المفكر اليساري اللبناني كريم مروّة: ليس هناك تغيير لخرائط «سايكس ـ بيكو» بل إعادة صياغة الدول والأنظمة
حاورته: رلى موفق
تزيد سنوات المفكر اليساري كريم مروة الـ88 شغفاً في «الاستنباط الفكري» وكأنه في سباق مع الزمن، تاركاً للأجيال الطالعة نصوصاً تُحفّز على التجديد، من «بيان من أجل يسار لبناني جديد» و«بيان من أجل تيار ديمقراطي مدني عابر للطوائف» حاول فيهما أن يضع أساساً لصوغ ميثاق جديد، لا بل ذهب في كتابه الجديد «التجديد في الإسلام كالتجديد في الاشتراكية… ضرورة تاريخية في شروط العصر» إلى إنجاز صيغة لمفهوم تجديد للخلاص من الفكر المتطرف الذي يجسّده راهناً «تنظيم الدولة الإسلامية» بالاستناد إلى قراءة تاريخية تاركاً المهمة للإسلاميين، بالتوازي مع تصوره لتجديد «الاشتراكية» التي ينتمي إليها فكريا، منطلقاً من نظرية انه «عندما يتم التجديد في الإسلام ويتم التجديد في الاشتراكية يصبح المواطنون في كل بلد متساوين بالحقوق وبالنظرة وبالنضال من أجل المستقبل الذي يؤمّن شروطاً أفضل لحياتهم».
القيادي السابق في الحزب الشيوعي اللبناني يسبر غور الأحداث الشائكة في المنطقة من سوريا إلى تدخل روسيا فيها ومراميه لمقارعة الأمريكيين هناك بغية إثبات أنها لا تزال دولة عظمى بالاستناد إلى قدرتها على محاربة الإرهاب الذي أضحى ظاهرة عالمية، مروراً بلبنان وأفخاخ «الديمقراطية التوافقية» التي هي نقيض الديمقراطية الحقة، والتي يتم سحب تجربتها على العراق وسوريا وارتباطات الداخل بالقوى الخارجية، وصولا إلى إيران التي ستدفع ثمناً باهظاً في الداخل إذا استمرت بسياستها الراهنة، وإلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي يحتاج الفلسطينيون أولاً، والعرب وحلفاؤهم ثانياً، إلى التوحدّ والتمسك بالقرار الصادر عن قمة بيروت سنة 2002 للحل المبني على أساس حل الدولتين مقابل الاعتراف بإسرائيل. وهنا نص الحوار:
○ هناك قراءتان لما يجري في المنطقة، الأولى ترى أن هناك مخاضاً سينتج عنه تغيير في خرائط «سايكس ـ بيكو»، والأخرى تعتبر أن الخرائط ثابتة والتغيير لن يتخطى حدود الدول، أين تصب قراءتك؟
- في قراءتي لما يجري من أحداث في المنطقة، ليس كردّ فعل على «الثورات العربية» إنما قبلها وبعدها، فإن الصيغة المتداولة عن تغيير للخرائط مخالفة للواقع وللتاريخ وللإمكان. وهي ستقود حتماً، حسب ما تشير إليه بعض الظواهر ـ وظاهرة «داعش» (تنظيم الدولة الإسلامية) واحدة منها ـ إلى حروب لا تنتهي. حروب يقود إليها التغيير الديموغرافي الذي طابعه واحد من اثنين: قومي ـ إثني، أو ديني ـ طائفي. وهذا ما لا يستطيع أن يتحمّله العالم المعاصر. التصوّر الموجود عند البعض لا يعني بالضرورة أن هناك «سايكس بيكو» ثانية. البعض يعتبر أن معاهدة «سايكس بيكو» قسّمت الأمة العربية بعدما كانت موحّدة، لكني أسأل: متى كانت الأمة العربية موحدة؟ العالم العربي كان ولايات تابعة للسلطنة العثمانية.
البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا بيكو ارتبطا بمصالح استعمارية، وأعادا تأسيس الدول العربية القديمة التي لها أساس تاريخي (العراق، سوريا، لبنان وفلسطين) كدول مع تعديلات بالخرائط هنا وهناك. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى وافقت «عصبة الأمم» على هذا التقاسم، وكلّفت الفرنسيين والإنكليز بمهمة تحضير هذه الدول للاستقلال باسم «الانتداب». ما يمكن أن يحصل بدلاً من التغيير، هو إعادة صياغة الدول والأنظمة، وبالطبع هي عملية صعبة جداً، لأن جوهرها هو إعادة العلاقات بين مكوّنات كل بلد من هذه البلدان لكي تتساوى بالحقوق والواجبات، ما قد يؤدي إلى حكم ذاتي هنا، أو فيدرالية أو لا مركزية إدارية هناك.
