في مقدّمات الثورة السورية.. بذور المجتمع المدني السوري(1)/ وائل السوّاح
حين اندلعت الثورة في تونس ومن ثمّ مصر وليبيا، لم يكن كثرة من السوريين يتوقّعون أن تمتدّ الشرارة إلى سوريا. وحين اندلعت الشرارة الأولى في آذار 2011، كان ذلك مفاجأة للجميع: النظام والمعارضة على حدّ سواء، بل وحتى أولئك الذين أشعلوا فتيل الشرارة الأولى.
الآن بعد نيّف وسبع سنوات، وبعد صعود الثورة السورية وهبوطها، نجاحاتها وإخفاقاتها، نبلها وخسّتها، يمكن للمحلل أن يبحث عن مقدمات هذه الثورة في السنوات السابقة لها.
لم تأتِ الثورة من فراغ مطلق، فرغم كلّ القمع والتخويف والتجهيل التي اتبعتها ساسة الأسد الأب والابن، ورغم خنق قوى المعارضة وزجّها في السجون لعقود طويلة وقتل قادتها إعداما أو تحت التعذيب، ورغم وأد كل ظاهرة من ظواهر العمل الجماعي أو النشاط المدني، فقد استطاع عدد من السوريين التحدّي والتأقلم والعمل سرّا حينا وعلنا حينا آخر لإيجاد متنفّس لهم للتعبير عن الرأي والدعوة إلى التغيير.
ستحاول هذه السلسلة من المقالات أن تتقصى مقدمّات الثورة السوريين في العقدين السابقين لها: العقد الأخير من الأسد الأب والعقد الأول من حكم الأسد الصغير.
مفهوم المجتمع المدني مفهوم جديد بالنسبة للسوريين. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنه لم يكن موجودا كواقع. فثمة من بين المفكرين السوريين من يعتقد أن المجتمع المدني يعود في سورية إلى التشكيلات الأهلية التي عرفتها سورية العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مثل نظام الملل. ولكن الكثرة الكثيرة تعتقد أن المجتمع المدني وجد كواقع مع النهضة العربية، وما رافقها من تشكيل لمنظمات أهلية ذات طابع سياسي حينا وثقافي واجتماعي في أحايين أخرى.
ولكن خمسة عقود من حكم بلون سياسي وحزبي وإيديولوجي واحد، ومع غياب أي شكل من أشكال حرية التعبير عن الراي أو العمل الأهلي الطوعي ومع حظر كلي لأي نشاط سياسي مستقل عن الحكومة، ناهيك عن القمع المستمر الذي فرضه قانون الأحكام العرفية، كان لا بد أن يؤدي إلى حرمان سورية من أي نشاط مدني. والنتيجة كانت أن الحياة العامة (والخاصة) في سورية كانت مرتبطة بشكل كامل بالحكومة التي كان يهيمن عليها حزب سياسي واحد، ومعتمدة عليها.
نتيجة ذلك أن كلا الحكومة والمعارضة وقعا في خلط بين المجتمع المدني والفعل السياسي. ومن العدل القول إن فكرة المجتمع المدني، رغم تاريخها الأسبق على مرحلة الستينات، كانت إلى حد ما مشوِّشة للكثرة من السوريين، الذين وجدوا أنفسهم، في سعيهم لتحقيق أهداف تتعلق بالمجتمع المدني، منخرطين في الفعل السياسي.
لقد كانت الطريقة الوحيدة لمعارضة الحكومة، في الفترة التي سبقت عام 2000، هي العمل تحت الأرض في مجموعات سياسية سرية صغيرة. ولكن العمل السري كان من شأنه خلق الكثير من المشكلات التي أدت إلى تراجع وتضاؤل الحياة السياسية ودورها في البلاد، وخصوصا بالنسبة للناشطين السياسيين الذين دفعوا حياتهم أو جزءا كبيرا من حياتهم ثمنا لنشاطهم السياسي.
ولكن محاولة بدأت في نهاية السبعينات من القرن الماضي لاقتناص بعض الحريات الأساسية والتأكيد على مدنية المجتمع السوري. كانت تلك الحركة التي قادتها نقابات المهنيين (محامين، مهندسين، أطباء، وكتاب). وكان أول المتحركين نقابة محاميي دمشق التي عقدت في نهاية السبعينات (22/6/ 1978) جلسة رسمية درست فيه حالة الطوارئ والأحكام العرفية في البلاد، وأصدرت قرارا نال شبه إجماع، طالب برفع حالة الطوارئ المعلنة وتعديل قانون الطوارئ بحيث يقيد إعلان تلك الحالة بأضيق الحدود والقيود، والسعي لإلغاء المحاكم الاستثنائية تحت أي تسمية كانت، والطلب إلى المحامين عدم المثول والمرافعة أمام المحاكم الاستثنائية، وتحريم جميع صور الكبت والقهر والقمع والتعذيب الجسدي والنفسي المنافية للكرامة الإنسانية والوطنية، وتطبيق مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء العادي، والتصدي لجميع أنواع الاعتقال والاتهام والامتهان وفرض العقوبة، التي تمارسها جهات غير قضائية لا تخضع إجراءاتها لأي رقابة قانونية أو قضائية، واعتبار مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الدستور الأساسي للمواطن وتقديم أحكامه على أي نص تشريعي محلي مهما كان نوعه في حال تعارض أحكامهما.
