من مربد صدام حسين إلى مكتبة حافظ الأسد/ يوسف بزي
في أواخر التسعينات، تتصل بي محامية لبنانية، ذاعت شهرتها كـ “صديقة” لعدي صدام حسين، وتقترح عليّ قبول دعوة إلى مهرجان مربد الشعري في العراق، بعدما أعاد إحياءه الديكتاتور العراقي على الفور، جاوبتها معتذراً. انطلقت المحامية شبه الشقراء بخطاب مفعم بالحماسة عن “التضامن مع العراق، وواجب المثقفين العرب بالوقوف معاً ضد الهجمة الاستعمارية الجديدة وضد الحصار الدولي التجويعي المفروض على الشعب العراقي وضد محاولات تحطيم القوة العسكرية العربية التي تقف بوجه أميركا وإسرائيل..”، إلى آخر المعزوفة من كلام نعرفه جميعاً. كان ردي عليها: “أنا فعلاً لا أريد تلبية الدعوة تضامناً مع جوع العراقيين، فلا آكل من مائدة صدام العامرة. أنا فعلاً لدي موقف مع معظم المثقفين العراقيين، المنفيين منهم أو المسجونين. أنا لن أذهب إلى المربد لأن صدام حسين سحب الجنسية العراقية من الشاعرين عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف، فكيف ألقي شعراً في العراق وشعراؤه ممنوعون من وطنهم؟”.
انتهت تلك المكالمة، خاسراً بلا أي أسف أي صلة مفترضة مع المحامية صاحبة النفوذ، التي سأصادفها مرة جالسة في حضرة وزير سوري ورهطه في قاعة “فندق الشام” بقلب دمشق، عام 2004 على الأرجح، أي حين خسرت “صديقها” عدي إلى الأبد، فقررت أن تكمل “النضال” في “سوريا الأسد”. كانت هي مع أصدقائها الجدد وكنت على موعد مع المفكر الراحل صادق جلال العظم، لكل منا خياره في الصداقة والحياة.. والنضال.
عندما أسس الشاعر السوري لقمان ديركي “بيت القصيد” بدمشق، استكمالاً لفكرة بدأناها أنا ويحيى جابر بتحويل السهر في الحانات البيروتية إلى ليل من شعر وخمر، اعتذرت عن تلبية دعوته، أولاً لأني بتُّ منذ نهاية العام 2004 ممنوعاً من دخول سوريا (لأسباب سياسية) وثانياً لأني متضامن مع معتقلي “ربيع دمشق” وجلّهم من الأصدقاء، وثالثاً لأننا في خضم معركة فرض علاقات دبلوماسية بين البلدين تكريساً لاعتراف النظام الأسدي باستقلال لبنان. وبالطبع السبب الأهم كان غضبنا وسخطنا من موجة اغتيالات رجالات لبنان السياسيين والمثقفين والصحافيين على يد المخابرات السورية وجهاز “حزب الله” الأمني والعسكري.
بعد فترة وجيزة، وعلى نحو مفاجئ، هناك شويعر لبناني شاب، كان يستعرض دوماً انحيازه لحركة 14 آذار المناهضة للنظام السوري، راح إلى دمشق وشارك في إحدى سهرات “بيت القصيد”، وعاد مزهواً. ثم إنه دخل علينا ذات ليلة بصحبة المسؤول الإعلامي للتيار العوني وأحد مراسلي أشهر المحطات التلفزيونية العربية، وكان مقرباً جداً من “حزب الله”، وأيضاً مصطحباً فتاة شابة ليست زوجته. كان دخوله هذا عبارة عن “إعلان سياسي” (وأخلاقي أيضاً، طالما أنه يحتفل بنفسه كـ “دون جوان”). بدأ هذا الشويعر بالحديث عن روعة دمشق وجمال المدينة وناسها الطيبين وحبهم للشعر والثقافة، ومرر عبارة “.. وتعرفت على مستشار الرئيس”، وأكمل بأن “هناك سوء فهم لسوريا ولسياستها، هناك مؤامرة إسرائيلية – أميركية على المنطقة” إلى آخر المعزوفة. أقول له: “لكننا قطعنا وعداً ببيانات وقعنا عليها بالتضامن مع المعتقلين، وبمقاطعة النظام.. كيف تذهب إلى دمشق هكذا؟ معيب جداً ما فعلته”. وإذ يرد ضاحكاً ولاهياً: “سعد الحريري ووليد جنبلاط رضخا لأوامر الملك عبد الله وقابلا بشار الأسد، نحن يجب أن نرتب أمورنا أيضاً”.