○ يعني أن الهدف هو الوصول إلى صيغة تلغي وجود أقلية حاكمة وأكثرية محكومة؟
- الأمر يتوقف على مَن سيقرر مصائر بلداننا. الواقع الراهن يُشير إلى أن الذي سيقرّر ليس شعوبنا، وإنما القوى الأخرى التي دخلت أو جرى استدعاؤها للدخول، وتتشابه البلدان العربية جميعاً في ذلك، من العراق إلى سوريا فلبنان واليمن وليبيا، باستثناء مصر، حيث كان يخطط ـ زمن الإخوان المسلمين ـ لفصل سيناء عن باقي الجسم المصري، وربطها بغزة تمهيداً لتشكيل دولة إسلامية تتألف منهما، وهو كان يهدف إلى إنهاء قضية فلسطين. الذين يتحكمون الآن بمصائر بلداننا، إلى أن تتم التسويات، ليس همّهم الأساسي معالجة الخلافات والصراعات القائمة بين المكوّنات، بل همّهم المحافظة على مصالحهم.
○ القراءات أيضاً تختلف حيال تدخّل روسيا المباشر في سوريا، هل هو لتعزيز موطئ قدمها على المتوسط أم أنه ورقة مقايضة على أمنها القومي وحدائقها الخلفية؟
- قراءتي الأوّلية للدور الروسي في سوريا، والذي يحتاج إلى بحث عميق، هي أن روسيا في صراعها مع أمريكا لم تجد مكاناً تستطيع أن تحارب فيه أفضل من مكان سوريا. لماذا؟ لأن النظام (السوري) في ردّه على «الربيع العربي» ـ الذي أقيّمه عالياً وأعتبره ثورات حقيقية ينقصها الكثير من العناصر للوصول إلى ما تبتغيه ـ خلق ظاهرة «داعش» لكي يقول: إما أنا أو الإرهاب بشكل «داعش». روسيا دخلت إلى سوريا تحت عنوان هذه الثنائية، وكان همّها أن تقف إلى جانب النظام ـ رغم أنها أعلنت أكثر من مرة أنها لا تتمسك برأس النظام الذي تعتبره استبدادياً ـ وأن تقول للأمريكيين أنها الأقدر والأكثر فعالية منهم في مواجهة ظاهرة «داعش»، التي هي ظاهرة عالمية خطيرة. وليس الاستقواء بهذا الموقف سوى لمتابعة المعركة القديمة التي بدأت في أوكرانيا. روسيا تصارع لتقول إنها دولة عظمى مثلما كانت أيام الاتحاد السوفييتي، لكن في الواقع هي ليست كذلك، لأن السلاح لم يعد هو المعيار الذي يُقرّر عظمة الدول بل الاقتصاد، والصين مثال حيّ على ذلك، فيما روسيا اليوم هي في واقع الأمر دولة ذات اقتصاد ريعي بالأغلب. لا تستطيع روسيا مقاتلة الأمريكيين استناداً إلى استخدامها السلاح ضد الإرهاب. واشنطن تستنزف القدرات الروسية في سوريا. وها هي روسيا في النهاية تجد نفسها مضطرة لإقامة تحالف مع أمريكا من أجل أن تكون شريكتها في الحل داخل سوريا. فمع تقييمي لدور روسيا الإيجابي في سوريا…
○ أين هو الدور الإيجابي؟
- لعبت دوراً إيجابياً في مواجهة الإرهاب، رغم وقوفها إلى جانب النظام السوري الذي أنا ضده.
○ ولكنك تقول أن الإرهاب صنيعة النظام؟
- نعم، ولكنه تنامى بشكل كبير، ولم ينتهِ لحد الآن. هو ما زال موجوداً في مناطق عديدة. الأمور تطوّرت بشكل جعل الروس يقولون للعالم بأنهم يلعبون دوراً أساسياً في محاربة الإرهاب الذي أصبح ظاهرة عالمية.
