فيلم “دم شاعر” لجان كوكتو: سينما شعرية تحتفي بالحلم/ حميد عقبي
عاش جان كوكتو كطفل يحول لعبه وخياله الطفولي إلى واقع وحقيقة ولم يسأم من هذا، فقد زرع حدائق إبداعية مدهشة وحفرها في عمق الذاكرة الفنية الإنسانية، وهو ابن ذلك الأب الذي انتحر بطلقة في الرأس في الثامنة صباحا حيث كان جان بالعاشرة من العمر، فظل المشهد حيًا ومسموعًا، وسنجد هذا الحدث في كل أعماله السينمائية وكتاباته وأشعاره.
كوكتو منذ طفولته وشبابه كان متنوع الإبداع، وتقلب في جميع حقول الأدب والفن، لكنه ظل الشاعر الذي لم يستطع للحظة مفارقة فضاء الشعر واستسلم للغرق بسحر الشعر كقدر أبدي إلى آخر نفس في حياته المصبوغة بالحرقة والألم ولذة الإبداع.
الأدب نافذة للحلم والتنفس
لم يكن كوكتو شخصية سهلة وسعيدة، وعانى من الاكتئاب والاضطرابات النفسية، فهو ليس بالرجل العادي صاحب المشاريع الواضحة والأهداف المحددة، كان يبني ويهدم، يجول ويصول في ميادين الفن والأدب ولا يهتم بنقد أو مدح أو مصلحة.
كان الأدب نافذته للحلم والتنفس، وعندما لا يشعر بلذة ما يكتب يتجه إلى الرسم أو السينما، وعندما يمل ينغمس في اللذة والعشق وقد يترك العشق إلى العزف على البيانو أو يسجن نفسه في عزلة مكتئبة. كل شيء ممكن فلم يعرف كوكتو حياة مستقرة ولا سعادة مستمرة، فهو الكائن القلق والطفل المذعور من كوابيس الموت، والشاعر المجنون، والسينمائي المجرب للحلم المصور للعالم الميتافيزيقي وغير المرئي بتفاصيل خلقها هو ولم يأبه إن كانت متفقة أو معارضة لأي دين أو ملة.
كوكتو يكره الفنتازيا، وبالنسبة له الشاعر ليس فنتازيا كما يظن الناس بل عكس ذلك، ونفهم أن الدراما في الشعر ولدت من مناخات أرستقراطية تقود إلى شباك التذاكر، وهو يرفض هذا النوع الدرامي، والشاعر أو الفنان ليس صانعًا لصنعة ما بل هو خالق مبدع ومجالات الإبداع الفنية كالرسم مثلا وكذلك الشعر والكتابة ليست كالعلوم التطبيقية والتكنولوجيا التي تتطلب عملًا جماعيًا ضمن فريق، لكنها عكس ذلك تتطلب عزلة وهي مجالات إبداع فردي تتضح فيها ملامح مبدعها ويصبغ فيها من روحه هواجسه وأحلامه.
كان جان كوكتو محبًا للآخرين ولحبهم، وقد نفهم هذا من تعدد علاقاته الجنسية. وكان يُغرق نفسه في نشاطاته الكثيرة، فهو الشاعر الكاتب الممثل الرسام والمخرج السينمائي والمسرحي والناقد، ونرى خلطًا ومزجًا بين الإبداع والرغبة واللذة الشخصية وكذلك الحاجة إلى الحب، وكانت نتيجة كل هذا إبداعات عبقرية قوية ومدهشة.
ونفهم بوجود نوعين من الكُتاب، فالأول ذلك الكاتب الذي يقع في شهوة الشعر مبكرًا في شبابه، وهناك شعراء وكتاب كما في فرنسا وغيرها يخرجون من وسط برجوازي وهؤلاء أبناء آبائهم، وعلى هذا النوع البحث عن جلده الحقيقي الخاص وألا يظل في جلباب الطبقة البرجوازية، وهذا ما فعله كوكتو ليكون إنسانيا في المقام الأول والأخير.
كوكتو والسينما
كوكتو عرف أنه سيكون شاعرًا وهو في سن مبكرة، وهو ليس كأي شاعر يغرق في محيط الشعر وحده بل يبحر بحرية ليمزج الشعر بالمسرح والسينما، وهكذا انطلق إلى السينما بفهمها فنًا شعريًا قادرًا على أن يعبر عن خيالاته وهوسه وأساطيره وألمه ورغباته، فهي سلاح ووسيلة تعبير ساحرة بيد شاعرٍ مختلفٍ.
