اليسار… المثقف وثعبان السياسة/ يحيى بن الوليد
“بدون ثقافة ومثقفين” لا هوية لليسار باعتباره تيارا من التيارات السياسية ــ الإيديولوجية التي تحرص على أن تكون “مسقوفة” سياسيا وثقافيا في الوقت ذاته؛ وذلك كلّه حتى يضمن هذا التيار لذاته نوعا من التموضع ضمن “دينامية المحايثة” (Immanence) في حقل الجدلية المجتمعية الخليطة والمتدافعة لأغلب المجتمعات العربية. غير أنه تجدر الملاحظة إلى الهوة السحيقة التي وصل إليها “ثعبان السياسة” في العالم العربي ككل. والمقصود، هنا، السياسة بمعناها التاريخي التقدمي وليس بمعناها التنويمي والتخديري والتبخيسي والتفتيتي… كما في الأغلب الأعم أو مقابله التجييشي والتحشيدي والتهييجي والترقيعي… كما في تلوينات الظرف المناسباتي. إجمالا وصلت السياسة، في العالم العربي، إلى حال غير مسبوقة من الإنهاك والعياء والخلط والتداخل… نتيجة زعاماتها العامية الاستبدادية، ونتيجة نخبها المنشقة والمتواطئة والفاسدة في الأغلب الأعم. وكانت الحصيلة المتحرِّكة، والمفزعة، أن أفرغت السياسة من “معدّات الضغط السياسي” ومن “الأفكار التي تتحوّل إلى قوة مادية”.
وفي ظل مثل هذا التخريب العمد للسياسة لا يبدو نشازا أن يتحقّق نوع من الإقصاء المدروس والمقصود والمستثمر، من قبل “الفاعل السياسي”، للمثقف وللثقافي بصفة عامة… مع أن العلاقة ما بين السياسي والثقافي هي علاقة “وجود” وليست علاقة “حدود”. ومن الجلي أن لا يقبل بالمثقف في جهاز التنظيم الذي هو في حد ذاته “عائق سياسي” بتعبير جان مارك بيوتي في كتابه “فكر غرامشي السياسي”، وإذا كان من قـبول أو ترحيب بالمثقف فـ”كضيف شرف” في هامش محصور وحيز زماني محدود. وكما أن التحوّلات الحاصلة في أداء المثقف العام، وعلى مستوى الأدوار المنوطة به على مستوى الإسهام في التحوّلات التاريخية، حمّـست المثقفين على تقديم استقالاتهم بل استثمار هذه الاستقالة على مستوى بيع استشاراتهم وخبراتهم للمراكز والمؤسسات والجهات… التي تدفع أكثر. وفي حال قبولهم بمغامرة التشابك مع السياسي، فإن منطق الحاسوب هو المعيار. لقد انتهى ما كان يسمى، في علم الاجتماع السياسي، بصراعات الصفوف أو الاصطفاف وأخلاقيات الاختلاف… وغير ذلك من الثوابت التي كان ينشّطها المثقف ويغذّيها ويوسّـع من آفاقها بأفكاره النقدية وارتساماته العفوية وأحلامه المشروعة، وعلى النحو الذي يجعل من السياسة جبهة قائمة على تجاور التيارات وتكاملها؛ ما يكشف عن مراجع السياسة وشرف الانتساب لها. لقد تخلى المثقف عن هذا الدور الفكري الملازم للسياسة؛ وفي مقابل ذلك استسلم، وطواعية، لدور التابع و”المبلّغ بالنتائج” بل تجاوز ذلك نحو أداء دور المهرِّج… ودون أن يسأل عن المصادر التي يتكئ الزعيم السياسي عليها في تمويله.
