دروس غرامشي -ملف بمقالات مختارة-
==================================
—————————-
ملف: دروس غرامشي.. استعادة مستمرة
ألترا صوت – فريق التحرير
لماذا أنطونيو غرامشي؟ ولماذا هذه العودة إليه أيضًا؟ تتطلب الإجابة على هذه الأسئلة العودة إلى السياقات والمسارات المتأزّمة التي ظهر فيها لأوّل مرّة عالميًا: أزمة مراجعة الستالينيّة، أحداث أيار/مايو 1968 في فرنسا، ظهور الشيوعيّة الأوروبيّة وغيرها، وعربيًا: هزيمة 1967، خيبات الأحزاب الشيوعيّة العربيّة وأزماتها، أزمات الفكر اليساري العربيّ، بالإضافة إلى تصدّع الأطروحات الماركسيّة التقليديّة بشكلٍ عبّر عن الحاجة إلى وجود بديل.
مثّل أنطونيو غرامشي بأفكاره ومفاهيمه وماركسيته المنفتحة والمُتحرِّرة أيضًا هذا البديل، ولعل هذا ما يُفسِّر العودة المستمرّة إليه عند كلّ أزمة وانعطافة مأساوية باعتباره الناجي الوحيد، وباعتبار أفكاره الطريق إلى الخلاص من الأزمات القائمة، وانطلاقًا من هذه الاعتبارات، بات المفكّر الإيطاليّ يُعرف بـ “حصان طروادة”.
التعامل مع غرامشي باعتباره مُخلِّصًا ومنقذًا في حال تطبيق أفكاره ومفاهيمه التي عكست ولا تزال رؤيته العميقة للواقع المُتغيّر من حوله، لم يأت من فراغ إطلاقًا، وإنّما بناءً على تجارب سابقة لعلّ أهمّها سياقات 1967 التي أعاد فيها فكر غرامشي بثّ الأمل من جديد بصفته دليل عزاء وأمل قائم على فكرة معيّنة لا على مجموعة أوهام، وهنا تكمن أهميّة فكره الذي يمنح الأمل والعزاء.
سيعود هذا المفكّر العالميّ للظهور عربيًا بعد اندلاع ثورات الربيع العربيّ التي تحوّل فيها مُجدّدًا إلى مرجعية، وعاد إليه المثقّفون العرب في سياق محاولاتهم فهم خلفيات ومآلات هذه الاحتجاجات، قبل أن يعودوا إليه من جديد في بداية المرحلة المضادّة لها في سياق البحث عن إجابات تفسّر وتوضّح أيضًا أسباب فشل بعض الثورات والانقلاب على أخرى، بالإضافة إلى انسداد آفاق الثورة والعمل الثوريّ وظهور ما سمّاه غرامشي “الأعراض المرضية”.
استدعاء أنطونيو غرامشي والعودة إليه عند كلّ أزمة يبيّن مدى أهميّة هذا المفكّر الذي يشغل عالميًا مكانة فكرية ومعرفية ونضالية نالها نتيجة ما قدّمه فكريًا ومعرفيًا ونضاليًا أيضًا، بالإضافة إلى أنّها تجعل منه مفكّرًا مثيرًا للفضول الذي لا بدّ أن يحرّض على العودة إلى قراءة أعماله والتعرّف إليه، وتبدو هذه الفكرة معبّرة عن الغاية من هذا الملف: الدعوة إلى قراءة أعمال أنطونيو غرامشي وربما التفكير فيها ومن خلالها عربيًا.
أنطونيو غرامشي والعالم العربيّ.. لقاء من ترتيب الهزائم والخيبات
تعويم كتلة غرامشي بمفردات التحالف السياسي
شهادة في فكر أنطونيو غرامشي
في أهميّة غرامشي اليوم.. الفِكر – الفِعل، والطريق لتجاوز انسداد آفاق الثورة
غرامشي في مئوية السنتين الحمراوين: من الانتفاضة للثّورة ومن المطالب للسّلطة
أنطونيو غرامشي في عمل المثقفين العرب.. الحاضر الغائب
ترجمة غرامشي إلى العربية
غرامشي في الشوارع.. نصب وجداريات
شذرات غرامشي: لكي نتمكن من اللقاء
—————————————
غرامشي في مئوية السنتين الحمراوين: من الانتفاضة للثّورة ومن المطالب للسّلطة/ حليمة الدرباشي
سنتان حمراوان أثبتتا بالممارسة أنّ الطبقة العاملة قادرة على تحدّي هيمنة الرأسماليّة، وفرض سلطتها التي راحت أدواتها تنمو في قلب الرأسماليّة الصناعيّة الحديثة، وأنّ الثورة الاشتراكيّة هي الطريق الوحيد للتحوّل إلى دولة اشتراكيّة. كان هذا الحلم قبل مئة عام، مئة عام تقف اليوم بيننا وبين سنتين حمراوين Biennio Rosso”” (1) تركتا في تاريخ الحركات العماليّة عامّة، وإيطاليا خاصّة، علامةً فارقةً، ودرسًا عمليًّا في التطوّر والتراكم التاريخيّ والماديّ، الكميّ والنّوعيّ؛ لمسألة العمّال والفلاحين؛ قضّت مهجع الرأسماليّة الإيطاليّة آنذاك.
الحربُ العالميّةُ الأولى: طموحٌ رأسماليٌّ في التوسّع
لم تكن الحرب العالميّة الأولى غير شكلٍ من أشكال التوسّع الاستعماريّ الوحشيّ، وصراعٌ تناحريٌّ على الأرض وثرواتها. استخدمت البرجوازيّةُ الرأسماليّةُ (الطبقة الحاكمة) العمّالَ والفلاحين (الطبقة المحكومة) (2) كأدوات حربيّة لتنفيذ مشاريعها التوسعيّة؛ فدفعتهم إلى الصفوف الأولى في المواجهة، وجعلت منهم ذخائرَ لا ذنب لها ولا حول ولا قوّة. فماذا كان بعد الحرب؟ خسائر بشريّة فادحة، خسائر اقتصاديّة هائلة، أزمة ماليّة ومديونيّة متزايدة، انتشار الفقر والبطالة؛ سرعان ما صارت تلك الظروف عاملًا موضوعيًّا محركًا للقوى الكامنة في صفوف العمّال والفلاحين؛ فثارت ثائرتهم وراحت قضيّتهم تطفو على سطح المجتمع السياسيّ الإيطاليّ، وترفع أعمدتها في البنى الفوقيّة؛ لتصنع منعطفًا تاريخيًّا في الحياة السياسيّة الإيطاليّة.
دخلت إيطاليا الحرب إلى جانب الحلفاء عام 1915، وبنظرة خاطفة على المجتمع الإيطاليّ الذي كان قد مضى على وحدته (عام 1861) قرابة نصف القرن؛ نرى مجتمعًا طبقيًّا منقسمًا بين الشمال الصناعيّ الثّري الذي أفرز الطبقة الوسطى والبرجوازيّة، والوسط والجنوب الزراعيّ الفقير، ودولة برجوازيّة ليبراليّة جديدة عمّقت الانقسام، وأفقرت الأغلبيّة التي كانت من الفلاحين، وأقصتهم بعيدًا عن المشاركة السياسيّة في البلاد.
دارت عجلة الحرب، وراحت الصناعة التي تركّزت في المثلّث الصناعيّ الإيطاليّ: تورينو، ميلانو، جنوا (3) تنمو في تسارع هائل؛ وعنى ذلك تسارعًا في نمو الطبقة العاملة الصناعيّة في الشمال؛ أرباح هائلة حققتها المصانع الهندسيّة والكيميائيّة، فقد قفز رأس مال شركة “فيات FIAT” أكثر من عشرة أضعاف ما كان عليه قبل الحرب، وتضاعفت القوّة العاملة فيها ما يقارب العشرة أضعاف أيضًا؛ هذا يفسر كيف أضحت تورينو مركز الصناعة الإيطاليّة، ومركز الحركة العمّاليّة فيما بعد. ونتيجة للأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة الصعبة التي عاشها المجتمع الإيطاليّ أثناء الحرب وبعدها؛ بدأت ساحات إيطاليا تشهد إضراباتٍ واحتجاجاتٍ راديكاليّةً انتهت بسنتين حمراوين (1918- 1920) لعبت خلالهما “مجالس المصانع” دور الحزب الثوريّ الطامح للاستحواذ على السلطة لصالح العمّال.
مجالسُ المصانعِ: حين يخطو العمّال خطوتهم الأولى
قلنا إنّ الحرب أدت إلى نمو هائل في الطبقة العاملة، من هنا جاءت الحاجة إلى تشكيل مجالس (هيئات داخليّة) داخل المصانع تنظّم وتيسّر العمل. فبضغط من العمّال على أرباب العمل تمّ تشكيل مجالس مصانع منتخبة وفق آليّة محدّدة: ينتخب مجالس المصانع مندوبون عن العمّال، كل مندوب ينوب عن 15- 20 عاملًا نقابيًا لهم الحق في إلغاء التفويض ذاك، دون أن تفلت تلك المجالس من قبضة مسؤولي النقابات الذين ربطتهم علاقات واتفاقات تسوويّة الطابع مع الصناعيين. وبفعل الصراعات التي دارت بين العمّال وسياسات النقابات الإصلاحيّة والمهادنة مع أرباب العمل؛ تنامى وعي الطبقة العاملة الموضوعيّ والذاتيّ لموقعها من العمليّة الإنتاجيّة وقدرتها على التحكّم في صيرورات عمليّات الإنتاج؛ فتحولت تلك المجالس من مجالسَ شكليّةٍ تشرف على العمّال وتفك النزاعات فيما بينهم، إلى مجالسَ تديرُ العمليّةَ الإنتاجيّة. اتّسعت قاعدة هذه المجالس لتشمل كافّة العمّال نقابيين وغير نقابيين؛ من هنا نرى كيف راحت الظروف الموضوعيّة تسير في الطريق نحو القفزة: تغيّرٌ نوعيٌّ مفاجئٌ جاء نتيجة تطور كميّ؛ فتحولت الطبقة العاملة إلى قوةٍ مسيطرةٍ قادرةٍ على مواجهة الصناعيين البرجوازيين: مواجهة هيمنة الرأسماليّة؛ أي قادرةٌ على انجاز القفزة: الثورة.
السنتان الحمراوان: محاولةٌ ثوريّةٌ جادّة للتغيير
يقول غرامشي: “ما من مجتمع يطرح على نفسه مهامًا معينة إلا إذا توافرت في داخله الظروف التي تسمح بتنفيذ هذه المهام” (4).
لم تكن السنتان الحمراوان سنتين عفويتين على الإطلاق، بل كانتا محاولةً ثوريّةً تلقائيّةً وجادّةً لإرساء قواعد جديدة في المجتمع الإيطاليّ الذي خرج من الحرب العالميّة الأولى منهكًا؛ فالنتائج السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة للحرب وفّرت الظروف التي أسّست قاعدة لثورة اشتراكيّة هزّت إيطاليا؛ مستلهمة من “ثورة أكتوبر” السوفييتيّة الأمل نحو دولة اشتراكيّة.
كانت الإضرابات والمعارك مشتعلة بين عمّال الشمال الرافضين الدخول في الحرب، والرأسماليّة الصناعيّة ودعاة الحرب بزعامة “بينيتو موسوليني” منذ عام 1913؛ إلا أنّ الأخيرة، وبفضل أدواتها القمعيّة، انتصرت بعد معارك دامية في أحداث ما يعرف بـ: “The Radiant Days of May أيام مايو المشعة” (5) عام 1915. لحقها في عام 1917 إضراب في مدينة تورينو بسبب إقدام الشرطة على قتل شخصين في احتجاج على نقص الغذاء والخبز. صحيح أن القوّة العسكريّة قمعت الإضراب والاحتجاجات آنذاك، ونقلت جماعات المتظاهرين من عمّال “فيات FIAT” إلى جبهة الحرب في شمال شرق إيطاليا؛ إلا أن تلك الاحتجاجات كانت تبشّر وتنذر بتحرّك ثوريّ قادم.
إذًا، فالانتفاضات العمّاليّة كانت مشتعلة منذ عام 1913، وبعد ثورة أكتوبر الاشتراكيّة، نما طموح العمّال والفلاحين في السيطرة على المعامل والأرض، وصار شعار “Doing as in Russia” شعار الحركة العمّاليّة الإيطاليّة، فنادى العمّال والفلاحون بمطالب حقوقيّة الشكل، مثل رفع الأجور وتحديد ساعات العمل ودفع ثمن الآلات والمحاصيل الزراعيّة، تلك الثورات كانت بداية النضال المطلبيّ الذي راح يتحول إلى نضال طبقيّ واضعًا نُصْب عينيه السلطة.
بلغت احتجاجات وإضرابات العمّال والفلاحين في عام 1919 ثلاثة أضعاف ما بلغته عام 1913 (6)، ففي آب/أغسطس من نفس العام تشكّل مجلس عمّال في أكبر مصانع تورينو: فيات FIAT، ومع حلول أيلول كانت مجالس المصانع قد نحجت في تنظيم أكثر من 50000 عامل، وتشكّلت في 30 مصنعًا، وراحت تتّسع حركة المجالس حتى وصلت في تشرين الثاني إلى نقابة عمّال المعادن FIOM، والتي هي عضو في الاتحاد العام للعمّال-CGL (7) وسرعان ما فاز مجلسها بعقد يسمح له بالعمل داخل المصانع، فصارت المجالس وحدة إداريّة لها قوّة تفوّقت على CGL.
وعلى الرغم من النجاحات التي حقّقتها مجالس المصانع، فقد عارضها الحزب الاشتراكيّ الإيطاليّ PSI والاتحاد العام للعمّال CGL؛ حيث رفضا انضمام العمّال غير النقابيين إلى المجالس، واعتبرا أن قيادة الثورة يجب أن تأتي من فوق، من حزب يقود الثورة نيابة عن العمّال والفلاحين؛ أي عبر بيروقراطيّة حزبيّة بعيدة عن قلب الحدث، الأمر الذي ناهضه غرامشي، واعتبر أنّ النشاط الذاتيّ للطبقة العاملة هو قلب الثورة، وأكد على أنّ دور الحزب هو توسيع هذه المجالس التي رأى فيها أدوات لسلطة العمّال؛ والعمل معها على قلب علاقات الإنتاج، والاشتباك مع القاعدة الجماهيريّة الثائرة.
كانت تلك الفترة الذهبيّة للحزب الاشتراكيّ الإيطاليّ PSI، والاتحاد العام للعمّال CGL التي ضاعت هباءً؛ ففي حين تضاعفت عضويّة الحزب عشرة أضعاف خلال فترة 1918- 1920، وازدادت عضويّة الاتحاد العام للعمّال من ربع مليون إلى مليونين، فقد فشل الحزب بقيادة “جاشينتو سيرّاتي” في القيام بأي تحرك من شأنه أن يكسب ثقة الجماهير الثائرة؛ على الرغم من نجاحه في حصد 156 مقعدًا في البرلمان؛ أي ما يشكل 32% من المقاعد، في تفوّق ملحوظ على المحافظين والفاشييّن آنذاك (8) ومن وجهة نظر غرامشي؛ كان من المفترض استغلال ذلك الوجود النيابيّ لدعم حركة مجالس المصانع استغلالًا يدعم الثورة، لا أن يخيّب آمالها.
في آذار/مارس 1920 تعاظمت حركة مجالس المصانع لتصل إلى إضراب شامل في معامل التعدين FIOM في تورينو بعد محاولة أرباب العمل إغلاق المصانع. وبعد أربعة أشهر، وصلت المفاوضات بين مجالس مصانع FIOM والصناعيين إلى طريق مسدود فأدى إقفال أصحاب مصانع ألفا- روميو أبوابها في وجه العمّال إلى تفجّر الأزمة، فما كان منهم إلا أن ردّوا على الإقفال بالاحتلال، وسرعان ما انتشرت عدوى الاحتلال في كل مصانع تورينو، بل وفي معظم المصانع في إيطاليا بالإضافة إلى الفلاحين؛ فسيطر العمّال على الإنتاج، والفلاحون على الأرض، في مطلع أيلول/سبتمبر 1920، مجنّدين أنفسهم في سبيل الثورة ورافعين الأعلام الحمراء (أعلام الجمهوريّة العمّالية لكميُونة باريس 1872، ولاحقًا أعلام السوفييت المنتصرين في ثورة أكتوبر 1917) في سماء إيطاليا. كانت السلطة إذًا هي مقصد الحركة العمّالية تلك، لا الحقوق النقابيّة الإصلاحيّة والتسوويّة.
فما كان من رئيس الوزراء “جوفاني جوليتّي” إلا أن أرسل جنوده إلى تورينو التي كانت تجابه المعسكر الرأسماليّ وحيدة مجرّدة من دعم الحزب الاشتراكيّ والاتحاد العام للعمّال CGL الذين رفضا تبني الحركة، وبسبب افتقار الحركة إلى قيادة ثوريّة منظّمة؛ تراجع العمّال عن احتلال المصانع بين 25 و30 أيلول/سبتمبر 1920، تاركين خلفهم محاولةً ثوريّةً جادّةً نحو التغيير وتولي السلطة.
عادت مجالس المصانع بعد ذلك إلى ما كانت عليه قبل حزيران 1919، مجالس شكليّة تشرف على العمّال بعد اتفاق انتهازي بين الحزب الاشتراكيّ والاتحاد العام للعمّال المتخاذلين من جهة، وأصحاب المصانع والحكومة البرجوازيّة الرأسماليّة من جهة أخرى.
بهذا يكون العمّال الطليان قد أشعلوا عامين أحمرين (1919- 1920) في تاريخ الحركة العمّاليّة الإيطاليّة والعالميّة، جديرة بالدراسة والتفكّر ولو بعد قرن من الزمن.
غرامشي و”النظام الجديد”: دعمًا حركةَ مجالس المصانع ولعبًا دور المثقّفِ العضويّ
غرامشي: “بوسع المرء القول إن كل إنسان مثقف، ولكن ليس كل إنسان يقوم بعمل المثقف” (9).
لا يمكن فصل فكر غرامشي ومسيرته النضاليّة واجتهاداته الفلسفيّة والعمليّة عن السنتين الحمراوين؛ فقد عايش التطور الصناعيّ الهائل أثناء الحرب والتحوّل الاقتصاديّ والفكريّ والصراع الطبقيّ بعد انتقاله للدراسة في تورينو عام 1911، وصار يرى بشكل جلي أنّ وحدة العمّال والفلاحين على أساس طبقيّ جديد يمهد لإحداث التغيير في المجتمع السياسيّ الإيطاليّ.