وقامت مجلة لوموند ديبلوماتيك بنشر القرار بعد شهر من صدوره. واستلم نقيب المحامين آنذاك صباح الركابي رسالة من اتحاد الحقوقيين العالمي يشيد الاتحاد بالقرار رقم واحد ويقول إنه خطوة عظيمة في سورية، ووجه الاتحاد دعوة إلى الركابي لزيارة فرنسا.
وكان تحرك المحامين بداية لتحرك نقابيين مهنيين آخرين، بينهم اتحاد الكتاب ونقابة المهندسين وأساتذة الجامعات. وكان من الممكن لهذه الحركة أن تسفر عن نتائج مختلفة لولا وقوع حدث استثنائي وبائس في آن في تاريخ سورية المعاصر هو قيام جماعة “الإخوان المسلمين” بتحركات إرهابية في سورية، استهدفت في البداية رموزا من السلطة السورية، ثم امتدت لتشمل رموزا مهمة في القضاء والتعليم الجامعي وشخصيات مجتمعية مرموقة.
وقد استغلت السلطة تحرك الإخوان المسلمين للقضاء عل كلّ أشكال المعارضة السياسية والمدنية والحقوقية، بما في ذلك ظاهرة التحرك النقابي، وزجت بالآلاف من المحامين والقضاة والكتاب والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات في السجون، في مرحلة امتدت على مدى عقد الثمانينات الذي كان من أصعب المراحل التي مرّت على السوريين قبل الثورة بشكل عام وأشدها حلكة.
على أن مطلع التسعينات جلب معه تغييرا طفيفا كان لا بد أن يكون مقدمة لتغييرات، مهما بدت بسيطة، فإنها لعبت دورا تراكميا في بناء مفهوم المجتمع المدني. ولعل القاطرة التي بدأت بجر البلاد في هذا الاتجاه كانت احتلال الرئيس العراقي السابق صدام حسين للكويت، ومن ثم حرب الخليج الثانية ومشاركة سورية في قوى التحالف الدولي التي قامت بتحرير الكويت سنة 1991. لقد أدى قرار سورية المشاركة في تحرير الكويت إلى خروج سورية من حقبة الثمانينات المظلمة، ودخولها حقبة الانفتاح على الغرب والخليج العربي. وقد أدى تدفق أموال خليجية مهمة إلى تنشيط الوضع الاقتصادي السوري، وخروج البلاد من فترة الركود القاسية في مرحلة الثمانينات. غير أن ذلك لم يكن النتاج الوحيد لقرار سورية المشاركة في قوات التحالف، فقد وقع عدد مهم من المثقفين السوريين بيانا عبروا فيه عن معارضتهم الحرب “الأمريكية” في منطقة الخليج وخاصة مشاركة سورية في ذلك. وكان هذا أول تحرك مدني سوري مستقل منذ تجربة النقابات في العام 1980.
النتيجة الثانية، غير المباشرة ربما لحرب الخليج الثانية، كانت مؤتمر مدريد ومشاركة سورية في مباحثات السلام لأول مرة مع إسرائيل. لقد أسس هذا الحدثان لمرحلة جديدة في الحياة السياسية والمدنية السورية، شجع عليها إطلاق مئات من المعتقلين السياسيين على دفعات.
وبدأت حفنة من المثقفين السوريين الشجعان تتلمس طريقها للبحث في مسألة جديدة كليا في ذلك الوقت: المجتمع المدني. في عام 1991، عقدت في دمشق ندوة غريبة من نوعها بعنوان “غرامشي وقضايا المجتمع المدني”، نشرت بعد ذلك في كتاب. وفي عام 1992، قدم المفكر السوري جاد الكريم الجباعي محاضرة في مدينة دير الزور شرق البلاد بعنوان “المجتمع المدني”، وكان ذلك عملا رائدا في هذا المجال. كان من أهم نقاطها محاولة التفريق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي وتأكيد أن المجتمع المدني ينتج الدولة، من حيث أن الدولة لا بد أن تكون نتيجة إرادة عامة هي إرادة المجتمع، وأضاف أنه من البديهي أن تكون الدولة التي ينتجها المجتمع المدني دولة علمانية وديمقراطية لأنها دولة كل المواطنين. ثم ظهر كتاب محمد كامل الخطيب (المجتمع المدني والعلمنة) عام 1994، فكتاب محمد جمال باروت (المجتمع المدني مفهوماً وإشكالية) عام 1995.