○ أليس للتحالف الدولي دور في محاربته أيضاً؟
- لنتكلم بواقعية، دور التحالف في سوريا ضعيف بالمقارنة مع الدور الروسي. صحيح أن للأمريكيين دوراً في تحرير المناطق الواقعة شرق الفرات، لكن هذا لا يعطيهم دوراً أساسياً، كما أن الروس يريدون أن يكون لأمريكا دور في الحرب، لأنه من دونها لا يمكن لروسيا وحدها أن تضع حلاً للأزمة السورية… الدور الروسي هدفه الأساسي الوقوف في وجه أمريكا من خلال القول «إننا هنا ولدينا موطئ قدم على البحر المتوسط في بلد مهم اسمه سوريا، ونحن شركاء في محاربة الإرهاب». لكن في تقديري الشخصي، هذا لن يعطي لروسيا ما تطمح إليه بشكل يجعلها دولة عظمى تقف في وجه أمريكا، التي هي من دون شك دولة عظمى، لكنها ليست كما كانت عليه في السابق. الوقائع تختلف اختلافاً كاملاً في الألفية الثالثة عما كانت عليه في القرن العشرين.
○ إذاً الدخول الروسي إلى سوريا هو لمقارعة الولايات المتحدة واستكمالاً للمواجهة الدائرة في أوكرانيا؟
- في شق المواجهة مع أمريكا، سوريا أهم من أوكرانيا بالنسبة للروس لسبب بسيط، وهو أن أوكرانيا انسلخت وتستعد للدخول إلى الحلف الأطلسي، لكن سوريا إلى أين ستذهب؟ القواعد الروسية موجودة في سوريا، وسوريا جزء مهم من المنطقة، والروس يريدون أن يكون لهم مُرتكَز في المنطقة بدءاً من سوريا وامتداداً إلى البلدان الأخرى. العقدة التي لا تزال من دون حل هي: كيف تصل موسكو إلى الحل السياسي؟ لن تستطيع إلا بالاتفاق مع أمريكا، التي هي خصمها.
○ هل روسيا قادرة على الحفاظ على هذا التمدّد في ظل وضع اقتصادي سيئ ومخاطر أمنية على أمنها القومي إذا ما تحركت قوى الإسلام السياسي؟
- في رأيي أنه سواء أنجزت روسيا الحل بالاشتراك مع الأمريكيين أو من دونهم، ستدفع الثمن داخل أراضيها. هناك 40 مليون مسلم داخل الاتحاد الروسي، ناهيك عن الجمهوريات الإسلامية السابقة التي أعلنت انفصالها. ماذا فعل الروس في سوريا؟ كان همّهم ضرب السنّة بالتحالف مع العلويين. اليوم هناك عمليات عسكرية كثيرة في الداخل الروسي لا يتم الإعلان عنها، فهل ستتمكن من قمع احتمال بروز ظاهرة على شاكلة «داعش» أو غيرها كرد فعل على دورها في سوريا؟ آمل ألا تدفع روسيا ذلك الثمن الباهظ.
○ هنا يوجد تناقض… الروس يقولون بأنهم غير متمسكين بهذا النظام الاستبدادي، بينما يُوسَم نظامهم بالاستبدادية أيضاً؟
- سأكون أكثر صراحة، الاتحاد السوفييتي السابق كان نظاماً استبدادياً بامتياز باسم الشيوعية. انهياره كان بسبب الاستبداد وحجب الحرية عن شعبه.
○ »التعددية التوافقية» أو «الديمقراطية التوافقية» أثبتت عملياً شلل النظام سواء في العراق أو في لبنان، هل تعتقد أن مستقبل سوريا سيقوم على تلك القاعدة نظراً لتشابه الدول الثلاث مجتمعياً؟
- يجب أن نفرّق بين ما يُراد من قبل المتحكّمين بالواقع القائم حالياً، أي الدول الخارجية، وبين ما يمكن أن يحققوه وبين ما تطمح إليه الشعوب. الغلبة حتى الآن هي للمتحكمين من قوى خارجية متحالفة مع الأنظمة الداخلية. إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يجري في سوريا، كم اجتماع انعقد في أستانا، وفي سوتشي وفي جنيف، خلال سبع سنوات، من دون أن يتم التوصل إلى أي صيغة؟ والآن المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا يعمل على صياغة دستور! ولكن مَن سيشارك في صياغة الدستور؟ فالمعارضات غير واضحة التوجهات. تلك القائمة حالياً ليست هي المعارضة التي بدأت، وكلها لها ارتباطات خارجية عربية وأجنبية. هناك النظام والقوى الخارجية التي هي حالياً روسيا وتركيا وإيران وأمريكا وأوروبا. المتحكمون ـ بمعزل عن حجم ودور كل منهم ـ مختلفون الآن، ولا يستطيعون الوصول إلى اتفاق. ولا يجب أن ننسى الدور الإسرائيلي.