غرامشي، الذي كان له دور في معارضة الحرب، ومجابهة النزعة الاشتراكية الديمقراطية –التي ترى أن عمليّة بناء دولة اشتراكيّة تمرّ عبر عمل سياسيّ برلمانيّ إصلاحيّ لا عبر ثورة تقلب علاقات الإنتاج- في الحزب الاشتراكيّ الإيطاليّ PSI، الذي أخذ موقف الحياد تارة، والإصلاح الانتهازيّ تارات، في أهم مفاصل الحياة السياسيّة الإيطاليّة، بدأ اهتمامه بالحركة العماليّة في تورينو حيث انتخب عام 1917 أمينًا لسر فرع الحزب الاشتراكي هناك (10). وبعد صراع ومعارضة ضد سياسات الحزب، وتحت تأثير الثورة البلشفيّة، توصّل إلى أنّ مجالس المصانع هي الأداة التي من خلالها تتحقق الثورة في ظلّ غياب الحزب الثوريّ وتخاذل القيادات الاشتراكيّة الإصلاحيّة المحايدة؛ فدعم غرامشي حركة مجالس المصانع، وأسّس في أيّار/مايو 1919 صحيفة “النظام الجديد” L’ordine nuovo منطلقًا من إيمانه بمتلازمة المثقّف العضويّ والهيمنة، فكانت الصحيفة أداة من أدوات الثورة، تنطق بلسان حال العمّال، وتنظّم صفوفهم مع الفلاحين، وتعمل على تسليحهم ببرنامج ثوريّ ينطلق من شعار: “كلّ السلطة لمجالس المصانع” (11) متأثرين بشعار ثورة البلاشفة: “كلّ السلطة للسوفييتات (12) (13)، في سبيل تحقيق النصر على التحالف الرأسماليّ الصناعيّ الذي لن يطيح به إلّا ثورة اشتراكيّة تشعلها جماهير العمّال والفلاحين معًا.
ففي المقالة الأولى للصحيفة في حزيران 1919 دعا غرامشي العمّال إلى تنظيم أنفسهم بفاعليّة من خلال مجالس المصانع المنتخبة التي كان يرى فيها الشكل المحليّ الإيطاليّ للسوفييتات، لاعبًا دور المثقّف العضويّ، منطلقًا من المبدأ الأساسيّ في الماركسيّة: الممارسة/العمل. فالثورة بالنسبة لغرامشي هي: “عملية بناء كتلة تاريخيّة جديدة”(14)؛ كتلة مهيمنة، وإذا ما قلنا أنّنا بحاجة إلى ثورة اشتراكيّة تعلنها كتلة تاريخيّة مهيمنة، فلا بدّ من أن تتمثّل هذه الكتلة بالطبقة العاملة المتحالفة مع الفلاحين.
وحتى تعي أي طبقة مفهوم الهيمنة هذا؛ يرى غرامشي بأهميّة فاعليّة “المثقّف العضويّ”(15) الذي تكمن وظيفته في تكوين تجانس فكريّ، يعمل على تنظيم الطاقات التي من شأنها العمل على تطبيق التصوّر الخاص بالطبقة الموضوعيّة. من هنا كان أوّل ما بادر إليه غرامشي هو تأسيس صحيفة “النظام الجديد” لتلعب دور المثقّف العضويّ خلال الستنين الحمراوين.
ساهمت صحيفة “النظام الجديد” في إنتاج برنامج للمجالس يعتمد على الديمقراطيّة المباشرة لينظّم آليّة عملها، وحدّد لها ثلاث مهام رئيسيّة: الدفاع عن حقوق العمّال، نشر الوعي النظريّ والعمليّ بين صفوفهم، والاستيلاء على السلطة في المصانع (16).
يقول غرامشي: “عملت “أوردينو نووفو” (17)، أسبوعًا تلو الأسبوع، على تنمية أشكال جديدة من “الفكرانية” وعلى تحديد مفاهيمها الجديدة (…) لم يعد بالإمكان أن يتمحور نسق حياة المثقف الجديد حول الفصاحة والإثارة السطحية والآنية للمشاعر والأهواء، بل صار لزامًا عليه أن يشارك مباشرة في الحياة العملية، كبانٍ ومنظّمٍ “مقنع دائمًا”، لأنه ليس مجرد فارس منابر” (18).
ويقول أيضًا في تحليل لمعنى المثقف ووظيفته: “لا تنظيم بدون مثقفين، أي بدون منظمين وقادة” (19).
من هنا نفهم حرص غرامشي وأنصار “النظام الجديد” على تبني حركة مجالس المصانع، وتوفير كلّ ما يلزم الحركة من أدوات فكريّة نقديّة: تاريخيّة وفلسفيّة وعمليّة؛ لإنجاحها. فهو يرى المثقّفين ضبّاط تستعين بهم الطبقة الحاكمة لفرض هيمنتها على الطبقة المحكومة، في نفس الوقت يلعب المثقّفون العضوييون للطبقات المحكومة دورًا كبيرًا في قلب المعادلة عند اللحظة الحاسمة: الثورة.
جنينُ الدولةِ الاشتراكيّةِ: من الولادةِ إلى الإجهاض
يقول غرامشي: “تقع أزمة، تستمر في بعض الأحيان عقودًا من الزمن. وتعني هذه المدة الاستثنائية أنّ تناقضات بنيوية غير قابلة للعلاج قد كشفت عن نفسها (نضجت)، وأنّ القوى السياسية تتصارع، رغم ذلك، للحفاظ على البنية القائمة والدفاع عنها، تبذل كل جهد لمعالجة تلك التناقضات ضمن حدود معينة للتغلب عليها. وتشكل تلك الجهود المثابرة والدؤوبة أرضية (نقطة التلاقي الحرجة)، وعلى هذه الأرضية تنتظم قوى المعارضة” (20).
إذًا فالصراع الذي تولده “نقطة التلاقي الحرجة” صراع على تثبيت أقدام التبدل الجديد في ميزان القوى لصالح أحد الطرفين: القوى المحافظة، وقوى المعارضة. هكذا ولد “جنين الدولة الاشتراكية” الذي كان يتجلى في مجالس المصانع، إلا أنّ قوى المعارضة لم تكن جاهزة لاستيعاب اللحظة الحرجة تلك واغتنام الفرصة التاريخيّة لتولي السلطة وفرض الهيمنة، التناقضات داخل الحزب الاشتراكيّ الإيطاليّ وسياساته الإصلاحيّة، عدم وضوح الهدف بشكل كاف، افتقاد الحركة إلى القيادة، واستخدام القمع العسكريّ، عجّل من الهزيمة، بل وسمح للقوى الفاشيّة بقيادة موسوليني بالصعود عن طريق إعادة تنظيم نفسها وتحالفاتها مع البرجوازيّة الصغيرة في المدن والأرياف والقوى الاجتماعيّة المختلفة حتى صار الحزب والدولة والحكومة جسمًا واحدًا قادرًا على إجهاض أي جنين قد يبشر بولادة دولة اشتراكيّة.
وعلى الرغم من رسالة الكُمِنتِرْن (21) الداعية إلى توسيع حركة العمّال خارج المصانع لتصبح انتفاضة عامّة تهدف إلى الإطاحة بالبرجوازيّة (22)، لم يستطع الحزب الاشتراكيّ الإيطاليّ PSI توحيد وقيادة حركة مجالس المصانع، بل إنّ التسويات الإصلاحيّة التي اتبعها الحزب والاتحاد العام للعمّال CGL مع الصناعيين، والوعود الوهميّة بزيادة نفوذ العمّال داخل المصانع، وقيام الثورة الفاشيّة المضادّة؛ أجهضت السنتين الحمراوين، وقتلت جنينها: حركة مجالس المصانع.
ما بعد السنتين الحمراوين
كانت السنتان الحمراوان حدثًا جللًا في تاريخ إيطاليا الحديث، وسببًا في تعاقب أحداث لاحقة كبرى:
1. صعود النظام الفاشيّ: فقد أعقب السنتين الحمراوين سنتان سوداوان Biennio Nero (1921- 1922) تمكّنت خلالهما الفاشيّة من تثبيت نفسها كقوّة قمعيّة بعدما كانت قوّة هامشيّة، فقد لجأ إليها الصناعييون اللذين لم يعودوا يروا في الحكومة البرلمانيّة القوّة القادرة على قمع حركة العمّال، فقامت الفاشيّة بتدمير مواقع العمّال من تعاونيات واتحادات ومراكز، وقتل المئات وجرح الآلاف في أعمال أرهبت المجتمع بأكمله.
2. ولادة الحزب الشيوعيّ الإيطاليّ PCI: في عام 1921 انفصل الجناح الثوريّ بقيادة غرامشي وبورديغا عن الجناح الإصلاحيّ بقيادة سيراتي في الحزب الاشتراكيّ الإيطاليّ PSI، وتشكل الحزب الشيوعيّ الإيطاليّ PCI الذي اعترفت به الأمميّة فرعًا رسميًّا لها في إيطاليا، يحلل غرامشي في دفاتر السجن ماهيّة الحزب وأسباب نشوئه والمهام التي يطرحها على نفسه بشكل موسّع في كتاب “الأمير الحديث”، فيجيب عن سؤال تأمليّ: “متى يصبح الحزب ضروريًّا تاريخيًّا؟(23) إجابة مفادها: إنّ تكوين أيّ حزب يكون في فترة تصدّيه للقيام بمهام محدّدة ودائمة.
3. تأسّست “أرديتي ديل بوبولو Arditi del Popolo” (24): وهي فرقة مسلّحة أسسها الأناركيّ سيكونداري عام 1921 وانضم إليه الاشتراكي بيتشيلي، دافعت عن العمّال ضدّ هجمات الفاشيين، وعلى الرغم من توصيات لينين بدعم تلك الحركة التي أثبتت إمكانيّة مقاومة الفاشيّة على الرغم من هزيمة حركة مجالس المصانع، إلا أنّ الحزب الشيوعيّ الإيطاليّ PCI بقيادة بورديغا لم يستجب لتوصيات لينين مستندًا إلى رفضه لأي جبهة موحّدة مع الاشتراكيين، وإيمانه بأن الحزب وتنظيمه قادرين على مواجهة الفاشيّة، فلم يتمكّن غرامشي من اتّباع توصيات الأمميّة الشيوعيّة راضخًا لقوّة بورديغا داخل الحزب.
4. في الفترة ما بين 1922- 1924، أُرسل غرامشي للمشاركة في أعمال الكُمِنتِرْن في موسكو، وهناك أعاد التفكير في المواقف التي اتّخذها ونقدها وتوصّل إلى أنّ سياسات الحزب الشيوعيّ الإيطاليّ بقيادة بورديغا الرافضة للجبهة الموحّدة وللمشاركة في البرلمان عزّزت الفجوة بينه وبين الجماهير. وبدأ نضالًا ضد بورديغا في الحزب الشيوعيّ انتهى بموافقة الأغلبيّة في مؤتمر ليون (25) عام 1926 على طروحاته التي ترتكز على قوّة الطبقة العاملة الصناعيّة والزراعيّة والفلاحين في قيادة الثورة الاشتراكيّة التي عليها أن تقطع العلاقات الإصلاحيّة مع النظام الحاليّ وبناء نظام جديد يلبّي طموحاتها في إرساء قواعد لمجتمع اشتراكيّ بتنظيم من حزب ثوريّ قادر على كسب تأييد الأغلبيّة على قاعدة الجبهة الموحّدة.
5. وصل غرامشي إلى مقاعد البرلمان في عام 1924 وبدأ مرحلة جديدة من النضال ضدّ الفاشيّة، واعتقل في عام 1926 بتهمة: “محاولة تخريب الدولة، وزرع الحقد الطبقيّ”. فقضى عشر سنوات في السجن كانت مرحلة جديدة أعاد فيها نقد وتحليل الأحداث والمواقف، حتّى توفّي عام 1937 تاركًا خلفه ثروة فكريّة وعمليّة تفتح الآفاق للباحثين عن سبل العمل الجادّ لتحقيق الثورة.
حركةُ مجالسِ المصانع: “حركةٌ تلقائيّةٌ” توافر فيها “العاملُ الجماعيُّ” وتخلّت عنها القيادةُ الواعية
يمكن القول إن حركة مجالس المصانع “حركة تلقائيّة” (26)، تتأثّر إلى حدّ بعيد بما يسمّيه غرامشي “الفهم العامّ” (Common sense)، فالعمّال يمتلكون فهمًا غير نقديّ ولا-واعٍ لواقعهم الموضوعيّ والذاتيّ نتيجة المفاهيم الاجتماعية المتوارثة و”التقليديّة” التي تثبّتها الرأسماليّة وتهيمن من خلال ترسيخها، لكن هذا الفهم يتخلخل ويهتزّ كنتيجة مباشرة للممارسة اليوميّة للطبقة العاملة في ظلّ الرأسماليّة، ممارسة تُغيّر العالم فعليًّا، وتوضّح لهم قيمتهم ودورهم المركزيّ في دورة الإنتاج من جهة، وفي إحداث التّغيير وإنهاء الظلم من جهة ثانية؛ وعليه فإنّ الحركات التلقائيّة تخرج من رحم الرأسماليّة التي كانت تعتقد أنّ الطبقة العاملة في حالة استسلاميّة سلبيّة -والتي يحللها غرامشي بأنها مرحلة موافقة نشطة على الواقع الراهن ستنقلب إلى مقاومة في اللحظة الحاسمة (27)- تضمر في جوفها إمكانيّات الوصول إلى السلطة، عبر تحوّلها النقديّ المستمرّ من “الفهم العامّ”، إلى “الفهم الجيّد” (Good sense)، إذا ما توافر “الأمير الجديد”، التنظيم الذي سينقلها إلى مستويات أعلى من الصراع السياسيّ. يقلب “الفهم الجيّد” الواقع الموضوعيّ، وينقل “الفهم العامّ” من حيّز النضال المطلبيّ إلى حيّز أوسع: النضال الثوريّ؛ عبر ممارسة عمليّة واعية ونقديّة تسعى للتغيير؛ أمّا حصل مع حركة مجالس المصانع فكان العكس تمامًا؛ الأمر الذي وفر للقوى الرجعيّة الحاكمة الفرصة لإعادة ترميم بنيتها السياسيّة والقضاء على ثورة العمّال.
يقول غرامشي إنّ حركة مجالس المصانع انطلقت من فرضيّات “العامل الجماعيّ Collective worker” (28)، فالعامل الجماعيّ هو كلّ قوة العمل في المصنع (29)، ذلك الذي يدرك موقعه من العمليّة الإنتاجيّة، على عكس العامل الفرد الذي لا يدرك وعيُه إسهامَه في العمليّة الإنتاجيّة وعلاقات الإنتاج، من هنا عملت مجالس المصانع على تحويل قوّة العمل، التي كانت بالنّسبة للصناعيين والطبقة الحاكمة قوى صغيرة منفردة لا تدرك موقعها من العمليّة الإنتاجيّة وعلاقات الإنتاج ويمكن السيطرة عليها واستغلالها، إلى قوّة واحدة وجسم واحد، عامل واحد وجماعيّ؛ يعي قدرته على إدارة العمليّة الإنتاجيّة في المصانع وقلب علاقات الإنتاج، وبناء مجتمع اشتراكيّ.
إذًا فانطلاقة حركة مجالس المصانع التي بدأت من نقد “الفهم العامّ” (30)، وانتقلت إلى مستويات أعلى من “الفهم الجيّد”، جاءت عند إدراكها أنّ “العامل الجماعيّ” –الذي تجلّى في مجالس المصانع- بمقدوره أن يفكّ تبعيّته لعلاقات الإنتاج التي تربط بين الصناعيين والطبقة الحاكمة؛ عندها أصبحت اللحظة التاريخيّة الحاسمة (احتلال المصانع وإدارتها ذاتيًّا) قاب قوسين أو أدنى من فكّ هذا الارتباط وإحداث التغيير وتولي السلطة، لولا غياب القيادة الواعية لهذه التحوّلات الموضوعيّة التي كانت ستنقلها إلى مستويات أعلى من الصراع السياسيّ.
في النظريّة والممارسة: “تتحوّل الأفكار إلى قوى ماديّة عندما تعتنقها الجماهير” (31)
الوعي التاريخيّ لجماعة ما إلى أنها تنتمي لطبقة مهيمنة تعتمد نظريّة واضحة هي الخطوة الأولى في وحدة النظريّة والممارسة، فإمكانية تحقيق النظريّة وجعلها عقلانيّة وواقعيّة تمرّ عبر الممارسة، والممارسة تعجّل من العمليّة التاريخيّة لبناء النظريّة التي تعطيها الاتساق والتماسك والفاعليّة. يمكن الاسترشاد بهذا الفهم الغرامشي عن “النظريّة والممارسة” (32) في التحليل التاريخيّ والماديّ لفترة السنتين الحمراوين، واشتغالاته قبلهما وأثناءهما وبعدهما، وكيف أنّ غرامشي وأنصار “النظام الجديد” فهموا أنّ حركة مجالس المصانع ما هي إلى ممارسة عمليّة، ومرحلة انتقاليّة، تنقصها النظريّة أو الفلسفة التي من خلالها تستطيع الحركة تثبيت نفسها وبالتّالي فعاليتها وشمولها وهيمنتها.
في الذكرى المئة للسنتين الحمراوين
يمكن اليوم المرور على هذه الذكرى وتقليب صفحاتها وإرجاعها على رفّ التاريخ، ويمكن قراءتها كقصّة ميثولوجيّة عالية الحكمة، ويمكن أيضًا وضعها على طاولة الدراسة والتفكّر والنقاش والتحليل، في عصر لا تشي معطياته بأي أمل بالثورة، لعلنا اليوم ونحن مكبّلون بسلاسل الإفقار والتهميش السياسيّ والاقتصاديّ، عصر رأسماليّ عالميّ فتّت ليس الطبقة العاملة فحسب، بل كل ما يمكن أن ينبثق عنها من بنى تحتيّة جامعة، نضع هذه التجربة تحت سكّين التشريح الجادّ لحركة ثوريّة نالت من الرأسماليّة بضعة أيام حمراء.
ولعلنا اليوم أيضًا، نفهم كيف أنّ الواقع الموضوعيّ الذي شكّل وعيًا جمعيًّا في صفوف العمّال وخلق مثقّفيه العضويين؛ لم يأت بمحض الصدفة، ولم يفلت من بين يدي غرامشي وأنصار “النظام الجديد” الذين آمنوا بالماركسية فلسفة للممارسة الواعية، وأنّ جميع ساحات النضال مفتوحة أمامهم للنيل من هيمنة الرأسمالية ولتولي السلطة.
هوامش
1- Biennio Rosso: سنتان حمراوان بالإيطالية.
2- كما وصفها غرامشي في دفاتر السجن، ففهم علاقات الهيمنة بين الطبقة الحاكمة والمحكومة هو المبدأ الأوّل في السياسة.
3- يمكن الاطلاع على تفاصيل التطور الصناعي الإيطالي خلال الحرب بالأرقام التفصيلية من هنا:
Megan Trudell, Gramsci: The Turin Years, International Socialism Journal, 2007, http://isj.org.uk/gramsci-the-turin-years/
4- أنطونيو غرامشي، قضايا المادية التاريخية، ترجمة فواز طرابلسي، بيروت: دار الطليعة، 1971، ص101.
