أعمال فنية هربت من جحيم الحرب السورية إلى هول التفجير ببيروت/ زينة شهلا
بعد مرور شهرين على التفجير الذي عصف بالعاصمة اللبنانية بيروت، تاركاً وراءه خسائر بشرية ومادية هائلة، يتقاسم فنانون سوريون تبعات هذا التفجير على المشهد الفني مع فناني لبنان، لتبقى عيون الجميع معلقة ليس فقط على لوحاتهم ومنحوتاتهم التي كانت هناك ساعة الحدث المؤلم، وإنما على المصير المحزن للعاصمة التي فتحت بالنسبة لهم ولفنهم نافذة أطلوا منها على العالم.
خلال الحرب السورية التي ستختتم عامها التاسع قريباً، تحولت بيروت إلى حاضنة استضافت مئات الأعمال الفنية السورية، حيث اختار أصحابها النجاة بها من أتون حرب مدمّرة ومشهد ثقافي متصحّر، نحو البلد المجاور الذي ظل طوال سنوات ملاذاً سهل الوصول للسوريين على اختلاف مهنهم وأشغالهم، إلى جانب كونه مركزاً ثقافياً بالغ الأهمية في المنطقة.
لكن يوم الرابع من آب الفائت، مع كل ما حمله من دمار ومآسٍ لبيروت وسكانها وشوارعها وأبنيتها، شكّل علامة فارقة أيضاً لرسامين ونحاتين ومصورين سوريين لم يغادروا بلدهم، لكن النزوح كان مصير منتجاتهم الفنية، ليلحقه أيضاً الدمار والتشوه، وإن بطريقة مختلفة ربما.
حتى الآن لم أسأل عن مصير أعمالي
في العام 2013، اختار الخطاط والتشكيلي السوري منير الشعراني أن يبدأ محطة فنية جديدة في بيروت، فكان أول معرض له هناك ضمن صالة Art on 56th الواقعة في حي الجميزة الشهير، وسط المدينة، وأتبعه بمعرضٍ ثانٍ بعد حوالي عام ونصف، كانا فرصة لرواد المكان للاطلاع على مختارات من أعمال الفنان الذي اشتهر بتطوير الخط العربي واستخدامه بشكل فني وتطويعه أيضاً للحديث عن قضايا راهنة مرتبطة بما تعيشه سوريا والمنطقة.
وكما هو العرف الفني، وبعد انتهاء المعرضين، احتفظت الصالة ببعض أعمال الفنان لمتابعة عمليات بيعها أو عرضها على الزبائن، ويبلغ عددها حوالي خمسة عشر عملاً.
“هي بمثابة فسحة لأعمالنا، نحن الفنانين السوريين”، يقول الشعراني أثناء لقاء مع رصيف22 في مرسمه بحي المهاجرين بدمشق. ويضيف بأن هذه الفسحة، رغم أنها ضاقت في العام الأخير بسبب التطورات التي عاشها لبنان بعد ثورة تشرين الأول/أكتوبر، لكنها بقيت أكثر حيوية من سوريا المثقلة بسنوات الحرب، والتي غابت المعارض والفعاليات عن دورها الثقافية بشكل ملحوظ، كما افتقدت لرواد ومحبي الفن ممن اعتادوا زيارتها بهدف الاطلاع أو اقتناء الأعمال الفنية.
وقبل التفجير، اعتاد الفنان التواصل مع إدارة الصالة بشكل دوري للاطلاع على أخبار لوحاته، لكن الأمر اختلف بعد ذلك اليوم المفصلي. “لم يعد السؤال عني أو عن لوحاتي، وإنما بات الأهم هو الاطمئنان على حال المدينة التي يربطني بها تاريخ طويل يعود لعقود مضت، وعلى حال أصدقائي فيها، ومن ضمنهم مديرة الصالة والعاملين هناك، وقد أصيبوا فعلاً بجروح بعضها بليغ”.
ومع أسفه الشديد للدمار الذي أصاب بيروت ووسطها الثقافي النابض بالحياة، يخبرني الشعراني بأنه لم يسأل حتى اليوم عن مصير أعماله، فهي ليست أغلى من كل ما حصل، والخسائر تبقى أسهل عندما تلمّ بالأمور المادية وليس بالإنسان، وفق تعبيره. “هي ليست المرة الأولى التي أكون فيها أنا وأعمالي شاهدين على أحداث عاشتها المنطقة برمتها، ومنها الحرب الأهلية اللبنانية وحرب الجزائر والحرب السورية وأخيراً أحداث لبنان. لا يعتريني الخوف على أعمالي وأستمر بإنتاجها فأنا لست مستعداً لليأس”، يقول.
