بينما كنّا نعشق ونغنّي كانت أخواتنا يتحجّبن/ وائل السواح
يتابع وائل السوّاح في هذه الحلقة سرديّته عن حكاية اليسار السوري الجديد في سبعينات القرن الفائت من خلال استعراض سردية ذاتية عن الحب والحزن والثورة…
خرجت من مبنى وكالة “سانا” متمهّلاً. كانت الساعة تقترب من الأولى صباحاً، وغلالة حزن خريفية تلفّ حديقة الأرسوزي التي كانت مقفلة ككلّ حدائق دمشق التي تُغلق ليلاً في وجه العشاق والمشرّدين والمثليين وكلّ المهمّشين في المدينة. سرت على سور الحديقة باتجاه المصرف المركزي والسبع بحرات. كانت الباصات قد توقفت، ولم أعد أستطيع الحصول على رفاهية “تاكسي” آخر الليل وقد طردني قاسم ياغي من الوكالة. فقرّرت السير على قدمي إلى غرفتي عند أم وليد في الزبلطاني.
سرت في شارع بغداد شبه المقفر، ماراً بجامع لالا مصطفى باشا، متجاوزاً تقاطع شارع الثورة، محاذياً مقبرة الدحداح، ثم حين وصلت إلى ساحة التحرير، راودتني غواية أن أزور جبرا في باب توما بدل أن أذهب مباشرة إلى البيت. انعطفت يميناً باتجاه باب توما، عبر جادة أنور العطّار. كان المشوار وهواء الخريف قد خفّفا قليلاً من توتّري، وحين دلفت حارات باب توما القديمة، كنت قد بدأت أسخر من قاسم ياغي ووكالة سانا، ورأيتني أقول بصوت مسموع: “إنها فاشية، حكومة الأرجنتين فاشية”، وانتابني إحساس بالبطولة يشبه إحساس غاليليو وهو يصيح في مسرحية بريخت: “ومع ذلك فإن الأرض تدور”! دخلت في عالم باب توما السحري. لم يكن باب توما قد تحوّل بعد إلى تجمّع من مقاه ومطاعم سقيمة لا علاقة لها بروح الحارة القديمة ولا بنمط حياتها اليومي. وانعطفت في شارع رشاد جبري الذي سيعرف بعد سنوات باسم حارة “فينو روسو” (Vino Roso) نسبة إلى أول مطعم سيفتتح في الحارة. سرت خطوات قليلة ووقفت تحت شبّاك جبرا. وكان الضوء مطفأ. جبرا، جبرائيل غربي، كان نائماً. والساعة تجاوزت الثانية صباحاً بقليل.
قبل أشهر، عرّفني جميل حتمل على جبرائيل غربي، الذي عرّفني على عزّام دهبر، وعن طريق الاثنين، انفتح أمامي عالم من السحر والرهافة والألفة: حفنة من طلاب الطب المشاغبين وأصدقائهم، كانوا يأوون في الأمسيات على شقّة عزام دهبر الأنيقة في برج الروس.
كان جبرا (لم أسمع أحداً يناديه باسمه الكامل جبرائيل سوى أمه) حمصياً أصيلاً، بلهجته وجمال روحه ورهافته. تحسّ بأنه لا يستطيع أن يكذب حتى إن أراد. سأسمعه كثيراً وهو يتساءل: “وين السبيرتو؟” في تسميته الخاصة للخمر، وسأراه وهو يتأكد من وجود البندورة، عشقه الأبدي، على الطاولة. ومنذ سنته الثالثة في الطب، كنا نعتمده طبيبنا الخاص، نستفتيه في كلّ أمراضنا ولم يخذلنا مرّة. يتمتّع جبرا بتلك الخاصية التي تجعلك ترتاح بمجرّد أن تراه. ولئن كان صديق الجميع، إلا أن كلاً منا كان يحسب أنه صديقه المقرّب. كان إشبين جميل حتمل في عرسه ومكمن أسرار عزام دهبر، أما أنا فكان يطيب لي أن أعتقد أنه أفضل أصدقائي.