5-
Massimo Amadori and Giuliano Brunetti, Biennio Rosso: Italy’s “Two Red Years”, Socialist Alternative, June 5, 2020, https://www.socialistalternative.org/2020/06/05/biennio-rosso-italys-two-red-years/
6- يمكن الاستزادة عن الثورات ما قبل السنتين الحمراوين من المرجع المذكور سابقًا: Gramsci: The Turin Years
7- General Confederation of Labor CGL:
8- Gramsci: The Turin Years، مذكور سابقًا.
9- أنطونيو غرامشي، كراسات السجن، ترجمة عادل غنيم، دار المستقبل العربي، 1994، ص81.
10- أنطونيو غرامشي، الأمير الحديث، ترجمة زاهي شرفان وقيس الشامي، بيروت: دار الطليعة، 1970، التقديم ص6.
11- ألساندرو غياردييلو، الأفكار الثورية لأنطونية غرامشي، ماركسي، الموقع العربي للتيار الماركسي الأممي، نشر أول مرة بالإيطالية في العدد 116 من جريدة ) FalceMartelloالمطرقة والمنجل)، 1997، ترجمه عن الانجليزية: أنس رحيمي، https://marxy.com/?p=3207 .
12- السوفييتات: مجالس العمّال والفلاحين والجنود المنتخبة التي لعبت الدور الأساسيّ في نجاح ثورة أكتوبرالاشتراكيّة.
13- فرانسيسكو جيلياني، “النظام الجديد” وولادة الحزب الشيوعي الإيطالي، موقع Marxism الإلكتروني، 2019، https://www.marxist.com/2019-07-28-16-27-55.htm
14- مازن الحسيني، قراءة في فكر غرامشي السياسي، دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع بالتعاون مع المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية، 2001، ص37.
15- أنطونيو غرامشي.. المثقف العضوي، صحيفة “بوابة الهدف الإخبارية” الإلكترونية، 2017،
ويمكن الاستفاضة في موضوع المثقف العضوي والتقليدي من كتاب: قراءة في فكر غرامشي السياسي، المذكور سابقًا.
16- Gramsci: The Turin Years.، مذكور سابقًا.
17- أوردينو نووفو L’ordine nuovo: النظام الجديد بالإيطالية.
18- قضايا المادية التاريخية، ص132، مذكور سابقًا.
19- المرجع السابق، ص28.
20- قراءة في فكر غرامشي السياسي، ص43، مذكور سابقًا.
21- الكُمِنتِرْن ComIntern (الأممية الثالثة Communist International 1919- 1943): منظمة أممية شيوعيّة تأسّست في موسكو عام 1919 بعد انهيار الأمميّة الثانية، تتألّف من الأحزاب الشيوعيّة والمنظمات العمّاليّة من مختلف الدول، تدعم النضال الطبقيّ والحركات الثوريّة ضدّ الإمبرياليّة الرأسماليّة.
22- Proletarian Power: The Turin Factory Councils 1919-1920, workerscontrol.net, http://www.workerscontrol.net/theorists/proletarian-power-turin-factory-councils-1919-1920
23- الأمير الحديث، ص48، مذكور سابقًا.
24- Biennio Rosso: Italy’s “Two Red Years”، مذكور سابقًا.
25- الأفكار الثورية لأنطونيو غرامشي، مذكور سابقًا.
26 كراسات السجن، ص208، مذكور سابقًا.
27 قراءة في فكر غرامشي السياسي، ص63، مذكور سابقًا.
28- كراسات السجن، ص210، مذكور سابقًا
29- المرجع السابق.
30-جاك تكسيه، غرامشي دراسة ومختارات، ترجمة: ميخائيل ابراهيم مخول، مراجعة: د. جميل صليبا، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق، 1972، ص145.
——————————-
أنطونيو غرامشي في عمل المثقفين العرب.. الحاضر الغائب/ مصطفى ديب
“غرامشي الذي عرفهُ العرب، عمرهُ من عمر هزيمتهم، ففي سياقات الهزيمة ظهر فجأة وكأنّه أحد الناجين المنسيين، استدعتهُ آمال مُنهكة وتحليلات مكبوحة. وجد هذا المفكّر الكبير نفسه في عالم من التراجع المُعمم، تراجع فيه المدى التقدميّ والقوميّ العربيّ، وحدث تقاعس للمثقّف واحتواء له مصحوب بتصاعد النزعات الأصولية والمُحافظة، وتدعيم للنظم الشمولية وإعادة هيكلة لتبعية ذات طابع ليبراليّ”.
افتتح المفكّر التونسيّ الطاهر لبيب دراسته “غرامشي في خطاب المثقّفين العرب” (جزء من كتاب “غرامشي في العالم العربيّ” المشروع القومي للترجمة، 2002) بهذه الفقرة التي تُشير إلى السياقات والمسارات والظروف التي صعد فيها المفكّر الإيطاليّ أنطونيو غرامشي (1891-1937) في العالم العربيّ بصفته مُفكِّرًا قادرًا إن لم يكن على إيجاد مخارج للأزمات العربية القائمة، وهي كبيرة وممتدّة بطبيعة الحال، فعلى الأقلّ على بثّ الأمل والعزاء وسط مناخ مضطّرب وواقع متأزّم نتيجة الممارسات القمعية للأنظمة الأمنيّة، وأحوال الأحزاب الشيوعيّة العربيّة التي اعترتها وعموم اليسار العربيّ حالة من الإحباط في ذلك الوقت الذي أشار فيه لبيب إلى أزمة أفرزتها هذه الأزمات آنفة الذكر، وهي أزمة المثقّف العربيّ التي قلّما نُوقشت ما بعد وصول غرامشي إلى العربيّة دون الرجوع والاستناد إليه.
الغاية من عملية رصد وتتبّع المسارات التي ظهر وصعد فيها أنطونيو غرامشي هي التمهيد لأساس هذه الدراسة، وهي عملية رصد بدايات ظهوره في خطاب/كتابات المثقّفين العرب باعتبار دخوله في صلب هذا الخطاب من العوامل التي ساهمت في صعوده وجعل أفكاره متداولة لا داخل الدوائر الأكاديميّة الضيّقة فقط، وإنّما في المشهد الثقافيّ والفكريّ العربيّ عمومًا.
يقول الطاهر لبيب إنّ غرامشي، في بدايات ظهوره وتداول أفكاره، وعلى الرغم من أنّ هذه الأفكار تُخاطب اليسار بالدرجة الأولى؛ كان مشبوهًا بسبب إيطاليّته، لا سيما وأنّ الحزب الشيوعيّ الإيطاليّ لم يكن يتمتّع بسمعة أيديولوجيّة حسنة عند الستالينيين العرب، ممّا يعني أنّه لم يكن هناك أي تأثير لغرامشي وأفكاره على المثقّفين العرب المنتمين إلى الأحزاب الشيوعية ذات الاتّجاه السوفييتي، ولعلّ هذا ما يفسّر تأخّر وصول أعماله إلى اللغة العربية، ويُفسّر أيضًا سببًا من أسباب وصوله في الظروف المتأزّمة والمذكورة سابقًا.
أعاد المفكّر التونسيّ بروز اسم غرامشي لأوّل مرّة في كتابات المثقّفين العرب إلى المفكّر المغربيّ عبد الله العروي الذي ذكره في هامش كتابه “الأيديولوجيّة العربيّة المعاصرة” من خلال استعارته لعبارة “التاريخيانيّة المُطلقة” الغرامشيّة. ويقول لبيب إنّ العروي عاد وأشار إلى غرامشي في كتابه “أزمة المثقّفين العرب” ولكن دون أن يستشهد به أو يقدّم الفكرة التي يعزوها إليه، أي الفكرة التي بنى عليها رؤيته بأنّ الأيديولوجيين العرب يُحافظون على مفهوم تبسيطي مشوّه للتاريخانيّة بالرغم من إسهامات غرامشي في هذا المجال. بالإضافة إلى ذكره باقتضابٍ شديد أيضًا في سياق حديثه عن مسألة الأنتلجنسيا العربيّة التي رأى أنّ عليها تفادي الجدليّة الزائفة بين الطبقة والنخبة من خلال الاستفادة من ملاحظات غرامشي حول المثقّفين، ولكن شريطة إعادة تفسيرها في ضوء التراث السياسيّ العربيّ.
وإلى جانب العروي، جاء المفكّر المصريّ أنور عبد الملك على ذكر غرامشي بجملة واحدة في كتابه “الفكر السياسيّ العربيّ المعاصر” (1970) هي: “ربّما لم تجد أطروحات غرامشي عن المثقّفين تأكيدًا لها أكثر مما وجدت في العالم العربيّ”. وخلال العام نفسه، استعاد المؤرّخ الفلسطينيّ هشام شرابي في كتابه “المثقّفون العرب والغرب” السؤال الذي سبق وأن طرحه غرامشي حول ما إذا كان المثقّفون يشكّلون طبقة اجتماعية مستقلّة أم لا، دون أن يذهب أبعد من ذلك، إذ إنّه لم يستعن به للإجابة عن هذا السؤال.
استنتج لبيب من هذه الإشارات الخجولة إنّ صحّ التعبير إلى غرامشي وفكره أنّ الأخير وصل قبل نصّه وفكره وأنّ حضوره خلال سنواته الأولى كان بصفته “علمًا” يُحال إليه دون الرجوع إليه فعلًا، ممّا يعني أنّ التعامل معه كان مقتصرًا على الرغبة في إظهار المعرفة به دون التعريف به، ممّا جعل ظهوره آنذاك عابرًا، بالإضافة إلى أنّ أعمال العروي وعبد الملك وشرابي التي ذُكر فيها غرامشي، لم تُكتب باللغة العربيّة، وإنّما بلغات أخرى، أي أنّها نُشرت بعيدًا عن الوطن العربيّ.
ورأى صاحب “سوسيولوجيا الثقافة” في هذه المسألة التي وصفها بـ “النفي داخل اللغة” دلالات مُختلفة منها عدم عودة الكتّاب العرب أثناء الكتابة عن غرامشي إلى النصوص العربية أو المُترجمة إلى العربية له وعنه، بالإضافة إلى دلالة أخرى تتمثّل في فكرة أنّ قدر غرامشي هو أن يظلّ رفيق المنفيين.
الحديث عن النفي والمنفى سينتهي باستعادة المفكّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد، وهي استعادة متّصلة أساسًا برصد ظهور غرامشي في الخطاب الثقافيّ العربيّ في الفترة التي يغطّيها الطاهر لبيب، وهي وإن كانت بعيدة زمنيًا، إلّا أن العودة إليها مهمّة لاعتبارات مختلفة، منها أهميّتها لمن يُحاول فهم وتتبّع رحلة صعود غرامشي وصولًا إلى المكانة التي يشغلها اليوم عربيًا.
استعان سعيد بأنطونيو غرامشي لتفسير اعتبار البُعد الشخصي عنصرًا أساسيًّا في كتاباته، إذ إنّ الجوانب التي وجدها سعيد في وضعه كمنفيّ، نجدها حاضرة بصورة مكثّفة في حديثه عن مدى مواءمة فكره للواقع الحاليّ. ووفقًا للطاهر لبيب، فإنّ اهتمام إدوارد سعيد بالمفكّر الإيطاليّ وأفكاره دلّ عليه تأكيده في أحد ملّفات صحيفة Indico الإيطاليّة أنّ “أهمّ خصائص غرامشي تتمثّل في مفهومه عن المكان وإنّ جميع مقولاته التحليلية مبنية بصورة أساسيّة عليه”.
ويستند سعيد في رؤيته هذه إلى موضوعات مثل المكان والموقع وكسب الساحة الاجتماعية والمجتمع المدنيّ التي أوضح غرامشي أيضًا من خلالها “دور الجغرافيا في بناء الحقيقة الاجتماعية”، عدا عن أنّ سعيد أبرز أيضًا قدرة المناضل الإيطاليّ على “تفجير تحليلاته وبنائها بصورة تقوم على التجربة وليس على عقائدية شكلية، وهذه الواقعية الإنسانيّة التي جعلت أعماله لصيقة بحياة البشر، غير منفصلة عن الخبرات التاريخيّة للطبقات والأفراد”.
إنّ رجوع سعيد إلى غرامشي لا يعود إلى بُعد شخصي أو ملامح وجودية فقط، وإنّما إلى أسباب ابستيمولوجيّة ومنهجية أيضًا. ويُشير الطاهر لبيب في هذا السياق إلى مسألة الشعور بوجود غرامشي في خطاب المثقّفين العرب دون رغبة في إثبات هذا أو قدرة عليه، تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى الشاعر المغربيّ عبد اللطيف اللعبي وكتابه “حرقة الأسئلة” التي وضع فيه نصوصًا متعلّقة بفترة اعتقاله، تستعيد غرامشي تلقائيًّا، قبل أن تبدو فرضية وجود لقاء بينه وبين مؤلّف “قضايا المادية التاريخيّة” أكثر واقعيّة بعد إصدار كتابه “المثقّف العربيّ وإشكالية السلطة” الذي استدعى فيه بعض المصطلحات الغرامشية مثّل: المثقّف العضويّ، المثقّف التقليدي، المثقّف الجماعيّ، كبار المثقّفين، حرب المواقع، وغيرها.
وينطبق توصيف لبيب هذا عن وجود غرامشي في كتابات بعض المثقّفين العرب دون الرغبة في إثبات ذلك على المفكّر اللبنانيّ الراحل حسن حمدان المعروف بـ”مهدي عامل”، الذي رأى في عالمه الثقافي والنضالي ملامح غرامشيّة غير مُعلنة، ذلك أنّه لا وجود لأيّ أثر فعليّ لغرامشي إلّا من خلال هامشين: الأوّل سنة 1970 أثناء عمله عن “التناقض الأساسي”، والثاني في عمل لم يكتمل، وكان هذا لمجرّد نسب مصطلح المثقّف العضويّ إليه بحسب لبيب الذي يفترض وجود لقاء بين غرامشي وعامل في كتابه المشار إليه “مقدّمات نظرية لدراسة آثار الفكر الاشتراكيّ على حركة التحرّر الوطنيّ: في التناقض”.
إنّ الأسباب التي حملت لبيب على افتراض وجود هذا اللقاء متعلّقة بتأمّلات مهدي عامل حول أزمة الحركات الثوريّة العربيّة التي يعزي في دراسته له للعنصر الأيديولوجيّ أهميّة كبرى لم تعهدها الماركسيّة العربيّة، تلك التي لم تكن في نظره أكثر من فلسفة أخلاقيّة تهدف إلى التعبئة العامّة، أي أنّها غير قادرة على إفراز برنامجها النظريّ السياسيّ، ومتّصلة على نحو أشدّ بالإصلاحات التي وضعها في كتابه هذا، وهي إصلاحات تحمل بعضًا من ملامح غرامشي لخّصها لبيب على هذا النحو:
“إنّ الصراع الحقيقيّ بين أيديولوجيات الطبقات لا يقوم بين الأيديولوجيّات في حدّ ذاتها وإنّما بين الممارسات الأيديولوجيّة لصراع الطبقات، وأن أي استقلال للأيديولوجيا عن الجانب الاجتماعيّ ليس إلّا نتاج وهمي للممارسة الأيديولوجية للطبقة المسيطرة، أمّا الطبقة الثورية فتقوم بعملية تسييس الصراع الاجتماعيّ من خلال عملية تنظير، أي إنتاج معرفة نظرية، أو من خلال كشف النقاب عن معرفة علمية تتمكّن الأيديولوجيّة المسيطرة من إخفائها، وعدم الربط بين هاتين الضرورتين سيؤدي إمّا إلى السقوط في هزليّة التجريبيّة السياسيّة، أو في اللغو اليساريّ، والأمر في الحالتين يعني السقوط في شرك الانتهازيّة”. ومن هذا المنظور رأى الناقد الفلسطينيّ فيصل درّاج أنّ لدى مهدي عامل “بعض أفكار غرامشي عن الحزب الثوريّ الذي يقيم علاقة جديدة تجمع بين النظريّة والممارسة”.
يعتقد الطاهر لبيب أنّ مثال مهدي عامل هنا لا يدلّ على الحضور أو التأثير أو تحديد موقف، وإنّما لضرب المثل عما يمكن اعتباره في الفكر العربيّ “استيحاء” أو اقتراب خجول من غرامشي. ويرى بناءً على اعتقاده هذا أنّ غرامشي مهدي عامل غير المُعلن عنه يبدو في هذه الحالة أكثر عمقًا وتأثيرًا من غرامشي آخر يكثر الإعلان عنه ويزيد الاستشهاد به دون استيعاب.
والحال أنّ هذه النماذج، بدءًا من العروي وعبد الملك وشرابي الذين استعادوا غرامشي وأشاروا إليه بشكلٍ مُقتضب، وصولًا إلى إدوارد سعيد الذي تعامل مع أفكار غرامشي من منظور مُختلف قلّما التفت إليه الآخرون، وأخيرًا مهدي عامل ومسألة الحضور غير المًعلن؛ بيّنت طبيعة تلقّي المثقّفين العرب لأفكار غرامشي، إضافةً إلى الكيفية التي دخل من خلالها، وسط هذه الاستشهادات الخجولة والحضور غير المُعلن والحضور المُقتضب أيضًا آنذاك، إلى الخطاب الثقافيّ العربيّ وكتابات مثقّفيه.
ويتّضح ممّا قدّمه لبيب أنّ أكثر القضايا والتساؤلات التي استعان المثقّفون العرب بأفكار غرامشي أثناء تناولها ومناقشتها: قضيّة المثقّف وأدواره وعلاقته بالسلطة والجماهير، وقضيّة المجتمع المدنيّ أيضًا. فبينما شغلت القضيّة الأولى مركزًا متقدّمًا في النقاشات الثقافيّة العربيّة خلال الثمانينات التي أصبح فيها أنطونيو المثقّف موضوع عرض مُباشر يسعى إلى الاستقلال بذاته كموضوع، لا سيما وأنّ “أفكاره حول المثقّفين تُعتبر المُساهمة الوحيدة التي يعترف بها الجميع من اليمين إلى اليسار دون استثناء”؛ عنونت مسألة المجتمع المدنيّ بأسئلتها النقاشات الثقافيّة خلال التسعينات التي تحوّل فيها غرامشي إلى مستشار تلجأ إليه مُختلف المجتمعات المدنيّة العربيّة باعتباره مرجعًا نظريًّا أساسيًّا لجميع المُداخلات المتعلّقة بهذه الموضوعات.
