حبوب للسعادة/ هدى ديبان
لست سعيدة يا أمي.
بحثتُ عن السعادة بأدواتي التقليدية، حملت مجرفة صغيرة ونبشت تربة قلبي، حفرت عميقًا لأجدها، باعدتُ ما بين الأوردة وبحثت هناك كمن يبحث عن جرّة الذهب المدفونة بإشارات غامضة تدل عليها ولا تدل..
عدت من هناك خائبةً ومتعبة، لم أعثر على قطعة لامعة واحدة..
وجدت كلامًا ثقيلًا وصورًا تالفة ونصالًا صدئة..
أعدت ردم كل شيء بصمت وذهبت الى الباب.. قلت لا بد أنها خلف هذا الباب، سأفتحهُ وأخرج ولن أعود ثانية..
سرتُ مع الليل في طريق طويل..
سامرتُ الضباع وبنات آوى وافترستُ صوت الخوف داخل روحي..
صعدت التلال وعويت مثل ذئبة تشتمّ رائحة الموت في المكان..
نزلتُ النهر وعبرته إلى أن ابتل عنقي.. نزلت أكثر..
رفعت حصاه واحدة واحدة كمن ينبش قبرًا فلا يعثر على جثته التي دفنها بيديه للتو..
لا بوصلة لدي لتدلني على جهة التوقع..
مشيت الى البحر كسلحفاة ولدتْ للتو لا تعرف سوى رائحة الطريق وغريزة الهرب إلى المجهول من المجهول..
تركت بلدًا ليس لي لأذهب إلى بلدٍ ليس لي..
الخرائط الإلكترونية التي تحدد موقعي حتى وأنا نائمة وأحلم أني في الـ”هناك” كاذبة. هي لا تعرف أين أنا تمامًا، ولا أنا أعرف أيضًا..
أذكر أنني مشيت مكبلةً مع من ساروا إلى الزنازين… نظرت في عيونهم، كانت أرواحهم بعيدة ووجوههم صامتة لا تدل على جهة الوجع كي لا تثير الشفقة..
تبعتهم إلى ساحة الإعدام، رفعت أعناقهم المدلاة على صدورهم، بحثت تحت ألسنتهم عن كلمة واحدة، نظرت إلى أصابعهم أن تدلني على شيء.. تركتهم لسلامهم ومضيت..
لا أذكر بعدها كم غابة قطعت.. كم نفقا.. كم نهرا.. كم شتاء… كم وداعا..
أبحث عن سعادة تحت الشمس.. أرفع إبط القطة النائمة.. أفتح صنبور الماء.. صندوق البريد.. الأدراج.. صناديق الأحذية الفارغة.. خزائن المطبخ.. علب السردين وسائل الجلي..
قلبت فناجين القهوة.. قرأت الطلاسم على أنها مشيئة..
ثم قلت لا بد وأنها تختبئ قريبة مني.. قصصت شعري وأظافري.. وأثوابي الطويلة.. وستائر الشرفة..
ثم قلت.. ربما هي وهم.. نتراءاه فنصيره أو نتشبه به..
ذهبت الى عرافة تعيش في نيو دلهي.. فدلتني على أثر قرب النهر.. نظرت إلى صخرة، قلت ما بالها تجلس وسط النهر وتمضي عمرها في ارتطام الموج لتصنع زبدا ويتلاشى..
تركت النهر والأثر وذهبت إلى الله فدلني على الطريق المعقودة بين حيرتين على شكل خيط.. وقال لي سيري… سيري بخفة الطير..
رميت حمولتي الزائدة من أناس أحياء وأموات بنوا بيوتًا ومقابر داخل روحي وقطنوا بطمأنينة الدفء.. رميت كتبا كثيرة.. محطات وحدائق ومقاهي زرتها ولم تخرج مني..
رميت نعاس الظهيرة.. وكمية السكر الزائدة في دمي.. رميت صرر الملح الثقيلة في دمعي.. تلبك أمعائي.. رجفة أصابعي.. دقات قلبي المتسارعة.. لهاثي.. وقلة حيلتي..
