أحلام المجاهدين… “وكأني عصفور أخضر في السماء”/ عمار المأمون
أنبأ محمد بن عبد الله أصحابه قبل معركة بدر، ببعض نتائج الاشتباك مع الخصوم، فأشار بيده وقال: “هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان إن شاء الله”، هي ليست المرّة الأولى التي يخبر فيها أصحابه ببعض التفاصيل أو ينبئهم بمصائر الناس، فهذه القدرة حكر عليه وحده، لكن تسلل شيء منها إلى الحلم والرؤيا، إذ يقول محمد نفسه أنه: “لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الْمُبَشِّرَاتُ”، أي ”الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ”، وهذه الرؤيا إن راودت المؤمن فهي “جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ”.
هذا التقليد النبويّ المرتبط بالمعارك ورؤية مصائر بعض القادة في الحلم أو اليقظة، يظهر بوضوح في الخطاب الجهادي المعاصر، فالأحلام التي تراود المجاهدين تحرّك فيهم الحميّة ويتناقلونها علناً. هي خطاب رباني، وتبشير بحسن الخاتمة، بل وقد ترسم لهم المناطق التي عليهم استهدافها. لكن المثير للاهتمام أن مكونات الأحلام هذه لا تخضع للمساءلة مهما بلغت فانتازميّة، بل يتم تفسيرها والتعامل معها كومضات من المستقبل، أشبه بنبوءات لا نعلم حقيقة مدى مصداقية روايتها، لكن يمكن تلّمس عناصرها المشتركة لدى المجاهدين، خصوصاً أنها مرتبطة بالشهادة وهزيمة الأعداء.
لا يرى المنظرون للإسلام الجهادي إشكالية في الحلم، بل هو جزء من تكوين المؤمن، ولا خوف من الحديث عنه أو تناقله علناً وكأنه هبة ربانية، إذ نقرأ في “مذكرات الدعوة والداعية” لحسن البنا، عن حلم راوده قبل واحد من الامتحانات، يشارك فيه العلماء الذي سألوه عن مدى حفظه وراجعوا معه ألفيّة ابن عقيل، سذاجة هذا الحلم، يرافقها تعليق البنا الذي يرى ذلك “تيسيراً من الله تبارك وتعالى، والرؤيا الصالحة بشرى المؤمن، والحمد لله رب العالمين”.
الأمر أوضح لدى سيد قطب، في تفسيره الشهير “في ظلال القرآن”، يستطرد على طول عدة فقرات للحديث عن الأحلام والرؤى بعد تفسير سورة يوسف، إذ يقول: “إننا ملزمون بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد”، لا فقط تلك التي تظهر في النصوص الدينيّة، بل أيضاً “ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقق رؤى تنبؤية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده… لأنه موجود بالفعل…”.
يستشهد قطب بمدارس التحليل النفسي، وبرأي فرويد، بل يشير إلى ما يسميّه “الأحلام التنبؤية” التي يصفها بالتالي: “نحن نتصور طبيعة هذه الرؤى على هذا النحو… إن حواجز الزمان والمكان هي التي تحول بين هذا المخلوق البشري وبين رؤية ما نسميه الماضي أو المستقبل، أو الحاضر المحجوب. وأن ما نسميه ماضياً أو مستقبلاً إنما يحجبه عنا عامل الزمان، كما يحجب الحاضر البعيد عنا عامل المكان. وأن حاسةً ما في الإنسان لا نعرف كنهها تستيقظ أو تقوى في بعض الأحيان، فتتغلب على حاجز الزمان وترى ما وراءه في صور مبهمة، ليست علماً ولكنها استشفاف، كالذي يقع في اليقظة لبعض الناس، وفي الرؤى لبعضهم، فيتغلب على حاجز المكان أو حاجز الزمان، أو هما معاً في بعض الأحيان”.