في عام 1930 كان فيلمه الأول “دم شاعر” مع الممثل جان ماريه الذي سيرافقه في أفلامه الأخرى. ويعتبر كوكتو لدى الكثيرين كالأب الذي هدم تقاليد وقلب نظريات سينمائية عديدة كانت سائدة قبله ليصبح مرجعًا جديدًا يتجدد مع كل فيلم جديد يخرجه أو تجربة يشترك فيها كسيناريست.
حينما أقدم كوكتو على خوض مغامرته السينمائية الأولى “دم شاعر” لم يكن يعرف عن السينما ولذلك خلق لنفسه طريقًا ومنهجًا خاصًا به، وفي هذا الفيلم نلحظ أن الإيقاع يكون بطيئًا، وهو شخصيًا يعترف ببعض أخطائه في هذا الفيلم لكنها أخطاء قدمت له خدمات وقدمته مختلفًا فهو هنا يريد تحقيق ذاته الشعرية وليس كسب مهنة أو صفة سينمائي فما يهمه هو صفة الشاعر.
في هذا الفيلم انطلق كوكتو من سيناريو حالم. ولم يقدم لنا الفيلم حكاية ولا خلطة سيريالية مبهمة وغامضة، وفيلمه هذا كان بداية لسينما الحلم التي سنراها مزدهرة في أفلام إنغمار بيرغمان وسينما فلليني. وحين أخرج هذا الفيلم لم يكن في حالة نفسية مستقرة وكان منقطعًا عن حقيقة الواقع وغارقًا في الإدمان، وكان للفيلم تأثير قويّ في ذلك العهد وما يزال يحتفظ بسحره إلى اليوم.
لم يكن فيلم “دم شاعر” موجهًا للجمهور الواسع بل للمفكرين والشعراء والفنانين، وكانت ردة فعل الموجة السريالية غاضبة وكرهت كوكتو. وهناك فروقات بين فيلم “دم شاعر” وفيلم “كلب أندلسي” للويس بونويل وسلفادور دالي، فكوكتو لم يتنازل عن الروح الشعرية واعتبره تجربة شعرية سينمائية محضة، بينما فيلم “كلب أندلسي” مشبع بروح الفن التشكيلي السريالي كون دالي يعتبر السينما كالفن التشكيلي، وجميع الأشياء في فيلم “كلب أندلسي” سبق أن رسمها دالي.
السرياليون كرهوا هذا الفيلم وكوكتو، ولعل الأسباب تعود إلى أن كوكتو كشاعر تأثر بالسريالية وغيرها من الموجات الفنية والفكرية والأدبية ولم يحصر نفسه معها، كما أن علاقة كوكتو وأندريه بريتون كانت تشوبها تعقيدات عدة وكان بريتون ينظر إلى كوكتو بأنه القادم من وسط برجوازي وليس من وسط اجتماعي شعبي.
انطلق كوكتو من شعوره بالحرية الخلاقة لعرض كل ما هو غير مرئي دون أن يلتزم بالمنطق والعقلانية أو النظريات السينمائية، وبين الحلم والواقع كان الشاعر يستكشف موضوعاته المفضلة: اللذة والرغبة، حالة الفنان، الوعي بالموت. ونجد بذور العديد من الأحداث والشخصيات والأشياء المتكررة في أفلام كوكتو وهي مثل أرضية خصبة لخلق الحلم المدهش مثل التماثيل الحية في “دم شاعر”، ثم سنجد شبهًا لها في “الجميلة والوحش”، مثل معركة كرات الثلج القاتلة وعبور المرآة. وهناك أيضا عشق الشاعر السينمائي للأساطير القديمة، مثل أسطورة بجماليون ثم أورفي.
سينما كوكتو تخلق عوالم مصبوغة بالميتافيزيقي والحلم عبر صور بروح شعرية طفولية تبتعد عن الصنعة البلاغية المتكلفة فتبدو طبيعية، وهي مشحونة بذكرياته الشخصية الخاصة، وملتصقة بالموت، حيث نحس برعشة الموت وظلاله.