عزّام كان ابناً لطبيب (لعلّه أول طبيب) في بلدة يبرود “المتعربشة” كعنزة على الجرد. ولكن دكتور أنيس دهبر لم يكن طبيباً فحسب. كان وجيهاً ومرجعاً اجتماعياً وحلّالاً للمشكلات في أوقات الفراغ في المدينة والمنطقة ككل. حين توفي عام 2004، كان عدد المتحدثين من المسلمين أكثر من وجهاء الكنيسة في المدينة. عزّام كان مارداً وسيماً، وكان ينشر حوله دائماً جوّاً من الحبور. يتدفّق بالحديث كنهر، وحين تحاول إسكاته، ترتفع مياه النهر كما لو أنها صادفت سدّاً. كان أكثرنا ثقافة، يقرأ الأدب والفلسفة وتاريخ الفن، ولكن روحه كانت تسكن الموسيقى. كان دليلي للموسيقى الكلاسيكية بعد معلّمي الأول في هذا المجال الدكتور الحمصي سمير ضاهر. وهو الذي بيّن لي الفرق بين الموسيقى الخفيفة والموسيقى الصعبة.
“دع جانباً بور أليس (Pour Alice). اسمع فاغنر؛ اسمع رباعيات بيتهوفن المتأخّرة”، قال لي مرّة، ثمّ أسمعني الرباعي الوتري رقم 16 لبيتهوفن. حين يستمع عزّام إلى مقطوعة موسيقية، لا يهدأ. يضجّ جسمه كلّه بالحياة، ويتحرّك بقلق، كأنه يخشى أن تكون هذه آخر مرّة يستمع إليها إلى هذه المقطوعة.
ولكن ليس الموسيقى فحسب. كان لعزّام ولع بالسينما أيضاً، وهو من عرّفني مثلا إلى أفلام إنغمار بيرغمان. ولا أزال أستشعر حال الشلل وأنا أشاهد فيلم “سوناتا الخريف” وأتابع الحوار المخيف بين إيفا (ليف أولمان) وشارلوت (إنغريد بيرغمان). أم وابنتها تعيدان اكتشاف كنه علاقتهما وحدودها وتدخلان في تفسيرات غريبة للحب والحياة والموت والمرض، وقريباً منهما كانت أخت إيفا وهي من ذوي الحاجات الخاصة، تسأل أمها “لماذا لا تستطيع أن تموت؟”.
في أحد الشوارع التي تصبّ في أو تتفرّع من ساحة برج الروس في القصاع، تقف بناية من طبقتين، وسط صفّ من البنايات اللطيفة الأنيسة. وفي الطبقة الثانية، كانت شقّة عزام. حين فُتح الباب ودخلت إليها أول مرّة، دلفت إلى عالم مختلف عن كلّ العوالم السابقة التي دخلتها، عالم من مودّة وألفة وصخب، عالم من ثقافة وفنّ وفتنة، سرعان ما صار جزءاً من حياتي.
إلى جانب فادية وجبرا وعزام وجميل حتمل ونجوى الحلبية اللطيفة التي ستصبح زوجته ثم طليقته خلال سنوات، كان بسام شاغوري الشيوعي السابق (المكتب السياسي) الذي نجا من الشيوعية والقومية وحزب البعث حين تخلّى عن كلّ شيء، وغادر إلى باريس وهو يعرف أن لا عودة له إلى دمشق. وفيه تعرّفت إلى ليلى الوفائي، المرأة الفاتنة التي تغزوك لحظة تراها فلا تستطيع منها فكاكاً ما دمت حيّاً، وغادة قندلفت التي تفيض أنوثة ولطفاً وحناناً، والتي كانت تشكّل جميعاً ملجأ آمناً لهمومنا وأحزاننا، لكنّ مشكلتها أنها كانت أبعد منالاً من كلّ أحلامنا. أحسّت بميل إلى أصلان عبد الكريم وأحسّ بميل نحوها، ولكن أياً منهما لم يكسر الصمت أو يقم بالخطوة الأولى.
شقّة برج الروس كانت مسرحاً للقاءاتنا وحفلاتنا في رأس السنة وأعياد الميلاد وسهرات الخميس والعطل، وفي مساءات الشتاء حين نهرب من برد بيوتنا ومطر الشوارع إلى دفء الشقّة ودفء روّادها، نستمع إلى شوبان أو نغني “بيتي أنا بيتك” لفيروز ونبكي، أو نردد بكلّ العزم الذي يمكن لشباب في أوّل أعمارهم أن يملكوه أغنية “شيّد قصورك عَ المزارع”، وحين نبلغ عبارة “عمال وفلاحين وطلبة؛ دقّت ساعتنا وابتدينا”، يصل صوتنا إلى العرش السماوي فيهزّه، من دون أن يهتز عرش الطاغية في دمشق.
