نزيه أبو عفش الخائف.. عودة الصقر إلى الربوع/ إميل منعم
الشاعر الصديق نزيه أبو عفش خائف. وخوف الشاعر دلالةٌ عميقةٌ على عطْبٍ في سويّة الحياة وانتظام سيرها. أحسبُ أن خوف الشاعر ليس أقلّ من تحذيرٍ ضمنيٍ من بلوغ الهاوية، ولهذا علينا الإنصات جيداً إلى خفقان قلبه بين السطور.
لا غرابة في أن يخاف الشاعر نزيه أبو عفش. هو ابن سورية الجريحة، وأحد الأصوات التي دوّت فيها طويلاً. بل الغرابة، كلّ الغرابة، إذا كان لا يخاف في بلدٍ زُجّ من قادةِ الرأي في سجونه ومعتقلاته، أكثرَ مما أُلحِق منهم في الجامعات والمدارس. وذاق معارضوه صنوفَ تعذيبٍ لم يعرفْها تنويريّو عصر الظلمات، واختُرق المجتمع فيه، من أقصاه إلى أقصاه، بمختلف فرق البطش والتنكيل، حتى غدت تقنيات الترهيب ونشر الخوف أهمّ صناعاته الوطنية.
من الطبيعي أن يخاف الشاعر الصديق، ومن الطبيعي أكثر أن يُجاهر بهذا الخوف في كل سانحة. وهو ما برح، منذ سنواتٍ، يقوم بهذه المهمة، كتاباتٍ ومقابلات ورسائل.
نعم، عليه أن يخاف، بل ويرتعب، في وطنٍ عزّت فيه الكرامة على طالبيها، إلى درجة إفنائهم دونها. وغدا مطلبُ الحريّة فيه لا يكلّف أقلّ من أن يُشرَّد شعبٌ بأكمله، ويُدفن أحرارُه أحياءَ على مرأى من العالم. وأن يَستدرِج حاكموه ذئابَ الأرض لتنهشَه من كل جانب. ويوزّعوا نواحيه على جيوش الفتح والإرهاب، فقط، لكي تُفوَّتَ الفرصةُ على تحقيق هذا المطلب البسيط لشعبه: الحريّة.
لكن ما القولُ إذا لم يكن هذا كله ما يخافُه نزيه أبو عفش؟ “أنا فعلاً أخاف المثقفين، وأنا لا أحترم الكائنات التي أخافها، ومن بين كل من عاشرت، طوال عقود حياتي الماضية، أكثر من خفتُ منهم هو صنف المثقفين”. هذا ما يجود به أديبٌ على الملأ، فوق دخان بلاده من دون حرج، ومن دون أن يعتريه شعورٌ بالحاجة إلى التمييز بين مثقف وآخر. ولا يبوح لقرّائه بمن هم هؤلاء الذين يعرّفهم بالمثقفين، فهم عنده صنفٌ وحسب، “فهناك مثلاً صنف الدجاج، الأسماك، الثيران، الذئاب، البشر، وهناك المثقفون الذين أخاف منهم”.
وبتنزيه نفسه عن هذا “الصنف”، يكون شاعرنا، عن حق، قد اعترف بنصف الحقيقة، مدفوعاً بالقصويّة المثيرة التي يتمتّع بها عادةً، المتبارون من شعراء الزجل في الأرياف. أما النصف الآخر من الحقيقة فهو الإيهام بأنّه مثقّف من صنفٍ مختلف. يقف مع “الممانعين” في مواجهةِ الإرهاب والمؤامرات الكبرى وصدّ العدوان. وأما الآخرون الذين يخافهم، ممن تقدّموا صفوف المتظاهرين في طلب الحرية، أو تشرّدوا في جهات الأرض، فعملاءُ ومأجورون. وإذا كان هذا ما رمى إليه، فليسمحْ لنا شاعرُنا الكبير، بأن لا نقرأَ في خوفه تحذيراً من بلوغ أيّة هاوية، بل تحذيراً من قرب إعلان ساعة الحداد على نخبة، آلت إلى هذا الحدّ من الهشاشة والوضاعة.
