والشِّعر إذا أَبكى.. شهادة هنادي زرقه
نافذة سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التّساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ – في زماننا هذا – يُبكي أحدًا؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلًا بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟
في كلّ حلقة سنلتقي ضيفًا ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.(عماد فؤاد)
هنادي زرقه: آهٍ ما أشنع الحرب
أعتقد أن كثيرًا من القصائد أبكتني، لا سيما في مرحلة المراهقة، لكن قصيدة واحدة حفرت في قلبي أخدودًا يزداد عمقه كلّما أوغلت البلاد في الحرب وأمطرت السماء، قصيدة جاك بريفير “تذكّري يا بربارة” وترجمة الجزائري محمد السنباطي:
تذكّري يا بربارة
كانت تمطر بلا انقطاع في ذلك اليوم على بريست
وكنتِ تمشين باسمة
فاتنة مشرقة خلاّبة
تحت الأمطار
كان ذلك في 27 كانون الثاني/ يناير 2013، السماء تمطر بغزارة وقد قضيت الليل على ضوء الشموع بعد انقطاع طويل للتيار الكهربائي. استيقظت باكرًا، حدقت مليًا بخطوط الماء التي ترشح من السقف والحيطان، ثم ارتديت ثيابي على عجل وقررت النزول إلى المدينة، وما إن دلفت من مدخل البيت حتى اعترضني صوت أخي الأكبر: أين تذهبين في هذا اليوم الماطر، لا يخرج من بيته سوى المجنون؟ صرختُ في وجهه: وهل جميع الذين خرجوا من بيتهم تحت القصف البارحة كانوا مجانين؟ ماذا عن أولئك الذين يقبعون في الخيام؟ من المجنون هم أم هذه الحرب؟ صمت أخي وتركني أتابع طريقي.
لطالما كرهت المظلات، وكنت على الدوام أفكر أنها تقطع نشوة البلل…أي جنون هذا!
كنت في الثالث الثانوي حين وقع شاب في غرامي يدرس في الأكاديمية العسكرية في حلب، ويأتي كل خميس إلى القرية، ينتظر خروجي من المدرسة كي يتبعني بصمت. غير أنه في يوم ماطر مثل هذا تجرأ واعترض طريقي قائلًا: لقد جففت ثيابي قرب المدفأة حتى أتمكن من القدوم لرؤيتك، ألن تسمحي لي بالمسير إلى جانبك؟ ليس لدي ما أرتديه غدًا، وها قد ابتلت ثيابي مرة أخرى في انتظارك.
تذكّري يا بربارة
كانت تمطر بلا انقطاع في ذلك اليوم على بريست
والتقيتكِ في شارع سيام
كنتِ تبتسمين
وكنت أيضًا أبتسم
تذكّري يا بربارة
أنتِ التي ما كنت أعرفكِ
أنتِ التي ما كنتِ تعرفينني
تذكّري
تذكّري ذلك اليوم
ولا تنسي
رجلًا كان يحتمي تحت رواق
وجاهر باسمكِ: بربارة
واندفعتِ أنت نحوه تحت الأمطار
فاتنة خلابة
وألقيتِ نفسكِ بين ذراعيه
فتذكري يا بربارة
ولا يزعجك مخاطبتي إياكِ بـ “أنتِ”
فأنا أتباسط مع الذين أحبهم
حتى وإن لم أكن قد رأيتهم سوى مرة واحدة
أتباسط مع جميع من يتحابون
حتى وإن لم أكن أعرفهم
مضى عام كامل وهو يمشي خلفي أو يتابعني من بعيد، ولم أكن لأجرؤ على المشي قربه، أنا الفتاة المجتهدة التي لا يليق بها أن تحب! ثم إن القرية صغيرة، ولا بد أن يشي بي أحدهم وحينها سأنال توبيخ أخوتي، ولم يكن ذلك هينًا بالنسبة إليّ.
نجحتُ في الثانوية العامة وانتقلت إلى اللاذقية لأتابع دراستي الجامعية بعيدًا عن القرية. نسيت الشاب في الأكاديمية العسكرية ووقعت في غرام شاب آخر لا يحب المشي تحت المطر غير أنه أسوة بالعشاق قال: إن المطر يبلل روحه وهو يسير قربي، يا لعذب الكلام! كان ذلك كافيًا للإيقاع بفتاة رومانسية تكتب الشعر.
طلبت منه في تلك الليلة الماطرة أن يبني لي بيتًا ذا جدران زجاجية لأستطيع رؤية المطر من الجوانب كلها، بيت أشبه بالغواصة، سخر من أحلامي الطفولية قائلًا: لن تكبري أبدًا. آخر لقاء بيننا ضاعت أصابعه في شعري وقال لي ضاحكًا: شبتي يا بنت؟!