الأصدقاء الكثر الجالسون على المائدة الكبيرة أدركوا معي أن هذا الشويعر “رتّب أمره” فعلاً. أشرح له أن الحريري وجنبلاط سياسيان، ليس لهما من عمل سوى السياسة وحساباتها، الأول لا يمكنه الخروج من ارتباطه هو وطائفته بالمملكة العربية السعودية، والثاني لا يمكنه سوى تحمل مسؤولية “بقاء” الأقلية الدرزية بالوجود. أما “نحن” فلسنا سياسيين، نحن لدينا موقف أخلاقي في السياسة. لدينا ترف الترفع، رفاهية الموقف المبدئي، امتياز الاعتراض والنقد، شرف خيانة السياسة لصالح الحقيقة…
الشويعر الذي راح يضحك ويمزح ويخلط الجد بالهزل، صار يهذر بكلام من نوع “لا يجوز وجود عداوة بين لبنان وسوريا”، أفهمنا جميعاً أنه ذهب بعيداً في ترتيب أمره، فما كان مني إلا هذا الجواب: “أنت عاهر يا غسان..”. توقعت أن يثور ويبدأ العراك. لا، استمر في لعبة المزاح والهذر. صاحباه، المربكان كانا يتعجبان من سلوكه الدوني والمتزلف، لكن المفاجأة المدهشة كانت من صاحبته التي كسرت بغتة صمتها المديد وقالت على مسمع من الجميع (حرفياً): “يا أستاذ يوسف، بالغابة حيوانات كثيرة. هناك ضباع وأرانب وسعادين.. لا تطلب أن يكون الجميع مثلك نموراً”. ولكم أن تتصوروا وجه هذا الذي كان مزهواً ببدء علاقته بمستشار الرئيس بشار الأسد.
بعد أيام قليلة، يحاول الشويعر مرات عدة الاتصال بي هاتفيا وأغلق “الخط” بوجهه. يرسل لي رسالة نصية: “لقد أمنت حالي لولد ولدي”. هو اليوم فعلاً أحد أبرز الوجوه التلفزيونية اليومية المنافحة عن “حزب الله” وبشار الأسد. ورد اسمه في اللائحة المسربة عن الذين يتلقون مبلغاً شهرياً من جهاز علي مملوك. وها هو يمشي في شارع الحمرا محاطاً بمرافقين مسلحين. يمكن القول هنا أن القرد يتربع على أعلى شجرة الحقارة.
في الأيام الأخيرة، تنتشر الأخبار عن معرض دمشق للكتاب الذي يقام في “مكتبة الأسد” وعن هرولة بعض دور النشر العربية للمشاركة فيه. وإذا كان يمكننا التسامح قليلاً (وبكثير من التحفظ) مع التجار الذين يبحثون عن أي فرصة لتصريف بضاعتهم من مطبوعات وكتب، إلا أننا نجيز لأنفسنا إعدام أي تسامح مع السفلة ممن يحملون صفة “مثقفين” عرب يرتضون أن يكونوا ضيوفاً للنظام الإجرامي، ويشاركون في “احتفالاته الثقافية” التي تشبه كرنفالاً فوق مقبرة، رقصاً فوق جثث مئات الألوف من السوريين. هؤلاء المثقفون العرب أشباه المحامية صديقة عدي صدام حسين والشويعر صديق مستشار بشار الأسد، هم منذ ابتداء الاستبداد العربي أصل الداء والبلاء، أكثر بكثير من زمرة الضباط أو البيروقراطيين. لا تقوم قائمة لديكتاتورية أو لسلطة طاغية لولا وجود “نخبة” (ثقافية أولاً، واقتصادية ثانياً) تصطنع “شرعية” التسلط وتصوغ مبررات الجريمة.
طبعاً، لن يسأل أولئك المثقفون، ضيوف النظام الأكثر شراً (بالتساوي ربما مع نظام كيم جونغ أون)، ولن يعترضوا على كم الكتب الممنوعة من دخول سوريا. لن يسألوا طبعاً عن “زملائهم” الذين قتلهم النظام أو شردهم أو اعتقلهم. فندق ممتاز، طعام فاخر، سهرات باذخة، لقاءات باهرة مع أصحاب السلطان.. يا للروعة. هذا ثمنهم البخس دوماً.
في هذه الأثناء، تتضاعف بشاعة اللحظة وكراهتها، حين نتابع مجريات المناكفة والحزازات التي تغرق فيها “رابطة الكتّاب السوريين” وتتمزق من داخلها، وهي المؤسسة التي رأينا فيها النموذج البديل عن مؤسسات النظام “البعثي”، فكأن فشلها يضع في عيننا قشة إضافية على المآلات الحزينة للثورة المغدورة.
في كل الأحوال، ليس للمثقف سوى تلك “الرفاهية”: شرف خيانة الواقعية السياسية والانحياز إلى الأخلاقية السياسية.
تلفزيون سوريا