تكرّس أنطونيو غرامشي إذًا داخل كتابات المثقّفين العرب ضمن دائرة هاتين المسألتين تحديدًا، لا سيما بعد احتجاجات الربيع العربيّ ومآلاتها، بالإضافة إلى الاحتجاجات الشعبيّة الأخيرة في دول العراق والجزائر ولبنان أيضًا، وهي الفترة التي تحتاج إلى دراسة موسّعة لتغطيّة ورصد طبيعة استعادة وتلقّي غرامشي ضمن هذه الظروف التي قدّمت قراءة جديدة لأعماله تختلف عن القراءات السابقة بأنّ مفاهيمه لم تعد تستعاد هنا كمصطلحات فقط دون تحليلاتها. أمّا بشأن الثابت بين اليوم والأمس بشأنه هو غياب أي مأخذ عليه تمامًا بالإضافة إلى اللجوء المستمرّ والمكثّف إليه خلال الأزمات التي تُفرز واقعًا بحاجة لمُخلِّص أو مُنقذ لطالما جسدّه أنطونيو غرامشي.
——————————————-
ترجمة غرامشي إلى العربية
مثّلت حقبة السبعينيّات مرحلة التلقّي المُبكّر لأعمال المفكر الإيطاليّ أنطونيو غرامشي (1891-1937) الذي يعود تداول اسمه عربيًا إلى سياقات هزيمة 1967 ومآلاتها. ويُمكن القول هنا إنّ تلك الفترة التي تلت النكسة وعايشت تداعياتها وارتداداتها عبّرت عن حاجة المنطقة العربيّة لأفكار جديدة وبديلة يُمكن من خلالها الإجابة على سيل الأسئلة المتُراكمة والمُتعلِّقة بأسباب الهزيمة وطبيعة الأنظمة الأمنيّة وممارساتها القمعيّة مُقابل انسداد أفق العمل الثوريّ والسياسيّ وتنامي شعور اليسار العربيّ بالخيبة والإحباط نتيجة هذه الأزمات/ الصفعات التي طالت المنطقة العربية ومثقّفيها الذين وجدوا في أفكار غرامشي بديلًا عن الأفكار المتصدّعة والمفاهيم التي لم تعد قادرة مواءمة للحالة العربيّة.
ومع وصول اسم غرامشي إلى العالم العربيّ وتداول أفكاره التي وصلت إلى المفكرين والمثقّفين العرب، في الغالب، شفهيًا ومن خلال كتابات الآخرين عنه، بدأت تتبلور الحاجة إلى ترجمة أعماله ونقلها إلى اللغة العربية، بالإضافة إلى الأعمال التي اتّخذت منه ومن أفكاره موضوعًا لها أيضًا، لتبدأ إثر هذه المطالب والحاجة التي بدت ملحّة مشروعات ترجمة مختلفة لأعماله، بدأتها “دار الطليعة” بإصدارها سنة 1970 لكتاب “الأمير الحديث” ترجمة زاهي شرفان وقيس الشامي، بالإضافة إلى كتاب “قضايا الماديّة التاريخيّة” الذي أنجز ترجمته المفكّر اللبنانيّ فواز طرابلسي، وصدر عن الدار نفسها سنة 1971.
خلال العام التالي لصدور ترجمة “قضايا الماديّة التاريخيّة”، نقل ميخائيل إبراهيم مخول إلى اللغة العربيّة كتاب “غرامشي: دراسات ومختارات” الذي أعدّه وحرّره جاك تكسيه، وصدر عن “وزارة الثقافة والإرشاد القومي” في العاصمة السورية دمشقة. أمّا الترجمة الأولى عن الإيطاليّة – إذ إنّ الكُتب الثلاث أعلاه نُقلت عن الفرنسيّة – فتعود عفيف الرزاز الذي نقل إلى العربيّة كتاب “المجالس العمّاليّة” الصادر سنة 1975 عن “دار الطليعة” التي أصدرت خلال العام نفسه كتاب “فكر غرامشي السياسيّ” لجان مارك بيوتي ترجمة المفكّر السوريّ جورج طرابيشي.
وعن اللغة الإيطالية أيضًا نقل تحسين الشيخ علي سنة 1976 كتاب “فكر غرامشي: مختارات” إعداد وتحرير كارلو سالنياري وماري سبينيلا الذي أصدرته “دار الفارابي” في جزئين خلال عامي 1976 – 1978. بينما صدر كتاب أنطونيو بوزوليني “غرامشي: حياته وفكره” سنة 1977 عن “المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر” ترجمة سمير كرم، فيما اختتم الناقد الأردنيّ فيصل دراج مرحلة السبعينيّات بدراسة تحت عنوان “مفهوم الأيديولوجيا عند غرامشي” نُشرت في مجلّة “النداء” سنة 1979. وهنا لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى النصوص القليلة لغرامشي وعنه التي تداولتها وعرّبتها بعض المجلّات خلال تلك المرحلة، لا سيما مجلّات “الحريّة”، و”النهج”، و”أطروحات”، و”الطريق”، و”دراسات عربية”، وغيرها.
أمّا بالنسبة إلى الثمانينيات التي تمثّل مرحلة جديدة من تلقّي أنطونيو غرامشي وفكره مهّدت لها الإصدارات السابقة، فقد افتتحها المفكّر التونسيّ الطاهر لبيب بمقالة نُشرت في العدد الثاني من مجلّة “الكرمل” سنة 1981 تحت عنوان “درس غرامشي”، تبعها ترجمة عفيف الرزاز سنة 1984 لكتاب جون كاميت “غرامشي: حياته وأعماله” عن “مؤسّسة الأبحاث العربيّة”، فيما خصّصت مجلّة “النهج” ملف عددها الـ 19 الصادر سنة 1988 للمفكّر الإيطاليّ، ولعلّ أبرز الدراسات التي ضمّها الملف حينها هي دراسة فيصل درّاج “غرامشي والبحث عن سؤال الثقافة”، ودراسة ج. لوفيرشا “فيما وراء التلقائية”، و”غرامشي والزمن الحاضر” لـ م. جريسكو.
أسهمت مجلّة “الكرمل” خلال الثمانينيات بالتعريف بغرامشي أيضًا وانطلاقًا من زوايا جديدة ومُختلفة، فبينما كان حضوره مُرتبط بقضايا مُحدِّدة أهمّها “المجتمع المدنيّ” و”أدوار المثقّف”، نشرت المجلّة في عددها الـ 28 الصادر سنة 1989 دراسة لغرامشي تحت عنوان “مسرح بيراندلو” نقلها إلى العربية ضياء مجيد الذي نقل أيضًا دراسة أخرى للمفكّر الإيطاليّ بعنوان “الطابع اللاقومي واللاشعبي للأدب الإيطاليّ” نُشرت خلال العام نفسه في عدد المجلّة الـ 33. ولعلّ أهم ما حدث خلال هذه الفترة بخصوص غرامشي هو إقامة المعهد الأعلى للتنشيط الثقافيّ في تونس بالتعاون مع المركز الثقافيّ الإيطاليّ ندوة هي الأولى لجهة التخّصص بغرامشي وأفكاره تحت عنوان غرامشي والثقافة”.
المُلفت للانتباه خلال تلك المرحلة هو ضعف نشاط الترجمة مُقارنةً بما كان عليه خلال السبعينيات، وما سيكون عليه خلال التسعينيات أيضًا، خاصّةً وأنّ هذه المرحلة شهدت حضورًا واسعًا لغرامشي برفقة مفاهيمه وأفكاره حول المجتمع المدنيّ الذي تصاعد النقاشة بشأنه خلال تلك الفترة التي شهدت إقامة ثاني ندوة ثقافية معنية بغرامشي وفكره، وهي الندوة التي نظّمها مركز البحوث العربيّة بالتعاون مع الجمعيّة العربيّة لعلم الاجتماع سنة 1992 في العاصمة المصرية القاهرة تحت عنوان “المجتمع المدنيّ العربيّ في ضوء أطروحات غرامشي”، بالإضافة إلى صدور كتاب “غرامشي وقضايا المجتمع المدني” من إصدار “دار كنعان” خلال الفترة نفسها.
وخلال سنة 1994، أصدرت دار “المستقبل العربي” ولأوّل مرّة كتاب “كرّاسات السجن” بعد أن نقلها عادل غنيم إلى اللغة العربية، فيما أصدرت الباحثة اللبنانيّة دلال البزري كتابها “غرامشي في الديوانية: في محلّ المجتمع المدنيّ من الإعراب” عن “دار الجديد”، بينما أصدر “مركز الدراسات الاشتراكية” سنة 1999 الترجمة العربية لكتاب كريس هارمان “غرامشي ضدّ الإصلاحيّة”. وفي سنة 2000 أصدرت “هيئة قصور الثقافة” كتاب “حالة غرامشي” لبرنار نويل، ترجمة بشير السباعي، تلاه إصدار “دار التنوير” لكتاب “قراءة في فكر غرامشي السياسيّ” لمازن حسيني سنة 2001، تبعه كتاب “غرامشي في العالم العربيّ” تحرير ميشيل بروندينو والطاهر لبيب، ترجمة كاميليا صبحي عن “المجلس الأعلى للثقافة” سنة 2002، وكتاب “إشكالية المثقف عند غرامشي” الصادر سنة 2004 عن “دار الكتب والوثائق العراقية”.
أمّا بالنسبة إلى السنوات التالية وحتّى يومنا هذا، فلعلّ أبرز ما صدر في هذه الفترة هو كتاب “رسائل السجن: رسائل أنطونيو غرامشي إلى أمّه” (دار طوى، 2014)، ترجمة سعيد بوكرامي، وكتاب “أنطونيو غرامشي: النظرية والممارسة” عن “مركز الدراسات الاشتراكية، 2015″، و”مدخل إلى غرامشي: السيطرة السياسية، الثورة، الدولة” تحرير آن شوستاك ساسون، ترجمة سحر توفيق وإصدار “المركز القومي للترجمة، 2016”. بالإضافة إلى كتاب “شجرة القنفذ” عن “دار التكوين، 2016” بترجمة آمارجي، على أن العمل الأكثر أهمّية الذي نقل إلى العربية خلال تلك الفترة هو كتاب “في الوحدة القومية الإيطالية” الصادر سنة 2018 عن “منشورات المتوسّط” ترجمة المفكر اللبنانيّ فواز طرابلسي.
يتّضح من خلال هذه القائمة الببليوغرافية أنّ الفترة الممتدة من عام 2000 وحتّى 2018، هي الأقلّ نشاطًا بالنسبة إلى الترجمة، على الرغم من شغل غرامشي اليوم مكانة لم يكن يشغلها خلال سنوات ذروة هذا النشاط، أي في سبعينيات وثمانينيات وحتّى تسعينيات القرن الفائت. والحديث لا عن أعمال غرامشي فقط، وإنّما عن الأعمال المكتوبة عنه أيضًا، وهي كثيرة بطبيعة الحال وتتجاوز 6000 عنوان حول العالم.
——————————
غرامشي في الشوارع.. نصب وجداريات
تشمخ أعمال فنية عديدة من أجل تخليد ذكرى المفكر أنطونيو غرامشي في بلده إيطاليا، وفي أنحاء أخرى من العالم أيضًا. أعمال هي جداريات أو نصب تضعه في الشوارع، بين الناس، في مشهد رمزيّ يضع هذا المفكر العلامة في مكانه وسياقه.
1- في مدينة نيويورك
نصب تذكاري من عمل توماس هيرشهورن يصور جوروجيو غرامشي، في حي بروكست في مدينة نيويورك الأمريكية، وهو حي تسكنه الطبقة العاملة والفئات المهمشة عرقيًا، مثل الأمريكيين من أصول لاتينية ومن أصول أفريقية (نيويورك تايمز).
2- في روما
غرافيتي للفنان الإيطالي أوزمو وتظهر فيه صورة المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي وهي تغطي جدارًا في مدينة روما في 31 آذار/مارس 2014. (أ.ف.ب)
3- في مقاطعة سردينيا
طلاب مدرسة في عام 1975 ينظرون إلى جدارية تصور المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي، في أورغوسولو في مدينة نوورو في مقاطعة سردينيا التي تتمع بحكم ذاتي. يٌعرف عن أورغوسولو وجود عدد كبير من الجداريات واللوحات الفنية التي تحتوي رسائل ومضامين سياسية (Getty).
4- في مقاطعة سردينيا أيضًا
لوحة جدارية تكريمًا للمفكر الماركسي أنطونيو جرامشي في أورغوسولو أيضًا في ساردينا، موجودة ضمن عدد كبير من الجداريات التي تزين المنازل القديمة (سيمونا جراناتي/Getty)
——————————-
شذرات غرامشي: لكي نتمكن من اللقاء
أمي الغالية، هو ذا عيد الميلاد الخامس الذي أقضيه مُجردًا من حريتي، والرابع الذي أمضيه وأنا داخل السجن، الحق أقول لك إن الوضع القسري الذي أمضيت فيه ميلاد 1936 يعد فردوسًا من فراديس الحرية الشخصية مقارنة مع وضعي كسجين . ولكن لا تحسبي أن سكينة روحي قد نقصت، لقد هرمت أربع سنين أخر، لم أعد أضحك بانشراح كبير كما كنت من قبل، لكني أعتقد أنني صرت أكثر حكمة، وأنني أثريت خبرتي بالبشر والأشياء، من جهة أخرى، لم أفقد لذتي بالحياة، لا تزال الأشياء، كل الأشياء، تثير اهتمامي، فأنا لم أشخ بعد في نهاية المطاف، ألا تظنين؟
نشيخ فقط عندما نبدأ بخشية الموت، وعندما نغتم لرؤية الآخرين يفعلون ما نحن عاجزون عن فعله. بهذا المعنى، لا شك عندي من أنك لم تشيخي أنت الأخرى برغم من سنك، أنا متيقن من أنك عقدت العزم على العيش طويلاً لكي نتمكن من اللقاء.
*
أكره اللامبالين. أعتقد مثل فريدريخ هيبّل أنّ “الحياة هي اتخاذ مواقف”. من المستحيل أن يوجد أشخاص فقط، الغرباء عن شؤون المدينة. فمن يعيش فعلًا لا يمكنه إلّا أن يكون مواطنًا وصاحب مواقف. إنّ اللامبالاة خمول، تطفّل وجبن. إنّ اللامبالاة ليست بحياة. لهذا السبب أكره اللامبالين.
إنّ اللامبالاة هي الوزن الميّت للتاريخ. هي الرصاصة التي تحطّم المجدّد، هي المادة الجامدة التي غالبًا ما تحطّم الحماس الأكثر إشراقًا، هي المستنقع الذي يحيط بالمدينة القديمة ويدافع عنها أفضل من الأسوار الأكثر صلابة، أفضل من صدور المحاربين من أجلها، لأنّها تبتلع في غليانها الطيني المهاجمين وتقضي عليهم وتجعلهم أحيانا يتخلّون عن مهمّتهم البطولية.
*
الأصنام تسقط من مذابحها، وترى الآلهة ذوبان سحابة عبق البخور. ويكتسب الانسان وعي الواقع الموضوعي، ويختزن السر، الذي يسببه المسار الفعلي للأحداث.يعرف الإنسان نفسه، وهو يعرف ما قيمة إرادته الشخصية، وكيف يمكن لها أن تكتسب وزنًا أكبر، عندما يخضع الضرورة، ويجعلها مفيدة، ويصل إلى نقطة يسيطر فيها على الضرورة، ويجعلها في توافق تام مع الهدف المحدد.
*
لم أكن في يوم من الأيام صحفيًّا يبيع قلمه لمن يدفع أكثر، ويكون لزامًا عليه أن يزيّف باستمرار، لأن الكذب جزء من كفاءته المهنية. لطالما كنت صحفيًّا حرًّا، أتمسّك دائمًا برأي واحد، ولم أضطر يومًا إلى إخفاء قناعاتي إرضاء لبعض السادة.
—————————-
أنطونيو غرامشي والعالم العربيّ.. لقاء من ترتيب الهزائم والخيبات/ مصطفى ديب
أخذ المفكّر الإيطاليّ أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) مكانتهُ الفكريّة والمعرفيّة والنضاليّة بصفتهِ مُجدِّدًا وخلّاقًا معرفيًا، ابتعد في تناوله للقضايا التي شغلتهُ وقراءته للنظريات السائدة في زمنه، الماركسية تحديدًا، عن الشرح والتلخيص، سالكًا طريق الاستلهام الإبداعيّ بوصفهِ مُختبرًا ابتكر فيه مفاهيمه التي وفّرت فيما بعد معرفة وإدراكًا أفضل للواقع المُتغيِّر والمُتحرِّك بصفة دائمة، لا سيما أنّها قابلة للتطبيق في فضاءات مُختلفة باعتبارها جاءت مجاورةً لمشروعٍ سياسيّ تحرّريّ صاغهُ غرامشي وخصّص لهُ استراتيجية تُعين على تطبيقه.
إنّ ما عكستهُ مفاهيم غرامشي هو رؤيته العميقة للواقع المُتغيّر من حوله، وخصوصية تناوله لمُختلف قضايا وأزمات هذا الواقع بأسلوبٍ بدا مُتحرِّرًا من الالتزامات المذهبيّة للأطروحات الماركسيّة. ولكنّ المُلفت أنّ أعمالهُ الفكرية ظلّت بمنأى عن اهتمامات القرّاء والمُفكِّرين حتّى منتصف الخمسينيّات، وأنّ الالتفات لهُ أو اللقاء به أيضًا جاء إبّان أزمة مراجعة الستالينيّة واجتثاثها بصفتها لحظة مفصليّة وتاريخيّة شهدت مُحاولات مُختلفة لجعلهِ مُنظِّرًا لاتّجاهٍ جديد في الماركسيّة سيُعرف فيما بعد بـ”الشيوعيّة الأوروبيّة” التي انصبّت اهتماماتها على التمايز عن مذهب الماركسيّة اللينيّة كما صاغه ستالين من جهة، والاستقلال سياسيًّا عن الحزب الشيوعيّ في الاتّحاد السوفياتيّ من جهةٍ ثانية.
اللقاء بالمناضل الإيطاليّ وأفكاره تجدَّد نهاية الستينيّات على خلفية الاحتجاجات الطلابيّة سنة 1968، بوصفه تعبيرًا جليًّا عن النزعة الثورية وفقًا لما تمخّض عن تلك الأحداث التي أعادت إحياء فكره بعد إخضاعه لقراءات جديدة منحتهُ طابعًا راديكاليًّا استنادًا إلى خصوصيّة المرحلة ومتطلّباتها، قبل أن يُفتح الباب على مصراعيه لقراءات مُتعلِّقة بقضايا ومسائل مُختلفة، لعلّ أهمّها المجتمعة المدنيّ، وعلاقة المثقفة المُعقّدة بالسلطة أوّلًا، والجماهير ثانيًا، وهي قضايا لا يُمكن مناقشتها دون العودة إليه.