الكل يُقاتل حتى يكون له دور أساسي. عندما قال (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو «لا أريد وجوداً إيرانياً على الأراضي السورية»، قام الروس بإبعاد الإيرانيين 85 كيلومتراً عن الحدود، ولكنه لم يقبل وطالب بخروج نهائي للقوات الإيرانية، وفي الوقت نفسه أبدى رغبته بإعادة العلاقات القديمة مع النظام القائمة منذ العام 1974، أي بكلام آخر: السلم الطبيعي عبر هدنة طويلة الأمد، انتهت بأن الجولان وبقرار من الكنيست أصبح إسرائيلياً. ما أريد قوله أن هذه المجموعة المتناقضة من القوى يُفكّر كل منها بالحل الذي يُناسبه.
○ هل نظام ديمقراطي توافقي يمكن أن يكون وصفة الحل؟
- النظام الديمقراطي التوافقي هو أكبر «كذبة» في التاريخ، لأن الديمقراطية التوافقية هي نقيض مطلق للديمقراطية، لا شيء اسمه «ديمقراطية توافقية». تمرّ لحظات معيّنة في كل بلدان العالم يتفق فيها الكل على قيام حكومة وحدة وطنية، ولكن تأتي بعدها أكثرية تفوز وأقلية تعارض. «الديموقراطية التوافقية» في صيغها المختلفة هي نتاج الأنظمة الاستبدادية بما في ذلك النظام الاستبدادي الموجود عندنا في لبنان والذي يُسمّى «نظاماً ديمقراطيا». توصيفي ينطلق من أن الوضع في لبنان وصل إلى مرحلة تتلخص بالمعادلة التالية: «إما حكومة اتفاق بين الجميع على تناقضاتهم أو لا حكومة».
○ الحرب الأهلية اللبنانية انتهت بـ «اتفاق الطائف»، الذي تسبب عدم تطبيقه بتعطيل قيام الدولة، والعراق بعد صدام حسين شهد ما يُشبه «طائف عراقي» وفشل في إقامة دولة، واليوم هناك كلام عن «طائف سوري»… هل هذه وصفة للدول الفاشلة؟
- هذه الحلول يفرضها الواقع القائم، وهو واقع حروب وصراعات داخلية وقوى خارجية تلعب دوراً أساسياً وتستفيد من النزاعات ومنها المذهبية لتحقيق مصالحها. والبعض الآخر يهمه ماهية النظام أو الدولة القادرة على تأمين مصالحه. اليوم في سوريا، هناك مصلحة أساسية تتمثل بإعادة إعمار سوريا، التي ستكلف مئات المليارات من الدولارات، مَن سيقوم بها؟ مَن يُعطي يأمر. مشروع مارشال لإعمار ألمانيا جعلها لفترة طويلة تخضع لقرار صاحب المشروع إلى أن كبرت وأنشأت كيانها. المطلوب راهناً وقف الحرب، وعودة النازحين إلى ديارهم سالمين، وتأسيس دستور مؤقت للمرحلة الحالية لا يخضع لتحكم الدول الخارجية، ومن ثم بدء الإعمار، بمعنى أن تبسيط الحل خطأ كبير، لأنه معقد جداً وطويل المدى. ولكن يمكن لبلدان أن تسبق أخرى.
لقد قمت مؤخراً بزيارة إلى العراق، ورأيت أن الصراع هناك فيه وضوح أكثر من سوريا، لأن القوى الخارجية في العراق ـ الأكثر تحكماً ـ هي إيران، ولكن أكثرية التظاهرات في المناطق الشيعية يكون طابعها العام التحرّر من الدور الإيراني المطلق من دون إلغائه، يعني أن العراقيين ـ بمن فيهم الشيعة ـ لا يريدون معاداة إيران، ولكن يرفضون تحكمها بواقعهم. ما أريد قوله أن هناك محاولات في العراق للتأسيس لحل مؤقت يُنهي الصراع، ومن ثم يجري التفكير في كيفية استقرار الوضع. المهم أن هناك بداية تكوّن لشعور شعبي، عنده القوّة التي تُعبّر عنه، لإخراج العراق من حالة الانقسام التي يُعاني منها.
