت الأزمة مع فرنسا، مع رفض الحكومة السورية الجديدة مقرّرات مؤتمر سان ريمو الذي أقرّ الانتداب، وترافق ذلك مع مناوشات لثوار سوريين مع وحدات فرنسية توغلت أكثر في لبنان إلى مجدل عنجر قرب الحدود السورية اللبنانية الحالية، فأرسل الملك فيصل مستشاره نوري السعيد لمقابلة الجنرال غورو في بيروت لتهدئة الأمور، لكنّ غورو زوّده بإنذار يتضمن خمس نقاط، أبرزها: القبول بالانتداب، والتعامل بالعملة الورقية المطبوعة في فرنسا بديلاً عن الدينار السوري الجديد، ووقف عمليات التجنيد لإنشاء جيش سوري.

الاحتلال الفرنسي لسورية

اجتمع المؤتمر السوري، ورفض إملاءات غورو الذي عاود في اليوم التالي (14 يوليو/ تموز) العيد الوطني الفرنسي إرسال إنذاره بتشدّد أكثر، يطلب فيه التسريح الفوري لجميع من تم تجنيدهم وقبول كل شروط الإنذار خلال أيام أربعة فقط، وإلا فإن جيشه سيجتاح دمشق. توالت جلسات المؤتمر السوري يومياً، وبشكل صاخب، وسط تضارب الآراء والإصرار الكبير من وزير الحربية، يوسف العظمة، على الدفاع حتى الرمق الأخير، فصارت تُعقد اجتماعات جانبية في قصر الملك، خلُصت إلى إرسال القبول بالإنذار وتطبيق بنوده. وعلى الرغم من إرسال الموافقة قبل يوم من انتهاء المهلة المحدّدة، فإن غورو تذرّع بعدم وصولها، لعطل في الاتصالات، وحرّك قواته باتجاه دمشق.

عمد وزير الحربية إلى استصدار قرار من الملك بوقف تسريح الجيش وإعادة تجميعه للمواجهة، فتم ذلك على عجل، واتجه العظمة، وما يقرب من ثلاثة آلاف من الجنود والمتطوعين، بعتادهم المحدود وبعض الألغام وقطع المدفعية، إلى موقع ميسلون (20 كيلومتراً غرب دمشق) لملاقاة جيش غورو المكوّن من سبعة آلاف مقاتل محترف بعتاد حديث ودعمٍ بالطيران. وفي 25 يوليو/ تموز 1920، وقعت المعركة شبه المحسومة مسبقاً، حيث نفذت ذخيرة الجند وكانت أكثر الألغام معطَّلة، وتدخّل فيها الطيران الفرنسي، ليحسمها وسط تهلهل في صفوف القوات السورية، وانتهت باستشهاد يوسف العظمة، ليتقدّم غورو بقواته التي دخلت العاصمة دمشق صبيحة اليوم التالي، طاويةً صفحة المملكة السورية العربية التي لم تُتِّم ستة أشهر من عمرها، مستكملةً مرحلة الاحتلالين، البريطاني للأردن وفلسطين والفرنسي للبنان وسورية، وتقسيمها إقليمياً والفصل بينها إدارياً، ليتحوّل اتفاق سايكس بيكو من مخطط إلى واقع عسكري على كامل الأرض السورية.

تلك هي مجريات أحداث هاتين المناسبتين، مئوية الدولة ومئوية الاحتلال الفرنسي لسورية التي باتت تسميتها دولة منحصرةً في الجزء الذي نال الاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، واحتفلت بجلاء آخر جندي فرنسي عنها في (17 أبريل/ نيسان 1946)، ليبدأ عهد جديد متطلِّع لبناء دولةٍ مستقلةٍ على أسس ديمقراطية تحاول اللحاق بالركب المتقدّم.