مثّلت الأحداث أعلاه مرحلة مكثّفة من تلقي غرامشي والالتفات إلى أعماله الفكرية أيضًا، وشغلت ظروف ومسارات هذا التلقّي موقعًا هامًّا في صدارة الاهتمام به لاعتبارات مُختلفة، منها طبيعة هذه المسارات والظروف المتأزّمة والناتجة عن جُملة تحوّلات وانعطافات ومنعرجات تمخّضت عنها أفول حقبة زمنية بما حملتهُ من أفكار ونظريّات مُقابل صعود حقبة جديدة لها نظريّاتها ومفاهيمها التي لا تنفصل عمّا صاغهُ المناضل الإيطاليّ من مفاهيم تصدّرت تلك الحقبة.
فما الذي استدعى غرامشي وأفكاره التي كانت، أثناء صياغتهُ لها داخل سجنه، تُعتبر في الأوساط اليساريّة خروجًا وانحرافًا برجوازيًّا، بل وبدعة سياسية يجب محاربتها؟ ولماذا في ظلّ ظروفٍ ومساراتٍ غير طبيعيّة؟
إنّ الأسباب خلف صعود أنطونيو غرامشي في سياقات ومسارات مأزومة مُتعلّقة بأحوال الأحزاب الشيوعيّة وأزماتها وما طالها من ارتدادات وهزّات عميقة انعكست سلبًا على الفكر اليساريّ الذي اعترتهُ حالة من الخيبة نتيجة الإحباطات المُتتالية على صعيد العمل السياسيّ؛ متّصلة بالصفة التي ظهر غرامشي عليها باعتباره مُنقذًا ومُخلِّصًا جاء لإيجاد مخارج للأزمات القائمة، أو وبجملةٍ أخرى: كان جرامشي يمثّل حصان طروادة المُمتاز ضمن هذه المسارات وفقًا للمفكّر التونسيّ الطاهر لبيب الذي أعاد صعود الإيطاليّ الثائر وفكره إلى أزمة الماركسيّة التقليديّة وما تمخّض عنها من تصدّعات سمحت لماركسيّة غرامشي باعتبارها ماركسيّة مُتفتّحة ومُتحرِّرة بالظهور والتصدّي للدوغمائية الستالينيّة.
اللقاء بغرامشي إذًا جاء مُرتبطًا على نحو وثيق بالسعي إلى الخروج من أزمات معيّنة ضربت الأحزاب الشيوعيّة خصوصًا، والفكر اليساريّ عمومًا، صاحبتها حالة من التخبّط والإحباط ظلّلت تلك الحقبة حتّى وصوله بصحبة أعماله الفكريّة التي بدت قادرة، ضمن تلك الظروف، على تبيان الطريق الذي يجب أن يُسلك، وتجنّب الطرقة المسدودة أو تلك التي اتّضح أنّها تفضي إلى أشياء وهميّة.
إنّ الكيفيّة التي ظهر صاحب “كرّاسات السجن” عبرها عالميًّا بصفته – غالبًا – مُنقذًا ومُخلِّصًا، استدعت السؤال عن الكيفية التي صعد من خلالها في العالم العربيّ أيضًا؛ أين ومتى وكيف ولماذا؟ الإجابة على هذا السؤال تُساعد في فهم التفاعل العربيّ مع غرامشي الذي دخلت مفاهيمه وأفكاره في متن خطابه وكتابات مثقّفيه ومفكّريه أيضًا، لا سيما وأنّ السياقات والمسارات التي صعد فيها عالميًا تكاد لا تختلف عن تلك التي ظهر فيها عربيًا، إذ إنّ اكتشافه وتداول اسمه أيضًا جاء في إطار هزيمة 1967 وسياقاتها التي استدعتهُ وفقًا للطاهر لبيب – صاحب الإسهامات الوحيدة تقريبًا في مجال تتبّع التلقّي العربيّ لغرامشي – باعتباره أحد الناجين المنسيين الذي استدعتهُ آمال مُنهكة وتحليلات مكبوحة.
مثّلت هزيمة 1967 انعطافة مأساوية عنونت ستينيّات القرن الفائت بأزماته المُختلفة والمُتعدِّدة، ولعلّ أبرزها المناخ السياسيّ القاتم والمُتعلّق بممارسات الأنظمة القمعيّة التي ارتفعت حدّتها عقب الهزيمة، بالإضافة إلى سياسة عسكرة المجتمعات وتنامي شعور المثقّف العربيّ بالعجز والغربة وفقدان الثقّة نتيجة الإخفاقات والإحباطات على صعيد العمل السياسيّ المتّصلة بإخفاقات الأحزاب الشيوعية العربية وأزماتها، التي بلغت حدّ الانفجار في ظلّ مجازفتها بالإجابات التقليديّة عن سيل الأسئلة حول أسباب النكسة وخيبة الفكر اليساريّ العربيّ، عدا عن تصاعد النزعات الأصوليّة والمُحافظة مُقابل تدعيم الأنظمة الشموليّة لأساساتها.
ضمن هذه الظروف غير الطبيعيّة والمتأزّمة أيضًا، ظهر أنطونيو جرامشي في العالم العربيّ، ولكنّ اللقاء الفعليّ به بدأ سنة 1973 التي لم يعد فيها، كما بيَّن الطاهر لبيب في دراسته “غرامشي في الفكر العربيّ” الواردة داخل كتاب “غرامشي وقضايا المجتمع المدنيّ” (دار كنعان، 1991) والتي أضاف عليها ووسّعها بعد سنوات قليلة ومنحها عنوانًا جديدًا هو “غرامشي في خطاب المثقّفين العرب” التي جاءت أيضًا ضمن كتاب “غرامشي في العالم العربيّ” (المشروع القوميّ للترجمة، 2002)؛ ماركسيَّا بالضرورة، بل إنّه “فقد غرامشيته، ولأنّه فقد غرامشيته رجع الجميع إليه، حتّى من تعارضت آراؤهم معه”.
أمّا بالنسبة إلى اهتمام العرب بفكره، فيعود إلى منتصف السبعينيّات خلال الفترة التي يرى لبيب أنّ غرامشي كان فيها أداة معرفيّة ونموذجًا توضيحيًا، بالإضافة إلى أنّها الفترة التي كان يُشار إليه فيها من بعيد لأنّ ما كان يُرصد آنذاك هو غيابه الذي يعتبره المفكّر التونسيّ غيابًا له حضور قويّ يعود إلى تسلل غرامشي نفسه في الخفاء وعلى مهلٍ إلى مكانته التي تبوأها في خطاب المثقّفين العرب.
قضى مؤلّف “في الوحدة القوميّة الإيطاليّة” أغلب العمر، عربيًا، حاضرًا بغيابه، إذ إنّ التشكّي له سابق للمعرفة به، خاصّةً أنّ لقاء العرب به أساسًا جاء على دفعات ومن خلال كتابات الآخرين عنه كما يذكر لبيب، الذي رأى في سياق تتبعه لرحلة صعود أنطونيو غرامشي عربيًا أنّ العوامل أو العناصر التي جذبت دول المشرق العربيّ إليه هي الملامح الأيديولوجيّة والرؤية الحزبيّة النضاليّة، على العكس تمامًا من المغاربة الذين استهواهم في غرامشي الجانب الابستيمولوجيّ لفكره ولكن دون أن يذهبوا أبعد من ذلك. وتعود بدايات هذا الافتتان المغاربي بغرامشي إلى الجامعة ومحاضرات علم الاجتماع بكلّيّة الآداب في تونس تحديدًا، حيث بدأ المحاضرون بالحديث عنه لطلابهم، الأمر الذي دفع المحاضرين الماركسيين في جامعات دول المشرق العربيّ، لا سيما الجامعة اللبنانيّة وجامعة دمشق بداية السبعينيّات، إلى إدراجه ضمن مقرراتهم الدراسيّة.
أمّا خارج حدود الجامعة وحتّى أواخر السبعينيّات، لم يحدث شيء له دلالته بخصوص غرامشي، باستثناء بعض الأعمال التي يقول الطاهر لبيب إنّ اسم غرامشي ورد فيها، مثل كتاب سمير أمين “الطبقة والأمة” (1972). أمّا بالنسبة إلى فترة الثمانينيات فقد شهدت حضورًا أكبر له في سياق الانشغال آنذاك بقضيّة المثقفين والمجتمع المدنيّ، وهما قضيتان لا يمكن الخوض فيهما دون الرجوع إلى غرامشي الذي سيتحوّل في التسعينيّات إلى مستشار تلجئ إليه مختلف المجتمعات المدنيّة العربيّة باعتباره مرجعًا نظريًّا أساسيًّا لجميع المداخلات المتعلّقة بهذه الموضوعات.
ويشير الطاهر لبيب في دراسته هذه إلى ندوتين كان لهما أثر مهمّ في رحلة صعود غرامشي عربيًا: ندوة “غرامشي والثقافة” التي نظمها المعهد الأعلى للتنشيط الثقافيّ في تونس بالتعاون مع المركز الثقافيّ الإيطاليّ عام 1989، وندوة “المجتمع المدنيّ العربيّ في ضوء أطروحات غرامشي” التي نظمها مركز البحوث العربيّة بالتعاون مع الجمعيّة العربيّة لعلم الاجتماع في القاهرة سنة 1992. وبالإضافة إلى هاتين الندوتين، هناك ثلاث مجموعات من النصوص الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية ضمن كتاب “أزمة الديموقراطيّة في العالم العربي” الذي مثل غرامشي أحد مراجعه أيضًا لجهة التعريف بالتطوّر الذي طرأ على مفهوم المجتمع المدنيّ الذي تُحيل إليه أي مناقشة تخصّ الديموقراطيّة.
على هذا المنوال والوتيرة استمرّ صعود غرامشي في العالم العربيّ، وفقًا لما بيّنه الطاهر لبيب في دراسته التي أشار فيها إلى أنّ المقالات التي كرّستها مجلة “المستقبل العربي” طيلة فترة الثمانينات، وركزت على موضوع الثقافة والمثقفين، يتصدّر فيها غرامشي قائمة أكثر المفكّرين الأوروبيين ذكرًا، يليه سارتر بالترتيب ولكن بفارق كبير. ويشير لبيب هنا إلى أنّ صعود غرامشي في السبعينيّات قابلهُ أفول نجم سارتر، ولكنّ الأمر لم يستمر طويلًا، إذ عاد سارتر من جديد بداية الثمانينّات ولكن ليكون بمواجهة مع غرامشي هذه المرّة.
الخلاصة أنّ أطروحات أنطونيو غرامشي كانت الأقرب للحالة/ الأزمة العربيّة خلال الستينيّات وظروفها المأساويّة المُتعدِّدة من خيبات وأزمات ونكسات وهزائم ومناخات سياسيّة قاتمة استدعت أو أفسحت المجال لهُ بالظهور والصعود باعتباره “دليل عزاء وأمل”، وشخصية فكرية ونضالية قادرة على إيجاد مخارج لجميع هذه الأزمات.
ارتبط إذًا ظهور أنطونيو غرامشي وصعوده أو استعادته وإعادة قراءته قراءات جديدة بأزمات المُجتمعات التي يصعد أو يُستعاد فيها أيضًا، وهي أزمات اتّضح أنّ المفكّر الإيطاليّ يملك مخارج لها، أو يبيّن على الأقلّ طريق الخروج منها. ويبدو أنّ هذه المعادلة القائمة على الأزمات قد أصبحت قاعدة لاستعادة غرامشي الذي سيعاود الظهور عربيًا بعد أن خفت بريقه تقريبًا لسنواتٍ قليلة سبقت الربيع العربيّ الذي أعاده إلى مركز المتن مُجدّدًا من خلال الاستناد إليه أو الاستعانة فيه لتفسير ما يحدث في الميادين العربية، انطلاقًا من تونس ومصر، وصولًا إلى اليمن وليبيا وسوريا أيضًا، بالإضافة إلى العودة المُتكرِّرة إلى أفكاره ومفاهيمه لتقديم قراءات مُتعلّقة بمستقبل هذه الثورات ومآلاتها.
ليست العودة إلى غرامشي وأفكاره في خضم الثورات الشعبيّة المُطالبة بإسقاط الأنظمة القائمة أمرًا مُفاجئًا، بل يُمكن اعتبارها جزءًا من رحلة صعوده في العالم العربيّ طالما أنّ هناك إجماعًا على أنّ أطروحاته تبدو الأقرب للحالة/ الأزمة العربيّة القائمة والمُستمرِّة. وبينما كانت استعادته أوّل الأمر متعلِّقة بمحاولة فهم خلفيات ومآلات هذه الاحتجاجات خلال 2010 وحتّى منتصف 2013، إلّا أنّها أخذت منحىً مُختلف تمامًا بعد مع نهاية 2013 وبداية ولادة المرحلة المضادّة للثورات الشعبيّة عقب انقلاب العسكر في مصر وتحوّل الثورة السوريّة إلى حرب مفتوحة على غرار ليبيا واليمن، وتمحورت حول البحث، ضمن أفكار غرامشي، عن إجابات تُفسِّر وتوضّح أسباب فشل بعض الثورات والانقلاب على أخرى في سياق حالة من انسداد آفاق الثورة والعمل الثوريّ أيضًا وظهور ما سمّاه غرامشي “الأعراض المرضية” بما هي نتيجة للفراغ الحاصل بفعل احتضار القديم وصعوبة أو تعسّر ولادة الجديد، بالإضافة إلى عودة مسائل “المجتمع المدنيّ” وعلاقة المثقّف بالسلطة والجماهير إلى الواجهة أيضًا في سياق النقاش القائم اليوم حول فشل التحوّل الديمقراطيّ، وهما قضيتان، كما ذُكر آنفًا، لا يمكن الخوض فيهما دون العودة إلي أنطونيو غرامشي الذي لا يزال اللجوء إليه مستمرًّا.
————————
تعويم كتلة غرامشي بمفردات التحالف السياسي/ نضال الزغيّر
تحضر موضوعات التحالف من عدمه وإشكالية بناء استراتيجياته وتكتيكات المواجهة مع السلطة، أي سلطة، إلى واجهة المشهد بشكل تدفعه الضرورة عندما تكون البنية المستهدفة ذات خصوم كثر وبتباينات كثيرة. أي عندما تكون السلطة القائمة ضد صالح قطاع واسع ومتنوع من القوى الاجتماعية. ضمن سياق مثل هذا النقاش الأولي، أو بالقرب منه، كثيرًا ما تحضر، عربيًا وغير عربيًا، استعارة أنطونيو غرامشي و”استعادته” بخصوص “الكتلة التاريخية”. يأتي مثل هذا الحضور أحيانًا بدقة وإفادة، وفي أحيان أخرى كثيرة بتلفيقات أيدولوجية وتسويات خطابية سياسية وتجاوزات تحليلية يصلح الادعاء بضررها أكثر من أية إفادة مدعاة من وراءها. فهل يمكن القول، أو استعارة الاستعارة الغرامشية بشأن الكتلة التاريخية عند عتبة كل تحالف سياسي اجتماعي ضد السلطة؟. وهل يكفي العداء مع السلطة، أو شكل من أشكالها، أرضية مشتركة لحديث “الكتلة التاريخية”؟.
لم يسقط المفهوم لدى غرامشي ولا عليه من السماء دون مقدمات. حاله بذلك حال سلة مفاهيمية واسعة اجترحها وعمل على خلق ألفة وتداع بخصوصها ضمن خصوصية موضوعاته إيطاليًا وعماليًا، ليأتي مفهوم الكتلة التاريخية ضمن سياق تراكمي من التأشيرات على الفواعل الاجتماعية وتفاعلاتها في حقل المجتمع المدني ومنه إلى السياسي. كما أتى مفهوم الكتلة التاريخية، وغيره من مفاهيم غرامشية كثيرة، حصيلة الحاجة لترسيمها ضمن انشغال صاحبها في تتبع تحولات السلطة والمجتمع في الثلث الأول من القرن 20 إيطاليًا ضمن إطار تفكير أوسع في الحركة العمالية ونقاشات الأممية والتصورات بشأن الطبقة المعول عليها في ماركسية كارل ماركس لقيادة التغيير الثوري في المجتمع المحكوم للنظام الرأسمالي، أي الطبقة العاملة/البروليتاريا، وحزبها وفق التوصيف الماركسي الذي توخاه غرامشي، أي الحزب الشيوعي. وهو، أي الحزب الشيوعي، أو حزب الطبقة العاملة، ما قدم وأسهم غرامشي في نقاش مسألته كثيرًا وبعيدًا عن التقاط لحظة الأوتوبيا الماركسية والتوقف عندها. ليكون قد خاض بذلك رحلة معرفية مقاتلة غير هينة بخصوص الطبقي والقومي والسياسي والمدني، كما السياسي والعسكري أيضًا، بتجديد ابتكاري شح نظيره على امتداد قرن من الوقت تقريبًا منذ لحظة غرامشي معه.
يوفر استطلاع المفهوم المعني لدى غرامشي والممكنات التي وسعها بخصوصه إمكانية القول أنه قصد إلى الكتلة التاريخية أن تكون في محل تراكم الجهد في التضاد مع السلطة، ليقع نقاشها ضمن سياق التفكير في تفكيك هيمنة وبناء هيمنة مضادة بتكوينات ثقافية وأخلاقية رفقة أدوات مادية مضادة بطبعها لتكوينات الوضع المادي والثقافي القائم. هنا تمامًا يبرز حضور أكثر ما اشتهر عن غرامشي، أو تم تناوله في منجزه، أي المثقف بطبيعته وأدواره. لكن حديث الكتلة التاريخية قد يتكئ على فهم المثقف بعدسة غرامشي، المثقف العضوي وضرورته في بناء هيمنة مضادة، في حين يبقى التركيز على تكوين هذا المثقف تحديدًا، بوصف هذا التكوين مخاض حرج معقد التركيب، بشكل أساسي في ظل تعاطي مفهوم الكتلة التاريخية بوصفها أداة تثوير ديمقراطي للواقع أكثر من كونها عنوان أيدولوجي أو أوتوبيا عريضة أو مجرد مظلة توافقية.
على الرغم من التعويل على أهمية العامل الأيدولوجي والثقافي الحاسمة في تكوين وصيرورة الكتلة التاريخية بوصفها ائتلاف طبقات اجتماعية بقوى ورؤى اقتصادية سياسية وثقافية متعددة، إلا أن الحسم فيما يتعلق بها يبقى رهين الطبيعة البرامجية والأهداف التي يرسمها تشكل مثل هذه الكتلة وحركة واقعها دون أدنى إغفال لميكانزماتها الناظمة وشكل العلاقات ضمنها. خاصة أن الهيمنة الثقافية لقيم سلطة رأس المال مثلًا، كما وصفها غرامشي، تنتقل بالعمال من إحداث ثورة تلتقي مع صالحهم الجماعي، إلى التساوق المتماشي مع قيم النزعة الاستهلاكية الفردانية، بما هي نزوع للخلاص الفردي بتحقيق مستويات من الرقي الاجتماعي على حساب تحقيق تغيير اجتماعي يمكن تسميته بالخلاص الجماعي.