دعاني عزام مع جبرا يوماً إلى شقته، ثم اقترب من جهاز التلفزيون، وأزاح ستارة صغيرة في الخزانة التي تحت الجهاز، فبدا من وراء الستار جهاز آخر يشبه مسجلة “الكاسيت” الكبيرة.
“ما هذا؟” سألته
ابتسم بمزيج من الفرح والخبث، كعادته حين يريد أن يفاجئنا بشيء جديد: “فيديو”.
وكالسحر تماماً، وضع شريطاً يشبه شريط “الكاسيت” إنما أكبر حجماً، في الجهاز، وشغّل التلفزيون، ثمّ كبس زراً أو اثنين. على شاشة التلفزيون، بدأ فيلم لم أعد أذكره الآن، ورحنا، جبرا وأنا ننظر إلى الشاشة بذهول.
“شو يعني؟”
“يعني بعد الآن، ستأتي السينما لعندك في بيتك. ويعني أنك تستطيع أن تأخذ لنفسك شريطاً مصوراً متحركاً، بدل الصور الثابتة وتعرضه هنا”.
لا أذكر الآن كيف كان ردّ فعل جبرا، ولكنّ شعوري كان كشعور جدي حين رأى جهاز الراديو أول مرّة. ذهول مطبق. ولم أرَ لردّ الاعتبار لكرامتي سوى أن أهتف بعزّام:
“بورجوازي صغير!”
وشهدت شقّة برج الروس كثيراً من العشق وكثيراً من الصدّ وكثيراً من الضحك وكثيراً من البكاء. وفيها أيضاً تركتني فادية بعد ثلاث سنوات أوّل مرة. أخذتني من يدي، بعد ظهر يوم حزيراني، إلى الغرفة الداخلية، وقالت لي “يجب أن نتحدث”. وقالت لي إنها تعرف أنها لن تجد شخصاً أفضل مني وأنها تقامر بكل شيء، ولكنها لا تستطيع الاستمرار معي. شيء قويّ في داخلها يبعدها مني. كانت 4 سنوات بالتمام قد مرّت منذ بدء علاقتنا وسنتان منذ زواجنا الغريب.
“ولكننا لا يمكن أن نطلّق. لا أستطيع أن أعود إلى بيت أهلي، ليس قبل التخرّج،” أضافت. كانت قد أنهتْ سنتها الرابعة في كليّة الطب. وكنت في سنتي الثانية من التخفي والملاحقة. وأحسست بحفرة كبيرة تفتح تحت قدمي.
شقّة عزام، على رغم كلّ فضلها علينا، كانت دليل قوقعتنا وانفصالنا عمّا حولنا. مجرّد زمرة طلاب يقرأون لوركا ونيرودا ويشاهدون أفلام السينما الفرنسية الجديدة، يذهبون إلى المسرح، ويستمعون لفاغنر وشوبرت، ويحلمون بالثورة، وتمرّ الأيام من قربهم كأنها تتحاشاهم أو كأنهم يأبون الانغماس فيها. وبينما نحن نعشق ونغنّي ونحلم، كان الشارع يتأسلم شيئاً فشيئاً، وأخواتنا يتحجّبن بينما أمهاتنا سافرات، والانقسام المجتمعي يتعمّق شيئاً فشيئاً، وعلاقتنا بالناس تتهمّش شيئاً فشيئاً. سافر السوريون إلى السعودية وعادوا يرتدون الدشداشة القصيرة، ووراءهم نساء مبرقعات، وبدأت ظاهرة الدروس الدينية في الجوامع والبيوت، ومدّ الإسلاميون، بموافقة ضمنية من نظام حافظ الأسد أصابعهم ببطء، لكن بثبات إلى شتّى نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية.