ليس أبو عفش وحده بين من انتظرهم شعبهم ليكونوا رمح المواجهة أمام من يستهين بكراماتهم منذ عقود، فأخلفوا الوعد ولم يصلوا. بل على العكس، انكفأوا إلى مسرح وهميّ، رتّبه لهم دهاةُ الحروب الأهليّة لمقارعة طواحين الإرهاب. ولا بأس بتذكيرهم أن إسرائيل، هي الأخرى، ما زالت تحارب “الإرهاب” منذ نشوئها. بل كشفت الفصول الأخيرة من مسرح المواجهات، في طول عالمنا العربي وعرضه، عن مأساة هذه النخبة وشحّها. كما كشفت، بوضوح شديد، أن محنتنا، في جانب كبير منها، ثقافية بامتياز.
إن نِصف قرن من إرهاب الشعب السوريّ، ودَوسِ كرامته، واستغلال ثروته، ومصادرة حريّته، لم يكن زمناً كافياً لحَمْل السيد أبو عفش على الاعتراف بحقّ شعبه في التظاهر السلميّ مطالباً بحقوقٍ، من المعيب أن تبقى موضعَ سؤال، في زمنٍ تُسنّ فيه القوانينُ، وتنهض المؤسساتُ للدفاع عن حقوق الحيوانات السائبة. حتى يخرجَ بهذا الإعلان المخجل والفج والعقيم: “هم لن يمهلوا النظام السوري للقيام بالإصلاحات، فهذه لا تكون في يوم وليلة.. الإصلاح لا يتحقق في ست ساعات، ولا في ستة أشهر”. ما يقوله الشاعر، وهو أقرب إلى الكوميديا، لا يعبّر بالتأكيد عن قناعةٍ، بل عن ارتباكٍ وهروب، في لحظة انكشاف عجز المثقّف عن النهوض بدوره، في أصعب لحظةٍ يمرّ بها شعبه.
“إذا انهار النظام في سورية الذي عارضتُه أربعين عاماً إلى أين سأذهب؟ إلى المعارضة؟ أنا أخاف من هذه المعارضة التي ابتدأت مشوارها ومنذ الأسابيع الأولى بشعار: لا للحوار”. نعم، إنها محنة ثقافية، وليس أشد ّمدعاة للأسى من “مثقّفٍ” يجهد، حتى باستخدام التزوير، في صدّ الماضي، ومنعه من أن يصير ماضياً.
لم ينجحِ القتلةُ باستدراجهم الإرهاب، لتبرير براميلهم المتفجرة فوق المشافي ورياض الأطفال، بقدر نجاحهم في تقديم هذا الإرهاب ذريعةً سهلةً لمن يريد تبرير التقاعس والنكوص. لقد غدا وهم مقارعة الإرهاب أحد مستحضرات التجميل الأكثر انتشاراً بين حماة الماضي، ومنافقي القتلة، لإضفاء بريقٍ اصطناعيٍّ على وجوهٍ، ألفاها شاحبةً دمُ الأبرياء المتسرّب من الأنقاض.
ليس الترهيب سلاح المستبدّ، بل قوامه. وعندما ينجح نظامٌ في إخافة المثقف، يكون قد نجح، ليس في تدعيم سلطانه وحسب، بل في تعقيم الحياة وتبديد الأحلام وإطفاء الأمل.
وظيفة المثقّف التي لا مساومة فيها هي إرهاب السلطة، لا الخضوع لإرهابها. ما يعوزه امتلاك عدّة معرفية واسعة ومركّبة ونقديّة، تسمح له بمعاينة حيَل السلطة في تزييف الوعي، وكشف مخططاتها المفضية إلى تشتيت قوى المجتمع وتحييد نخبه. وجعل العمل الدؤوب على إرساء سلطته المضادة هدفاً مركزياً لمسيرة كفاحه النبيل.
لا توحي رمياتُ أبو عفش الطائشة بأيّ همّ من هذا القبيل، بل تتكشّف عن لغوٍ ورغاوةٍ وزبد، لا تليق إلا بدعائيي السلطة، وخدّامها الأمينين. ما من أحدٍ يدفع بجهوده في صراع مفتوح مع سلطة القهر، ويتحمّل تبعات هذا الصراع، ما لم يكن وعيه التاريخيّ غامراً شعوره بكل اللحظات العابرة. وما لم يضع قيمه الأخلاقيّة في سويّة وجوده.