إن الحاجة إلى المثقف، في وقتنا الراهن، وبفهم مغاير، لا تزال مطروحة بإلحاح بالنظر لمطلب تهوية السياسي بالثقافي تلافيا للمستنقع الذي يذوّبهما معا. فلا مخرج من ذلك إلا من خلال “المراجعة المرآوية” لكلا الطرفين، ذلك أن العلاقة التي تصل ما بينهما هي العلاقة ذاتها التي تصل ما بين وجهي العملة. وكما قال الشاعر المفكر العربي، الأبرز، أدونيس، في حوار معه (وهو متداول في شبكة الاتصال الدولي): “المسألة الثقافية ليست مسألة فردية. هي مسألة رؤية. السياسي جزء من الثقافي، وليس العكس. العرب يتصرفون على أساس أن السياسي هو كل شيء، وأن الثقافة والفن والعلم والجيش تابع للسياسي. وهذه من الأخطاء الكبرى التي تؤكد أن النظام العربي يفتقر إلى أي رؤية خارج حدوده المصلحية وخارج حدود البقاء في الحكم مهما كلف هذا البقاء. وهذا مما يتيح القول إن الثقافة العربية السائدة ليست ظاهرة بحث وتساؤل ونقد، بقدر ما هي ظاهرة سيكولوجية. ولهذا حديث طويل”.
وليس في الثقافة، هنا، ما يعضّد من شأن السياسة فقط، بل ما ينصرف إلى تعضيد الاجتماع أيضا. فـ”الثقافة إسمنت التلاحم الاجتماعي” كما يتصوّر أنطونيو غرامشي. وهي، كذلك، وبشكلها العقائدي المركَّـز كما كان يجادل ماكس فيبر، أحدثت تغيّرا اقتصاديا وسياسيا. فدور الثقافة كامن على هذا المستوى بالضبط، ما يستلزم الالتفات إلى الثقافات الأخرى المضادة التي تسعى إلى نسف بنيان العقل والتسامح والحوار… بغية تفتيت التلاحم وزرع البلقنة والطائفية والمرجعية وبالتالي التهام البقية الباقية.
غير أن ما سلف لا ينبغي أن يفضي بنا إلى أن ننغلق في إطار من تصوّر ثبوتي شمولي لا يأخذ بالتعددية فقط، وإنما لا يراعي مجمل التحوّلات التي حصلت في اليسار ذاته أيضا. فأن تكون يساريا، في وقت سابق، يعني أن تكون واحدا من تلك الملايين المملينة التي كانت تعتنق تلك “الأفكار التي تتحوّل إلى قوة مادية عندما تعتنقها الجماهير”. ولنا في سبعينيات القرن الماضي، بالمغرب، أدل مثال على ذلك المناخ الإيديولوجي الساخن الذي كان يمتد من الفكر إلى القصيدة شاغلا جميع أجناس التعبير الفني وأشكال التدخّـل الفكري والثقافي والجمعوي.
لم يعد الآن من وجود لمثل هذه الأفكار، ولا من وجود للمراجع التي كانت تؤجّج هذه الأفكار، بل لم يعد من مسوِّغ للمرحلة ككل دونما تنقيص منها من ناحية أو تقديس لها من ناحية مقابلة. سيكون من باب “الإيديولوجيا القذرة” الإلحاح على المجلدات الأربعين للينين، في أفق الإرغام على قراءتها، أو حتى قراءة نصوص مختارة منها، حتى يصير الإنسان يساريا. ودون تنقيص من الفلسفة الماركسية التي لا تزال تجدّد ذاتها من خلال القراءة المجدِّدة لذاتها وللماركسية نفسها؛ وهذا هو الغائب أو المفتقد في النقاش الجاري، والمحدود للمناسبة، حول اليسار واليساريين بالمغرب الراهن.