كوكتو يعترف بصدق بكل هذيانه ولا يحاول الهروب منه، فالسينما الحلم في حالة الصحوة، ولا يتورع عن دمج رسوماته ويبعث فيها الحياة. نجد أننا مع سينما تبتعد عن أنماط السرد التقليدية والصور المصنعة، وكل ما يريده هو تصوير رؤيته الشعرية عبر وسيلة تعبير خلاقة هي السينما، ويستخدم كوكتو السينما كأداة لاستكشاف اللاوعي والحلم وإنتاج معان تتجدد دائمًا، بمعنى أن السينما أداة للخيال وتجربة حسية حقيقية.
أشبه بالنزول إلى النفس
في كتابه “صعوبة الكينونة”، 1946، يوضح كوكتو أن فيلم “دم شاعر” أشبه بالنزول إلى النفس، وسيلة توظيف ميكانية الحلم في حالة اليقظة، والروح في حالة نعاس، فالأحداث تتعاقب وتسير كما تشاء هي دون أن يكون لنا قدرة على تعديلها أو ترتيبها، ونفقد السيطرة وتنشط الذكريات متحررة، لذلك نغرق في تشويهات تأخذ أشكالًا وصورًا مختلفة فيرتعش الجسد ويصبح كاللغز أو في عالم الغيب.
فيلم “دم شاعر” يعد من الأفلام التجريبية، وهو مقسم إلى أربعة أجزاء أو فصول.
في الجزء الأول وفي غرفة متواضعة سنرى الشاب الفنان يرسم ثم يمحو ما رسم، يتأمل، يغرق في إبداعه، عاري الصدر، والوجه المرسوم يحرك شفتيه، فيضطرب الشاب، يبتعد ثم يعود ليمحو بكفه هذا الفم، هناك من يطرق الباب فيتجه لفتحه، يمد يده ليصافح الزائر، يخاف الشاب الزائر عندما يرى كف الفنان، قوة ما تجذب الزائر إلى الخلف وُتغلق الباب، يحاول الفنان غسل يديه، يرى فقاعات الماء تتصاعد، يتأمل كفه حيث الفم ملتصق فيه، يجد نفسه في هذه الغرفة المغلقة فيزيد توتره ومحاولته تفشل للتخلص من هذا الفم.
في الجزء الثاني في اليوم التالي يضع كفه على فم التمثال فتبعث الحياة أو يستيقظ التمثال فـ”ليس سهلا التخلص من جرح، أو غلق فم”، وهنا يتحول التمثال إلى سجان والفنان إلى مسجون يبحث عن خلاصه وحريته، يرد عليه التمثال أن المخرج الوحيد الدخول إلى المرآة وعليه المحاولة والتجول في عالم ما وراء زجاج المرآة، ونرى أشياء قد تظهر فجأة داخل الكادر كالكرسي قرب المرآة، حيث يستخدمه الفنان ويصعد عليه، يتلمس زجاج المرآة كمن يشعر بعجزه، يطالبه التمثال بالمحاولة، ويبدو أنه مقتنع بالتجربة، وهنا يخوض المغامرة وتجذبه المرآة إلى العالم الآخر.
يغوص الفنان في مناخ أسود، الممر بين الواقع وما وراء الواقع، ونحن مع صور مدهشة ما بين الأبيض والأسود إلى أن يختفي الجسد، حركة ترافلينج نحو الجسد ثم قطع إلى الممر بالفندق، عدة غرف مغلقة، شخص يتقدم نحونا ثم يتوقف ويطرق أحد الأبواب، ثم يظهر الفنان كأنه يشعر أن جسده غير متزن ولذا يتمسك بالجدران، ينظر من ثقب باب ليرى شخصًا مكسيكيًا يصاب بطلقات نارية ويخر صريعًا، ثم ينهض بعد لحظات، ثم يصاب مرة أخرى، يترك الفنان هذا الثقب كأنه ونحن معه صارت لدينا القناعة بأن الحدث سيتكرر مرات ومرات وربما إلى الأبد.
أمام الغرفة 19 ومن ثقبها وهذا الصوت باللغة الصينية ولا ترجمة له، لا شيء يمكن رؤيته غير ظلال لحدث غير مفهوم، فلا شيء سوى ظلال يد، يزداد فضول الفنان لكشف ما يحدث، الجسد تحت تأثير قوة مغناطيسية خفية، لكن الرؤية مستحيلة، فيذهب ليواصل رحلته إلى ثقب آخر، ليرى أمًا وطفلة، المرأة كأنها تدفع الطفلة لفعل شيء ما ثم نرى الطفلة تلتصق بالجدار ثم سقف الغرفة، ثم الغرفة الأخيرة 23 مع أفروديت، وبعدها تكون رحلة العودة.