○ الصورة في لبنان أن «حزب الله» الذي كان متحكماً بالقرار اللبناني عبر فائض القوة أصبح الآن متحكماً به من خلال صندوقة الاقتراع خلال الانتخابات النيابية الأخيرة التي جاءت لصالحه؟ هل تخشى من الإطاحة بالطائف في ظل الكلام الكثير عن الحاجة إلى مؤتمر تأسيسي؟
- المشكلة الأساسية في لبنان، منذ الاستقلال وحتى اليوم، أن الخارج هو الذي يُحدّد مسار الأمور. الأرضية فيه لم تنضج كما نضجت في العراق لأننا فشلنا في إدارة أمورنا بأنفسنا، رغم الشخصية اللبنانية الفذة والمتنوعة التي تجعل من لبنان بلداً نموذجيا، وهذا ما أدى إلى اندلاع حربين أهليتين، واحدة في العام 1958 والثانية في 1975. كل الأفرقاء استقوت بالخارج الذي أصبح هو مَن يُقرّر، وجاءت الحرب السورية لتعزيز هذا الدور الخارجي. لكن الأمر الإيجابي أن جميع الأفرقاء يتجنبون اندلاع الحرب الأهلية في لبنان من جديد. «الديمقراطية التوافقية» لها دور إيجابي في الظرف الراهن. رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط انتقد الابتعاد عن «اتفاق الطائف» الذي ينص على إنشاء مجلس شيوخ وبرلمان خارج القيد الطائفي، فجاءه الرد عبر المطالبة بتعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية التي أفقده إياها اتفاق الطائف. هذا يدل على أن لبنان باقٍ في «غرفة الانتظار» بسبب التدخل الخارجي.
لقد خرجنا من الحرب الأهلية بقرار دولي وعربي، وأنجزنا اتفاق الطائف، ولكننا ما زلنا مختلفين على التنفيذ، هذا معناه أننا لم نتعلم من أخطائنا السابقة. لبنان ينتظر صيغة الحلول لمشاكل المنطقة التي ستترك انعكاساتها علينا. أولاً، يجب أن يكون النظام في لبنان ديمقراطياً ـ تعددياً، بمعنى أن هناك مكوّنات متعددة يجب أن تُحترم في إطار هذا النظام، وأحد أشكال التعبير عنها هو اللامركزية الإدارية. وثانياً، أن تقوم في لبنان دولة مدنية حديثة فيها فصل بين الدين والدولة. اتفاق الطائف ليس منزلاً ولكن ينبغي تطويره بعد تطبيقه، تطويره في الاتجاه الذي يخدم هذين الهدفين.
أما في ما يتعلق بتحكّم «حزب الله» بمفاصل الدولة اللبنانية بعد الانتخابات النيابية فأنا لن أدخل في هذا السجال لأن خلفياته سياسية. أنا رأيي أن لا «حزب الله» ولا غيره يستطيع أن يتحكم بمصير لبنان، ما يتحكم بالمصير اللبناني هو نتائج الحلول السياسية في المنطقة. أنا لا أخشى الكلام عن «المؤتمر التأسيسي» ولا أخشى المطالبة بتعديل الطائف، ففي تصوّري أن الحل لن يكون على حساب لبنان، ولن يكون لصالح فئة ضد أخرى. ما يحصل حالياً هو تعطيل لتشكيل الحكومة من أجل «تعظيم» المصالح لبعض الفئات بهدف التحكم (غير الممكن) بالبلاد.