محاولة قطب “العلميّة” التي تشبه تفسيرات علم الكلام والحذلقات اللغوية، تشير إلى وجود حاسة يمتلكها الإنسان، تتغلب على الخواص المادية للعالم ومحتوياته، هي قدرة ربانية ربما أو فردية، لكن المثير للاهتمام أنه يمكن أن توجد لدى الجميع، كونه استخدم كلمة “إنسان” و”الناس”، ولم يشر إلى الإيمان أو الإسلام، بل إلى يقين ما تحويه الرؤيا، ولو كانت “بصورة مبهمة”، أي أنها لا تُنفى، بل لابد من فهمها، وهنا يظهر دور المفسّر الذي سنشير له لاحقاً.
“طائر أبيض ينقضّ من السماء”
نقرأ في مقدمة كتاب “على ثرى دمشق” للمجاهد أيمن الشربجي، عن حلم أخبره الشربجي لكاتب المقدمة، الذي لا نعرف اسمه ولا تشير المقدمة إليه، هذا الحلم كتبه صاحب المقدمة “بتصرف”، حسب تعبيره، وبصيغة الغائب وهو على التالي:
(رأى -أيمن- أنه وسط مدينة دمشق بالقرب من جسر فيكتوريا، وهو يحمل بندقية روسية، وقد أحاطت به قوات من سرايا الدفاع والمخابرات، وهو يطلق الرصاص عليهم، وهم يتساقطون بالعشرات أمامه، حتى انتهت الذخيرة من بندقيته وهم يتقدمون نحوه، وشعر أنهم سيمسكون به حيّاً، وإذ بطائر أبيض ينقض من السماء، فيضمه إليه ويطير به منقذاً إيّاه من بين أيديهم، وهم ينظرون إليه ولا يستطيعون شيئاً).
انتمى الشربجي إلى صفوف “الطليعة المقاتلة” التي نشطت في سوريا في السبعينيات والثمانينيات، وأنجزت العديد من العمليات ضد النظام السوري حينها واستهدفت قياداته، أما الكتاب، حسب المقدّمة، فقد أنجزه الشربحي عام 1982، ويتحدث فيه عن نشاط الطليعة، لكن المثير للاهتمام أننا لا نعلم متى كتبت المقدمة، خصوصاً أن الكتاب طبع للمرة الأولى عام 2017. لكن ما يهمّنا حقاً هو المكونات السرديّة لهذا الحلم، إذ يرى المجاهد نفسه في خضم المعركة ذات التفاصيل الدقيقة: المكان فيها واضح والعدو واضح بالاسم، لا تشويش أو “شبهة”، الأهم أن جسد الجهادي لا يسقط بيد الأعداء، فعادة ما يقوم المجاهد بتفجير قنبلة يدوية في يده إن شعر بأنهم قد يلقون القبض عليه، لكن في هذا الحلم، تتدخلّ السماء وترفع المجاهد عالياً، يد إلهيّة أو (ديوس أيكس ماكينا) تنهي المعركة لحساب صاحب الحق الذي يشلّ بشكله الطائر أجساد الأعداء العاجزين عن إطلاق النار عليه مثلاً، بل شُدهوا وكأن معجزة حلّت فشلّت “الأعداء”، ربما دفعتهم للإسلام أو زرعت بقلبهم الرعب فخرّوا ساجدين.
جدّية الكتاب ومعلوماته والعمليات فيه والتهويل والزخرفات اللغوية حول بطولات المجاهدين، تظهر أكثر إقناعاً من الصيغة الفانتازميّة لهذا الحلم، الذي وبسبب وضعه في المقدمة، يكشف عن الصورة التي يُراد بناؤها للمجاهد، هو يحلم بالشهادة على أرض وطنه، وعلى القارئ الذي يخاطبه “مؤلف” هذا الحلم، أن يتلمس طعم الجهاد وبراءته، وكأن التقليد الجهادي يفترض أن كلّ مقاتل يعرف مصيره مسبقاً ويرسمه بصورة شعرية، تجعل المقاتل بعين القارئ وكأنه لا يريد سوى السلام الأبدي، كحمامة بيضاء تحلّق بعيداً، لا تطالها رصاصات سرايا الدفاع، في ذات الوقت هناك رعب يبثه هذا الحلم، يرتبط بسطوة المقاتل واستماتته في الدفاع عن قضيته، خصوصاً أنه غير “مرمّز” بل واضح فيه كل شيء إلا النهاية.