لم يعد المعيار، في التيارات اليسارية، هو الاستحواذ على السلطة. ومنذ مدة نبّه المؤرّخ المفكر المغربي الألمعي عبد الله العروي، في كتابه “العرب والفكر التاريخي”، إلى تركيز النخب العربية ــ ككل ــ على هاجس الوصول إلى السلطة دون إيلاء أهمية للثقافة. ويضاف إلى ذلك، وتبعا لتوصيف المهدي بن بركة (أيقونة اليسار بالمغرب)، “الغرور السياسي التقليدي” الذي يلازم أداء السياسيين وبما في ذلك من التيار الإسلاموي المعلن والمؤمن بلعبة الانتخابات والتسيير الحكومي. فالجانب الثقافي ضروري بالنظر لـ”الخواء الفكري الرنّان” للزعامات السياسية العامة. ونحن لا نطالب السياسي بأن يخلط مجال تحرّكه بمجال المحلّل السياسي أو المفكر السياسي، غير أن ذلك لا يعفي هذا السياسي من أن يدعم خطاباته ومداخلاته وردوده… بأفكار وأقوال وأمثال… حتى يثبت جدارة انتسابه للسياسة وفي الحياة كما في الممات. وليس من باب الشماتة أو التشفي أن نؤكد أن أغلب سياسيينا، وبما في ذلك من داخل اليسار، غير مقنعين… لأنهم لا يقرأون ولا يتابعون ما يجري في الحقل الذي يتحركّون فيه.
وكما أن “السند الثقافي” ضروري للدولة حتى ترقى إلى أن تحمي من الانفجار الاجتماعي، فالجانب الإداري والعسكري أحادي ولا يكفي بمفرده. والمطلوب، هنا، وسواء في حال المغرب أو غيره من البلدان العربية، دولة تكون أداة للتنمية والإدماج والكسب الديمقراطي المتدرّج… وليست أداة للاستبداد السياسي والاستعمار الداخلي. والدستور والديمقراطية لا يمكنهما النزول من فوق. فهما، أيضا، وشأن الظاهرة السياسية ككل، ظاهرة ثقافية واجتماعية. والسياسي بمفرده عاجز عن التقدم على مستوى تنزيل الدستور وعلى مستوى تأهيل البشر للتحرّك نحو تمثّل قيم الديمقراطية السياسية ومكتسبات المجتمع المدني. ولذلك كان “الإخضاع الثقافي أخطر من الإخضاع السياسي والعسكري” كما يقول الأكاديمي العالمي إدوارد سعيد، لأنه يدوم أكثر. ثم إن ما حصل، في العالم العربي، من أشكال من الاستبداد الافتراسي ومن “خروج من التاريخ”، كان نتيجة ثقافة مترسِّخة ومتكلّسة. ومن ثم ضرورة الوعي بأهمية تفعيل المواجهة على هذا المستوى الأخير.
وحتى نخرج من السياسة الحدية، ونوسِّع من المهام المطروحة على اليسار، فثمة الانفجار الثقافي الذي صار في جدلية المجتمعات العربية ككل. انفجار أخذ يتجسد على مستوى التعاطي مع مشكلات الهوية والذاكرة واللغة والماضي والمرأة والشباب والجسد والقراءة… إلخ. ونحن، هنا، ليس هدفنا هو الدفاع عن ما يسميه البعض بـ”اليسار الأكاديمي” أو “ما بعد اليسار”، أو حتى “اليسار الثقافي الفوضوي” في انتقاله من موضوع إلى آخر دون استناد إلى خيط رابط أو نسق رابض، أو “اليسار المقاتل”، وإنما هدفنا هو التنبيه إلى أنه ليس هناك ما هو أخطر من ترك هذه الأوراش ــ أو بالأدق الألغام ــ للسياسيين والنشطاء… بمفردهم. فـ”صوت الثقافة” هو الأقرب من التصدي لانزلاقات الكراهية وبراثن الحرب الأهلية الكلامية… التي عادة ما ترافق تعاطي النقاش العام مع هذه الألغام ولتأخذ في الاتساع ميدانيا في الوقت نفسه.