مع كونه أحد الوجوه البارزة في مجال الإدارة الثقافية بسوريا، عمل سامر قزح، وهو صاحب غاليري قزح في دمشق القديمة، على نقل جزء من الأعمال الفنية التابعة للصالة إلى لبنان ابتداء من العام 2013، والسبب هو “الخوف عليها من الحرب والأذى، ولفتح مجال لنشاط الفن التشكيلي السوري في البلد المجاور، ومنه لباقي دول العالم، إضافة لسهولة الشحن والحركة من وإلى لبنان”، وفق حديثه مع رصيف22.
وخلال الأعوام التالية، ومع انتقاله أيضاً للعيش في لبنان، أقام قزح العديد من المعارض في بيروت، منها “Syria Contemporary Art Fair” و”العشاء السوري الأخير”، إضافة للمشاركة في “Beirut Art Fair”. وحتى بعد عودته لسوريا مطلع العام 2017، احتفظ بعشرات اللوحات في أماكن متفرقة ببيروت بهدف الاستمرار بالنشاط الفني هناك.
“بيروت هي رئة دمشق، ودمشق هي عمق بيروت، وبين المدينتين علاقات مجتمعية وعائلية وطيدة لم تتمكن أي حرب من النيل منها”، هكذا يتحدث قزح عن شعوره تجاه العاصمتين المتجاورتين.
أما ما حدث مطلع آب فيصفه “بالخبر الحزين للغاية، خاصة لمن يعرف بيروت وناسها والحياة الثقافية فيها والأماكن التي تعتبر أهم مراكز تلك الحياة، مثل الجميزة ومار مخايل. بذلك، كان أول رد فعل لي هو التواصل مع أصدقائي هناك للاطمئنان عليهم بعد أن شاهدت مقدار الدمار المادي والمعنوي الذي تعرضوا له”، يقول.
وحتى اليوم، لم يسأل قزح عما حل بمقتنياته الموجودة في المدينة المنكوبة، فالأذى الذي حل بها وبأصدقائه المقيمين فيها وأعمالهم الفنية أكبر بكثير مما أصابه.
يقول بحزن: “ربما لا أريد أن أعرف حجم الخسائر الحقيقية. سيأتي يوم أتمكن فيه من زيارة بيروت بعد تخفيف القيود المتعلقة بالتنقل بسبب جائحة كورونا، لأشاهد ما حصل على أرض الواقع”، ويضيف بأن كل ما يتمناه هو أن تعود المدينتان إلى سابق عهدهما وتنظران معاً نحو مستقبل أفضل.
ما زلنا نحصي الخسائر
داخل مرسمه الكائن في زقاق ضيق بدمشق القديمة، يضع الفنان التشكيلي طارق بطيحي اللمسات الأخيرة على بعض اللوحات الجديدة، وبعضها مستوحى مما شهدته بيروت يوم التفجير.
وعلى هاتفه الخليوي الصغير، يحتفظ بطيحي بصور ومقاطع مصورة تظهر آثار قطع زجاجية اخترقت قماش بعض لوحاته الموجودة في بيروت، وواحدة منها كانت تستعد للمشاركة في معرض فن معاصر كان مقرراً يوم السادس من آب الفائت، في صالة Art on 56th في شارع الجميزة.
بالطبع، المعرض انتهى قبل أن يبدأ، ولحق دمار التفجير بالصالة وجزء كبير من مقتنياتها، وأيضاً ما هو موجود في مستودع التخزين التابع لها.
“أعرف حتى الآن بتضرر لوحتين لي، وقد أسمع عن لوحات أخرى في الفترة المقبلة، فالقائمون على الصالة يستمرون بإحصاء الخسائر حتى بعد مضي شهرين على التفجير”، يحدثني الفنان أثناء لقاء معه داخل مرسمه.
ولم يشعر بطيحي حتى الآن بأهمية السؤال بشكل مباشر عما حل بلوحاته رغم قيمتها الكبيرة بالنسبة له، فالمدينة وسكانها يعنون له الكثير، وهو قد عاش فيها بين العامين 2012 و2016، ويصفها بأنها “مركز ثقافي أساسي في المنطقة، وطريق وجسر يصل الفنانين السوريين بالعالم، خاصة في سنوات الحرب الأخيرة، وحتى بعد التغيرات التي أصابتها العام الفائت”، كما يستعد لمعرضه الجديد ضمن نفس الصالة في آذار المقبل.
ويضيف بطيحي بأن هذا النوع من الخسارات ليس بجديد عليه، فمرسمه بحي التضامن جنوب دمشق احترق قبل حوالي ثمانية أعوام، وداخله أكثر من أربعين عملاً فنياً، إضافة للكثير من الأعمال المشغولة فقط على الورق، والتي يعود تاريخها لسنوات مضت.
“انظري، أنا كنتُ شاهداً على هذا الخراب وصورته بنفسي”، يقول وهو يعرض عليّ مقاطع فيديو يظهر فيها مرسمه ومنزل العائلة وهما مدمران بالكامل. “من خسر كثيراً لن يؤثر فيه فقدان عمل أو اثنين. المهم أن نستمر بالعمل”.
رصيف 22