في هذا الفيلم وأفلام كوكتو نجد أن المرآة تكشف الحقيقة وليست لوحًا زجاجيًا أملس يعكس ما أمامه، فهي تعكس الواقع الذي يتجاوز المظاهر وما وراء الواقع. كوكتو يفكر في كل صورة بروح وخيال شاعر وليس مجرد سينمائي يعرض حكاية ما، ويؤكد كوكتو رغبته الشعرية مرارًا وتكرارًا، ونحن مع لعبة لها قوتها السحرية، فالمرآة تفضل عكس صورة غير مرئية أو ببساطة الصورة الحقيقية. الصورة التي تعكسها المرآة تتجاوز قناع الجسد لإظهار جوهر الوجود. ثم يتساءل كوكتو عن الازدواجية بين الوجود والظهور. ترفض المرآة إعادة الصورة التي تعتبر مرئية أكثر من اللازم، وغير واقعية، وبالتالي تعكس الواقع غير المرئي. كوكتو يبحث عن العمق لذلك يستخدمها وسيلة النقل، أي هي من يسمح أو يرفض للمرء بالسفر إلى ظلمة الخيال ثم الوصول إلى المنطقة الميتافيزيقية كما نشاهد هنا. في فيلم “دم الشاعر” التمثال يشجع الفنان على دخول المرآة، ثم نراه في الظلام يسبح في حركة بطيئة قبل الوصول إلى فندق الجنون.
سينما كوكتو هي محاولة من كوكتو الشاعر لفهم ذاته أولًا كشاعر وإنسان وشرح نفسه، ولا يتورع عن فضحها أيضا، وكذلك جعل وإظهار ما هو غير مرئي. هنا الشاعر يعكس الازدواجية بين الصورة والخيال ويطرح أسئلة عن الحقيقة. من أين نبدأ التفكير؟ كوكتو قد يطمس الحدود بين الواقع والخيال، ويخلق واقعية لغير الواقعي، أي تكثيفًا للاثنين، لذلك فالصورة بكل بساطة شعرية تنتظر من يكتشفها ويفك شيفرتها. هنا المشاهد ينظر إلى الفيلم المتوقع أي يخوض تجربة حيث ينغمس في شاشة العرض كهذا الفنان هنا الذي ينزلق في المرآة، ويصل إلى هذه المنطقة التي يحكمها الحلم والسحر والجنون. ولم تكن رحلة الفنان لعالم ما وراء الواقع سهلة دون ألم، ومع عودته للغرفة يحطم التمثال الذي أغراه بهذه المغامرة الموجعة.
في الجزء الثالث معركة كرات الثلج حيث نعيش هذا الصراع بالثلج بين مجموعة من الأطفال وتحطيم تمثال، وهنا وجه آخر للموت، وللعنف والقسوة والحرب والدمار ثم ملك الموت.
في الجزء الأخير ندخل في غموض، فالصورة شعرية هي أكثر من كونها حدثًا، والمرجع الأساسي لكوكتو هو الشعر وحده، ولذا ابتعد عن تكوين نهاية تجمع أو تلخص حكاية ما. حتى مع الميل التشكيلي وكل هذه الرسومات المتحركة والدم المتدفق من رأس الفنان وبقايا أثر تحطيم التمثال ثم الثلج وشخصيات غرائبية وملك الموت الأسود وهناك أشياء ظلت غير مرئية وخارج قدرات الشخصية والكاميرا والمخرج نفسه، ومع كل هذه العناصر الممزوجة وما فيها من بناء وهدم ولحظات قلق وغضب ولذة وعنف، ومع هذا المنحى الشعري الذي أسس لسينما كوكتو الشعرية شكلًا وروحًا، يصعب أن نلخص تعريفًا محددًا لمفهوم السينما الشعرية، ونحتاج إلى مشاهدة هذا الفيلم وأفلامه الأخرى لنحسّ ونتذوق سحر الشعر في سينما هذا المبدع.
ضفة ثالثة