اليسار مطالب بالتأكيد على “مثقفه العام” الذي بإمكانه القتال على مستوى هذا الفراغ الثقافي الذي ينخر الجسد الاجتماعي مثلما يفسح لمساحات من التجريف السياسي العبثي والعدمي. وسيكون من باب التجزيء أو التجني اختزال الإنتاج الفكري وأداء المثقفين فقط في جبهات الدستور والانتخابات وحقوق الإنسان والتحوّل الديمقراطي… إلخ. وصفوة القول: ثمة جبهات أخرى تؤثر بدورها مثلما تفرمل أيضا. فأشكال المكبوت الاجتماعي والتكلّس الذهني والمسكوت عن المسكوت عنه والتهميش الاجتماعي والتصحّر الثقافي… لها تأثيراتها الحاصدة والرهيبة.
ولا يمكن للمطلب الأخير، الوازن، أن يتضح ما لم يتم توظيف لغة مغايرة ومحكمة… لغة غير متيبسة ودنيئة ومنحطة ومنهكة. لغة لا مجال فيها للعنف الديماغوجي والماكياج السياسي. لغة الزِبالة ولغة مزابل التاريخ المفتوحة… وغير ذلك من مفردات العداء الإيديولوجي. فالكراهية والعنصرية والطائفية… تمرّ عبر اللغة، مثلما تشلّ هذه اللغة. ولا داعي للتأكيد على أن اللغة هي الفكر ذاته، الفكر السياسي في هذه الحال. و”من فاته درس في اللغة فاته درس في الفكر” كما قال الفيلسوف هيغل منذ زمان.
وبقي أن نشير إلى أن التعاطي مع الألغام سالفة الذكر لا ينبغي أن يستند إلى “تيار الثقافة الرئيس” كما يصفه البعض. ولا نعتقد أن هناك من بإمكانه، في وقتنا الراهن هذا، وفي جهات الأرض الأربع، أن يطالب بـ”وحدة ثقافية كاملة”. فالتهجين (Hybridation) (وكما هو مصاغ في “نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” و”النقد الثقافي” بصفة عامة)، هو ما لم تسلم منه لغة من اللغات أو هوية من الهويات أو ثقافة من الثقافات… إلخ. فالثقافة إما أن تضيق أو إمّا أن تتسّع في حال النظر إليها من خلال قابليتها لاحتضان التنوّع. إن دعوى التعدّدية صارت تحظى بأولوية مقارنة مع رافعة التنمية ذاتها وباعتبارها الهاجس الخانق لبلدان العالم الثالث الجديد.
ختاما يتوجّب التنصيص على أننا لا نوحي بأي نوع من المبالغة في تقدير النزعة الثقافية (Culturalism) وعلى النحو الذي يردّ كل شيء في هذه الدنيا للثقافة بمفردها، وإنْ بمعناها الأنثروبولوجي الرحب، ما يسقطنا في “الداء الثقافوي” الذي يفسر المجتمع والتاريخ بالثقافة. فإلى جانب مفعول الثقافة هناك مفعول “الحتمية الاجتماعية”. غير أن هذا الحذر لا يحول، من ناحية مقابلة، دون التأكيد على المنعطف الثقافي (Cultural Turn) الذي صار العلامة الأبرز على العصر ككل. وفي حال المغرب، فإن الأمل معقود على الاستجابة لهذا المنعطف وعلى التفاعل معه، وعلى النحو الذي يجعل السياسي يلتزم ثقافيا مثلما يجعل المثقف يلتزم سياسيا. وكما قال سارتر، في تقديمه لـ”معذبو الأرض” لفرانز فانون، فإن “الثقافة الحقة هي الثورة بعينها”.
ملحوظة: المقال محاضرة ألقيناها، مؤخرا، لفائدة طلبة جامعيين، في إطار فعاليات جامعة صيفية مفتوحة بالمغرب.
ضفة ثالثة