الديمقراطية في سورية خلال مائة عام

لم تستمر مرحلة بناء الدولة ديمقراطياً إلا لثلاثة أعوام تخللتها نكبة فلسطين (1948) التي اتخذها العسكر ذريعة للانقلاب على الحكم الديمقراطي، ومن ثَمّ انقلاباتهم على بعضهم بعضاً، إلى أن كان تنازل العقيد أديب الشيشكلي حقناً للدماء، كما جاء في بيان تنازله، بعدَ مظاهراتٍ ذهب فيها ضحايا (1954).

    اشترط عبد الناصر لإتمام الوحدة بين مصر وسورية حلّ الأحزاب، فتعطلت الحياة الديمقراطية، قبل تعود لأشهرٍ خلال سنة ونصف من الانفصال

عادت الحياة الحزبية والديمقراطية من دونَ تدخّلٍ من العسكر، واستمر ذلك حتى الوحدة مع مصر (22 فبراير/ شباط 1958)، التي اشترط الرئيس جمال عبد الناصر لإتمامها حلّ الأحزاب، وما نتج عنه من تعطيلٍ للحياة الديمقراطية التي عادت أشهرا خلال سنة ونصف من الانفصال (1961-1963)، لتغيب بعدها تماماً مع وصول حزب البعث الشمولي إلى السلطة بانقلابه العسكري (8 مارس/ آذار 1963)، وما أعقبه من سنوات سبعٍ شهدت صراعاتٍ كثيرة في صفوف قيادات “البعث” بعد تسلّط العسكريين، أدت في نهايتها إلى سيطرة حافظ الأسد على الحكم (1970)، وتحويله السلطة إلى حكم فردي مطلق، لا ينازعه فيه أحد، ويستطيع تحويله ببساطة إلى توريث جمهوري لم يسبقه إليه عالمياً إلا التوريث الأول في كوريا الشمالية.

سنوات الممارسة الديمقراطية النزيهة والمستقلة إذاً في مجموعها لم تتجاوز ثمانية أعوام متفرّقة، من أصل مائة هي عمر الدولة السورية. ولعلّ من المفارقات أن الاحتلال الفرنسي كان أكثر سماحاً وسماحةً في ممارسة الحياة الحزبية والديمقراطية من حكم العسكر الذي كان يزجّ المطالبين بها في السجون، إن لم يكن مصيرهم الإعدام والتصفية، وأن السياسيين الذين استطاعوا الوصول إلى الاستقلال استخدموا الديمقراطية سلاحاً في مواجهة المحتل، يعزّز من مشروعيتهم في تمثيل الأغلبية الشعبية، توازياً مع الحراك الثوري الشعبي والمسلّح الذي كان يستجيب لحنكة من يثق بهم من السياسيين في توجيه المسارات نحو الهدف.

    سنوات الممارسة الديمقراطية النزيهة والمستقلة في سورية، لم تتجاوز في مجموعها ثمانية أعوام متفرّقة

وإذا كان، في زعم العسكر الذين يأتون إلى السلطة بالانقلابات والقوة، أنهم يتدخّلون مدة محدودة، لحماية الدولة من انحرافات بعض السياسيين، وأنّ مكوثهم في السلطة مؤقت ريثما يتم التصويب، فإن الأغرب في مسيرتَيْ الأب والابن صاحبَيْ (حصة الأسد) بنصف مئوية حكم الدولة السورية، أن خمسين سنة لم تكفهما لإعادة الديمقراطية أو تكريسها في سورية، بزعم أن الظروف غير مناسبة، وأن الشعب السوري ما زال غير مهيأ لممارسة الديمقراطية، وقد يحتاج لجيلين حتى يكون جاهزاً لممارستها (كما صرّح الابن غيرَ مرة)، ضارباً عُرض الحائط بتاريخِ شعبٍ لم ينقطع تواكب الحضارات على أرضه، ومتجاهلاً أن هذا الشعب هو من اختار في زمن قياسي ممثليه في المؤتمر السوري العام الذي أعلن ولأول مرة قيام دولته التي تحمل اسم سورية قبل مائة عام كاملة.

——————————-

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى