أدب السجون.. نزهة قسريّة خارج الحياة/ اعداد عماد الدين موسى
كان للكتاب والمثقفين نصيب كبير من قمع الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، حيثُ عانوا من التضييق على الحريات والاعتقال المباشر على مرّ السنوات، وهو ما دفع الكثير من الكتاب الذين خاضوا تلك التجربة المريرة إلى تدوينها في صيغة عمل أدبي، سواء عبر مقالاتهم، أو في كتب يوميّات، أو أعمال روائيّة وقصصيّة، ما مهّد لظاهرة “أدب السجون”.
في هذا الملف الخاص نستضيف مجموعة من الكتاب من دول عربيّة، جلّهم ممن خبروا ظروف الاعتقال في الزنازين لسنوات، ونستمع إلى وجهة نظرهم حيال هذه الظاهرة التي باتتْ جليّة وبدأتْ منذ سنوات تأخذ مساحة في عالم الكتابة.
وقد طرحنا عليهم السؤال التالي: كيف تنظر إلى ظاهرة “أدب السجون”، وهل استطاع الكاتب العربي أن يقدم هذا العالم المؤلم بالصورة الأدبية المرجوة؟
————————————-
الجزء الأول
——————————————–
مفيد نجم (كاتب سوري): ثنائيّة الضحية والجلاد
صمتت الرواية السورية طوال عقود عن تجربة السجن السياسي التي عاشها عشرات الآلاف من السوريين ودفع الكثيرون منهم حياتهم ثمنا لها ناهيك عن الفظاعات التي كانت تحدث داخل هذه السجون التي امتدت لسنوات طويلة. والمفارق أن بدايات هذه التجربة في الرواية السورية كانت على يد مجموعة من الكتاب الذين عايشوا فصول هذه التجربة الرهيبة وخبروا تفاصيل معاناتها المروعة. لقد كانت هذه التجارب هي المغامرة الأولى في الكتابة عند أغلب هؤلاء الكتاب لذلك كان من الطبيعي أن تعاني من ثقل الحمولة السياسية فيها وأن تكون أقرب إلى الشهادات على هذا التاريخ الأسود لديكتاتورية ما زالت تواصل فعل الإبادة للحياة السياسية ولكل صوت يهدد وجودها العنفي.
إن قراءة أغلب هذه الأعمال تضعنا أمام ثنائية الضحية والجلاد رغبة في فضح حجم الإجرام الكبير المرتكب داخل هذه السجون المغلقة على جحيم عالمها، ولذلك هناك بعد واحد اشتغلت عليه هذه الأعمال، ما جعل كثيرا من جوانب التجربة الوجودية والإنسانية والسياسية والروحية تغيب قليلا أو كثيرا عنها. هذه القضية هي التي جعلتني أتردد كثيرا في كتابة تجربتي الطويلة. السؤال الملح: هل كنا مجرد سجناء سياسيين أم كنا حيوات إنسانية تواجه مصيرها المرعب على جميع المستويات السابقة إضافة إلى التباينات الشخصية والاجتماعية والسياسية؟ لكن قبل هذا وبعده، هل تتشابه هذه التجارب على المستوى الشخصي والسياسي أم ثمة تباينات قد تكون أحيانا مؤلمة جعلت هذا العالم ينطوي على كثير من التجارب وأشكال القوة والضعف عند هذه الشخصية أو تلك؟ من هنا ظل هذا القلق يلاحقني حتى بعد سنوات من نشر تجربتي الأولى “أجنحة في زنزانة”، وعلى الرغم من محاولتها الخروج على الثنائيات وعمليات التنميط وجدتني أعيد كتابته من جديد علني أسد ما وجدته فيه من نقص على مستوى المعالجة والغوص في دواخل الشخصية وعلاقتها بالمكان والزمان والذاكرة.
إن ما يغفر لهذه الأعمال انشغالها الكبير بثنائية الضحية والجلاد أنها كتبت وسط ظروف سياسية عاصفة وفي واقع ينوء بثقل الفظاعات التي ارتكبتها وما زالت ديكتاتورية محمية دوليا، لذلك على الرواية الجديدة أن تذهب بعيدا في استجلاء عمق هذه التجربة بمضامينها المركبة والمعقدة. هناك من حاول الانتحار أو خرج مريضا نفسيا وهناك من حاول إنقاذ نفسه منذ بدايات التحقيق وهناك من كان ملحميا في تحمله للفظاعات التي لم تنل من عناده. كل هذا جعلني في تجربتي أحاول أن أجسد صورة الجسد العاري في مواجهة شرطه الرهيب والصراع الدرامي الذي يعيشه في مواجهة هذا الواقع المرعب.
——————————————–
هاشم غرايبة (كاتب أردني): تجارب شخصية حيّة
أدب السجون العربي تجلى في الشعر، والسرد الروائي، والسيرة الذاتية، والنصوص القصصية… ولا ننسى المرويات الشفوية التي ترقى لمستوى الحكايات المؤثرة لتجارب مساجين يتناقلها الناس.. وكما في كل ميدان نستطيع تمييز الغث والسمين. العميق والضحل، التقليدي والمجدد. لكنه أدب صادر في معظمه عن تجارب شخصية حية ومشاعر انسانية عميقة، قدمت للأدب وللحياة وللبشرية ما يسهم في دحر الظلم والظلامية، وتعزيز الانحياز لرقي الإنسان وتقدمه ورفعة شأنه.
صدر لي كتابان عن تجربة السجن: “الحياة عبر ثقوب الخزان”/ دار الكندي/ إربد/ 1994، وكتاب “القط الذي علمني الطيران”/ دار فضاءات/ عمان/ 2011.
لقد كتبت عن السجن “كنزهة قسرية خارج الحياة”. فكتابة أوجاعنا هي إحدى وسائلنا لاستعادة التوازن مع المجتمع -السجن الكبير، فنحن نكابد تحت وطأة تجاربنا الخاصة، ثم نكابد في التحرر من سطوتها.
في غالبية حالات التمثيل السردي لـ”أدب السجون” لا يكتفي السارد باقتطاع جزئية زمنية لوصف وضعية إنسانية مخصوصة، بل يقوم أيضا بتصوير فضاءات قادرة على استيعاب ممكنات انتشار الكم من المشاعر والانفعالات والأفكار المستعادة منها.
الزمن ليس كليا إلا في السجن وفي المطلق الوجودي، أما في “الحياة- السرد”، فيودع في “الحنين” و”الحزن” و”الذكرى” و”الأمل” و”المستقبل” و”الماضي”، وما تستوعبه الذاكرة وترسمه المخيلة من ممارسات نادرا ما ننتبه إلى تفاصيلها خارج السجن. وتلك هي قوة السرد، أو تلك وظيفته الأصلية.
إن ما يبعث الروح في النص هي حالات التشخيص الفردية والتفاصيل المتنوعة والمختلفة بين تجربة وأخرى. هاته هي التي تَمْثُل أمام النفس، في شكل صور مجردة لا يمكن إدراك مضمونها إلا بصبها في أشياء الحياة وكائناتها، ما يمكن أن يحيل على شكل من أشكال وجودنا “الثقافي”. فجزء كبير من هوية أدب السجون ليس شيئا آخر غير ما تُصنفه العين في خانات هي في الجوهر وصف “لخارج” الذات، أو لواجهاتها البرانية. وهي صيغة أخرى للقول إننا “نُلَون” الزمن ليكون قادرا على استيعاب قيم “سجنية” تتحدد فيها طبيعة الأفعال، وردود الأفعال وممكنات السلوك في الوقت ذاته.
من هذه السجون المحلية المتنوعة الغنية بخصوصيتها تأتي أهمية وغنى “أدب السجون” الذي أنتجه كتاب عرب، فهو سرد يُخبر ويُوثق ويَنقل معرفة، و”يُسرب” انفعالات الإنسان من محيط صامت إلى فضاء النشر محملا باحتمالات تأثيره على الواقع المعاش.
——————————————–
فرج بيرقدار (شاعر سوري – السويد): أي كلام عن السجن أدنى من فظاعات الحقيقة
كتّاب كُثر، مصريون وعراقيون ومغاربة وغيرهم، كتبوا عن تجاربهم وتجارب غيرهم في السجون السياسية العربية، وكلٌّ منهم حاول مقاربة التجربة بطريقته.
أما في سورية، فلم يكن هناك سوى شذرات من مقابلات أو مقالات لكُتّاب تحدَّثوا عن تجاربهم في السجون. في حدود معرفتي، الناقصة بالضرورة، لم أقرأ، قبل القرن الواحد والعشرين، كتابًا بقلم سجين سياسي سوري يتحدث عن تجربته. أحد الأسباب هو أن الأنظمة السورية المتعاقبة منذ الاستقلال عن فرنسا حتى عهد حافظ الأسد بدرجة ما، وعهد وريثه بدرجة أوسع، لم تكن تجرؤ على التفكير في اعتقال كاتب معارض أو متمرِّد، وإن حدثت بعض الاعتقالات الاستثنائية، فإنها لم تكن لأكثر من أيام أو أسابيع.
ولكن بعد تمادي الديكتاتوريات العربية وزيادة رخصها وترخُّصها، صار من البديهي أن أكبر احتياطي سجون، وليس نفط فقط، إنما يتركز في هذه المنطقة، ولهذا أرى أن التاريخ سيرشِّحنا كأصحاب أكبر تراث عالمي في أدب السجون.
نقَّبتُ في تاريخ الديكتاتوريات السورية لأعرف إن كان هناك أدباء سوريون اعتقلوا لسنوات طويلة وكتبوا عن تجاربهم فلم أجد. قد أكون أنا أول كاتب سوري يُعتَقَل لسنوات طويلة ويكتب عن تجربته وينشر كل ما كتب. ولكن مع بدايات القرن الحادي والعشرين توالت الكتب المنشورة عن تجارب معتقلين ممن اعتقلوا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين وما بعدها.
لم أقرأ ما يخالف ذلك، وبالطبع سأكون ممتنًا لكل من يرشدني إلى أول كتاب في هذا الشأن إن وُجِد.
أنا كتبت عن تجربة 14 عامًا أمضيتها في السجن بكل ما تعنيه سجون الأسد، ومع ذلك لم أستطع تقديم السجن للقارئ بالصورة المطلوبة. كتابي عن تجربة السجن لم يكن كتابًا صغيرًا (حوالي 280 صفحة)، إلا أني لم أتمكن فيه من عرض الصورة إلا من بعض وجوهها وكمقاربة ليس إلا، ذلك أن أي كلام عن السجن هو أدنى من فظاعات الحقيقة، وبالتالي خيانة للواقع. الواقع فظيع جدًا ولا بد للغة أن تكون خوَّانة، كما أن أي صمت عن تلك الفظاعات هو خيانة أيضًا للضمير والقيم والأخلاق، ولهذا أعطيت كتابي عنوان “خيانات اللغة والصمت”.
ورغم صعوبة الإحاطة بتجربة السجن من جميع جوانبها، إلا أن الكتب التي صدرت خلال الـ 15 عامًا الأخيرة، قد نجحت أكثر من أي وقت مضى في تغطية أهم الجوانب بحدود لا بأس بها. أما تقديم الصورة المرجوّة فتحتاج إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية ومعارض وتحفيزات على الكتابة والنشر الموسَّع، وهذه كما يبدو لم يأت أوانها.
——————————————–
عبد الهادي سعدون (روائي وأكاديمي عراقي ـ مدريد): لا نملك أدب سجون مكتملًا بذاته
أعلم حجم السؤال المهم، وأعرف مقدار المعلومات الضئيلة التي بحوزتنا عنه، هذا الأدب المؤثر والمهم والذي أشبعته المرويات العالمية في كل الأزمنة، ويبقى الأدب العربي فقيرًا معدمًا فيه إلا من نماذج معدودة (أو هذا ما أظنه من خلال متابعتي وقراءاتي). السبب بطبيعة الحال أحكام وقوانين دولنا العربية في الحد من نتاج هذا الأدب وحصره في حيز ضيق إن لم يكن منعه منعًا باتًا وعدم التصريح بنشره أو تواجده في أغلب معارض الكتاب والمكتبات العامة، ناهيك عن خشية الكثير من دور النشر من نشر هذه النوعية من الآداب المهمة والمؤثرة والضرورية كجزء منا ومن منظومتنا الاجتماعية والسياسية والأدبية.
ما يثير الاستغراب هي قلتها حتى في الآونة الأخيرة التي خف فيها تسلط ورقابة الحكومات العربية بسبب اتساع المواقع الاجتماعية والطفرة الإنترنيتية الكبرى التي عبرها لم يعد المنع والرفض ممكنين إلا في ظروف معينة. مع ذلك ما أطلعت عليه في العقدين الأخيرين يمكن أن يشكل قفزة جديدة في هذه المرويات الأدبية والتي أغلبها لا تخرج عن كونها تجارب حقيقية عاشها كتابها في ذلك البلد أو غيره. نماذج عديدة منها مبثوثة في الكثير من الروايات وإن لم تكن هذه الروايات بمثابة روايات أدب السجون بصورة تامة، وهي نماذج تجدها بكثرة في الرواية العراقية الجديدة وفي الرواية السورية وذلك لوضع الدكتاتورية الذي عاشته وتعيشه هاتان الدولتان، وربما هناك نماذج أخرى قرأتها في الرواية الليبية واليمنية. في روايتي “مذكرات كلب عراقي” فصول كاملة عن ظروف المعيشة في سجون ومطمورات العراق في فترة الحكم الصدامي البغيض، دون أن تكون الرواية أدبًا خالصًا عن السجون.
من المحتم أن هناك نماذج عديدة لم أطلع عليها، ولكن الأدب الفلسطيني له باع وخبرة طويلة في تدوين الخبرات والمعيشة المرة في سجون العدو الصهيوني. ما زلت أذكر أول صدمة أدبية كانت عبر “شرق المتوسط”، المروية الروائية عن سجون الطغاة العرب من منظور سجين يساري. ولكن النموذج الروائي المهم برأيي لأدب السجون هو كتاب السيرة الروائية (القوقعة: يوميات متلصص) للكاتب السوري مصطفى خليفة، عن حياة شاب عاش أكثر من 12 سنة في سجون سورية الأسد، وهي نموذج حي عن القسوة والبلادة البشرية والعنف والتنكيل والموت المجازي الحاضر في متون المجتمع العربي ككل. هذا النموذج يكاد يحاكي الظرف نفسه في أكثر من دكتاتورية عربية. ولعل النموذج الأدبي العراقي بامتياز عن أدب السجون هي رواية “أنا الذي رأى” لمحمود سعيد عن تجربة شخصية عاشها في سجون البعث الصدامي.
السؤال الآن؟ هل هناك أدب سجون مكتمل بذاته في الأدب العربي؟ الإجابة بمرارة (لا)، وربما علينا الانتظار لفترة أطول حتى نتوصل بنماذج عالية الجودة والتجربة والتفرد في هذه النوعية السردية المهمة والجديرة بالقراءة والتمعن والتقييم.
——————————————–
المتوكل طه (شاعر فلسطيني): الشّعر والسجن
لا علاقة بين السجن والصحراء، ولكن الاحتلال الإسرائيلي- ككل محتل مهووس- اختار أن يجعل سجن “كتسيعوت” في قلب صحراء النقب! وهكذا سمح لنا المحتل، دون أن يدري، أن نرى شمس الله في انبجاسها المذهل صباحًا، وفي موكبها الجليل مساءً، وسمح لنا بغبائه أن نرى السماء السرمدية ونجومها الباسمات. هكذا سمح لنا المحتل باستعلائه وعنجهيته، نحن معتقلي الانتفاضة الكبرى عام 1987، أن نتابع حركة الغيوم القليلة التي تمر فوق خيامنا، فنحكي عن هارون الرشيد الذي امتلك مخزونَ الغيوم يومًا، وننشد ما قاله درويش عن نبيذ السحاب والنهاوند، وسمح لنا أن نتابع طيور الدوري التي تقف على السياج الفاصل بين كل خيمة وخيمة. كان هناك طائر دوري صرت أميّزه، كان كبير الحجم، كثير الحركة، عالي الصوت، جناحه مائل بعض الشيء، حتى أنه لا يبتعد كثيرًا عن خيمتنا، صار صديقنا، نطعمه ونحكي عنه ومعه، وصار له اسم مثلنا. واندفع معتقل آخر لزرع بذرة بطيخ في جوف جزرة وعلّقها على السياج لتستند عليه. صار لدينا عصفور ونبتة! هكذا هم الفلسطينيون، يحبون النبات والطيور. وكان الشَّعر يأتي هكذا أيضًا، من جوف الصحراء العميق والمديد والمخيف، ومن أشيائها القليلة والمتقشفة، من صمتها ورعبها وأسرارها، في الليل وفي النهار، كان يأتي الشَّعر، من غناء المعتقلين عن البيت المُضاء البعيد، والموجة ذات الرائحة الأليفة، والبيدر الذي استحق الحصاد، ومن الحقل الذي يقطر عسلًا في الظهاري الّلافحة، من الأمهات المنتظرات اللاتي يغزلن الحزن والدمع بالصوف، من أجل إبن لا تدرى في أي سجن هو.
كان الشّعر يأتي، لأن سحنات الجنود الذين يقفون على البوابات والأبراج العالية، كانت مغطّاة بالزجاج والأقمشة السوداء، بدون أسماء ولا نكات ولا ذكريات، ولكن بأسلحة لها رائحة الكبريت والأحماض والموت!
كنت أتسابق مع سجّاني على جسدي، الذي يعتقد أنه نقطة ضعفى، فيما كنت أفرد بساط الشّعر الطائر، أعلو وأكبر وأمتدّ، أطير لأرى أيامي القادمة، أبنائي الذين سأنجبهم، كتبي التي سأنشرها، المدن التي سأزورها، العربات التي ستحمل المحتل بعيدًا عن وطني. كان السجّان يضغط على ما يعتقد أنه ضعفي، بالضرب مرّة، وبالحبس الانفرادي مرّة، بالغاز أو بالجوع أو بالتخويف. أما أنا، فأذهب إلى قصيدتي، أسمّي أشيائي وأرتبها، أكتشف أن لي ذخرًا لا ينتهي من النماذج العظيمة التي لا تتكرر. كانت القصيدة تتحدّر منّي لأكتشف أَنني أبني قصيدتي على ملايين القصائد التي قيلت بالعربية، فأفرح بأنني أعلى من سجّاني ومن سجنه، وأن قصيدتي مثل صحراء النقب، أكبر من أن تُمتلك، وأكبر من أن تُدرك أو يُسبر غورها العميق.
وكما في غناء المعتقلين أو صلواتهم أو تكبيراتهم، في مواجهة اقتحام الجنود، الذي كان يتكرر، فقد فعلت مثلهم أيضًا. ففي اقتحام ما، هجم هؤلاء ببنادقهم وعصيهم وخراطيم الغاز، وأقنعة الزجاج وصفارات الاستنفار التي دوّت في أرجاء المعتقل، كُنّا عُزَّلًا من كل شيء، ولكننا كنا نكتب، وكنا نُنسّق فيما بيننا المواقف النضالية والسياسية، كنا ندير شؤوننا ونتصل بالخارج بطرق كثيرة، كان لنا موقف وكان لنا رأيٌ، وكان اقتحامهم لمصادرة أقلامنا ودفاترنا ومواقفنا! لم أشعر بنفسي إلاّ وقد وقفت وسط الخيمة واندفعتُ بقصيدة مرتجلة أردُّ بها البنادق والعصي والغاز والوحشية. كانت تلك أول مرة أقول فيها الشّعر مرتجلًا، هكذا، تصرفت كشاعر عربي تمامًا، منذ عمرو بن ودّ العامري وحتى يومنا هذا.
وقد نشرت تلك القصيدة في ديوان “فضاء الأغنيات” الذي كتبته تحت خيمة وبين معتقلين كانوا يشاركوني الكتابة، بما يقولون وبما يفعلون.
هناك في السجن، يشفّ الإنسان ويرقّ، ويرى في إخوانه ما لا يستطيع رؤيته خارج السجن. كانوا في معظمهم رائعين أقوياء وقادرين. كنت بحاجة إلى شجاعتهم وابتساماتهم وقدرتهم على التكيّف، كنت أرغب في أن أرى قلوبهم وألمس مشاعرهم التي كانت تقوّيني وتدعمني، ولهذا عندما كتبت عنهم، لأني أكتب عن نفسي أيضًا، في ذلك الديوان الذي دائمًا أنشدّ إليه، سكبت كل نأمة قيلت في ذلك المعتقل، ورسمت مشاعري ومشاعر زملائي وأصدقائي هناك؛ الحرية والوطن الواسع والحياة بدون احتلال، والفضاء المزدحم بالعصافير والأزهار والأطفال. احتفلت بالديوان في المعتقل معهم، واحتفلوا به معي كأنه لهم، وقام معتقل بكتابة مقدمه له، قرأها الآخرون، وأحسسنا جميعًا أن هذا الديوان هو ديوان كل المعتقلين. وفي الديوان كتبت أو كتبوا أسماء قرى فلسطين، وأسماء أشجارها وطيورها، وتحدثنا عن بيوتها ونسائها وطرقاتها وأزقتها، كنا نريد أن نسمّي وطننا من جديد.
عندما كنت هناك، تحت الخيمة، في ذلك السجن الرديء عرفت ما معنى الشِعر، وما الذي يفعله فينا.
————————————–
الجزء الثاني
————————–
العربي الرمضاني (كاتب من الجزائر): السجن في المهجر
خلال تجربتي مع الهجرة غير الشرعية قبل سنوات في الطريق من تركيا نحو أوروبا، عرفت لأول مرة في حياتي الأصفاد التي تُعيق حركة اليدين وتجعلك متهمًا، والمعنى الكئيب للسجن وهوية السجان وعقليات رفاق السجن بمختلف جنسياتهم وطبائعهم. بسبب مخالفة تتعلق بعدم حيازة أوراق إقامة، تم اقتيادي إلى سجن صغير يقع في مدينة باتراس الساحلية غرب اليونان. فظاظة رجال الشرطة التي تتطور إلى عنف وحشي لأتفه الأسباب، وتفاصيل المُعتقل الكريه كلها تركت لدي حالات من الهلع والاغتراب والضياع، كون السجن يسحب منا مَلكة الحُرية ويُقيد حركاتنا، والأسوأ من ذلك عدم معرفة كم ستمكث ومتى سيُفرج عنك. للوهلة الأولى بعد أن نُزِعت الأصفاد من يداي، وتدوين اسمي في حاسوب مكتب الشرطة، وجدت نفسي رفقة وجوه شاحبة، تتقلب بتثاقل فوق أسِرة إسمنتية وتتعرق بشدة والذباب يكسر الصمت ونور خافت يتسلل ببطء من شُباك شاهق، كل ما يظهر منه صفاء السماء، وضجيج المدينة القادم من بعيد، وضحكات تظهر ثم تختفي من الغرفة المجاورة.
اللحظات الأولى كانت جحيمية، فشلت السجائر في تبديدها، يقترب مني شاب أفغاني لطيف، يسأل بابتسامة عن هويتي وسبب قدومي، ثم يطمئنني بأن مغادرة هذا المكان القذر قدر لا مفر منه، ونحن نتحدث، فُتح باب السجن الحديدي الضخم محدثا هلعا مدويًا. نودي على أسماء عديدة، منها الشاب الأفغاني الفضولي، الذي عرّفني على نزلاء الزنزانة، أغلبهم ألبان وباكستانيون وكردي عراقي وكردي آخر تركي وجزائري، ودعني ذلك الأفغاني الودود بعد أن منحني سيجارة واكتفيت بمراقبة الحمام وهو يلتقط فتات الخبز من شباك ردهة السجن.
ليلة أولى في غرفة ضيقة كريهة جدا، رائحة الحمّام والعرق والأحذية ممزوجة بالرطوبة الخانقة وشخير النزلاء، الليل في السجن، سقف بلا نجوم، هواجس مضطربة، حرية مخنوقة، فجر بعيد، ونوم هارب. الصباحات يُدشنها حارس فظ، يفتح الباب بهمجية ينخلع لها القلب وتهتز لها أرضية وجدران الغرفة، يلقي نظرة على المساجين، ثم يوزع فطورًا صباحيًا باردًا بلا نكهة.
الاعتياد على السجن كان أكبر تحد. تمضي الليالي بطيئة وباهتة، ويذهب معها الأرق، التفكير، الاضطراب، الصمت، رهبة السجن، مع لامبالاة بالحاضر والقادم.
لحظة اعتقالي، صرحت بغير هويتي الأصلية، قدمت نفسي للشرطة باعتباري ليبيا، لدواعٍ تتعلق بتخفيف قيود الاعتقال كون ليبيا تعيش اضطرابات والجزائر دولة مستقرة. ذات صباح نودي عليّ للتأكد من هويتي عبر أخذ البصمات، كانت النتيجة أن ظهرت معلوماتي الحقيقية التي قدمتها لدى شرطة جزيرة ساموس لحظة وصولي إليها، انفعل الشرطي ودخلت معه في مناوشات حادة كادت أن تنتهي إلى عراك، ينفعلون لأننا نكذب عليهم ولكن لا يجدون حرجا في الكذب علينا حين نسألهم عن مواعيد الإفراج أو تغيير السجن. طلبوا منا التوقيع على وثائق باليونانية والإنكليزية والعربية ولم يسمح لنا بالاطلاع عليها، بالصدفة وقعت عيناي على عبارة بالعربية “مغادرة التراب اليوناني”، شعرت بارتباك شديد كون العبارة تعني الترحيل إلى بلداننا بكل تعسف ودون احترام لقوانين اللجوء الأممية والأوروبية التي تعترف بها الجمهورية الهيلينية.
غادرنا ذات صباح باكر في حافلة كئيبة مسيجة من الداخل إلى وجهة غير معلومة، كعادتهم يتجاهل أفراد الشرطة الرد على أسئلتنا حول مصيرنا والوجهات القادمة، المسافة طويلة والجو خانق داخل الحافلة المهترئة، كنت رفقة جزائري وألباني وأفغاني يتحدث اليونانية بطلاقة، أخبرنا أن الوجهة سجن ألادابون في العاصمة أثينا، سجن الأجانب الذين دخلوا إلى اليونان بطريقة غير شرعية، وهو ضخم جدا وبطوابق عديدة وقذارة تنبعث من كل مكان.
تتهاوى سطوة السجن ويصير أوسع بالعلاقات الإنسانية الدافئة بين النزلاء. في الطابق العلوي الذي نُقلنا إليه، تبدو الحياة مختلفة عن القرف السابق، نوافذ كثيرة تُطل على صخب أثينا وردهات واسعة بغرف عديدة، ومساجين كثر من جنسيات مختلفة. في الطابق المقابل توجد نسوة معتقلات، معظمهن من أوروبا الشرقية. دائمات الضجيج والدلال. حضورهن كان لوحة فرح وجمال تتجاوز العتمة والانتظار.
السجن في المهجر كان مرورا غير مبرمج على شكل آخر من الحياة والتعرف على أفراد من بلدان وجنسيات مختلفة والتقاط لحظات إنسانية عالية تجعل السجن فسحة للاكتشاف وإدراك نفاق الحكومات والتعامل الوحشي في معظم الأحيان مع أفراد غامروا بحيواتهم من أجل حاضر أفضل غير الذي تركوه في أوطانهم.
تجربتي في السجن، مدرجة ضمن كتابي عن الهجرة غير الشرعية “أناشيد الملح- سيرة حراك” الصادر سنة 2019 عند دار المتوسط – إيطاليا. رأيت أنه من الواجب الإنساني والإبداعي تدوين كل تلك المشاهد بتفاصيلها ولحظاتها واضطرابها ونقلها إلى القراء والباحثين، كون الكتابة عن الهجرة غير الشرعية من داخل الظاهرة أساسا قليلة جدا إن لم نقل إنها نادرة. الكتابة عن حياة المُهاجر في السجن محاولة لتعرية وفضح التجاوزات الفظيعة ضد المهاجرين والدوس على حقهم في الحماية واللجوء والتنقل بحرية.
عربيا هناك كتابات مهمة جدا عن السجن، نأخذ مثلا رواية مصطفى خليفة “القوقعة”، كانت نافذة مريعة وفاضحة للمصير الشنيع الذي يواجه الإنسان العربي المُتهم في وجوده وأفكاره وحريته، وخليفة قدم تقريرا طويلا ممزوجا بالرعب والدماء والصراخ والعذابات والإهانة من طرف طُغم أمنية تحترف التنكيل والحط من كرامة الإنسان دون أدنى سبب وبعيدا عن القضاء وحق الناس في محاكمات نزيهة.
أدب السجون في الفضاء العربي قدم الجانب المُظلم للأنظمة الحاكمة، المتوارية خلف سرديات شعبوية مُفلسة، وما كُتب عن فظاعة السجن كان مساهمة مُهمة في تنوير المجتمع والعالم عن ممارسات لا إنسانية.
——————————————–
محسن الرملي (كاتب من العراق): ما كتب حتى الآن قليل جدًا قياسًا بكثرة السجون في عالمنا العربي
شخصيًا لا أرى في أدبنا العربي ما يمكننا أن نطلق عليه (ظاهرة) أدب السجون، فما كتب حتى الآن هو قليل، بل وقليل جدًا، قياسًا بكثرة السجون في عالمنا العربي وكثرة الذين سُجنوا، وتنوّع تجاربهم وقضاياهم وأنواع التعذيب النفسي والجسدي الذي تعرضوا له. وهذا الكم القليل من الأعمال الأدبية المكتوبة تحديدًا عن السجون، رغم جودته، كروايات عبد الرحمن منيف وفاضل العزاوي وربيع جابر ومصطفى خليفة وغيرهم، لم يستطع أن يشكل سمات وملامح فنية رئيسية معينة، بحيث يمكننا القياس عليها والتصنيف ووضع إجراءات نقدية خاصة بما يمكن تسميته “أدب السجون”. أظن أن ما كُتب من مذكرات ومواد صحافية يفوق ما كُتب من أدب عن السجون. وربما تعود محدودية الكتابة الأدبية إلى أسباب عديدة، منها مثلًا: محدودية هذه الموضوعة نفسها، لأنها أولًا وأخيرًا ستدور في مكان ضيق وتصف تفاصيل مكررة من معاناة متوقعة، وعدم رغبة غالبية القراء بالاطلاع على هذا النوع من الأعمال، وقلة الأدباء الذين تعرضوا لهذه التجربة وأرادوا الكتابة عنها، فهناك من يفضل تجاوزها ونسيانها، وضيق هامش الحرية في ظروف ومراحل معينة… أما عن ذِكر السجن وتجاربه كجزء من أعمال أدبية، وتوظيفه داخل بنائها ولصالحه، وليس كموضوعة رئيسية، فهذا موجود بكثرة في أغلب الأعمال الأدبية، فحتى أنا الذي لم أتعرض للسجن في حياتي سوى ثلاثة أيام، كعقوبة روتينية أثناء أدائي للخدمة العسكرية، ورد السجن بأشكال مختلفة في رواياتي (الفتيت المبعثر) و(تمر الأصابع) و(حدائق الرئيس) وبعض القصص القصيرة.
——————————————–
جمعة بو كليب (كاتب من ليبيا): جدلية السجن والإبداع
أكادُ أجزم أن غالبية المشتغلين بالأدب والثقافة في بلداننا العربية ونظراءهم من بلدان العالم الثالث على صلة- قريبة أو بعيدة- بالسجون عامة، وبالسجن السياسي خاصة، لأن السجون مفردة شديدة الحضور في واقع مقموع سياسيًا. وعديدون منهم اكتووا بنيرانها. وبالتالي، فإن الحديث عن أدب السجون، يعني، على وجه التحديد، الأدب الإبداعي الذي يتناول تجربة الحياة في السجن بشكل عام. وقد يكون مكتوبًا داخل أسوار السجون أو خارجها. ومؤلفوه ليسوا بالضرورة قد خاضوا التجربة واقعيًا. وفي الحقيقة، فإن مصطلح أدب السجون مفهوم ارتبط في الثقافة العربية بالأدب الذي كتبه سجناء رأي، من أدباء ومثقفين، ممن تعرضوا لتجارب الحياة في السجون. وهذا الفهم، في الحقيقة، يضيّق المفهوم أو المصطلح، لأنه يتجاهل عمدًا أدب السجون الذي كتبته أو تكتبه فئات أخرى من الناس غيرهم.
علاقة الأدب بالسجن ليست وليدة العصور الحديثة، بل تمتد بجذورها عميقا في تربة الواقع الإنساني، وهذه السطور ليست مكرسة للخوض في تلك العلاقة، لكنها تهدف إلى الاقتراب من الإجابة على سؤال: “هل استطاع الكاتب العربي أن يقدم هذا العالم المؤلم بالصورة المرجوة؟”
قبل أن أُدفَع قسرًا داخل بوابة السجن المركزي بالعاصمة الليبية طرابلس بتهمة ملفقة، كانت كافية للزّج بي، وبأحد عشر كاتبًا ليبيًا آخر، لقضاء قرابة عقد من الزمن، في سجون النظام الليبي، قرأتُ ما كان متاحًا من كتب تناولت الحياة في السجون، سواء أكانت مذكرات سيروية أو روايات، أو قصص كتبها أدباء ومثقفون عرب وغيرهم. وحين انتهت تجربة السجن، ووجدتني خارج أسواره الخانقة، اكتشفت أن لديَّ شهية لقراءة ما أتيح لي من أدب يتناول تجربة السجون. قراءة أدب السجون بعد خوض تجربة العيش فيها، تختلف كثيرًا عن قراءته قبلها. قبل السجن، كان الغرض من قراءة أدب السجون التعرف على حيثيات ذلك العالم الرهيب والمرعب. بعد خروجي من السجن، قرأتُ أدب السجون بغرض المقارنة بين تجربتي السجنية، وبين تجارب غيري في بلدان أخرى عربية أو غيرها.
قبل خوضي تجربة السجن، قرأت أعمالا ابداعية وسيروية كتبها أدباء ومثقفون عرب، تتعرض لتجاربهم الشخصية في سجون مصر، والعراق، وسورية، والمغرب، والأردن، وليبيا، وفلسطين. تلك الكتابات كانت تتفاوت في قيمتها الفنّية، بتفاوت قدرات مؤلفيها، ومدى تمكّنهم من الإحاطة بعوالم السجون، وتقديمها في شكل روائي، أو قصصي، أو شعري. وأعترف أنني بقدر ما أثارت في نفسي من خوف ورعب، تمكّنت تلك الأعمال، في نفس الوقت، من أن تكون لي ولرفاقي زادًا في السجن، ومصدرًا مُعينًا ساعدنا جميعًا على تحمّل السجن من خلال استيعاب عوالمه، والتعامل مع تفاصيله الغريبة والكثيرة. كنّا في جلساتنا، وخاصة خلال العامين الأولين، كثيرًا ما نتعرض في أحاديثنا إلى تلك التجارب، بغرض تذكر تفاصيلها والمقارنة بينها وبين عالمنا السجني. لكن ما قرأته بعد السجن، كان في مجمله قادمًا من بلدان أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. والعلاقة بين تلك العوالم وثيقة. ويمكن القول إن التجارب جميعها تتميز بخصوصيات، وأن الأدباء في أميركا اللاتينية كانوا، في رأيي، أكثر قدرات وإمكانيات إبداعية من غيرهم من كتاب البلدان الأخرى. وفيما يخصّ أدبنا السجني العربي يمكنني وبثقة القول إن ما كتب ونشر، وما وصلني منه وقرأته، وصل درجة عالية من الجودة فنّيا وجماليًا، وتمكن مؤلفوه من التوغل في تفاصيل ذلك العالم الغريب والمرعب في آن معًا، وأحاطوا إبداعيًا بتشابكاته، ومواجعه وآلامه، وكشفوا بمباضع جراحين موهوبين مكامن الداء في واقعنا السياسي العربي.
——————————————–
هاني حجاج (كاتب من مصر): توثيق أبشع جرائم الإنسان تجاه الإنسان
هل يُسجن الأديب أو صاحب الفكر؟ يحدث كثيرا ولا بد أن يحدث ما دام فعل الكتابة يتصل بالعمل الإعلامي الذي يتصل بدوره بهراوات الأمن وقبضة محاكم التفتيش في كل زمان ومكان. فإذا لم تكن تجربة الكتابة داخل الزنزانة عملية تصفية حساب مع الآخر الطاغية المهيمن فهي على الأقل مسألة تطهير من أزمة وجودية مريرة في جنبات المعتقل والتهمة: أنك تفكر، أنك تقول لا، أنك تنبه النيام! يعدها الروائي مصطفى لغتيري، مؤلف رواية “ابن السماء”، “تجربة إنسانية ووجودية ونفسية مريرة، قد يكون المرء قد عاشها فعليا أو سمع عن تفاصيلها من أحد السجناء، أو هي فقط عبارة عن تجربة متخيلة لها ما يدعمها في الواقع، مما حدث لكثير من السجناء، وتناقلته الألسنة أو وسائل الإعلام.. باختصار، إنه أدب يحاول توثيق أبشع جرائم الإنسان تجاه الإنسان”. ومنذ وضع بوثيوس الفيلسوف والسياسي الروماني (480 – 525) مؤلفه (عزاء الفلسفة) الذي يُرجح أنه كتبه وهو في السجن وحتى يومنا هذا ظل أدب السجون يحمل طابع القتامة والسواد مهما حفل بالسخرية ومهما كانت حبكة الأحداث بوليسية مشوّقة.
النتاج العربي في أدب السجون كثيف، يصل جذره إلى ما قبل الشاعر أبي فراس الحمداني، حين كتب رومياته في زنازين الروم، لكن ثراء هذا النمط الأدبي الفريد انتعش في القرن الماضي، مع مجيء دول الاستعمار، وما تلاه من تغير في شكل الخارطة واشتعال الحرب على السلطة في عديد من الدول العربية، فألقت بالظلال بين الجدران ومعها الدسائس والمؤامرات، فيما بين الطرفين العتيدين الحكومة/ المعارضة، ما عجل بفتح أبواب المعتقلات على مصاريعها وانتشرت مصطلحات مسجون رأي وسجين سياسي. في رفوف المكتبة العربية عينات من “أدب السجون”، لا محالة سيمقتها القارئ من أول فصل، لقدرة أصحابها على استعمال اللغة لجذب القارئ إلى معايشة التجربة معهم وراء قضبان الزنزانة، لدرجة أن هذه الروايات تخلف ندوبا نفسية أحيانا. من ذلك رواية “القوقعة: يوميات متلصص” لمصطفى خليفة الروائي السوري المسيحي، يحكي فيها الأهوال التي رآها وعاينها وعايشها في السجون السورية، لأكثر من عقد كامل؛ بتهمة الانتماء إلى جماعة إسلامية، بالرغم من أنه كان قد عاد توا من فرنسا، حيث كان يدرس الإخراج السينمائي! ورواية المغربي أحمد المرزوقي “تزممارت: الزنزانة رقم 10” عن أعوام حبسه في السجن في “تزممارت” لتورطه في انقلاب 1971 ضد الملك الحسن الثاني، فقبض عليه وحوكم عسكريا بعد فشل المحاولة، ثم رحل إلى السجن، حيث تلقى أشد أنواع العذاب؛ منها وضعه في قبو مظلم، ومنحه فتات الطعام والماء الملوث، دون أن يرى أو يكلم أحدا. كتب المرزوقي
وخلّفت أزمة المغرب السياسية في السبعينيات طائفة من أدب السجون، من أبرز تلك الأعمال رواية “تلك العتمة الباهرة” لطاهر بن جلون، الذي نقل من خلالها شهادة عزيز بنبين، أحد رفاق المرزوقي في سجن تزممارت، وكذلك رواية “من الصخيرات إلى تزممارت؛ تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم”، لصاحبها محمد الرايس، ورواية “الساحة الشرفية” للكاتب والصحافي عبد القادر الشاوي، و”يوميات سجين متوسطي” للروائي حسن الدردابي، و”أفول الليل” للطاهر محفوظي، و”العريس” لصلاح الوديع. وتاريخ الأدب المصري يحمل عناوين شهيرة مثل (لا) و(سنة أولى سجن) لمصطفى أمين و(شرف) لصنع الله إبراهيم عن دكتور رمزي المتهم بقضية رشوة، ويكشف الجرائم التي ترتكبها شركات الأدوية بحق شعوب العالم الثالث.
“أخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنك إن فعلت صارت رقبتك بيد جلادك، وصرت تتقبل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنها قبلة في خدّ الرضى”- العبارة التي تخرج بها من أحدث روائي عربي تخصص في كتابة هذا اللون الأدبي، أيمن العتوم، في روايته (يا صاحبي السجن).
——————————————–
ضاهر عيطة (كاتب من سورية): إخراج المخبوء إلى العلن
تكاد ظاهرة “أدب السجون” في عالمنا العربي تكون أداة كشف لحدث يجري في الخفاء، في سراديب تحت الأرض، وحينما يمضي الكاتب للغوص في خفايا هذا الجحيم، إنما يعيد للمعذبين وللضحايا الذي تألموا أو قضوا فيه، شيئًا من اعتبارهم بوصفهم بشرًا تستحق آلامهم أن تخلد في نص روائي، سيما وأنه توجد آلاف المعتقلات على امتداد الجغرافية العربية، وغايتها جميعًا قهر الإنسان والنيل من كرامته والعبث بكيانه حد الموت في كثير من الحالات، فما يحدث داخل جدران تلك المعتقلات تعجز المخيلة البشرية عن توقع حدوثه على سطح الأرض، وحينما ينفي السفاح الأسد وجود معتقلين في سجونه، وبالتالي ينفي أن تحدث هناك عمليات تصفية وتعذيب، تأتي رواية أدب السجون، لتكذب مزاعمه، وتعمل على كسر تلك الجدران، وتخرج المخبوء فيها إلى العلن. وقبل أن أعيش تجربة الاعتقال، كنت قد تناولت المعتقلات السورية في روايتي “لحظة العشق الأخيرة”، معتمدا بذلك على ما كنا نسمعه عن تجارب المعتقلين، لكن بعد أن عشت تجربة الاعتقال، ولامست بعض أهوالها اللامحدودة، وجدت نفسي مشدودًا لتتبع الأعمال الروائية لكتاب كانوا قد اعتقلوا واستطاعوا التحرر من حالة الصمت والكتابة عن تلك التجربة المريرة في عمل روائي، وهذا الذي ما زلت غير قادر على فعله حتى الآن.. وربما كانت رواية “القوقعة” من أكثر الروايات التي أتت على وصف وسرد تفاصيل المعتقلات السورية في فترة من حكم الأب السفاح حافظ الأسد، إذ اشتغل مصطفى خليفة في حينه على تصوير الحدث في متن روائي، يسلط الضوء على ما يحدث هناك، ويزج القارئ للوقوف على أهوال ما يتعرض له المعتقلون من ويلات. ومؤخرًا، ومن رحم الثورة السورية، بدأت تظهر أعمال روائية على قدر عال من الأهمية، وقد استطاع كثير منها تحرير الأدب الروائي من وطأة المباشرة وتصوير الحدث كما هو في المعتقلات هناك، ما يشي بأن الرواية لا تسعى إلى تصوير الحدث كما هو، فهذه من مهام الكاميرا، بل تشتغل على الحدث المعطى في الواقع، لتحوله إلى حدث يجري في لحظة وفي مكان وزمان روائيين، يتكثف فيه الإحساس والأوجاع والمعاناة، المستقاة من حدث واقعي، لكنه محمول هنا على متن خيالي. ولعل أبرز ما يحضر في ذاكرتي من أعمال روائية اطلعت عليها في الفترة الأخيرة، رواية “لهذا أخفينا الموتى” لوائل الزهراوي، وهي رواية تعتمد على السرد الذاتي، لتغدو شهادة ذاتية لكاتبها عن تجربة اعتقاله ومعاناته، وما عايشه من ظروف قاهرة في جحيم المعتقلات السورية إبان الثورة السورية، وكذلك رواية “قبل حلول الظلام” لمعبد الحسون وهو سجين سابق في جحيم تدمر. وهذا العمل الروائي يرصد ببراعة ما يحدث في قاع ذاك الجحيم بمهارة تؤهله ليكون من أهم الوثائق عما يدور في سجن تدمر، حيث يتحدث في هذه الرواية عن شخصيات يعرفها السوريون، وعن آلاف الشبان من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين تم دفنهم في قيعان تدمر، في حين ينأى معبد الحسون عن الذاتية في السرد، ولم يتطرق لوالده الشاعر وخبير الآثار مصطفى الحسون، الذي فجع باعتقال أبنائه في مطلع الثمانينيات، وصار يهيم في شوارع الرقة ويبكي شعرًا حزنًا على فلذات كبده، ومنهم معبد الذي يكتب سيرة الآخرين اليوم ويوثقها. كذلك لا يمكن إلا أن أقف عند رواية “المحاكمات الإلهية 601” للصحافي جابر بكر، التي يتناول فيها الانتهاكات الذي يعانيه معتقلو مشفى المزة العسكري 601، وهو معتقل سابق في سجون النظام السوري، حيث يروي شهادات بعض الناجين من هذا المعتقل بحرفية عالية، ويأتي عنوان الرواية من مقولة للسجان “حكمت عليك المحكمة الإلهية بالقتل” وذلك حينما يراد تصفية سجين من السجناء، وما يميز هذه الرواية أنها تحرر القارئ من شعور الذنب تجاه السجناء، لكون سورية اليوم أصبحت بكاملها سجنًا، والجميع فيه ضحايا ومعذبون. وهي إضافة لذلك تطرح أسئلة عن ماهية الحرية، وعن اعتقال الإنسان، وعن السعادة والحزن وقيم الإنسان، لتحمل في متنها السردي عدة أصوات، دون أن تقتصر على صوت الضحية فقط.
———————————-
هنا الجزء الثالث والأخير.
——————————————–
علي المقري (روائي يمني – فرنسا): أدب شبيه بأقبية السجون
السجن في الأدب العربي له مكانة متميزة وهو يتنوع ما بين اليوميات والمذكرات والروايات والقصص والشعر لكن ما يربط بينهما جميعًا هو الجانب الذي تتناوله هذه النصوص والذي يقتصر على إشكالية السجن كعقاب من قبل السلطات السياسية للمسجون بسب معارضته السياسية أو نقده لنظام الُحكم، وبالتالي تدور الأحداث حول هذه الإشكالية وكيفية تعامل السلطات مع المسجونين منذ مراقبتهم وإصدار القوانين المقيدة لحريتهم إلى القبض عليهم وتعذيبهم في السجون.
ما ألاحظه هنا أن أفق أدب السجون ما زال ضيقًا بل ومعتمًا كأقبية السجون العربية، فهو يعكس هذا الواقع العربي بكل تفاصيله، فيما نجد الكتابات المتعلقة بالسجن قد تحولت كثيرًا في معظم البلدان وصارت تتناول السجن من حيث هو مؤسسة للإصلاح وليس للعقاب، ولهذا نجد المسجونين لديهم إشكاليات أخرى تتعلق بقضايا الجريمة أو الاغتصاب أو الفساد المالي والإداري وأحيانًا الإرهاب، وهم بذلك يعرفون مصائرهم وسنوات حكمهم تبعًا للقوانين، فيما السجين العربي ما زال مصيره عند رب السلطة وهو وحده الذي يستطيع أن يعمل به ما يريد، يميته أو يتركه لحياة شبيهة بالعذاب.
——————————————–
سوسن جميل حسن (كاتبة من سورية): الكتابة عن تجربة النساء
إن كان داعش قد دمّر سجن تدمر، فإن الأدب وثّق حتى رائحة جدرانه المضمخة بدماء الذين مرّوا من هناك، وغادروا إما إلى حتفهم أو إلى حياة أخرى حملت ذاكرة السجن كوشم على أرواحهم. لعلّ أشهرها رواية “القوقعة” لمصطفى خليفة.
صدرت أعمال روائية كثيرة في الخمسين سنة الأخيرة أو أكثر تحكي عن السجن، إن كان من قلب معاناة عاشها الكاتب خلال اعتقاله، أو بوحي تجربة أو شهادة لغيره، وهناك روايات كان السجن أحد شواغلها لكن كاتبها لم يدخل السجن وإنما رسم سجنًا متخيّلًا. والمنتج الثقافي، والأدبي منه تحديدًا، لا يحتمل السقوف، فالمجال مفتوح أمام تجارب كثيرة ومنوّعة، طالما أن الظروف في منطقتنا العربية ما زالت تتناسخ عن بعضها البعض، وما زالت الأنظمة القمعية أيضًا تتبارى فيما بينها في قمع المنتقدين لسياستها وكم الأفواه، وكل تجربة هي فريدة بالرغم من تشابه الظروف وتوفر الشروط ذاتها، والروايات التي كتبت أو يمكن أن تكتب أمامها مجال مفتوح، فتجربة السجن تحيل إلى السياسة وعلم الاجتماع وعلم التحليل النفسي والطب النفسي والجريمة والاقتصاد والعمران والدين والفلسفة وغيرها الكثير مما توفر له الرواية فسحة من العلوم والفنون، ويمكن اعتبار رواية “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف القائمة على اللا تعيين نموذجًا يمكن إسقاطه على كل البلدان ذات الأنظمة القمعية في منطقتنا.
لكن جلّ ما كتب هو منتج ذكوري، فمساهمات المرأة في هذا المجال ما زالت محدودة، بالرغم من تعرّضها للاعتقال، خاصة بعد ما سمي بالربيع العربي، وما قبله أيضًا. ليس السجن هو الاعتقال في قفص رمزي أو واقعي، والعزلة مع تعذيب السجين بكل الأدوات وابتكارات العنف والوحشية فقط، بل السجن أيضًا هو اعتقال إرادة الإنسان والتهديد الدائم لوجوده، ومن هذا الباب يمكن اعتبار شهرزاد المعتقلة الأشهر، وطريقة مواجهة سجنها وتهديد وجودها الدائم كانت عبارة عن مداورة الواقع ومحاولة الهروب الدائم من قتلها عن طريق القصّ، تسخير مخيّلتها إلى أبعد الحدود كي تأمن شرّ سجّانها صاحب السطوة والقوة. وهي إن كانت تبدأ الرواية بعبارة “يحكى أن” أو “والله أعلم” فإنها أيضًا محاولة ذكية للتملّص من حمولة الحكاية المعرفية والفلسفية والقيمية درءًا لانتقام الملك الشرّير، لذلك كانت تكرّر أيضًا “بلغني” خوفًا من مواجهة موتها في حال لم تعجب الحكاية الملك.
من هذا الباب يطرح سؤال نفسه: ترى هل يمكن للسجينات، خاصة بعدما صارت معروفة لدى الجميع أساليب التعذيب الممارس بحقهن، أن يسردن تجاربهن بشفافية وأمانة، أم أن خروجهن من السجن ودخولهن سجنًا أوسع هو سجن المجتمع والقيم والأعراف ومفهوم الأخلاق وما يلقى على عاتق المرأة من حمولة ويقيدّها ويصادر إرادتها ويحاصرها، سوف يجعل سرد تجاربهن يفتقر إلى العمق والشفافية؟ هل سيبقى الكثير من المسكوت عنه حبيس ذاكرتهن بالرغم من أهميته؟ وهل سيلجم هذا القيد العملية الإبداعية فتخرج نصوص تفتقر إلى القيمة الفنية؟
هناك محاولات عديدة لتدوين تجارب السجن لدى النساء، والمقصود هنا بالطبع الاعتقال السياسي، منها مثلًا كتاب “السجينة” لمليكة أوفقير الذي سردت فيه قصة سجنها وعائلتها في المغرب، لكن اللافت أيضًا أنها تابعت بكتاب آخر هو “الغريبة”، الذي تحكي فيه عن حياتها ما بعد السجن وكم استغرقت من نضال وكافحت حتى استطاعت أن تتصالح مع الحياة، فتجربة السجن لا تنتهي بالخروج منه، بل ربما تبدأ معاناة أكبر بعدها، لأن زمن السجين في معتقله مختلف. تقول حسيبة عبد الرحمن، المعتقلة السورية السابقة، صاحبة رواية “الشرنقة”: هناك زمن موضوعي لمن هو خارج السجن، وزمن ذاتي شخصي لمن هو داخل السجن ويمكن إدراك هذا التناقض عند الإفراج عن السجين والخروج من السجن.
الكتابة عن تجربة النساء في السجون ما زالت ناقصة وفيها الكثير من الزوايا التي يجب إضاءتها، فممارسة القمع هنا مضاعف، قمع نظام استبدادي، وقمع سلطة ذكورية، وقمع سلطان اجتماعي وما تلاقيه المعتقلة من رفض المجتمع لها ولتجربتها المريرة، ولقد لاقت رواية “الشرنقة” انتقادات بسبب ما أطلقوا عليه “نشر الغسيل الوسخ”، لكن كاتبتها وصاحبة التجربة قالت: عندما يكتب عن السجن، يكتب عن الجانب المضيء، مع أن ما ليس مضيئًا هو من حقائقنا، وأنها كانت مهتمة بالتفاصيل وأكثر الحالات النفسية سوءًا، وتحرص على الصراحة بأن السجين هو ضد كل شيء، ضد نفسه وضد الآخرين.
يمكن القول بأن أدب السجون سيبقى غير ناضج ما لم ترفده أقلام سجينات بكل جرأة وشفافية، وهذا ركن أساسي من نضالهنّ في سبيل تحطيم الصورة النمطية التي تعتقل المرأة في المجتمع، وتفتيت الثقافة الامتثالية التي تمكّن الجلاّد من التحكم بإرادتها ومصيرها.
——————————————–
محمد ميلود غرافي (كاتب من المغرب): الأدب العربي “أدب سجون“
إذا تأملنا الأدب العربي، الروائي منه خاصة، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، يمكن أن نعتبره كله أدب سجون بالمعنى الواسع للكلمة. يعود ذلك إلى ارتباط هذا الأدب ارتباطا وثيقا وصلبا بواقع البؤس والعذاب واليأس والحزن والدمار النفسي والجسدي الذي صار ملازما للمجتمعات العربية إلى درجة يبدو معها العالم العربي بكل توسعه الجغرافي سجنا ضيقا. هكذا تبدو موضوعات التهميش وسلطة الرجل على المرأة وتسلط الأنظمة الحاكمة على شعوبها والرغبة في الخلاص والهجرة والمنفى كلها موضوعات أشبه بواقع السجن بمعناه الحقيقي. إن أدب السجون بمعناه الاصطلاحي المتداول في الأدب العربي هو تقريبا صورة مصغرة لهذا السجن الكبير الذي تعيش فيه أغلبية الشعوب العربية تجارب مريرة. وإذا كان هذا الأدب في العالم العربي ما زال يسجل حضوره أكثر من غيره من الآداب العالمية في مطلع القرن الحادي والعشرين، فإنه يدل على أن السجن الكبير ما زال قائما حولنا.
السؤال المطروح: هل استطاع الكاتب العربي أن يقدم هذا العالم المؤلم بالصورة الأدبية المرجوة؟ يضعنا أمام إشكالية الأدب والواقع. يبدو لي أن هذا الأدب لا يخرج عن الخاصية التي تحكم الرواية العربية منذ نشأتها. فالرواية العربية ما تزال مشروطة بتاريخيتها، أي مرتبطة بمعالجة قضايا أساسية ومشتركة في العالم العربي: سياسية واجتماعية خاصة. ولذلك، حين يتعلق الأمر بنصوص تتناول موضوع الاعتقال السياسي والسجون، يكون أفق انتظار المتلقي محكوما بداهةً بقراءة هذه النصوص كسِيَر ذاتية. أعتقد أن مهمة الأديب الناجح هو أن يضمن للنص أدبيته وجماليته عبر تحريره من التقريرية والواقعية الفجة وانتشاله من جنس الشهادة في صيغتها الوصفية وأسلوبها الجاف.
قرأت خلال الحجر الصحي مؤخرا رواية “قالت أمي للسجان” للمبدع المغربي المقيم بفرنسا يوسف الطاهري فشدني إليها خاصة بناؤها الحكائي الذي تحكمه الانشطارية من جهة والوقوف عند مسألة التعذيب الجسدي كبؤرة سردية تتفرع عنها باقي العناصر الحكائية. إن الذين يعرفون الناشط الحقوقي والسياسي المغربي يوسف الطاهري الذي تعرض للاعتقال خلال انتفاضة يناير 1984 سيقول إنها سيرة ذاتية.. والذين لا يعرفونه سيقولون إن كل أحداث الرواية نابعة دون شك من تجربة شخصية مريرة عاشها الكاتب، لأن الوصف الدقيق لفضاء السجن والزنازين والحياة اليومية للمعتقلين تنم عن تجربة عاشها الكاتب.. لكن الكاتب الذي منعه الاعتقال من الالتحاق بالجامعة سيتشبع بقراءة الأدب من داخل السجن وخارجه في ما بعد واستطاع بمهارة أدبية فائقة أن يكتب عن تجربة الاعتقال وهو حريص على تحرير نصه من إكراهات جنس السيرة الذاتية كما تم تقعيده في النقد المعاصر ويجعل منه نصا أدبيا يصير فيه الواقعي خياليا والخيال واقعيا والفرد جماعات. إنه الأدب ـ الشهادة الذي يندد ويدين ويبكي ويضحك ويربط الفضاء الداخلي للسجن بالفضاء الخارجي والحاضر بالماضي (الطفولة، الأمومة، الانخراط في العمل السياسي) وبما سيأتي (المنفى الفرنسي) فجاء النص انشطاريا في بنيته الحكائية وفي مشاعر البطل كأن عنف التجربة ومشاهدها المرعبة لا تسعفها اللغة… أية لغة.
——————————————–
راتب شعبو (كاتب من سورية): هل يمكن للإنسان أن يتأقلم مع الخوف؟
هناك كتاب تناولوا السجن من خارجه، كتبوا عن تجربة لم يخوضوها، كتبوا تجربة غيرهم، وربما أجادوا في كتابتهم، لكن هذا هو ما يمكن أن نسميه أدب “عن السجن”، أما أدب السجون فهو ما كتبه السجناء أنفسهم، هو السير الذاتية لهم، أو تأملات صاحب التجربة بهذا المعبر الرهيب الذي وجد نفسه فيه وعاشه بلحمه ودمه ومشاعره.
يمكن تقسيم “أدب السجون” في سورية إلى نوعين، الأول يغلب عليه الهم السياسي وينشغل في مهمة التحصيل المباشر والانفعالي لأكبر قدر من الإدانة للنظام الذي يرعى جريمة السجون ويغذيها بالمجرمين، والثاني يحكمه أكثر الهم الإنساني وينشغل في رصد المحنة وآثارها على البشر.
لذلك ترى النوع الأول يميل إلى المبالغات والتركيز على ما يحرض القارئ ويستفز تعاطفه، فيما لا يعبأ النوع الثاني سوى بالإجابة على أسئلة أولية مثل، كيف يتأقلم الإنسان مع شروط عزله وتجويعه وإرهابه؟ هل يمكن للإنسان أن يتأقلم مع الخوف؟ ما انعكاس هذه الشروط القاسية على تكوينه النفسي والعقلي؟ على تصوراته السياسية ومواقفه؟ هل يمكن أن يضحك السجين؟ ما هو موقفه من العالم الخارجي المتدفق في الخارج غير مكترث بما هم في السجون؟
للنوع الأول جماهيرية تفوق بكثير جماهيرية النوع الثاني، لأنه أسهل وأكثر غرائبية، أو لنقل لأنه مسل، لكنه لا يقدم، في كثير من الجوانب، صورة أمينة، دع عنك الصورة الأدبية.
والحق أن ميل السجين للمبالغة في وصف تعذيبات السجن الغريبة، هو تعبير عن بؤس شديد تعانيه ثقافتنا العامة فيحتاج السجين إلى مثل هذه الروايات لشد انتباه ثقافة عامة اعتادت على السجن وباتت تقبله ولم يعد يبهظها سوى القصص الغريبة فيه، فيضطر السجين إلى الاستنجاد بحوادث “صادمة” أو إلى المبالغة فيها أو حتى إلى ابتكارها كي يثير الاهتمام ويحظى بتعاطف.
السجن موضوع لا يمكن استنفاده بالكتابة، سجون ما قبل الثورة ليست كالسجون بعدها، مهما كتب عن السجن سوف يبقى موضوعًا للكتابة. والكتابة الأدبية الأكثر أهمية وفائدة عن تجربة السجن هي الكتابة الحريصة على الصدق والعميقة في إنسانيتها.
——————————————–
طارق إمام (كاتب من مصر):الحاجة إلى مناخ حرّ
تحتاج الكتابة عن أدب السجون إلى مناخٍ حر. ربما تبدو العبارة منطوية على تناقض فادح، غير أن هذا هو الواقع كما أراه، فكيف لك أن تدوّن تجربة السجن ثم تنشرها في ظل مناخ قمعي أدخلك السجن أساسًا لأنك تكتب؟ إنك تضطر، في سياقات قمعية تتحكم في الخارطة العربية، أن تكتب نصك في الظلام بدلًا من أن تصرخ به، إما أن توزعه كمنشور سري، أو أن تنشره في مطابع بلدان أخرى، ما يُفقد التجربة الهدف الذي نهضت لأجله، وهو الكشف والفضح والتعرية أمام أبناء السياق نفسه والمعنيين به.
من المدهش أنك لو سألت أي كاتب مصري عن أدب السجون فلن تتجاوز ذاكرته المرحلة الستينية، ليقفز اسم صنع الله إبراهيم بالأساس، ومن بعده أسماء أخرى أشد خفوتًا. هل انتهى أدب السجن مع انقضاء الستينيات والسبعينيات؟ وهنا يطرأ السؤال اللصيق، هل تعيش مصر منذ أربعين عامًا مناخ حرية تعبير لم يعد فيه الكاتب يُسجن أو يُعتقل أو يختفي قسريًا ومن ثم فقد هذا النوع من الأدب مبرر وجوده؟ الإجابة بالطبع هي لا. لكن هناك الرغبة في تجاوز الآباء من ناحية، والقدرات المتزايدة للسلطة على ضم الأدباء لـ”الحظيرة” من ناحية أخرى، فضلًا عن دعاوى التفات الأدب للقضايا الصغيرة والهامشية والتي سادت لفترة ليست بالقليلة وكأن إنسان مصر أصبح إنسان أوروبا الذي سقطت حكاياته الكبرى ولم يعد يتبقى له سوى تفاصيل غرفته. كل هذه العناصر وغيرها تضافرت ليصبح ما نسميه “أدب السجون” ظاهرةً تبخرت أو كادت في الأدب فيما تواصل السجون استقبال أصحاب الكلمة بنفس وتيرتها، إن لم تكن تلك الوتيرة تصاعدت.
الكاتب العربي هو الأجدر بالالتفات لزنزانته، التي تُرجّع دون شك سؤال “الديكتاتور”، حيث لا يعقل أن يكون الديكتاتور هو على وجه التقريب أكثر شخصية تحيا هذه الخارطة، فيما نستعير ديكتاتور أميركا اللاتينية عندما نحب أن نقاربه في الأدب.
——————————————–
د. دعاء إمبابي (كاتبة من مصر): قطرات ندى لم يُذبها لهيب العذاب
الكتابة عن تجربة السجن سواء أكانت حقيقية أم متخيلة تبعث في نفس القارئ رهبة وتستدعي عنده شعورا بالخوف والشفقة؛ ولكنها لا تنتهي بالتطهر الأرسطي الذي كانت تحققه الكتابات التراجيدية الكلاسيكية – لأننا في هذه الكتابات نقرأ عن تجربة إنسان عادي يشبهنا ونشبهه ولكن زلته الأساسية أنه خالف السلطة الحاكمة وقوانينها بل ربما لم يتجاوز الأمر تعبيره عن معارضته لها – لذا فهي غالبا تنتهي بتساؤلات وربما بقدر من الغضب ما دام القمع مستمرا. ونحن هنا لسنا بصدد تقييم الجرم من الناحية القانونية، لأننا نتكلم عن مجال الأدب ومدى نجاحه في حمل هذه التجربة الشائكة بين دفتي كتاب. فما المشهد الذي نحن بصدده؟ كتابات إبداعية وسير ذاتية يسطرها في الغالب من يُعرفون باسم ’سجناء الرأي‘، وهم ينتمون إلى جميع الأطياف السياسية يمينا ويسارا ووسطا، وتتباين مستويات نشاطهم في مناهضة السلطة الحاكمة من الانتماء إلى أحزاب معارِضة مرورا بمشاركتهم في مظاهرات واحتجاجات ووصولا إلى استخدام العنف في بعض الأحيان ضد شخصية متجبرة أو ظالمة. وكانت الفئتان الأبرز في هذه التجربة هما فئة الإسلاميين وفئة اليساريين بمختلف أطيافهما الداخلية.
وعلى الرغم من أن كتابات السجون لا تشكل جنسا أدبيا في حد ذاتها، حيث تأتي إما على صورة سير ذاتية أو أعمال إبداعية عن التجربة، وبعض الأعمال الشعرية – على قلتها، فإنها تتميز عن سائر الكتابات داخل الجنس الواحد بالتجربة التي تنقلها والوظيفة التي تؤديها – إن جاز التعبير – بأنها تنقل صوت المقهور، فتتبدل الأدوار ويصبح السجّان موضوع الحكاية، باسم أو بلا اسم، بل وبلا وجه في بعض الأحيان. ويصبح المقهور هو الراوي والقابض على زمام الأحداث وسردها من “منظوره”. إنها رواية أخرى تناظر سردية السلطة وخطابها عن ’انحراف‘ أولئك المساجين الذي أودى بمستقبلهم واستحقوا بسببه أن تسومهم السلطة سائر ألوان العذاب.
وعالمنا العربي يزخر بهذه الكتابات التي يمكن تصنيفها من زوايا عدة مثل كون الكتاب هو الكتاب الأول والأخير لمؤلفه؛ أو انتماء الكاتب السياسي (فمن أغزر ما صدر في هذا الموضوع كتابات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات في مصر بيد الكتاب الشيوعيين واليساريين وما صدر من كتابات في المغرب في مطلع القرن الحادي والعشرين عقب انقضاء ثلاثة عقود تعرف باسم “سنوات الرصاص” – على سبيل المثال لا الحصر)؛ أو شكل الكتابة الذي يشمل العمل الإبداعي والسيرة الذاتية وصنفا جديدا من الكتابة وهو الرسائل المبعوثة بخط اليد من السجن وتتسم بشهادة صاحبها على معاناته الشخصية أو حتى تعذيبه هو وزملائه مثل الرسائل التي تتداولها صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر (مثل رسائل عمر حاذق من سجن الحضرة في مصر)؛ أو جنس الكاتب: رجل أم امرأة فليس كل من مر بتجربة السجن السياسي رجل، بل من أشهر من كتبن عن تجربة السجن لطيفة الزيات (اليسارية) وزينب الغزالي (الإسلامية)، ونساء عائلة الجنرال أوفقير من المغرب.
ودائما تتناول هذه الكتابات ثنائية العقل والجسد وحرب الإنسان للحفاظ على ما يمكنه منهما وسلامتهما. يخرج السجين وقد ترك المكان آثاره على روحه وجسده بلا شك فتظل الندبات شاهدة مدى الحياة على ما تحمله صاحبها ولكنها أيضا شاهدة على نجاته وتساميه على جلاديه. يسطر السجين تجربته الأليمة ولكنه يرويها ليستدعي قدرته على المقاومة التي لم يكن يتخيل أنه يملكها فتبعث فيه قوة يبثها فيمن يقرأ عمله، فيتبدل الشعور بالخوف الذي يثيره النص المأساوي في نفس القارئ بشعور بالثبات والقوة في وجه البطش والظلم.
——————————————–
غسان الجباعي (مخرج مسرحي وكاتب درامي من سورية): أحرف وإشارات نابعة من قلب القلب
إن أبلغ الأحرف وأصدقها، تلك التي حُفرت على عجل، بمسمار صدئ، فوق جدران الزنازين وأبوابها، أو تلك التي اضطر صاحبها لكتابتها بدمه النازف من جروح حفرتها سياط الجلادين على ظهره وقدميه… اسم وتاريخ.. أمنية أو حكمة أو مقولة مختصرة وحسب.. أحرف وإشارات قليلة نابعة من قلب القلب.. هي ليست أدبًا، لكنها في الجوهر، بذرة الكلام وجذره وأوراقه، إنها مختصرة إلى أبعد حد، صادقة جدًا، وواضحة كالنار في الليل… يفعل المعتقل ذلك، لأنه يجد نفسه في مواجهة الموت أو المجهول.. في مواجهة التهميش والقتل البدني والمعنوي.. فالداخل إلى المعتقلات السورية مفقود، والخارج منها مولود، كما يقول المثل السوري، وهو في الواقع مختطف وليس معتقل، وهذا مصير كل من يعارض النظام أو ينتقده أو يقول له لا..
إنهم يحولونك منذ اللحظة الأولى إلى رقم مجرد، فيصبح اسمك ليس فلان الفلاني، بل الرقم كذا.. وهذا يعني أنك أصبحت في مهب الريح، وتحولت إلى شيء لا قيمة له، فتتولد لديك طاقة جبارة للتحدي، ولإثبات وجودك وهويتك، ما يدفعك للبحث عن أي آلة حادة، وإن لم تجدها حفرت بأظافرك، وإن لم تستطع، غمست إصبعك بدمك وكتبت اسمك وتاريخ وجودك في هذه الزنزانة القذرة.
إنها واحدة من أهم دوافع الكتابة، كما أظن (التحدي، إثبات الذات التعبير عنها).
فيما بعد، يتأصل هذا الدافع ويصبح موازيًا لدافع الأكل والحب والحياة… تصبح الكتابة ممارسةً افتراضية للحرية، لا يمكن العيش بمعزل عنها. لكن كيف تكتب وأنت لا تمتلك أدوات الكتابة؟ أنا واحد من مئات الكتاب الذين اخترعوا أدواتٍ للكتابة داخل معتقل محروم من أبسط الحقوق، بما في ذلك الكتابة والقراءة. مكان مغلق، تمنع فيه الأوراق والأقلام والزيارات.. اخترعنا أقلامًا من عظم وكتبنا بواسطة الضغط على أوراق السجائر (الميغا) وصنعنا أقلامًا من أوراق الميغا الكربونية، وكتبنا ما نشاء على أغلفة السجائر الداخلية…
هل تتميز هذه النصوص التي كتبناها داخل المعتقل عن تلك التي كتبناها خارج المعتقل؟ نعم، بالتأكيد، فأدب السجون يتم إنتاجه في ظروف استثنائية، وفي مكان معزول عن العالم، وهو يتميز أولًا بالإصرار والتحدي الذي قد لا نجده عند الكاتب الحر، ويتميز أيضًا، بالعاطفة الصادقة والشوق والحرمان والتأمل، فيأخذه هذا نحو الرومانسية والحلم (السريالية).. كما يتميز بالخيال الجامح والتجريب المتمرد الرافض للقوالب الجامدة… لكن أكثر ما يميز أدب السجون، هو فضاء الحرية، وقد تستغربون إذا قلت: إن الكاتب المعتقل أكثر حرية من الكاتب الحر، لأنه ليس لديه ما يخسره، ولأن الكتابة تصبح عملية مصيرية بالنسبة له، وشجاعته ليست نابعة من الإصرار والتحدي وإثبات الذات وحسب، بل من الشعور بالغبن والرغبة في الثأر -جماليًا ومعرفيًا- من سجانيه؛ يريد أن يثبت أنه إنسان حقيقي وأنه الأجمل والأرقى، فالسجن كما ينبش أقبح ما في البشر، يحرض – بالمقابل- أجمل ما فيهم، ويحرر طاقاتهم الإبداعية إلى أبعد حد ممكن. لذلك، نجد أن كثيرًا منا اكتشف مواهبه داخل المعتقل، ولولا ذلك ما علم أنه شاعر أو ناقد أو موسيقي أو نحات موهوب.. لكن، هل استطاع الكاتب المعتقل أن يقدم هذا العالم القبيح بالصورة الجمالية المرجوة؟ من السهل أن تقول لا، لكن الجواب المسؤول يحتاج إلى بحث كبير.
يمكنني في هذا المقام التحدث عن نقطة واحدة جوهرية هي، أن أدب السجون -بعامة- رد على الألم بالألم، وعلى البشاعة بفضحها، وعلى الخسة البشرية بوصفها وإظهارها! لم يخرج – إلا نادرًا- عن الانفعال بما حدث، فيصف طرق التعذيب وقساوة الجلاد وضيق المكان وقذارته.. ملامسًا بذلك القشور، مبتعدًا عن الجوهر الداخلي… لم يواجه ضيق المكان برحابة الوجود والتأمل والفلسفة، ولا قسوة السجن بالحنين الإنساني إلى الحرية والعدالة، ولا العالم الداخلي الغني للنفس البشرية.. كما فعل فيدور دوستويفسكي أو شارلز ديكنز أو أبو فراس الحمداني.
————————————-
د. أمينة خليفة هدريز (ناقدة من ليبيا): أدب السجن في ليبيا عبّر عن ثنائية القمع والحرية
من خلال دراساتي عن أدب السجناء التي تناولت أدب السجناء الليبيين إبان حكم القذافي، تبين أن البيئة المكانية الطاردة (بيئة الحبس) قد تكون فضاء للخلق والإبداع، فكتابة إبداع داخل الزنازين تعد تحديا يقوم به المبدع داخل تلك البيئة، مما يخلق جدلية بين الحبس المرادف للقيد والمنع وبين الإبداع المرادف للحرية والانطلاق، فالإبداع عابر لحدود الزمان والمكان.