في عام 1997، نشرت مجلة الوسط دراسة عن نهوض ظاهرة جديدة في سورية، عمادها مثقفون يسعون إلى خلق شكل جديد من أشكال الائتلاف المدني، وكانت الدراسة مبنية على لقاءات مع مثقفين سوريين بينهم نبيل المالح وعمر أميرلاي ومحمد ملص وجهاد سعد والشاعر الراحل ممدوح عدوان وغيرهم، وهم مثقفون وأدباء وفنانون ناشطون في المجال العام.
وفي عام 1998، جرت انتخابات برلمانية مميزة، تقدم فيها مرشحان عل الأقل ببيانين انتخابيين سياسيين: الأول هو أستاذ الاقتصاد وعميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق سابقا عارف دليلة، الذي تقدم ببيان انتخابي، سمِّي وقتها من قبل البعض بالبيان الناري؛ أما الثاني فهو الصناعي رياض سيف.
كان سيف قد خسر ابنه وجزءا كبيرا من ثروته ومصانعه، ولكنه أصر على الترشح من جديد للدور التشريعي السابع، ودعمه في ذلك الصناعيون والتجار والمثقفون وأبناء الأسر الدمشقية. وما ميز حملة سيف الانتخابية أنها كانت الوحيدة، ربما، التي عقدت، بدلا من حلقات الدبكة والمناسف التي لا تزال مضافات مرشحي مجلس مهرجي النظام تحفل بها حتى اليوم، سلسلة حوارات وطنية متعددة الاهتمامات في مقر حملته الانتخابية في منطقة الميدان بدمشق. وأطلق على هذه الحوارات اسم “جلسات الحوار الوطني” واستمرت على مدى 9 جلسات بحثت في الشأن السياسي والاجتماعي والحقوقي والبيئي ضمن جرأةٍ نادرة وبنفس الوقت إدراكٍ مميز لحدود السقف الذي على هذه الحوارات ألا تخترقه.
وربما كان سيف أيضا المرشح الوحيد إضافة إلى عارف دليلة الذي نشر بيانا انتخابيا من صفحتين، وهو ما أزعج محافظة مدينة دمشق، التي استدعته وحذرته من خطورة ما أقدم عليه، ولكنه اعتبر أن ذلك واحد من حقوقه الطبيعية كمرشح، واستمر في تحدّي المحافظة. ومرة أخرى فاز سيف بأكثرية أصوات مدينة دمشق التي منحتها للمستقلين، بينما لم يفز المفكر الاقتصادي عارف دليلة الذي وقفت ضدّه آلة السلطة على الأرجح لأنه من الطائفة العلوية، التي كان النظام يحاذر كلّ الحذر أن يبرز منها من يعارضه.
وحمل خطاب القسم الذي أداه الأسد الأب في آذار1999 في ولايته الأخيرة خطاباً بعض المفاهيم الجديدة: التحديث والتطوير ـ محاربة الفساد مع بعض الانفراجات في السياسة الداخلية السورية. ثم بدأ العهد الجديد للأسد الابن إثر وفاة حافظ الأسد، بخطاب فضفاض وغامض، فهم منه بعض السوريين أنه يشجع على الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، فكان خطاب القسم الذي ألقاه الأسد الابن في شهر تموز 2000 محرضا مباشرا على طرح مفهوم المجتمع المدني من جديد على بساط البحث بشكل واسع نظرياً والانتقال إلى دفع مسيرة بناء هذا المجتمع أو -إحيائه بحسب البعض -إلى الأمام. وقد سارع بعض رجال سوريا ونسائها لاختبار هذا الطرح الرئاسي وحاولوا دفع حدود الطلب ومطّها لتتّسع لآمالهم في نقلة نوعية نحو الانفتاح السياسي وحرية التعبير. وهذا ما شجع بعض نخب ومثقفي سوريا أن تكرس نشاطها عبر منابر ومنتديات، ما دامت آلية الأحزاب والعمل السياسي المنظّم محظورة أو محاصرة. وهذا ما جعل عام 2001 أو ربيعه تحديدا، عاما للمنتديات تأسيسا وظهورا وفاعلية. ومنه بدأ ما سيعرف لاحقا بربيع دمشق.
3 تعليقات