الانقلاب على “ثورة يناير” مُستمرٌ: “عيار ناري” نموذجاً/ ديم جرجوره
ـ 1 ـ
صائبٌ هو وصف الكاتب والباحث اللبناني زياد ماجد حراك سوريين كثيرين، في بدايات مواجهتهم السلمية نظام الأسد، بـ”الثورة اليتيمة” (“شرق الكتاب”، بيروت، 2014). يُمكن منح “ثورة 25 يناير” المصرية صفة كهذه أيضًا. فالمشترك بينهما ـ بالإضافة إلى ارتباط انطلاقتهما عام 2011 بحراكٍ مدنيّ سلميّ ـ كامنٌ في تخلّي كثيرين عنهما، وفي تعرّضهما ـ في الآن نفسه ـ لمواجهة تدميرية، تعتمد في سورية حربًا طاحنة، وتتمثّل في مصر بأشكالٍ عديدة، بينها السينما، التي تتغلَّف أحيانًا بمفردات “جمالية” مختلفة للانقضاض على الثورة السورية أيضًا.
“ثورةٌ” (في مصر وسورية) تجد نفسها “يتيمة” في مواجهة تنانين القتل والتعذيب، التي (التنانين) تتّخذ أشكالاً مختلفة لتحقيق هدفٍ واحد: اغتيال الثورة وتصفيتها كلّيًا.
وإذْ تُدمِّر الحرب الأسدية بلدًا ومجتمعًا وتاريخًا وأمكنةً، وتعتقل وتغيِّب وتقتل وتُهجِّر سوريين كثيرين، فإن تصفية الثورة المصرية تعتمد نهجًا بطيئًا وهادئًا في عملية طويلة الأمد لإنهائها، علمًا أن فنانين عديدين يُشاركون في التصفية هذه تلبيةً لطمعٍ في حماية سلطوية لهم، أو تعزيزًا لمكانة اجتماعية واستفادة مادية، أو خوفًا من السلطة نفسها، المُنقلبة على ثورةٍ مدنيّة وانتخاب ديمقراطي.
ـ 2 ـ
السينما خطرة للغاية. هذا معروفٌ. تزداد فعالية خطورتها عند استخدام لغتها الفنية والدرامية والتقنية والجمالية لترويجٍ أو تغييب. حضورها الجماهيري كبير. تأثيراتها جمّة. تتوغّل في عقولٍ وتمسّ مشاعر. تقول بالصورة ما يعجز المكتوب عن قوله أحيانًا كثيرة. طريقها إلى القلب والمشاعر أقصر وأسرع وأكثر تأثيرًا من تلك التي تفصلها عن عقلٍ وتفكير. تمتلك آليات إقناع، والجماهير العريضة “تُصدِّق” ـ أحيانًا كثيرة ـ ما تقوله السينما، فالكسل لصيقٌ بجماهير غفيرة، وأناس كثيرون غير آبهين بحقائق ووقائع، ولا يرغبون في تأكيد واقعة أو نفيها. تكفيهم المُشاهدة، فيتأثرون بها من دون تساؤل أو سجال.
في الغرب، الأمر مختلف إلى حدّ كبير، وإنْ تتبدّل كثيرًا أحواله الجماهيرية إزاء مسائل كثيرة، منها عدم إظهار أية رغبة في معرفة ماضٍ وتاريخ جماعيين. الثقافة العامة جزءٌ من تربية وسلوك. مهتمّون بالفن السابع قادرون على استيعاب ما يحدث أمامهم على الشاشة الكبيرة، ومتخصّصون غير صامتين على تزوير أو تشويه تصنعهما السينما في مواضيع تاريخية مثلاً، رغم أنها (السينما) لن تكون أبدًا درسًا في التاريخ، ومع هذا فلن يُسمح لها بتزوير أو تشويه، بل بمقاربة جمالية غير تاريخية لوقائع وحقائق تاريخية.
في العالم العربي، هناك سينمائيون أصيلون في مقارباتهم المختلفة مسائل معقّدة وأسئلة شائكة في أنماط الحياة والعيش اليوميين. هناك أيضًا مشاهدون عديدون متيقّنون من أولوية المُشاهدة، وفي الوقت نفسه من أولوية التنقيب عن حقائق ووقائع ربما ينفيها فيلم أو أكثر، أو يزوّرها ويُشوّهها. لكن العدد قليل، كقلّة عدد الأفلام المُثيرة لنقاشٍ كهذا. والخطورة أن الغالبية قابلة لتصديق صُوَرٍ وأقوالها؛ أو، في أسوأ الأحوال، غير عابئة بحقيقة أو واقعٍ، وهذا مخيف ومؤذٍ.