السؤال المطروح في هذه المعادلة كيف عبّر السجناء عن أنفسهم داخل الزنازين؟ هل ما كتب داخل الزنازين تحت ظروف سجنية قاهرة يعد إبداعا تتوفر فيه شروط الفنية والجمالية؟ ما تأثير الفضاء المغلق (فضاء الزنزانة) في عملية الإبداع وخلق جمالية النصوص؟
لا يخفى على أحد الظروف القاهرة التي عانى منها السجناء للمحافظة على إنتاجهم الأدبي من الضياع والتلف نتيجة مداهمات الحرس ونوبات التفتيش الفجائية والتنقل بين السجون، حيث تنوعت طريقتهم في مواجهة أشكال العنف والقهر، فصورة الزنازين التي رصدتها كتابات السجناء رصدت حالة البؤس والقهر، وعكست واقع السجناء داخل ذلك الفضاء المغلق، ونقلت صورة براثن التضييق وتقييد الحريات وانعكاسها على حالاتهم النفسية والجسدية، كما عكست تجربتهم الشعرية حالة التمرد على ذلك الفضاء بالانفتاح على وسائل أعانتهم على تحدي الواقع المرير، فقد قابل الأدباء كل الظروف القاهرة من قمع وتعذيب وتجويع بالصبر والصمود وحاولوا اتقاء ضربات القمع والقهر الموجعة بالتحدي والغناء والأناشيد بدل الانكسار والرضوخ، فلا السجان يتوانى عن ممارسة شتى أنواع العنف ولا السجين يرضخ وينكسر أمام العنف والقهر مناضلا من أجل صلابة روحه من التخريب والدمار، فإيمان الأدباء السجناء بعدالة قضيتهم، وإيمانهم بوطنهم وبقيم العدل والحرية جعلتهم يناضلون من أجل أن تبقى أرواحهم صلبة صامدة، حيث خاض الأدباء السجناء من داخل الزنازين نضالا صامتا ومريرا سانده تكاتهم وتماسكهم والتفاف بعضهم حول بعض في مواجهة شراسة سجن وبلادة سجان.
أدب السجناء في ليبيا رصد واقعا سياسيا واجتماعيا وإنسانيا عاشه هؤلاء الأدباء داخل الزنازين، حيث عبّرت تلك النصوص عن لحظتها التاريخية فهي شاهدة على فترة زمنية من تاريخ ليبيا المعاصر، إذ لعبت تلك الأشعار المكتوبة في الزنازين دورا في توثيق الأحداث فكانت سجلا لمعرفة الكثير عن دقائق تلك المرحلة وملابساتها. كشف أدب السجناء عن ظروف صعبة عاشها الأدباء داخل الزنازين أثرت بشكل كبير على تخلق النص الأدبي: شعرا وقصة ومسرحية، ذلك لابتعادهم عن الظروف الطبيعية في عملية الإبداع فقد أظهرت تلك الأشعار انتماءها لفضاء الزنازين من خلال تحميل بعض الشعراء قصائدهم رسائل أيديولوجية وسياسية تبلّغ عن مواقفهم الصامدة المتحدية من جهة وتخبر عن آخر المستجدات هناك بالداخل، لذلك جاءت قصائد كثيرة على شكل رسائل أو برقيات من السجن أو أناشيد وأغان موجهة أو مهداة إلى أشخاص بعينهم. من خلال دراستي لأدب السجناء الليبيين وجدت أن مدونة الحبس الإبداعية لم تقتصر على رصدها لواقع الحبس وتصوير معاناة الشعراء داخله ولم تكن مجرد أداة توثيقية لواقع سياسي أو سجلا تاريخيا لأحداث ووقائع القمع والتعذيب في مرحلة معينة من مراحل تاريخ ليبيا، بل انطوت على أساليب فنية معاصرة كشفت عن تطور القصيدة الشعرية في الأدب الليبي وتجليها عن شعراء الحبس، فقد غلب على المعجم اللغوي لمدونة الحبس محور النضال بدلالاته المتعددة سواء أكانت بالثورة والتحدي أم بمقاومة القمع والحزن أم برؤية المستقبل من منظور الأمل والتفاؤل، وعبرت القصص القصيرة لمدونة الحبس عن تمردها على آليات القمع من خلال فعل المقاومة، ونجد أن الفضاءات في هذه القصص اشتغلت كفضاءات متحركة بين ثنائية الفضاء المفتوح والفضاء المغلق بدلالاتها المتعددة فهو يرمز إلى العزلة والكبت من ناحية ويعبر عن العجز والفشل والذكريات الأليمة من ناحية ثانية مشكّلة تيمة القمع والحرية / الانكسار والتحدي.
أدب السجن في ليبيا تنوع الإنتاج فيه بين الشعر والقصص القصيرة والمسرحيات الشعرية والنثرية واختلفت كذلك طريقة هؤلاء الأدباء في مواجهة أشكال العنف والقهر وتنوعت أساليبهم الفنية في كتابتهم فقد جمعتهم تجربة فنية في ظروف متشابهة ولكن كانت لكل أديب خصوصيته الفنية والجمالية.
أدب السجن في ليبيا عبّر عن ثنائية القمع والحرية بدلالات متنوعة وأساليب فنية إبداعية تؤكد على العلاقة الجدلية بين الحبس والإبداع. ما كتب في السجون الليبية يجسد حقيقة أن الإبداع لا يمكن أن يسجن بين الجدران والأقبية، وأكد تحويل الفضاء المغلق إلى فضاء مفتوح عامر بقيم الحرية والمقاومة.
——————————————–
عبد الرحمن مطر (كاتب من سورية): تحالف القلم والورق والحرف أنقذني من محنة السجن
أدب السجون في الغالب ليس متخيلا، كما قد يتصوره البعض، ليس نصًّا إبداعيًا فانتازيًا عابرًا للحظة الحدث والمكان، لكنه أقرب إلى كتابة السيرة. هو في معظمه شهادات عن محنة السجن، يقدمها كتّاب ومثقفون، عن تجارب مريرة مروا بها. وإن كانت تضم ما هو متخيل، فإنها سعي الكاتب نحو اختراق أسوار المعتقل، في واحدة من صور نزوع السجين إلى لحظة الحرية، وتطلعه إليها عبر توليد الحلم، وعبر الكتابة، كمحاولة لحمل الحلم على الانتقال الى حقيقة. وهي محاولة أيضًا لاستدعاء صور من الخيال ومن الذاكرة، لجعل الحكاية التي تُروى أقرب إلى الواقع، ذلك أن ما يحدث خلف الأسوار، تحت الأرض، في الظلمة، والأضواء الشحيحة، وفي الزنازين، ما يفوق التصور، والخيال. إنها الحقائق التي يصعب على الكاتب، أن يرويها، بروح الحدث، وبالشعور الذي يتولد عنها، أو أن يصف الحالة التي يقص.
أيًا تكن مقدرة الكاتب الإبداعية، فإن استعادة الصورة، والتعبير عنها، تبقى عاجزة في الحقيقة عن الإلمام حتى ولو بجزء يسير منها، من لحظة تكونها، ومسارها، وتأثيراتها: التعذيب حتى الموت، كمثال.
في الحركة الثقافية العربية المعاصرة، ثمة أعمال أدبية مهمة وفارقة في أدب السجون، في الرواية والشعر، بصورة أساسية، قدمت للقارئ العربي، صورة أخرى من الحياة المتستر عليها قسرًا، بفعل الخوف والترهيب بملاقاة مصير مماثل. ويُحسب لتلك الأعمال الأدبية أنها أعملت ثقبًا في جدار الخوف والصمت، لم يلبث أن تحول إلى فضاء مفتوح للبوح، توالت فيه الروايات التي تتخذ من السجن موضوعًا رئيسًا لها. لكن ذلك لم يحدث دون ثمن كبير، دفعه كتاب وأدباء ومثقفون، من سنوات عمر مديد في غياهب السجون، على امتداد جغرافية السجون العربية، التي باتت تفوق بسمعتها سجون العالم الرهيبة التي كتب عنها الروس والأوروبيون، وصنعت أفلام سينمائية من وحيها.
في ذاكرتنا اليوم أعمال أدبية، خارجة من أسر المعتقلات والسجون العربية، من العراق، إلى سورية، إلى ليبيا والمغرب. ومنها خرجت تجارب مهمة لكتّاب نجوا من الموت، ليكتبوا روايتهم، وشهادتهم، عما حدث ويحدث في السجون من قهر وظلم وتعذيب وقتل، ووحشية لا حدود لتصورها. لم تكن شهادة عما جرى لهم، ولكنها أيضًا استذكار للضحايا ممن قضى تحت التعذيب، أو ممن لا يحسنون الكتابة أو القول.
صارت الكتابة تعبيرًا عن رفض الواقع الذي تفرضه سلطة الاستبداد، وبهذا المنحى يأخذ أدب السجون صيغة أخرى، بأن يكون وثيقة تدين السجان، وأن يرتقى الكاتب بشهادته إلى نص أدبي، يكون محرضًا على الإنصاف وتحقيق العدالة.
شهدت السنوات العشر الأخيرة تطورا ملحوظًا في أدب السجون، وللسوريين نصيبٌ كبير من الأعمال الروائية والشعرية التي صدرت، وتعنى بتجربة السجن بصورة خاصة، إضافة إلى أعمال أخرى شكّل الاعتقال وثنائية السجان والمعتقل مسارًا مهمًا فيها. في اعتقادي أن ما كُتب حتى اليوم في أدب السجون ليس كافيًا، للإحاطة بعوالم أخرى موازية للحياة الإنسانية. هناك عالم مختلف تمامًا لا إنسانية البتة فيه، عالم من الوحشية التي لا حدود لها، والحرمان، والقهر الذي لا ينضب معينه.
بالنسبة لي استطعت بمخاطرة كبيرة أن أكتب رواية داخل السجن، ونجحت في تهريبها، ثم صدرت بعنوان “سراب بري” عام 2015. أشعر أنني لم أقل شيئا فيها بعد. لدي مخطوط عن المستبد والسجن، لم أستطع إنجازه بصورة نهائية، وأعمل على رواية جديدة عن المعتقل. أشعر أنني مخنوق، وقلق ومتعبٌ جدًا، وأخاف من استدعاء ظلمة السجن الرهيبة، بكل ما فيها.. وأشعر بالعجز عن التعبير أحيانًا. قد لا يمكننا مشاركة الآخرين بالألم الذي عشناه، أو أننا غير قادرين على ذلك حقًا. ما يزال لدي الكثير لأقوله، كل يوم هو حكاية، ولدى كل سجين حكاية، وفي صوت كل مزلاج وصرير باب، وفي كل قيدٍ ألف رواية!
لن أشفى إلا بالكتابة مجددًا وربما مرارًا عن السجن. لقد أنقذني تحالف القلم والورق والحرف من تلك المحنة العصيبة.
ضفة ثالثة