وقفت على ذاك الخيط المسمى صراطا..
فتحت ذراعيَّ كجناحيّ الطير فارتفعت، طرت بعيدًا عن الجهتين..
هبطت أعالي سلاسل الكوردييرا.. حيث لم تطأ قدم من قبل..
نبشت أعشاش طيور السمامة التي هاجرت ولم تعد..
دخلت مغاور الجن النائمين هناك في منفاهم الأبدي.. نظروا إليّ ومسدوا ذقونهم البيضاء الطويلة.. لم أفهم كلماتهم الغاضبة.. إلا أنهم أشاروا بعصيهم إلى الطريق الهابط نحو السفح، فنزلت ..
اقتربت من قرنيّ الماعز العجوز.. مددت يديّ فجفلتُ.. تسللت أوكار الثعابين فلُدغت..
ذهبت الى اليمن
زرت بيوته المعلقة على أصابع الجبال، بدت وكأنها ممالك بناها النمل وهجرها، ثم استطابها الغبار فاستكانت له
لم أجد بلحًا ولا سمكًا
وضعت قدميّ في الرمل وكان طريّا
قلت
هنا خدَع الهدهد ملكًا وأغوى بخاتمه ملكةً عاشقة
وهنا دفنت خاتمه وقلبها
وهنا لم يزل دمها ينزّ والناس سكارى.. يأكلون شجر الحكاية وينجبون طوائف من لعنة السيف والرأس المعلّق.
هنا انتهت القوافل، خسر البحّارة حلمهم في العبور من مضيق الشمس
رموا توابلهم في البحر
طعنوا بطون الإبل بخناجرهم ليشربوا ترياق صبرها
ومضوا إلى عدن، يبحثون تحت جلدها.. في رحمها.. في حجر عينها.. عن الجنة
ثم عدت
عدت من غيبوبة ظننتها ضربة شمس أو هفوة قلب..
تذكرت المعنى
ذهبت للقاء فرانكل فلم أجده.. كنت قد تركته يعاين ألم المحرقة وهلوسات الطاعون الأخيرة.. أين أنت يا صديقي وكيف نجوت ولم تعد..
جئتك بحكايتي، فلديّ من الفقد ما يشبه التهاب الروح..
صف لي دليلًا أو سبيلًا لأشفى
فلو قُدّر لي أن أعود
سأترك الوقت يأكل أصابعي قبل أن تذوي
سأترك النار لشغلها في قلوب الناس وأعيش كسمكة الزينة في سطل ماء
أو ربما أختار أن أغزل شرنقة حول عنقي، فإن نجوت.. طرت
لكن هذه مقتلة الشعراء ومصيدة الزاهدين
فهل أرافق الدراويش في دورانهم بين الشرود وبين اليقين..؟
هل أتبع المساكين والعجزة وأبناء السبيل والمطرودين من كل أرض؟ دلني أيها التبريزي عن سرّك..
خذ بيدي الى ضوئك المفقود..
سمني بألوان طيفك وقل لي كيف انتهيت إلى موتك بلوثة العاشق؟
أوتضحك علي؟
– يا ابنتي إن الذي يصغي لروحه لا يتوه
– لكنني فعلت
– إذًا لا تقربي نار الأوليين.. ولا صوتهم .. لا تدوري في هذيانهم، إنهم نادمون
تركت جثة العاشق ومضيت
قلتُ في سرّي لعل الأمر انتهى، فالأشياء قد تنتهي أيضا إلى اللاشيء..
من وجد ضالتي بعد رحيلي فهي له..
أورثهُ سعادتي وأوصيه أن ينفقها أو يتبرع بها للحزانى في يوم عيد..
أو أن يهبها للبلاد لتعيد إعمار روحها غابة إثر غابة.
*كاتبة فلسطينية مقيمة في هولندا