“فريق من الطيارين”
نقرأ في كتاب “Masterminds of Terror: The Truth Behind the Most Devastating Terrorist Attack the World Has Ever Seen”، ليسري فودة ونيك فيلدينج، حكاية على لسان رمزي بن الشيّة، المتهم بتسهيل عمليات 11 سبتمبر عام 2001، وجاء فيها أن محمد عطا أخبره بأن مروان الشاهي، راوده حلم جميل: “إذ كان يطير عالياً في السماء، تحيط به عصافير خضراء لا تنتمي لعالمنا هذا، وكان يصطدم بالأشياء، وكان أيضاً سعيداً جداً”.
يؤخذ هذا الحلم على محمل الجدّ، خصوصاً أنه يتم تناقله بين المقاتلين، والمثير للاهتمام في أحلام المجاهدين أنهم يحلمون بشخصيات معروفة بالنسبة لهم، ويوحون دوماً بتطابق بين رمزية الحلم وواقعية المهمّة التي سُتنجز لاحقاً. وهنا تظهر أهميّة الروي وتناقل الحلم، بانتظار المفسّر الذي عادة ما تكون الحكاية على لسانه، في حالة القاعدة، هناك أسامة بن لادن، الذي يشير في واحد من الشرائط التي بثت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بـ”أن أبو الحسن المصري أخبره منذ عام- أي عام 2000 -بانه رأى في حلم أنهم يلعبون كرة القدم ضد الأمريكان، وحين ظهر فريقهم في الملعب، كانوا جميعاً طيارين”، ويضيف بن لادن بأن المصري لم يعرف أي شيء عن “العملية”.
المثير للاهتمام أن المفسّر، أي الذي يعرف ما سيحصل لاحقاً، يرى في هذا المنام علامة ربانيّة على صحة الطريق، أما حيرة صاحب المنام الذي يكون عادة غافلاً عن العمليّة، فليست إلا دليلاً على نصاعة القلب، وفي ذات الوقت السرية المحيطة بالعملية، تلك التي يُبشّر بها الشخص في الحلم، وكأنها “مكتوبة” في سجلّ القدر. وهنا تظهر السطوة السردية للحلم الجهادي، هو تنبؤ أو تكهن قليل الرمزية، أما تناقل الحكاية، تلك التي تشبه أسانيد الأحاديث في انتقالها، وتشير إلى أن الرواة “ثقاة”، تُكسب المفسّر معرفةً ما تبث رعباً في قلوب السامعين، إذ نقرأ في “الحرب الكبرى على الحضارة”، كيف ارتعد روبيرت فيسك، وأصابه الهلع حين التقى ببن لادن عام 1997، وأخبره الأخير، بأن أحد الرفاق رآه في المنام، يخاطبه قائلاً: “حلم بك أحد الرفاق وأنت آت إلينا على حصان، وكان لديك لحية، وكنت شخصاً روحانياً، وارتديت ثياباً تشابه ثيابنا، ما يعني أنك مسلم حقيقي”.
يظهر الحلم ضمن التقليد الجهادي كأداة لنشر الرعب، تكوينه الساذج وغياب الرمزية العالية فيه يجعله أقرب إلى المتخيلات الفردية والتلفيقات، أكثر منه نص “حلم”، لكن القشعريرة تظهر في الثقة العالية التي يُتناقل فيها، ثم يتم تفسيره أو التلميح إلى معناه المرتبط بـ”عملية” ما، في ذات الوقت، تناقل الحلم يجعله شكلاً من أشكال التآخي بين المجاهدين، بوصفه إشارة ربانية علوية لا بدّ من تصديقها ومشافهتها كونها تشمل كل صاحب مهمة، كمعالم في طريق الجهاد، كما أن هذا الانتقال تأكيد على سرية التنظيم الجهادي، الذي لا يعلم عن “المهمة” التي سينفذها إلا عدد قليل، أما الباقون، فيأتيهم الأمر عبر الحلم.
رصيف 22