لم يعد موجودًا، كبرتُ في غيابه كثيرًا ولوَّحتني الحرب.
تذكري يا بربارة
لا تنسي ذلك المطر الهادئ السعيد
على وجهكِ السعيد
على المدينة السعيدة
على البحر
على مصنع السلاح
على سفينة جزيرة أوِسَّان
آه يا بربارة
ما أشنع الحرب!
ترى ما الذي حلّ بك الآن
تحت هذا المطر
مطر الحديد والنار والفولاذ والدماء
وذاك الذي كان يضمّك
بشغف بين ذراعيه
هل مات أو اختفى أو ما يزال حيًا؟
أه يا بربارة
إنها تمطر بلا انقطاع على بريست
كما كانت تمطر من قبل
لكن هذا مطر آخر
فقد أتلف كلّ شيء
مطر حِداد مخيف فاجع
حتى العاصفة ليست ذاتها
عاصفة حديد وفولاذ ودماء
مجرد غيوم
تنفجر بطونها مثل كلاب
كلاب تتوارى مع المياه المنهمرة
وتمضي لتتعفن بعيدًا بعيدًا عن بريست
التي لم يبق منها شيء.
استقليت أول حافلة وجلست قرب النافذة أرقب خيوط المطر وهي تندلق على الزجاج. كان المطر غزيرًا في 27 كانون الثاني/ يناير 1981 يوم توفي والدي، استيقظت وأخي باكرًا في اليوم التالي وذهبنا إلى أمي نطلب منها مصروفنا اليومي كي نذهب إلى المدرسة، بحثت أمي في جيوبها ثم بين ثدييها عن منديل ورقي تضع فيه النقود الورقية، كما جرت العادة لدى نساء القرية، فلم تجد شيئًا، خرجت وراء البيت حيث تتكدس المناديل الورقية منذ ليلة أمس، وأخذت تفتحها واحدًا إثر الآخر إلى أن عثرت أخيرًا على ورقة نقدية بقيمة 100 ليرة سورية، كانت تلك الورقة مبللة بالمطر وبدموع أمي، ما لبثت أمي أن جففتها قرب المدفأة ثم ناولتنا إياها قائلة: فليأخذ كل واحد منكم ربع ليرة ويعيد الباقي إلي. كانت تلك المئة ليرة هي كل ما لدينا حين توفي أبي.
كبر أخي وذهب إلى الكلية العسكرية كي يوفر تكاليف دراسته ويقبض مرتبًا شهريًا ما إن يسجل فيها، شأنه شأن غالبية فقراء القرية الذين لم يكن بوسعهم إرسال أولادهم إلى الجامعات.
تكاثف بخار الماء على زجاج نافذة الحافلة، كتبت أسماء أصدقائي الذين غابوا أو غُيِّبوا عليه، وانحدرت الدموع من عينيّ بغزارة، مرَّ أسبوعان ولم أعرف ماذا حلَّ بأخي، الاتصالات مقطوعة، شردت: كم أشبه بندول الساعة، أخبط رأسي بين جدارين، آخ على أخٍ يقاتل في الجيش النظامي، وآخ على أصدقاء يهتفون باسم الحرية. لم أعد أحتمل مزيدًا من الفقد.
نزلت من الحافلة وصوت هدير الطائرات يصم الآذان، طائرت تحمل الجنود الشباب إلى نقاط الحرب لا تلبث أن تعود بجثامينهم، تخيلتُ قطرات المطر وقد اصطبغت باللون الأحمر، الطائرات ترشح دمًا، ثيابي تتلطخ بالدم، وجهي أيضًا، مسحتُ دموعي بمنديلي وتابعت السير محدقة في الواجهات الزجاجية للمحلات، لا شيء.. لا شيء.. مجرد أوهام.
صبي عارٍ وحافٍ يقبع في كرتونة قرب الإشارة الضوئية يرتجف من البرد، كم يشبه أسماك الأكواريوم، طريقة جديدة في التسول لم تألفها المدينة قبل الحرب. إنها تمطر بلا انقطاع، السماء أم الحرب.. أيهما أكثر قسوة؟
همتُ على وجهي ساعاتٍ ثم عدت إلى القرية. أصوات أغانٍ وطنية تصدح من مكبرات الصوت تختلط بالزغاريد والبكاء، سيارة إسعاف تتقدم موكب السيارات، ثمة صورة لرجل يقارب عمري مؤطرة بإكليل زهر، حاولتُ أن أتبين الاسم، إنه ذلك الشاب الذي أحبني في الثانوي، ها قد عاد.
آه ما أشنع الحرب!
القصيدة مترجمة على موقع يوتيوب:
ترجمة أخرى للقصيدة على موقع أنطولوجي:
وفي تسجيل آخر
ضفة ثالثة