ليس أبو عفش معادياً لشعبه، ولا خادماً للسلطة بالتأكيد. وفقاقيعه التي يطلقها في الصحافة ومواقع التواصل لن يفيدَ منها نظام القتلة في شيء، فنسيج آرائه المهلهل، ووعيُه الضامر الذي يملي عليه مواقفه المخزية، وقد بلغت حدّ تمجيد السفّاحين، أعجزُ من أن ترتق ثوب رضيع، فكيف بستر عورة نظام، تنكشف ممارساته عن أكبر جرائم العصر. ولكن أقوالاً كهذه لها أن تثير الشفقة على بؤسه، وبؤس النخبة التي ينتمي إليها. عدا ما تثيره من استفزاز للمشاعر بين من أصابهم العدوان بشظاياه، أو من تشرّدوا في مسالك الأرض، أو طُحنت عظامُ أبنائهم في غياهب السجون، ففي بساطة الكلام الاستفزازي دليلٌ إضافي ودامغ على قوامٍ ثقافي هزيل، ليس صعباً على السلطة إرعاب صاحبه، كما تُرعب الأبرياء الآخرين. في حين أن المثقف الحقيقي أكبر من أن يُروّضه خداعُ السلطة، أو أن يُغمزَ له جانبٌ، أو أن يُقعقعَ له بالشِّنان.
يخاف المثقف، ومن حقّه أن يخاف، ولكن عندما يكتب لا يكتب بدافع الخوف، بل بدافع الألم. ذاك الألم الذي يسطع منه الموقف الأخلاقي فوق كلّ صوت ونبرة.
لقد سقط محمد الدرّة في زمن محمود درويش، فوجد من ينتشله من وهدة الدم، ويطبعه في ضمير العالم. أما الالتفات إلى حمزة الخطيب ورفاقه، ففيه نشازٌ مُفسدٌ لمظنّة الإرهاب ومعزوفته، فلا غضاضة من تركهم ليُدفنوا في العراء. هنا ينجلي الفارق بين معنى أن تكون مثقفاً جديراً بهذه التسمية وأن تكون ثقافتُك قناعاً من الزيف.
حشد بطرس الناسك فقراء فرنسا تحت راية الدفاع عن قبر المسيح، وزجّهم وقوداً في الحروب الصليبيّة على الشرق، ولم تنجح خُطبُه المفوهّة في إضفاء أية شرعيّة على دعواه، التي لم تكن سوى ستارٍ “مقدسٍ” لحرب استعماريّة دامت قروناً. وبعد ألف عام بالتمام، سيعاودُ التاريخ تمثيل هذه المهزلة بين ظهرانينا، حين يقفُ من يحشد الفقراء تحت راية مشابهة: “الدفاع عن مقام السيدة زينب”، ويشنّ حرباً، “مقدّسة” هي الأخرى، على أبناء سورية في عزّ انتفاضتهم. هنا يتوقف التاريخ عند السيد نزيه وأمثاله، فيُحْجِم عن إكمال الحكاية حتى نهايتها. الحكايةِ الأليمةِ التي اكتملت فصولُها بهذا الدمار الكبير تحت أكثرِ الشعارات طائفيّةً وعدوانيّةً في
العصر الحديث. لا يفلح “الممانعون” في إكمال الحكاية، لسببٍ بسيط، هو أن الحجّة جاهزة لا يرقى إليها الشك. العدوّ لا يأتي إلا من الغرب، فالعدوان طبيعة جوهريّة في الشعوب والبلدان.
“لا ينسى أحد أنني رجل ماركسي شيوعي علماني، لي عدو وحيد على هذه الأرض، هو النظام الأميركي، وعندما أقول النظام الأميركي، فضمناً أعني إسرائيل”. واستتباعاً، فلنتصوّر، إذا صودف أن جاءنا عدو من مكان آخر، كيف على “الممانعين” تقديم الاعتذار إليه، لاستحالة إدراجه في لائحة الأعداء، حفاظاً على “قانون طبيعي”، يحصر العداوة بأميركا وإسرائيل ويقفل الباب. ليس في تصريح كهذا خفّة وحسب. هو استهلاكٌ ممجوجٌ لمقولة “العدوّ الأوحد”، والتي لا يريد مسوّغوها تضخيم خطر إسرائيل، بمقدار ما يريدون بها التستّرَ على أعداء آخرين، لا يقلّون عنها خطورةً على أوطاننا واجتماعنا.