هذا التركيز الشاسع لدى غرامشي على استحضار الكتلة التاريخية ضمن فهم أوسع للهيمنة بكليتها، يحضر من ضمن طبيعة ممارسة سلطة الهيمنة التي لا تكتفي بالعنف المادي بكل ما فيه من قسرية، بل تتعداه كثيرًا لنسخ تصوراتها الثقافية إلى وعي الجماهير. مكرسة بذلك ما فهمه غرامشي على أنه الهيمنة الثقافية أو بناءها وممارستها. بذلك لا يكون مثل هذا الفهم قد ابتعد عن التصور الذي لـابن خلدون بخصوص ولع المغلوبين بتبني تصورات الغالبين عن العالم والتساوق مع هذه التصورات المهيمنة من موقعها كبديهة مكرسة وراسخة بفعل القوى التي تقدمها وتعيد إنتاجها.
هنا تحديدًا، وبوصف الهيمنة الثقافية أداة من أدوات السياسة، أو السلطة وصراعاتها، التي تتداخل ضمن حدود المجتمع المدني وتفرض ما تستطيع فرضه في إطار حدوده وعليها تنجلي الروابط الأكثر خطورة بخصوص الهيمنة الثقافية أداة من أدوات السيطرة. ليصبح الكشف، الذي دعا وبشر بضرورته ميشيل فوكو لاحقًا، وفضح الوجه الحقيقي للمؤسسات والأدوات التي تستند عليها السلطة في صياغة هيمنتها من بين المهمات الأساسية في بناء هيمنة مضادة فاعلة في الصراع ضمن الفضاء المدني ومثله السياسي.
من بين الضرورات التي تحضر عند تناول الكتلة التاريخية بروح الوقت الحاضر المستقبلي تأتي ضرورة من ضرورات سلامة كيلة، الذي أنفق حصة مهمة من الاهتمام بإيضاح التحوير والتعويم الخطير للمفهوم، أي الكتلة التاريخية، بكشف ممارسة لي عنقه على درب إعادة إنتاج وترويج مقولات سوفييتية موطنية، بعيدة حتى عن الفهم الغرامشي لسؤال القومية، تريد للكتلة التاريخية أن تكون جبهة حصرية من نوع سياسي تحالفي قوامه أحزاب وتيارات في الفضاء السياسي بعيد كل البعد عن الهم والاهتمام الغرامشي ببناء كتلة قوامها طبقات وقوى اجتماعية يجمعها سياق الصالح العام المشترك والواسع وتؤسس لها هيمنة ثقافية غير قسرية، بل أساسها القبول العارف. أي تجمعها مفردات أعمق بكثير من تلك التي للتحالف في المستوى السياسي وأدواته المختلفة بطبيعتها.
ليمكن القول أن الكتلة التاريخية النافعة في الفهم الغرامشي وبعض ما تطور استنادًا عليه ليست جبهة معارضة سياسية ولا معارضة بالضرورة بقدر ما هي إرساء أسس توليدية لبناء اجتماعي جديد من شأن إحدى مراحله أن تحقق انعكاسات مرجوة في الحقل السياسي من بين حقول أخرى. هنا ربما يفيد التمثيل على وقائع تتعلق بمدى خطورة التعاطي مع التحالف السياسي أو ما يرجى منه على أنه كتلة تاريخية وما يرجى منها. بمثال الثورة الإيرانية، أو مآلاتها بعد 1979، والمجزرة المفتوحة التي دشنها الخميني بحق كل من أسهم في معارضة وتفكيك نظام الشاه وتسبب في أن يتسلم الخميني وحزبه السلطة. أو مثلًا بالانقلاب السريع الذي شهده رئيس الإكوادور السابق رافاييل كوريا من حليفه السياسي، لـ10 سنوات بحالها، لينين مورينو بعد آخر انتخابات شهدتها البلاد سنة 2017، إذ لم تتوقف حدود مثل هذه الانقلابات عند الإقصاء لأشخاص بعينهم عن السلطة بعد التحالف السياسي معهم، بل تحويل نهج اجتماعي ثقافي سياسي كامل نحو ما يمكن نعته بالاتجاه المضاد تمامًا، وهذه حالة ليست أجنبية عن الواقع السياسي الاجتماعي في أكثر من محاولة تغيير عربية.
إذًا، يستمر مفهوم الكتلة التاريخية بالحضور سياسيًا، بموضوعية نسبه الغرامشي ودونها. لكن ما يفيد عند الركون إلى أي مفهوم يكون بأخذه ضمن خصوصيته التاريخية وممكنات مساءلة نزعاته المادية والثقافية كما ممكناته الحاضرة أمام الوضع القائم. لذلك يبقى في باب الضرورة بشكل من الأشكال اعتبار الفائدة من وراء مفهوم كـ”الكتلة التاريخية” بما هو مفهوم غير سائل ولا مطاط، بقدر ما هو واسع وديالكتيكي تبرز من ضمنه أهمية الأفكار المركزية في الفعل التاريخي وتداخل جوانب كثيرة من جهد غرامشي ضمنه، بداية بالثقافة والمثقف والمجتمع المدني واستيعابه المتدرج الديمقراطي للسياسي والأيدولوجيا/ات وصولًا إلى الحزب والهيمنة ومنهما و/أو معهما نحو حرب المواقع وتوليد “البناء” الجديد.
—————————-
شهادة في فكر أنطونيو غرامشي/ فواز طرابلسي
خلال الحرب، العالمية الأولى، كان أنطونيو غرامشي ( 1891-1937) محررًا في جريدة الحزب الاشتراكي «آڤانتي-إلى الامام». تميّزت كتاباته بالدعوة إلى التنظيمات العمالية القاعدية على غرار «مندوبي المعامل»، في التجربة البريطانية، في مقابل البيروقراطية النقابية وإصلاحية الحزب الاشتراكي. تعززت دعوته بقيام مجالس السوفييت الروسية العام 1917 والتأييد الواسع الذي حازت عليه في الأوساط العمالية الايطالية. أصدر مع زميله پالميرو تولياتي أسبوعية «النظام الجديد» Ordino Nuevo، لسان حال الجناح اليساري للحزب. وما لبث الصحفي غرامشي الذي كان يعلّم العمال ويدعوهم للتنظيم والوحدة، أن انتقل إلى مشاركتهم نضالاتهم بل إالمشاركة في قيادتها خلال انتفاضة «العامَين الأحمرين 1920-1921 إلى جانب القائد الأناركي إنريكو مالاتستا. انطلقت الحركة من إضراب لثلاثين ألفًا من عمال تورينو وانتشرت في إيطاليا الإضرابات وحركات احتلال العمال للمصانع وتسييرها ذاتيًا وظهور فرق «الحرس الأحمر» العمالية المسلحة.
لم تتحول الحركة إلى إضراب عام، وما لبثت أن تقلّصت أمام القمع، وحملات التسريح الجماعية التي لجأ لها أرباب العمل، والغرق في نزاعات مسلحة مع الحزب الفاشي، الذي تسلّم رئيسه بينيتو موسوليني الحكم خلال عام من ذلك.
خلال الحراك، أسهم غرامشي في تأسيس حزب شيوعي من الطراز اللينيني الذي انتخبه قائدًا له وأمضى القائد الشيوعي العام 1922 في روسيا حيث تزوج من عازفة الكمان جوليا شوشت وولد له ولدان، ونال دعم لينين لفكرته إقامة تحالف يساري في وجه السلطة الفاشية يناضل من أجل عودة الديمقراطية. خاض الحزب الشيوعي الإيطالي الانتخابات النيابية العام 1924 وانتخب غرامشي نائبًا في البرلمان. ردت السلطة الفاشية على سياسة الشيوعيين الجديدة بحملة قمع اعتقلت فيها معظم قيادات الحزب إلى أن اعتقل غرامشي نفسه في نهاية العام 1926.
خلال 11 سنة في السجن، سوف ينتج عقل أنطونيو غرامشي – الذي أراد المدّعي العام الفاشي وقفه عن العمل خلال 20 عامًا، واحدة من أغنى النظريات الاجتماعية والسياسية وأكثرها إلهامًا وتحفيزًا على التفكير والإبداع في القرن العشرين.
إذ طلب مني أن أكتب شهادتي عن فكر أنطونيو غرامشي. هذه هي بكثير من الإيجاز:
1-استنطاق التاريخ: المسألة الوطنية-القومية
يشكل كتاب غرامشي «عن الوحدة القومية الايطالية» نموذجًا منهجيًا نادرًا لتفكير ماركسي في المسألتين الوطنية والقومية لا يقيم التعارض بين الوطني-القومي والطبقي بل يعتمد التحليل التاريخي والطبقي لتتبع مسارات وعوامل الترابط والتمفصل والتأثير المتبادل بينهما. والأهم أنه لم ينسق إلى إقامة التعارض بين الوطني-القومي والأممي.،بل اعتبر الثاني امتدادًا للأول.
في بحثه هذا، يكتشف غرامشي عدم التطابق الضروري بين الطبقة الاقتصادية والطبقة السياسية. تستعير البرجوازية، في حقبة صعودها خصوصًا، عناصر من علاقات إنتاج وعلاقات اجتماعية وقوى اجتماعية وأفرقاء سياسيين، سابقة على الرأسمالية لتلعب أدوارها في تمثيل الرأسمالية وتوفير الإطارات لحكمها ولسلطتها ولإدارتها.
فمملكة بييدمونت هي التي قادت مسار التوحيد القومي وجذبت واستقطبت ووحدت نوى برجوازية متفرّقة جغرافيًا، ولكنها ذات مصلحة في قيام السوق القومية والدولة القومية. بذلك وفرت بييدمونت لتلك المهمّة التاريخية أبرز عناصر القوة والتنظيم التي تملكها دولة، أي القوات المسلحة وأجهزة الحكم والإدارة. بعبارة أخرى، لعبت تلك المملكة دور الحزب بالنسبة للطبقة البرجوازية الصاعدة. ويذكّر غرامشي بظاهرة مشابهة في الثورة الفرنسية الكبرى 1789 حيث شكل اليعاقبة فريقًا سياسيًا ينتمي إلى الطبقات المتوسطة، فرضَ نفَسه على البرجوازية، وصاغ لها مشروعها المجتمعي الشامل بما يتجاوز مصالحها الاقتصادية-الحِرَفية المباشرة ودفعَها للذهاب في تحقيقه إلى أبعد مما ترغب بـ«رفسها على قفاها»، على حد تعبيره.
وهنا موقع مفهوم الحزب في فكره. يجمع الوعي والإرادة. يتولى القيادة الفكرية («المثقف الجمعي») والتنظيم. وقد تتولى صحيفة ما تمثيل مصالحًا طبقية أو قطاعية (جريدة «الماتينو» – «النهار» – التي مثّلت المصالح الجنوبية ضد المصالح الشمالية).
2-الدولة/المجتمع المدني؛ السيطرة/الهيمنة
ثنائية الدولة/المجتمع المدني، أو المجتمع السياسي/المجتمع المدني، مفهوم مركزي في فكر غرامشي. يعرّف المجتمع المدني على أنه «مجموع المؤسسات التي عادة ما تسمّي مؤسسات خاصة، أي العائلة والمدرسة والكنيسة وما يسمّيه «العلاقات الاقتصادية»، أي القطاع الخاص. ويعرّف الدولة بأنها شبكة من النشاطات العملية والنظرية لا تكتفي الطبقة الحاكمة بواسطتها بتبرير سيطرتها والمحافظة عليها فقط وإنما تعمل أيضا على كسب الموافقة النشطة من المحكومين. وتشكل هذه الأخيرة «الخنادق الخلفية» للدولة، بالمقارنة مع «خنادقها الأمامية» المكونة من أدوات السيطرة العسكرية والأمنية والقانونية. على أن التمييز بين النطاقين – المجتمع المدني/المجتمع السياسي – تمييز منهجي وليس عضويًا. فكلاهما مندمج، في «الدولة المندمجة» التي لا تمارس نشاطات سياسية فقط بل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية أيضًا.
تمارس الدولة السيطرة أو القسر بواسطة الأجهزة العسكرية والأمنية، وبالقوانين أيضًا. ولا يجوز الاستهانة بالقوانين بما هي «القوة الصامتة» في عملية القسر. أكتب في وقت يكتشف فيه كثير من اللبنانيين، ومن المشاركين في انتفاضة 17 تشرين، أهمية تلك القوة، في غيابها – غياب قانون محاربة الاحتكار؛ وقانون «تضارب المصالح» الضروري لمكافحة الفساد مثلًا– كما في حضورها في مبدأي الاقتصاد الحر والملكية الفردية المكرّسين في الدستور والقوانين. وقد استخدمتهما الأوليغارشية الحاكمة، ومثقفيها” – من خبراء، ومستشارين، وإعلاميين، الخ. – على أوسع نطاق للدفاع عن امتيازات أصحاب المال والسلطة. فباسم الاقتصاد الحر، دافع هؤلاء عن “حق” أصحاب المصارف وكبار المودعين بتحويل أموالهم إلى الخارج، وباسم الملكية الفردية يحارَب مطلب «قص الشعر» لأموال أصحاب المصارف وكبار المودعين، وباسم مبدأ المساواة بين اللبنانيين ترفض الضريبة على الثروة أو الضريبة التصاعدية على الدخل، الخ.
الواسطة الثانية هي الهيمنة، haegemonia، أي ممارسة النفوذ الثقافي، أو القيادة، من خلال منظومة أفكار تشكل خلفية السيطرة الطبقية. وبواسطتها يتحول فكر الطبقة المسيطرة إلى رأي عام أو «حسّ مشترك» يؤمّن طواعية واسعة من المحكومين للسيطرة الطبقية. وجدير بالذكر أن غرامشي أخذ المفهوم عن لينين ووسّعه.
يدعو غرامشي الطبقة الطامحة إلى السلطة – وهي عنده الطبقة العاملة وحلفائها – إلى أن تمارس هي أيضا الهيمنة الثقافية، قبل استيلائها على سلطة – بأن تبلور نظرتها لميزة الحياة والعالم، أي فلسفتها، وأن تخوض الصراع ضد الهيمنة الثقافية داخل المجتمع المدني بتوليد ثقافة مضادة وبديلة. وهو يذكّرها بأن الحفاظ على مواقعها، بعد استلام السلطة، يستلزم الاستمرار في ممارستها دور القيادة، والنفوذ الثقافي، إلى جانب ممارستها القسر.
على أن النضال لكسب الهيمنة الثقافية داخل المجتمع المدني ليس بديلًا عن النضال من أجل استلام السلطة ولا هو يعادل تلك العملية. ولم يؤثر غرامشي واسطة على أخرى. يتعلّق الأمر عنده بلحظتين مختلفتين من لحظات الصراع يميّزهما بالتعبير العسكري: «حرب المواقع»، وهي الصراع داخل المجتمع المدني وبناء المواقع فيه؛ مقابل «حرب الحركة/المناورة» أي المجابهة المباشرة والسعي للاستيلاء على السلطة. يعتمد كل الأمر على توازن القوى بين قوى الثورة وقوة الدولة. وكما ورد أعلاه، دعا غرامشي إلى اعتماد أسلوب «حرب المواقع»، العام 1922، وتعبيرها آنذاك النضال البرلماني، كإجراء «دفاعي»، في وجه صعود الفاشية ومن أجل الأخذ بعين الاعتبار قاعدتها الشعبية. ولكننا لن نجد لديه ما يدعو إلى الاعتقاد بأن «حرب المواقع» بديل دائم عن «حرب الحركة/المناورة». ولا هو توهّم بإمكان إجبار سلطة طبقية على الانسحاب من خطوطها الأمامية إلى خطوطها الخلفية. والحال أن العكس هو ما يحصل عادة عندما تحتدم الصراعات الاجتماعية والسياسية.
غرامشي داعية ثورة على النظام الرأسمالي للانتقال إلى مجتمع اشتراكي. من خلال خوض الصراع الطبقي بأوجهه المختلفة، بما فيها الثقافية والسياسية. والثورات في تعريفه حركات شعبية تسعى للتحويل الجذري في السلطة والمجتمع. لكن حصيلة ذلك السعي تعتمد على القوى التي تقوم بها وعلى توازنات القوى التي تنتجها وعلى أهداف عملية التغيير واتجاهاتها. ومن منوعاتها «الثورة السلبية» التي بها يصف النهضة القومية الإيطالية بما هي عملية تحويل تمّت دون مشاركة جماهيرية فاعلة؛ و«الثورة-الردّة»، التي تسمّى عربيًا «ثورة مضادة»، أكانت حركات دفاع بالقوة عن نظام أمر واقع قائم، أو حركات ارتداد عن النظام، بالسعي للعودة إلى نظام سابق عليه، وقد يكون نظامًا افتراضيًا ينتمي إلى مرحلة تاريخية منقضية، كما في مشروع استعادة الخلافة الإسلامية مثلًا.
ومن مساهمات غرامشي في نظرية الثورة تمييّزُه بين اللحظة السياسية واللحظة العسكرية. فلكل منهما منطقه وأدواته وأساليبه وعقباته وعواقبه، والانتقال من الواحدة إلى الـخرى انتقال نوعي استراتيجي وليس مجرد انتقال ظرفي أو تكتيكي. لكنه يشدّد، في المقابل، على أهمية إخضاع العسكري دومًا للسياسي والقيادة العسكرية للقيادة السياسية.
3-الفوارق الاجتماعية غير الطبقية
تأسيسًا على تجاوز غرامشي الاختزالية الطبقية، يتعرّض بثلاثة أنماط من التناقضات والفوارق الاقتصادية-الاجتماعية: تفاوت النمو بين المناطق الجغرافية؛ التناقض بين المدن والأرياف؛ ثنائية العمل الذهني والعمل اليدوي. وهي ثنائيات أبرز ما يترتّب عليها من مترتبات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية الامتيازات من جهة والحرمانات من جهة أخرى.
-التفاوت المناطقي: يولي غرامشي أهمية خاصة لتفاوت النمو بين شطري إيطاليا: شمال مصنّع وجنوب زراعي. وهذا الأخير موضوع إنتاج غزير لدى غرامشي. على أنه ليا يؤجل حل «المسألة الجنوبية» إلى ما بعد انتصار الاشتراكية بل يرى إلى التنمية المناطقية المتوازنة وحل المسألة الفلاحية بما هما الحل الوطني الذي يعزز وحدة إيطاليا. وفي السياق ذاته، رأى إلى أن التفاوت يستوجب التحالف بين الطبقة العاملة الصناعية الشمالية والفلاحين والوسطى والمثقفين الجنوبيين، بما هو الشرط الحيوي لقيام قوة تغيير قادرة على تجاوز الرأسمالية.
وغني عن القول أن هذا الاستدراك الجغرافي غير قابل للاستخدام من أجل إحلال التفاوت الجغرافي محل التراتب الطبقي كما هو حاصل في عديد من أدبيات المنظمات الاقتصادية والتنموية الدولية التي تُحِلّ قياس الفقر محل قياس التفاوت في توزيع المداخيل والثروات، وتنسب حالة الفقر إلى التفاوت الجغرافي-المناطقي.