○ واقع المنطقة يُشير إلى أن المحور الإيراني في حال تراجع منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة… هل تعتقد أن استراتيجيته بدأت تؤتي ثمارها؟
- الاتفاق النووي الذي أنجزه (الرئيس الأمريكي السابق) باراك أوباما مع الإيرانيين كان عنوانه «انكفاء إيران عن الساحة الخارجية» لأن لديها القدرة على التحوّل إلى دولة عظمى من الداخل. المؤسف أن السلطة الحاكمة في إيران لم تستجب لموقف أوباما، وستدفع الثمن غالياً، لأنه لن يُسمح باستمرار تحكمها بالأوضاع في العراق وسوريا واليمن ولبنان… فهذا مستحيل. الوضع الداخلي الإيراني، الذي يشهد مظاهرات تطالب بتحسين الأوضاع المعيشية، يدفعني إلى التساؤل عما إذا كانت السلطة الإيرانية ستمارس دوراً حكيماً يجعلها تتخلى عن الدور الخارجي لكي تهتم بإعادة بناء بلادها؟
○ لكن تدخلهم الخارجي نابع من صميم مشروعهم الديني القائم على مبدأ تصدير الثورة؟
- ما شاهدته في العراق عند الأكثرية الشيعية من أنها تريد علاقة صداقة وجوار مع إيران لا علاقة تبعية، جعلني مقتنعاً بحتمية أن لا حل ممكناً إلا بتكوّن سياسة عقلانية حكيمة تنطلق من تغيير سياستها القائمة على التدخل بدول الجوار لصالح علاقة جيدة معها، والكف عن مفهوم تصدير الثورة، والاستجابة الحقيقية لمصالح شعبها.
○ ثمّة مَن يرى أن هناك مقايضة بين العمل على محاصرة النفوذ الإيراني المتشعّب في المنطقة، والذي يراه البعض متقدماً على الخطر الإسرائيلي، مقابل تمرير المشروع الأمريكي لإنهاء الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، الذي يُنذر بالإطاحة بحل الدولتين؟
- الخطورة تكمن في أنه بدلاً من العمل على كيفية مواجهة إسرائيل تمهيداً لحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، نرى أن المعارك تشعبت وذهبت في الاتجاه الآخر. الإسرائيليون مسرورون لأنه لم تعد هناك دولة فلسطينية… أين هي هذه الدولة؟ إذا صح الكلام عن اتفاق نتنياهو مع «حركة حماس» على هدنة طويلة، هذا معناه أن الدولة الفلسطينية الفعلية أصبحت في غزة فقط، مع الانتشار الكثيف للمستوطنات في الضفة الغربية. ترامب ونتنياهو يعملان على إنهاء القضية الفلسطينية في إطار ما يُعرف بـ «صفقة القرن». المسؤولية يتحمّلها الفلسطينيون بالدرجة الأولى ومن ثم العرب وحلفاؤهم، لأنهم يتصرّفون وفقاً لمصالحهم الشخصية.
على الفلسطينيين أن يتفقوا لمواجهة إسرائيل، التي هي عدوّنا الأساسي. القرار الذي اتخذ في مؤتمر قمة سنة 2002 هو القرار الوحيد الذي ينبغي التمسك به على أساس حل الدولتين. صحيح أن فيه اعتراف بإسرائيل لكن مقابل ذلك هناك دولة فلسطينية مرسومة الحدود.
○ ما بات يعرف بـ «صفقة القرن» هل هو قابل للتحقق؟
- ليس بالضرورة أن تصل «صفقة القرن» إلى نتيجة، لأن قضية مثل القضية الفلسطينية من المستحيل إن تنتهي إلا على أساس حل عادل. ولكن ما أخشاه أن تبتعد إلى الحدود المرعبة إمكانية حل الدولتين، أولاً عند الفلسطينيين، وثانياً عند العرب، وثالثاً عند حلفاء العرب، ورابعاً عند إسرائيل، العدو الأساسي للعرب والفلسطينيين.
○ كيف تنظر إلى الدور الإيراني في المنطقة؟
- منذ انطلاق الثورة الإسلامية وليومنا هذا، الدور الإيراني في العالم العربي يعتبر سلبياً، بغض النظر عن الشعارات التي طُرحت. فكرة ولاية الفقيه خطأ من أساسها. فالله خاطب نبيه قائلاً: «لست على المسلمين ولياً إنما أنت مُذكّر»، فكيف يمكن أن يكون هناك ولي من المسلمين على المسلمين نقيضاً لما جاء في القرآن الكريم؟ الحكم الإيراني يرتكب أخطاء فادحة سيدفع ثمنها باهظاً إذا لم يغيّر سياساته، أولاً ضد شعبه، وثانياً ضد البلدان المجاورة التي يُفترض أن تربطه بها علاقات صداقة.
○ هل تتوقع «ربيعاً إيرانياً»؟
- لا أستطيع التنبؤ بذلك، لكن هذه الاحتجاجات المتواصلة منذ عدة سنوات لا بدّ أن تكون لها تأثيرات كبرى على الداخل الإيراني.
القدس العربي