هل الإرهاب فعلاً هو ما يخيف نزيه أبو عفش؟ إذا كان الأمر كذلك، قد يكون من الحكمة غضّ الطرف عن سقطاته، بإحالتها إلى قصورٍ في موضعةِ دور الإرهاب في الصراع السوري، وكيف يتم خرطه وتوظيفه بين أسلحة القهر الكثيرة. ولكن هل الأمر كذلك؟
مرّة في باريس، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كنا شلّة من الأصدقاء السوريين، بينهم نزيه أبو عفش، وأنا. لم تكد جلستنا تبدأ حتى عكّرها الأستاذ نزيه، وسط استغراب الجميع وذهوله، باعتراضه العنيف والهستيري على نكتةٍ رماها الراحل جميل حتمل عن قوات الردع السورية في لبنان. اكتشف شاعرُنا فجأةً أن بين الوطن وسلطته عروةٌ وثقى لا تنفصم، فقلب ظهر المجنّ، وكرجت من تحت لسانه خيولُ القبائل من البيد، وألقى على جميل درساً عرمرماً في الوطنية، مستخدماً كلاماً شوفينياً مريعاً.
تغاضينا، حاملين ردّ فعله المفاجئ على زلّة لسان، أو اضطرابٍ عارض خارج عن السيطرة. ولكن ما فجَعَنا به وقتها، أبى إلا أن يكرّره بفاجعةٍ أعظم في عام 2005، عندما نشر شاعرنا في صحيفة السفير اللبنانية مقاله المسهب في هجاء اللبنانيين، في “موقعة” خروج الجيش السوري المحتل من أرضهم، فكالهم أقذع الشتائم لدى مطالبتهم بخروج من أذاقهم ما لم يعد خافياً على أحد، من صنوف الإذلال والاغتيالات والنهب وتكميم الأفواه. بل أكثر من ذلك، وجد في تلك المطالبة الشعبيّة نكراناً للجميل، فكتب بين ما كتب: “الاهتمام والرعاية اللذان أولاهما النظام السوري للشعب اللبناني كان من الأجدى أن يكونا من حظ الشعب السوري، وأنه من يحتاج إلى حماية ورعاية”.
تصوّر أنّه يتمنّى للشعب السوري نِعَمَ النظام، وكأن الأخير، على مدى خمسين عاماً من الاستبداد، كان مقصّراً في إغداقها على شعبه. وما أكثرها من نِعَم! أي إرهاب هذا الذي يعيد الشاعر الصعلوك صاغراً إلى القبيلة. ويخنق في الصقر المرقّط “نعقته البربرية فوق أسطح الدنيا”؟ أي إرهاب يجرّ قرن الحداثة إلى زمن المعلّقات، ولم يكن شاعرنا، فيما مضى، يخفي إعجابه بلمعة صديقه الشاعر حسن عبدالله، عنما كتب: “وإن وطني صار ثوراً/ أنازلْه وأجندلْه في ثوانْ”.
“المثقف الحقيقي أكبر من أن يُروّضه خداعُ السلطة، أو أن يُغمزَ له جانبٌ، أو أن يُقعقعَ له بالشِّنان”
أي إرهاب يبرّر ضيق التنفس هذا، ويسوّغ التنكّر لنداء الحريّة، وطيّ الأجنحة والعودة بها إلى الأقفاص؟ كان مفخرةَ فرنسا عندما كتب سارتر “عارُنا في الجزائر”، مُديناً سلطة بلاده، ومكرّساً تقليداً كبيراً يسمو بالمثقف ودوره إلى فضاء إنساني رحب، دونه السلطات جميعاً.
ما يكتبه أمثال سارتر في سلطة أوطانهم يجعل من هذه الأوطان قلب العالم. وما يكتبه أمثال نزيه في “حب الوطن” يجعل من أوطانهم خِيَماً معزولة على طرف الصحراء. ولكن هل تجد، عند بلوغ الحضيض، من يكتب “عارنا في الربيع العربي”، بدل أن يمجّد العارَ وأهلَه ويشتم الربيع وبواكيره؟
أقول لمن جمعتنا الصداقة ذات يوم: إن مناجاة الله واستحضار التوابيت على قارعة كل قصيدة، قد يرفع منسوب الصوت، لكنّه لا يمنع انخفاض المعنى إلى قاعٍ يشحّ فيه زيتُ المروءة، وينحني غصنُ الكبرياء، فيسهل تبادل المكرمات فوق جثث الضحايا.
سيبقى صوت الألم نشازاً، ولو غمرتْه الأناشيد، وسيبقى اختلالُ العدالة اختلالاً في إيقاع العالم، ولو رُصِفتْ دروب الأرض بالشعر والموسيقى.
العربي الجديد