دستور سوريا واللامركزية/ سلام السعدي
على وقع طبول الحرب التي يقرعها النظام السوري وحليفيه الروسي والإيراني في مدينة إدلب السورية، عاد الحديث عن المستوى السياسي للصراع السوري ولكن تم حصره هذه المرة بالمفاوضات حول دستور جديد للبلاد، إذ دعا مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا ستيفان دي ميستورا الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والأردن وألمانيا وفرنسا ومصر لإجراء محادثات في جنيف الشهر المقبل. وقبل ذلك سوف يجتمع المبعوث الدولي مع كل من روسيا وتركيا وإيران.
هكذا يحاول دي ميستورا إنعاش جهود العمل على وضع دستور جديد والتي كان قد بدأها العام الماضي عندما شكّل لجنة لوضع الدستور بناء على ترشيحات من الحكومة والمعارضة في سوريا برعاية روسية وبغياب للولايات المتحدة. وبسبب ذلك الغياب وبسبب هيمنة موسكو التي تعاطت مع الجانب السياسي للأزمة السورية كطريقة لتكريس الخسائر العسكرية التي تتعرض لها المعارضة السورية وترجمتها سياسياً، أهملت روسيا المستوى السياسي والتفتت للعمل العسكري على مدار عام كامل حققت فيه نجاحات كبيرة بعد هزيمة المعارضة المسلحة في كل من ريف دمشق ودرعا. هكذا يبدو من المناسب لروسيا الدفع اليوم لإعادة المفاوضات السياسية التي من المتوقع أن تكرس توازن القوى على الأرض، أو بالأحرى لا توازن القوى القائم والمتمثل بهزيمة قاسية للمعارضة السورية.
ولكن العامل الآخر الذي دفع باتجاه الحديث عن الدستور الجديد هو عودة الانخراط السياسي الأميركي بعد فترة من التخبط واللامبالاة استفاد منها النظام السوري وحلفاؤه. عادت الولايات المتحدة للتأكيد من جديد على أن انسحابها من شمال شرق سوريا مرهون بتحقيق تقدم في المفاوضات السياسية وبالتوصل إلى دستور جديد للبلاد. وقد أعطى ذلك بعض التطمينات لقوات سوريا الديمقراطية التي كانت قد هرعت لمفاوضات مع النظام السوري لم تحصل فيها على تنازلات ذات معنى. كما أعطى ذلك دعما مباشرا لمبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي مستورا لتجديد جهوده بعد أن بدا أن عمله بات من دون قيمة بسبب الهزيمة العسكرية التي لحقت بالمعارضة السورية. لكن النظام وحلفاءه لم ينتصروا بعد، إلا في حال قررت واشنطن ذلك.
في حال أبدت الإدارة الأميركية تمسكها بالمناطق التي تسيطر عليها وأصرت على ربط تواجدها بتسوية سياسية ما فإنه لا مفر للنظام وحلفائه من المشاركة في تلك المفاوضات. وخصوصا أن روسيا أعلنت مرارا تأييدها لدستور يكرس نظاما فيدراليا أو لامركزيا يتمتع فيه حليفها الرئيسي، نظام الأسد، بسلطة واسعة ولكنه في ذات الوقت يترك مساحة لقوى أخرى يبدو أن إحداها ستكون مدعومة من تركيا، والأخرى هي الطرف الكردي المدعوم أميركيا ولكنه لا يمانع تمتين علاقاته مع موسكو.
قد يثير هذا السيناريو التفاؤل لدى البعض بحدوث تغيير سياسي حقيقي يوسع من هامش الحريات بسبب تعدد مراكز القوى، ولكن التاريخ لا يدعو للتفاؤل. هنالك فرق كبير بين أن يكون الدستور نتيجة حرب وانقسام وصراع أهلي عنيف يستمر لسنوات وتتدخل فيه دول إقليمية ودولية من جهة، وبين أن يكون نتيجة تحول ديمقراطي سلمي من جهة أخرى. هنالك فرق كبير أيضا بين أن يعكس الدستور تطلعات الجماعات السياسية والإثنية الموجودة والتي تتعايش معا في بلد واحد بحيث ينظم التنوع ويحميه ويكرس الديمقراطية، وبين أن يمثل تطلعات وجشع القيادات المكرسة التي تدعي تمثيل تلك الجماعات وهي بالطبع بعيدة كل البعد عن الديمقراطية. في الحالة الأولى يجري العمل على بناء الأمة الديمقراطية المتنوعة ولكن المتحدة، فيما يتم في الحالة الثانية بناء كانتونات غير ديمقراطية يجمعها نظام سياسي هش وفاسد ومهددة بالعودة للصراع والانهيار في كل وقت.
في حالات الخروج من مواجهات عسكرية أهلية يتم التركيز على كيفية تقاسم السلطة لا على الديمقراطية. هكذا لم يصمم الدستور في كل من لبنان البوسنة والعراق بعد انتهاء الحرب الأهلية لضمان الديمقراطية بل لتقاسم السلطة تحت عنوان السلم الأهلي. وفي حين يؤيد كثيرون اللامركزية كونها تسمح بمشاركة سياسية أكبر للمواطنين في المجالس المحلية والبلديات والهيئات التنفيذية والتشريعية على مستوى المقاطعات، تؤدي اللامركزية في البلدان الخارجة من صراعات أهلية بمركزة السلطات بأيدي الجماعات السياسية الطائفية والإثنية. إنها تخلق دولا استبدادية بدلا من دولة كبيرة استبدادية واحدة. وفوق الاستبداد، تعاني الدولة اللامركزية الناشئة من صراعات داخلية مستمرة تعيق تحقيق تقدم اقتصادي تنموي وتمنع التخطيط طويل الأمد وتجعلها على شفا حرب أهلية مع كل أزمة سياسية.
مع كل تلك التحذيرات من دستور جديد ومن اللامركزية، لا تزال سوريا بعيدة عن هذا الشكل من الحكم إذ لا يزال النظام السوري رافضاً لمثل تلك التقسيمات. وليس السبب بالطبع هو حرص النظام على المستقبل التنموي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد وإنما عجزه البنيوي لا عن الإصلاح فقط بل حتى عن التغيُر حتى نحو الأسوأ.
كاتب فلسطيني سوري
العرب