– المدينة والريف: هذا التفاوت ليس متطابقًا مع التفاوت المناطقي. على أنه نقطة الانطلاق المنهجية الضرورية عند غرامشي لدراسة القوى الدافعة الأساسية للتاريخ الإيطالي. وقد كتب صفحات لامعة في الدراسة العيانية للطبقات والشرائح والقوى الاجتماعية وتعبيراتها السياسية والثقافية لدى طرفي تلك العلاقة: التمييز في المدن الإيطالية بين مدن صناعية ومدن خدمية من جهة، والتركيز على المسألة الفلاحية بصفتها المحور والمحك في عملية التوحيد القومي من جهة أخرى. ومما كشفه تحايل الطبقات الحاكمة على حق الفلاحين في الأرض بإطلاق الحلم بتمليكهم الأرض في المستعمرات – ليبيا والحبشة وإرتريا، وسواها – وبتحويل جموع فلاحية إلى مستوطنين للسيطرة على سكان المستعمرات أو إلى وقود للحروب الاستعمارية.
-المثقفون: يتعاطى غرامشي مع المثقفين كفئة بتعيين وظيفتهم الاجتماعية بما هي أدوار الضبط والربط والتأويل، إذا جاز التعبير، والتمثيل، القائمة كلها على العمل الذهني مقابل العمل اليدوي. ولا يقتصر الأمر عنده على التمييز بين «مثقفين تقليديين» مرتبطين بالطبقات القديمة و«مثقفين عضويين» أكثر تعبيرًا عن الطبقات الصاعدة (أكانت البرجوازية أو الطبقة العاملة). ومهمة هؤلاء الأخيرين بلورة نظرة شاملة للحياة والعالم لتلك الطبقة في صراعها من أجل الهيمنة والوصول إلى السلطة. إلى هذا، يحلل غرامشي تفاوت الأدوار التي يؤديها المثقفون تجاه الطبقات الأساسية (المحامي تجاه الفلاحين في الجنوب، والكادر الصناعي تجاه العمال في الشمال). وليس يتغاضى، أخيرًا، عن حقيقة الامتياز الطبقي-الاجتماعي-القيمي الذي يحمله العمل الذهني على حساب العمل اليدوي.
———————————–
في أهميّة غرامشي اليوم.. الفِكر – الفِعل، والطريق لتجاوز انسداد آفاق الثورة/ هشام البستاني
في مقدّمته لمقالة “الأمير الحديث” الواردة ضمن أوّل ترجمة موسّعة لمختارات من أعمال أنطونيو غرامشي إلى الإنجليزيّة، يقول المترجم لويس ماركس أن غرامشي استخدم في الدّفاتر التي كتبها طوال فترة سجنه التي امتدت لأكثر من عشر سنوات، وأدّت إلى قتله البطيء، مُصطلح: “فلسفة التّفعيل Philosophy of Praxis”، ليشير بشكل مُبطّن إلى الماركسيّة، فلا يفهمها الرّقباء والسجّانون، وآثر المترجم، بالتّالي، أن يعيد المصطلح إلى أصله داخل النصّ الأنجليزيّ(1). لم يتّفق كوينتِن هور وجيفري نويل سمِث مع هذا الرأي في تقديمهم لترجمةٍ لاحقةٍ لمختارات أوسع من أعمال غرامشي، فهما يقولان: “[مصطلح] ’فلسفة التّفعيل‘ يمثّل شيئين معًا: توريةً عن الماركسيّة؛ ومفهومًا مستقلًّا استخدمه غرامشي ليعرّف ما رآه الخاصيّة المركزيّة في فلسفة الماركسية: الرّابط الذي تؤسسه بشكل لا يمكن فصله بين النظريّة والممارسة، بين الفِكر والفِعل.”(2)
هذا الفهم الثاني هو حتمًا الأقرب إلى ما يمثّله غرامشي كمُفكّر مُمارس ثوريّ، عبّر عمليًّا، وطوال مسيرة حياته القصيرة (توفي وهو في السادسة والأربعين من العمر(3))، عن إخلاصه لمفهوم الفِعْل كعنصر أساسيّ في ثنائيّة لا تنفصم عراها: نظريّة-مُمارسة، معتبرًا إيّاهما شيئًا واحدًا، دون أن يَغفل عن انتقاد مَن ينتقص مِن أهميّة الإطار النظريّ في سياق المُمارسة، ودون أن يتجاهل دور المُمارسة باعتبارها الإطار التجريبيّ الاختباريّ للأفكار من جهة، والمختبر الذي تتولّد فيه الأفكار وتتطوّر وتأخذ أهميّة تاريخيّة من جهة أخرى، فالمُمارسة تُغيّر العالم، وتُغيّر المُمارسين أنفسهم، وبالتالي فإن المعرفة هي عمليّة تحوّل مُستمرّ مرتبطة بالتاريخ، عمليّة تاريخيّة لا مكان فيها للتوقّف والانسحاب إلى الخلف للتأمّل والدّراسة، فالموضوع المدروس يتحرّك في اللّحظة التّالية ويصبح –بمعنىً ما- شيئًا مختلفًا.
يكتب غرامشي: “يمكن للمرء أن يتنبّأ بالصرّاع فقط، لا بفصوله الفعليّة، فهذه الأخيرة ستكون مُحصّلةً لقوىً متعارضة في حركةٍ دائمة، يستحيل اختزالها إلى كميّات محدّدة، ففي الحركة يتحوّل الكمّ دائمًا إلى نوع.”(4) هذا كان نقده لعلم الاجتماع الذي تستند تنبؤاته فقط على المعلومات والقياسات التي تمثّل لحظةً في التّاريخ، وليس التّاريخ نفسه في تحوّلاته التي لا تتوقّف، هذه التحوّلات التي لا تُدرَك حقًّا إلا بالممارسة، بالفِعْل؛ يستطرد غرامشي: “يمكن للمرء التنبُّؤ، بمقدار ما يفعل، وبمقدار ما يقوم به من جهد طوعيّ يساهم من خلاله بالتالي، بشكلٍ جذريّ، بخلق النتيجة المُتنبَّئ بها. يكشف التنبّؤ عن نفسه إذًا لا كممارسة علميّة في إطار المعرفة، بل من خلال التّعبير المجرّد للجهد الذي يقدّمه المرء؛ من خلال الطريقة العمليّة لخلق إرادة جماعيّة”(5) تقوم بدورها، وفي الواقع، بتغيير النتيجة المُتنبئ بها؛ أي: تغيير التاريخ.
في هذه الملاحظة، يبدو غرامشي، حاله حال مجموعة من المُفكّرين المُمارسين الثوريّين، مثل روزا لوكسمبورج وفرانز فانون، راهنًا، وتبدو ملاحظاته التي سنتناول بعضها أدناه بالإشارة والتّعليق والنقد، مفيدةً جدًّا في سياق التحوّلات التي تمرّ بها منطقتنا العربيّة، بشعوبها المسحوقة، وانتفاضاتها المُتتالية، التي تتجسّد فيها “أزمة النّفوذ” (crisis of authority) التي سنأتي عليها لاحقًا، وشخّصها غرامشي بدقّة: “القديم يحتضر، والجديد لا يمكن له أن يولد؛ في فترة الخلوّ هذه، تظهر أشكال هائلة من الأعراض المرضيّة الفظيعة.”(6)
هيمنة السّلطة من خلال مُجتمعين: المجتمع السياسيّ والمجتمع المدنيّ
الدّولة عند غرامشي هي إطار هيمنة، تفرض السّلطة فيه سيادتها من خلال “مُجتمعين”: المجتمع السياسيّ، وتتمثّل فيه القوّة الإكراهيّة العُنفيّة المباشرة مثل الجيش، والشرطة، والقانون، والقضاء، والنظام التعليميّ الرّسمي؛ والمجتمع المدنيّ (وهو غير المصطلح المعروف اليوم الذي يشير حصرًا إلى عالم “المنظّمات غير الحكوميّة”) ويشمل الأحزاب، والنّقابات، والصّحافة، والجمعيّات، والكنيسة، ومجمل الأنشطة “الخاصّة” (private) الناشئة عن المبادرات الذاتيّة أو شبه الذاتيّة، والمستقلّة نسبيًّا عن السّلطة، ويتمثّل فيها شكلٌ أعمق تأثيرًا وأكثر ديمومةً حين يتعلّق الأمر بإخضاع المجتمعات وإبقائها في حالة من “الاستقرار”، إذ تأخذ حالة الاقتناع بالسلطة وبفائدتها، وتعمل على نسج روابط ضمنيّة وعميقة، تتحوّل من خلالها السّلطة إلى مصلحةٍ وضرورةٍ لبقاء المجتمع الذي تتسلّط عليه.
فلنأخذ مثالًا تطبيقيًّا: يُجبر قانون ترخيص الأحزاب (وهو أداة إكراهيّة تنبثق عن المجتمع السياسيّ) أيّ مجموعة اجتماعيّة تريد أن تُساهم في العمل السياسيّ أو أن تشارك في الحُكم، على الطّلب من الدّولة السماح لها بممارسة أنشطتها، ووضع نفسها تحت إشرافها ورقابتها، والتقيّد بتعليماتها، واشتقاق شرعيّة وجودها منها؛ ومن خلال مِنّح تمويل الدولة للأحزاب المشروعة، ومشاركتها في الانتخابات البرلمانيّة (لأنها مشروعة، إذ يحظر القانون مشاركة الأحزاب غير المرخّصة/غير المشروعة)، ونجاحها في الحصول على مقاعد، تتحوّل الأحزاب إلى عناصر في الدولة، ويصير بقاؤها ونفوذها وإمكانيّات توسّعها معتمدًا على الدولة، فيصير الحزب مُدافعًا عن بقاء الدولة/السّلطة بعد أن وقع فعليًّا، وبآليّات ضمنيّة، تحت هيمنتها، وكذلك الأمر في كلّ قطاعات المجتمع المدنيّ، فتتحوّل هذه الأخيرة إلى أدواتٍ لتعميق هيمنة السّلطة، وإلى تحصينات قويّة لها، ويمكننا هكذا أن نفهم ملاحظة غرامشي التّالية: “بعض الأحزاب السياسيّة تؤدّي وظيفة شُرَطيَّة”(7)؛ وأن نفهم ملاحظاته حول النّسق الذي تعمل بواسطته النقابات العمّاليّة داخل إطار الرأسماليّة، إذ “تُنظّم العمّال لا باعتبارهم مُنتجين، بل باعتبارهم مأجورين، أي بكونهم نتاج التنظيم الرأسماليّ للملكيّة الخاصة، وباعةً لعملهم الخاصّ”(8)، واضعة إيّاهم داخل إطار الهيمنة الرأسماليّة، لا خارجه، مثلما تضع الأحزاب نفسها داخل إطار هيمنة الدّولة-السُّلطة، لا خارجه.
بهذا الأمر تحديدًا: اتّساع الهيمنة التي تتمّ من خلال المجتمع المدنيّ، يُفسّر غرامشي فشل الثّورات في أوروبّا الغربيّة بداية القرن العشرين، رغم أنّها مهد الصناعة والرأسماليّة والطبقة العاملة الصناعيّة، ونجاحها في روسيا (المتأخّرة عن ركب التحوّلات الرأسماليّة)، “ففي روسيا، كانت الدولة [المجتمع السياسيّ] هي كلّ شيء، وكان المجتمع المدنيّ بدائيًّا وهلاميًّا. في الغرب، كانت هناك علاقات تامّة بين الدولة والمجتمع المدنيّ، وعندما اهتزّت الدولة، فإن أساسًا متينًا من المجتمع المدنيّ ظهر في الحال. كانت الدّولة مجرّد خندق أماميّ، يتموضع خلفه نظام قويّ من الحصون والمتاريس.”(9)
واضحٌ من تعليق غرامشي أن الهيمنة الناتجة عن نشاط المجتمع المدني، وارتباطه الضمنيّ والعميق بالسلطة، أهمّ بكثير من القوّة الإكراهيّة التي لا يمكن لها أن تحمي الجبهة الدّاخليّة، بل العكس: تخلق التوتّرات والاستقطابات، في حين تعمل الهيمنة الناتجة عن نشاط المجتمع المدنيّ على خلق استتباب ذاتيّ للأمر، وتمسّك بالدولة، ينبع ظاهريًّا وبديهيًّا من داخل المجتمع، لصالح السُّلطة.
ملاحظات غرامشي مُطبّقةً على أحوال المنطقة العربيّة في القرن الحادي والعشرين
على صعيدنا العربيّ المعاصر، تقودنا هذه القراءات الغرامشيّة إلى عدّة ملاحظات:
الأولى: أن السّلطة في الكيانات الوظيفيّة التي نشأت في المنطقة العربيّة بعد فترة الاستعمار، وبتدميرها المُمَنهج لنشوء و/أو تطوّر أي قوى مجتمعيّة مُسيّسة (كالأحزاب، والنقابات، وأطر العمل الأهليّة والشعبيّة)، وتحجيمها وإلحاقها لما هو قائم منها (الصحافة، الجوامع، وكلّ العناصر الأخرى للوجود “الخاصّ” – private)، لم تترك لنفسها إلا خيار القوّة الإكراهيّة في التّعامل مع الناس، وجرّدت نفسها من إمكانيّات الهيمنة (الأعمق) بالمعنى الغرامشيّ، وبالتالي فهي في حالة مستمرّة من “الاهتزاز” الذي يضعها دومًا على الحافّة، تحفر قبرها بيدها، دون وجود قوى داخليّة فعليّة تدفع بها إلى حتفها، فتظلّ –والحال هذا- تمارس القمع داخليًّا، مُضيفة المزيد إلى اهتزازها، بينما تعزّز وضعيّتها –وبالتّزامن- في موقع التبعيّة (إقليميًّا ودوليًّا)، إذ أن اليد الخارجيّة أقوى وأقدر على السير بوضعيّة الحافّة إلى نهاياتها، وبهذا يمكن القول أن السّلطة (بتدميرها وإلحاقها لعناصر المجتمع المُسيّس، والمساهمة بتعزيز تبعيّتها)، تحفر قبرها بيدها، لكنّها –ومن جهة أخرى- تُضعف وتُعطّل وتفكّك القوى الداخليّة التي يمكن أن تدفنها في هذا القبر(10).
الثانية: أن الجزء الأكثر “استقلاليّة” عن السّلطة في قطاعات المجتمع المدنيّ (بالمعنى الغرامشيّ) في المنطقة العربيّة اليوم، هو قطاع المنظّمات “غير الحكوميّة” التي تتلقّى تمويلها، ودعم وجودها، من مؤسسّات دوليّة مانحة، تتبع مباشرة، أو تتلقى تمويلها من، حكومات دول قويّة ومؤثّرة إقليميًّا أو دوليًّا (يبدو وصف “غير الحكوميّة” هنا مُثيرًا للسّخرية). ترتبط استراتيجيّات عمل هذه المنظّمات “غير الحكوميّة”، وبرامجها، وأنشطتها، بمصالح هذه الدوّل المُتمرّسة في الهيمنة الداخليّة والخارجيّة؛ دولٌ تمتلك خطابًا عميقًا وأدوات أكثر منهجيّة ومرونة و”مصداقيّة” وإقناعًا وتأثيرًا وفاعليّة. يؤدّي هذا الارتباط (المباشر أو الضمنيّ) إلى تحوّل “المجتمع المدنيّ” (بالمعنى المتداول اليوم) إلى امتداد لهيمنة دول المصدر، ليشكّل إضافة نوعيّة للوضع المهتزّ للسُّلطة من جهة، ومنافذ لإمكانيّات ولوج النّفوذ والتدخّل الخارجيّين عند الحاجة، من جهةٍ أخرى. هذا مثال على أن الهيمنة (بالمعنى الغرامشيّ)، في سياق الرأسماليّة المُعولَمة، وفي سياق الكيانات الوظيفيّة وتبعيّتها، صارت –إلى حدّ كبير- خارج نطاق تأثير المجتمع السياسيّ المحليّ الذي تُرك له جزءٌ من وظيفة الإكراه، وانتقلت لكونها جزءًا من عناصر المراكز الرأسماليّة نفسها، ويمكن الاستدلال على هذه الهيمنة العالميّة بوضوح من خلال أنماط الاستهلاك العالميّة شبه الموحّدة، والأشكال والتنظيمات المدينيّة المُستنسخة عن النموذج الرأسمالي الأميركيّ المركزيّ في كل أنحاء العالم، ونفوذ مؤسّسات النّظام الرأسماليّ (صندوق النّقد والبنك الدّوليّين) عالميًّا.
الثالثة: مع أن مفهوم “الدّولة” عند غرامشي غير جليّ بشكل كامل، إلا أن الواضح أنّه يعتبرها هيكلًا خارجيًّا لفواعل داخليّة يمثّلها (بشكل عامّ) المجتمعين السياسيّ والمدنيّ، وأن المشروع الثوريّ لغرامشي يقضي باستبدال منظومة الإكراه/الهيمنة للمجتمع القديم (الرأسماليّ) بمنظومة هيمنةٍ أخرى (أكثر رفعة، أو “تمدّنًا” بتعبير غرامشي) هي سلطة اتّحاد العمّال (شمال إيطاليا) والفلّاحين (جنوبه) مع الحفاظ النسبيّ على هذا الهيكل العامّ باعتباره رافعة اجتماعيّة وسياسيّة ضروريّة. فلنتذكّر أن “دولة” غرامشي كانت فيها صناعات ناشئة تحميها الدّولة (على رأسها مصانع “فيات” في تورين حيث تشكّل الوعي السياسيّ لغرامشي، وفيها تأسّست -بمشاركته وقيادته- مجالس العمّال، وصحيفة النّظام الجديد، والحزب الشيوعيّ الإيطاليّ)، وطبقة عاملة خاضت نضالات وإضرابات جذريّة، ووحدة فتيّة نسبيًّا لمجالٍ سياسيّ كان قبلها مُدنًا مُتفكّكة، أي: عناصر دولة سوق موطنيّة واعدة يمكنها أن تسير على طريق التطوّر الرأسماليّ نحو الشيوعيّة(11). في المنطقة العربيّة اليوم، ليس ثمّة دول من هذا النّوع، ولا إمكانيّة لنشوء مثلها في ظلّ تمدّد المراكز الرأسماليّة ليشمل نفوذها (وإعاقتها لتطوّر غيرها من البلدان عن السّير على ذات الطريق) كامل مساحة العالم. ليس لدينا “دول” في المنطقة العربيّة، بل كيانات وظيفيّة، تعمل مجموعاتها الحاكمة على تدمير إمكانيّات تنميتها، وتعزيز تبعيّتها (فهذه وظيفتها الأساسيّة تجاه المجال الخارجيّ الذي يرعى استمراريّتها). لذا، أرى أن “الدولة” في المنطقة العربيّة، إذ تتّخذ صيغة الكيان الوظيفيّ، ليست سوى أداةٍ لتعزيز وظيفيّة المجموعة الحاكمة، وفرض سطوتها، وتعزيز تسلّطها وإعادة إنتاجه، وهي (بحكم وظيفيّتها المرتبطة بالتقسيمات الاستعماريّة التي أنتجتها) جزءٌ أساسيٌّ من منظومة السّيطرة (الداخليّة) والهيمنة (الخارجيّة)، أداة مهمّة لترسيخهما، لا مجرّد مساحة جغرافيّة-سياسيّة محايدة لهما(12).