لم يخطر في بالي مطلقا ًأن أعمل على تنظيم شباب برج الروس في رابطة العمل، ولعلّ في ذلك شيئاً من الأنانية، لقد كنت أحبهم لدرجة لم أشأ معها أن أرى أياً منهم يتأذّى. بيد أن جميل حتمل فعل، ونظّم جبرا وعزّام في الرابطة، من دون أن يعلمني. وبشكل أو آخر، ستدور هذه الحلقة حول الرابطة. فادية وأنا، نجوى باعتبارها زوجة جميل، جبرا وصديقته، عزام، جميعنا كنا ندور في مدار الرابطة، وجميعاً، نعرف ذلك ولكن لا نقوله، إلى أن انفرط العقد. في صباح نيساني، قرّرت لجنة العمل توجيه رسالة إلى اللاذقية. لم يكن في الرسالة ما هو مهمّ، وحاولت أن أمنعها، ولكن الرفاق أصرّوا، واختاروا لإيصالها جبرا. سافر جبرا إلى اللاذقية، وفي الموعد المحدّد رأى شابّاً يقف وبيده جريدة تشرين وبيده الأخرى ليرتان معدنيتان، يلعب بهما بأصابعه. تلك كانت العلامة. اقترب منه وسأله: “من وين طريق الشام؟” وأعطاه الشاب الجواب المطلوب، فسلّم عليه بحرارة، ولكن الشاب سرعان ما سحب يده، وخلال ثوان انقض عليه جيش من الرجال فطوقوه وكبّلوه وساقوه في سيارة مغلقة على الفرع العسكري في اللاذقية. في اجتماع لجنة العمل، أخبرتهم عن اعتقال الرفيق المراسل. وكان ردّ الفعل محايداً، ولكن حين أخبرتهم باسم الرفيق المراسل: جبرا، امتدّت غيمة من الحزن على وجه أصلان عبد الكريم، الذي نادراً ما كان يظهر انفعالاته.
كان عيد ميلاد جبرا في 5 شباط/ فبراير، بعد يوم واحد من عيد ميلادي. كنت قرّرت ألا أحتفل بعيد ميلادي عام 1980 وأن أؤجلّه إلى الغد لنحتفل بعيد ميلاد الرفيق الغائب. ولكنّ جبرا فاجأنا جميعاً وحضر عيد ميلاده. في 4 شباط، أفرج حافظ الأسد عن جميع رفاقنا باستثناء العسكريين. كان يوماً بهيجاً جداً وحزيناً جدّاً بالنسبة إلى جبرا. ففي أثناء الاحتفال، كان عليّ أن أنتحي به ركناً في غرفة ثانية، بينما يشرب الصحب في الغرفة الأولى ويبتهجون. في الغرفة المنعزلة، أخبرتُه بصوت منخفض حاولت أن يكون هادئاً ما استطعت، أن حبيبته قد هجرته. لم يستوعب الحكاية:
“ليش؟” قال بدهشة.
“ما في ليش يا صديقي. ما فيه لوم عليها”.
لعقود أربعة، سيصير عزّام وجبرا أفضل أصدقائي، وستستمرّ صدقاتنا على رغم البعد الجغرافي وعلى رغم فترة سجني. وحين التقيت بهما وبجميل حتمل أول مرّة في مطار أورلي بباريس بعد خروجي من السجن استأنفنا مباشرة حديثاً كنّا علقناه قبل 10 سنوات، ولا يزال الحديث مستمرّاً.
نظرت إلى شبّاك جبرا المغلق المظلم. على الأرجح أنه قد نام. فكّرت أن ألتقط حصاة صغيرة، فأضرب بها زجاج النافذة كما كنّا نفعل، لكي لا نزعج صاحب البيت أبو إسكندر، ولكنّني عدلت عن ذلك. دعه! قلت لنفسي، ثمّ استدرت وسرت ثانية نحو بيتي بالزبلطاني.
درج
حكاية بلا بداية: انزياح اليسار السوري
اليسار السوري بين العفيف الأخضر وجورج طرابيشي
“في سجن تدمر كنا نلمحهم من بعيد”..
“جميل حتمل” الذي لوّن حياتي ومضى غير عابئ
وقال لي صاحب الخمّارة: هذه طاولة أبيك
صراع ماركس ولينين في قبو معتم بحلب
اليسار السوري: قيادة ثورية ولكن من دون نساء
“حين قرأنا خبر موت رياض الصالح ونحن في سجن تدمر”
شاي أسود غامق مع قليل من السكّر
5 تعليقات