في تقديمهما للطبعة الألمانيّة لعام 1872 من البيان الشيوعيّ/المانيفستو، كتب كارل ماركس وفريدريك إنجلز استنتاجًا وصلا إليه بتأثير من التّجربة الفعليّة لسلطة العمّال، المتمثّلة بكُمْيُونَة باريس: “شيءٌ واحد أثبتته الكُمْيُونَة بشكل خاص، وهو ’أن الطبقة العاملة لا يمكن لها أن تضع يدها –ببساطة- على جهاز الدّولة المصنوع مسبقًا، وتستخدمه لأغراضها‘.”(13) بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى الدولة البرجوازيّة نفسها، والتي هي دولة بحقّ، كإطار للعمل التحرّري إذ تتماسك وتتعاضد أجزاؤها بعلاقات القوّة التي تحكمها، فكيف الأمر ونحن نتحدّث هنا عن كيانات وظيفيّة تتماسك بعلاقات الفساد والتنفيع والإكراه والتبعيّة والزبائنيّة؟
البرلمانات الصوريّة باعتبارها أسواقًا سياسيّةً سوداء
امتدادًا لمفهوميّ الإكراه والهيمنة، وأشكال “المؤسّسات” الجوفاء التي تُميّز الكيانات الوظيفيّة، يعتبر غرامشي وجود برلمان صوريّ مُفرغٍ من مضمونه، ونظامٍ حزبيّ شكليّ، أخطر من البرلمانيّة الواضحة، البيّنة، الصريحة، الفعّالة(14)، فالأول يحمل عيوب الثانية دون إيجابيّاتها، ويلعب دور “الأسواق السوداء، أو أشكال اليانصيب غير القانونيّ عندما يتم إغلاق الأسواق الرسميّة وأشكال اليانصيب الشرعيّ لسبب أو لآخر”(15). هذه المنظومة الديكوريّة(16) تلعب دورًا تعويضيًّا نسبيًّا عن غياب المجتمع المدنيّ ودوره في الهيمنة في المنطقة العربيّة، وتشكل دعامات خلفيّة ضعيفة، ولكنّها مركزيّة، لسلطة الإكراه؛ شيء يشبه دور الجمعيّات الخيريّة في سياق الرأسماليّة: فبينما تُنتج الرأسماليّة أزمات كبرى تتمثّل في الفقر وانعدام المساواة والعدالة والتفاوت الهائل في الدّخل وتدمير البيئة، تعمل الجمعيّات الخيريّة على التّرقيع الموضعيّ لهذه الأزمات، وتنفيس آثارها قبل أن تصل إلى نقطة انفجار الجياع، ويتمّ ذلك بواسطة جيوب الناس الخاصّة، وتطوّعهم أحيانًا كثيرة دون أجر، الأمر الذي يعمل على مساعدة واستدامة النّظام نفسه الذي ينتج هذه الظواهر من جانب، والتّعمية على دوره في إنتاج الظّلم عبر التّركيز على المسؤولية الفرديّة والشخصيّة (سواءً فيما يتعلّق بالفقر، أو بالعَطَاء) من جانب آخر.
مارس غرامشي هذه القناعة بشكل حقيقيّ أثناء عضويّته في البرلمان الإيطاليّ، وخلال الأيام الأخيرة التي سبقت إحكام الفاشيّة قبضتها على البلاد، واعتقاله، فـ”انضم غرامشي والنواب الشيوعيّون الآخرون إلى المعارضة البرلمانيّة، لكنّه أصرّ على استحالة العمل بفاعليّة من داخل [إطار ومُحدّدات] الدّستور. اقترح [غرامشي] إعلان إضرابٍ عام ضدّ الفاشيّة، لكن الأحزاب الأخرى رفضت الاقتراح، وظلّت على عماها تعتقد أن القوّة تكمن في البقاء داخل إطار القانون بانتظار تدخّل الملك.”(17)
ما أشبه اليوم بالبارحة، فما زالت كثرة من القوى السياسيّة والمجتمعيّة المختلفة تعتقد –بسذاجة- أن “القانون” و”الدستور” وتفريعاتهما هي أطر كليّة فوقيّة مُحايدة، لا تاريخيّة، تسري على الجميع بحزمٍ متساوٍ، دون أن تدرك أنّها مجرّد تعبيرات سياسيّة عن مصالح السّلطة (الطبقة المُهيمنة في حالة “الدولة”، والمجموعة الحاكمة في حالة “الكيان الوظيفيّ”)، وقواعد للّعبة تضعها للآخرين، وتَنتج أساسًا عن توازنات القوى داخل المجتمعات ذات العلاقة، أو عن التوازنات الإقليميّة والدوليّة (كما في حالة المعاهدات والاتفاقيّات)، أو عن سطوة الرأسماليّة وأدواتها التدخّليّة (كما في خطط إعادة الهيكلة الاقتصاديّة والخصخصة ورفع الحماية عن المُنتجين المحليّين في الأطراف)، وعندما تتغيّر موازين القوى، أو تتغيّر مصالح السّلطة، أو تحوز القوى الاقتصاديّة العالميّة على إمكانيّات تدخّليّة أكبر، يُلقى بما هو غير مناسب من الدّساتير والقوانين في القمامة، مثلما حصل مع غرامشي نفسه (تمّ اعتقاله على الرّغم من حصانته كعضوٍ في البرلمان، ومات في سجنه)، ومثلما يحصل يوميًّا في المنطقة العربيّة من خروقات واضحة للدّساتير والقوانين من قبل السّلطة التي وضعتها، كمثالٍ يوضّح الطبيعة الإكراهيّة-العنفيّة المرنة لأطر تبدو خارجيًّا مُحايدة وكليّة وصلبة؛ أمّا التمنيّات المتعلّقة “بضرورة أن يطبّق القانون على الجميع”، فهذه لن تتجاوز مربّع الطوباويّة التمنيّاتيّة، إن لم تقترن بتغيّرٍ يفرضها في موازين القوى.
التقويض الفعّال: استنتاجات غرامشيّة مُهمّة لثوريّي القرن 21
من الواضح اليوم أن العمل التغييريّ من داخل إطار “الدولة” أو الكيان الوظيفي، في وضع تمتلك فيه السّلطة كامل قدرات السّيطرة والعنف، مضافًا إليها إمكانيّات الإغواء والاحتواء في ظلّ عدم وجود تنظيمات حقيقيّة قادرة على استبدالها، هو شكل من أشكال التفريغ المستمرّ للأزمات والغضب الناتج عنها، وهو أيضًا آليّة تُساعد المجموعات الحاكمة على اشتقاق إمكانيات وظيفيّة أخرى ومستجدّة لنفسها، تطيل بها عمرها، وتؤخّر به دفنها في القبر الذي تحفره لنفسها(18).
يقول غرامشي (وسأقتبسه مطوّلًا للأهميّة): “إن فقدت الطبقة الحاكمة الإجماع، أي أنّها لم تعد ’تقود‘ بل ’تسيطر‘ وحسب، تمارس القوّة الإكراهيّة فقط، فإن هذا يعني أن الجموع قد انفصلت عن أيديولوجيّاتها التقليديّة، ولم تعد تعتقد بما اعتقدت به في السابق [بخصوص السّلطة]”(19)، وتتشكّل بذلك “أزمة النفوذ” التي تخلق “مباشرةً أوضاعًا خطيرة، لأن الشرائح المختلفة من المجتمع لا تملك نفس القدرة على إعادة التموضع أو إعادة تنظيم نفسها بنفس الوتيرة. الطبقة الحاكمة التقليديّة، والتي تملك موظّفين كثيرين مُدرّبين، تُغيّر البرامج والشخصيّات، وتعيد مسك زمام التحكّم الذي كان بدأ بالتملّص منها، بسرعةٍ أكبر من الطبقات الخاضعة؛ كما تقوم [الطبقة الحاكمة في هذه الأوضاع] بتقديم التّضحيات، وتعريض نفسها لمستقبلٍ غير مأمون العواقب، بإطلاق وعودٍ ديماغوجيّة، لكنّها تُحافظ على السّلطة، وتقوّيها للفترة الرّاهنة، وتستخدمها لسحق خصومها وتفريق قياداتهم، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا كثرًا، أو مدرّبين بشكل جيّد.”(20)
ربّما يجد القارئ في الفقرة أعلاه، ما يحيله مباشرة إلى مصير الانتفاضات المعاصرة في أكثر من بلد عربيّ؛ انتفاضات انطفأت بتحرّكات للسّلطة على نفس المسار الذي أوضحه غرامشي قبل قرن من الزمان. الحلّ؟ يمكن استنتاجه من غرامشي في سياق آخر شبيه: “الدرس من السّنتين الحمراوين [في إيطاليا، 1919 و1920 اللّتان حصلت فيهما التحرّكات الثوريّة للعمّال في تورين، وفشلت] هو أنه كان على القوّة الثوريّة أن تكون موجودة قبل تلك اللحظة.”(21) ينبغي إذًا التّحضير للثورة مُسبقًا قبل انفجارها، والتأسيس لها، لا انتظار الانتفاضات الشعبيّة ليبدأ التّفكير بعدها، وهذا التّحضير، والبناء اللازم له، يجب أن يتمّ خارج أطر سيطرة السّلطة بالكامل، وضمن ثنائية الهدم-إعادة البناء(22) التي يمرّ عليها غرامشي عَرَضًا في كتاباته، وفي إطار ما تسميّه روزا لوكسمبورج “المهمّة التاريخيّة للبروليتاريا”: تصفية الدولة الموطنيّة المعاصرة باعتبارها “الشكل السياسيّ للرأسماليّة”(23)، وامتدادًا لذلك: تصفية الكيانات الوظيفيّة باعتبارها الإطار الفعّال الذي تعمل من خلاله الرأسماليّة في الأطراف. من هذه التّصفية/الهدم-إعادة البناء، سأصوغ ملامح أوليّة لما سأسميّه: التّقويض الفعّال.
يمثل “التّقويض” عند غرامشي (وبالمفهوم “الإيطاليّ”، كما يورد) موقعًا طبقيًّا سلبيًّا، وينتج عن كون النّاس لا يعون بوضوح أن لديهم “أعداء [طبقيّين]”، فيعرّفونهم بشكل عموميّ باعتبارهم “السّادة – signori”(24)، وهو ما نجده بتناسخٍ آخر اليوم، حين يشير الناس إلى “الفاسدين”، باعتبارهم كتلة غير واضحة المعالم، تنهال عليها الشتائم، ولا يمكن الإمساك بها فعليًّا، وغير مُحدّدة طبقيًّا، في حين تندرج المُمارسات التقويضيّة مثل: سرقة الكهرباء والماء من الشبكة العموميّة، وتشغيل السيّارات الخاصّة كسيّارات أجرة للعموم خارج إطار التّرخيص الرسميّ، وبيع المنتجات دون فواتير وإبقائها خارج النّظام الضريبيّ للسُّلطة، وصولًا إلى إلقاء القمامة في الشوارع، وغيرها من أمور، ضمن أشكال الفِعْل الفرديّة والانتقاميّة المضرّة نسبيّة بالسُّلطة، لكنّها لا ولن ترقى إلى التحوّل إلى قوّة منهجيّة وواعية وثوريّة.
مقاربة التقويض الفعّال تتضمّن عنصر البناء المرافق دومًا للهدم، ففي موازاة تعرية عناصر الإكراه والسّيطرة، وتفكيك أشكال البرلمانيّة والحزبيّة الشكليّتان، ودفع السُّلطة بشكل مستمر إلى نقطة “أزمة النفوذ”، يُشيّد بموازاة مساحات السُّلطة، وخارج مناطق نفوذها، مساحاتٌ لـ”الحكم الذاتيّ”، يرد ذكرها في برنامج صحيفة غرامشي، النّظام الجديد، بخصوص العمّال، لكن يمكن تعميمها على قطاعات المُضطهَدين بشكل أوسع: “فلندرس المصنع الرأسماليّ، لا باعتباره منظّمة للإنتاج الماديّ (…) بل كإطارٍ ضروريٍّ للطبقة العاملة؛ باعتباره كائنًا سياسيًّا حيًّا؛ باعتباره ’المساحة الموطنيّة‘ للحكم الذّاتي للعمّال.”(25) تشكّل هذه المساحات مختبرات الممارسة الفعليّة لأشكال المجتمعات المستقبليّة، وتطوير أدواتها، لتكون جاهزة لحظة صعود الأزمة إلى نقطة الانفجار.
كما تبدأ هذه المساحات من خلال التثقيف العامّ الواسع كأداة أساسيّة لفلسفة التّفعيل، تُلغي “الوعي المزدوج” أو”المتناقض” للمضطهَد: وعيه العمليّ الذي يحوزه من خلال مساهمته (بواسطة عمله) بتغيير العالم، وتغيير نفسه من خلال هذا الّتغيير؛ ووعيه النظريّ الموروث عن الماضي الطويل، والذي يقبله هكذا دون سؤال أو نقد؛ وقد يؤدّي هذا الوعي المتناقض إلى حالة من السلبيّة السياسيّة، والانسحاب.(26) ويتمّ هذا التثقيف من خلال فهمٍ حاد لدور “المثقّف”، بحثه غرامشي بتوسّع، ولن يتاح لنا هنا الخوض فيه، باستثناء الإشارة إلى “المثقفين [الذين] هم ’ضبّاط‘ الطبقة الحاكمة [الموكول إليهم] القيام بالوظائف التّابعة المتعلّقة بالهيمنة الاجتماعيّة والحكم السياسيّ”(27)، وتدمير هذا النّسق عبر ما يراه غرامشي من تمكين لأكبر شريحة ممكنة من الناس من التفكير النقديّ (لا الدعائيّ، فتلك مهمّة المثقّف-الضابط العامل عند السّلطة)، وتحويل الفلسفة (من خلال التماسّ مع الناس) إلى”التّاريخ مُمَارسًا (in action)، إلى الحياة بذاتها”(28)، فيحصل الناس على وضع مُشخّص، مُعيّن، مقابل وضعهم السّابق غير المتبلور(29)، ويتمكّنون بواسطة أميرهم الحديث (الذي أثبتت التجارب المتتالية ضرورته): التنظيم السياسيّ الثوريّ، من تغيير التاريخ.
الهوامش:
Antonio Gramsci, The Modern Prince and Other Writing, translated by Luis Marks, International Publishers, 2016 (1957), p. 57
Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks, edited and translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith, International Publishers, 2018 (1971), p. xiii
Antonio Gramsci, Prison Notebooks Vol. I, edited by Joseph A, Buttigieg, translated by Joseph A. Buttugieg and Antonio Collari, Columbia University Press, 1992, p. 1
The Modern Prince, p. 101
نفس المرجع أعلاه، نفس الصفحة.
Selections, p. 276
The Modern Prince, p. 152
برادراغ غرانيكي، أنطونيو غرامشي ومعنى الإشتراكيّة، في: جاك تكسيه، غرامشي: دراسة ومختارات، ترجمة: ميخائيل إبراهيم مخول، مراجعة: جميل صليبا، دمشق: منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1972، ص 237
Selections, p. 238
للمزيد حول هذا الموضوع، أنظروا: هشام البستاني، النظام العربي مُنتجًا موته: قراءة تطبيقيّة في الحداثة السائلة، حبر، 31 كانون الثاني 2017، https://www.7iber.com/politics-economics/liquid-modernity-in-the-arab-context/ (تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020)
أنظروا تعريفاتي حول “الموطنيّ” و”الموطنيّة” مقابل “القوميّ” والقوميّة” و”الوطنيّة” في: هشام البستاني، عندما يُخطئ لينين: حق تقرير المصير في عالم السوق المفتوح والكيانات الوظيفيّة، حبر، 24 تشرين الأول 2017، https://www.7iber.com/politics-economics/right-to-self-determination-in-a-free-market-world/ (تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020)
للمزيد عن تعريفي للكيانات الوظيفية وأفق عملها أنظروا: هشام البستاني، التبادل الوظيفي للدول الوظيفيّة، الإصرار على حل الدولتين في فلسطين، حبر، 22 حزيران 2017، https://www.7iber.com/politics-economics/why-arab-regimes-insist-on-two-state-solution/ وأيضًا: هشام البستاني، لم يسقط حُكم الصّندوق: كيف تُوظّف السّلطة الحركات الاحتجاجيّة لتمكين اللّبرلة والتسلّط، حبر، 20 آب 2019، https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%84%d9%85-%d9%8a%d8%b3%d9%82%d8%b7-%d8%ad%d9%83%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%86%d8%af%d9%88%d9%82/?%3E (تم الدخول إلى الرابطين يوم 2 نيسان 2020).
Karl Marx and Friedrich Engels, The Communist Manifesto, Penguin, 2002 (1888), p. 194
في نقد “البرلمانيّة” وآثارها الاحتوائيّة لصالح الرأسماليّة، أنظروا: Rosa Luxemburg, Social Democracy and Parliamentarism, Rosa Luxemburg Internet Archive (marxists.org), 2000 (1904), https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1904/06/05.htm (تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020).
Selections, p. 255
عضو مجلس النواب الأردني المخضرم عبد الكريم الدغمي يقول: “نحن مجرّد ديكور”، في: برنامج صوت المملكة، قناة المملكة، 19 تشرين الثاني 2019، https://youtu.be/zw5ztYHYVBU (تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020).
The Modern Prince, p. 17
أنظروا: هشام البستاني، لم يسقط حُكم الصّندوق: كيف تُوظّف السّلطة الحركات الاحتجاجيّة لتمكين اللّبرلة والتسلّط، مذكور سابقًا
Selections, pp. 275 – 276
The Modern Prince, pp. 174 – 175
Chris Bamberg, A Rebel’s Guide to Gramsci, Bookmarks, 2006, p. 55
Selections, p. 168
Rosa Luxemburg, The National Question (1909), in: Horace Davis (ed.), The National Question: Selected Writings By Rosa Luxemburg, Monthly Review Press, 1976، ويمكن الوصول إلى الكتاب من خلال أرشيف الإنترنت الماركسيّ: https://www.marxists.org/archive/luxemburg/1909/national-question/index.htm (تم الدخول إلى الرابط بتاريخ 2 نيسان 2020)
Selections, p. 272
The New Prince, p. 23
نفس المرجع اعلاه، ص ص. 66 – 67
نفس المرجع، ص 124
نفس المرجع، ص 81
نفس المرجع، ص 73
———————————
ملف من اعداد موقع الترا صوت
==================================