خطورة السينما أقوى عندما تُغلِّف تزويرها وتشويهها بشكلٍ سينمائي باهر، وعندما تُحسِن استخدام التقني والفني والبصري والدرامي والجمالي في ترويج خطابٍ مناقض لمجرياتٍ مَعْلومةٍ من كثيرين، والمُصاب أخطر إنْ تكن المجريات تلك حديثة للغاية، وإنْ يكن مشاركون فيها أو عالمون بها لا يزالون أحياء. الجماليات السينمائية، إنْ تتوفّر، تدفع إلى نقاشٍ غير متمكّن من تفاديها. هذا حاصلٌ في تاريخ الفنّ السابع أصلاً، والأمثلة عديدة: الروسي السوفييتي سيرغي آيزنشتاين (1898 ـ 1948) و”مدرّعة بوتمكين” (1925) تحديدًا؛ الألمانية النازية ليني ريفنستال (1902 ـ 2003)؛ الأميركي اليميني جون فورد (1894 ـ 1973). هؤلاء وغيرهم صانعو سينما بديعة تتضمّن خطابات ترويجية لنظام أو سلطة أو فكرٍ أو ثقافة، وبعض هذين الفكر والثقافة يرفض الآخر ويحاربه وينقضّ عليه ويُغيّبه ويزوّر أحواله وحكاياته. لكنها سينما متمكّنة من لغتها ومفرداتها وجمالياتها الفنية والتقنية والدرامية.
ـ 3 ـ
الانقلاب على “ثورة 25 يناير” مستمرٌّ في تزويرها وتشويهها والنيل من سُمعة بعض شبابها. الانصهار المطلق في السلطة التي تصنع الانقلاب جانبٌ أساسي من مشروع الانقضاض عليها. خنوع عاملين في السينما المصرية لسطوة الحُكم الآنيّ جانبٌ آخر. تملّق أو خوف أو توقٌ إلى حماية أو انعدام كلّ رغبة في إعلان موقف أو التزامه يكون مغايرًا لالتزام موقف السلطة، جانبٌ إضافيّ. التاريخ المصري الحديث مليء بأمثلة تؤكّد خضوع فنانين لسلطة، أو مُهادنة فنية لسلطة، أو انسحاقًا فنيًّا أمام سلطة. زمن الناصرية مليء بنماذج كهذه، رغم أن فنانين عديدين متمكّنون من خروج أو هروب يُتيحان بعض تعطيلٍ لمشروع السلطة المتمثّل في إخضاع كلّ شيء لسطوتها. الراهن المصري امتداد لعصر ناصري كهذا. ما يحدث في بعض صناعة السينما حاليًا (“تصفية” الثورة، الانسحاق أمام سلطة أو مهادنتها على الأقل، وهذا أخطر، إلخ.)، دليلٌ على سلوكٍ يعتنقه كثيرون في مساراتهم الفنية، والحياتية ربما أيضًا.
ما يحدث الآن شبيهٌ بماضٍ مليء بانهيارات جمّة، مع التنبّه إلى إيجابيات مختلفة في الماضي والحاضر، لن يغفلها الراهن والتاريخ معًا. لكن تصفية “ثورة 25 يناير” أبشع وأقسى وأحدّ.
إنجاز أفلام سينمائية تعتدي على وقائع كي تنال من حقائق خدمة للانقلاب على تلك الثورة، جانبٌ أساسيّ أيضًا في تزوير تاريخٍ وتشويه واقع. إنجاز كهذا يزداد حضورًا في المشهد المصري، حاليًا على الأقلّ. أفلام تُنجَز بحِرفية كي تبثّ سُمًّا يغتال بقايا تلك الثورة، أو ذاكرتها. ولأن القبضة السلطوية متحكّمةٌ، فإن مواجهة سينما كهذه بسينما منبثقة من روح الثورة وحكاياتها ونقاشاتها ستكون صعبة، رغم أنّ هناك من يمتلك قدرة تأريخ الثورة وعوالمها وانفعالاتها ومروياتها بصريًا بشكلٍ أو بآخر، ومن يُجابه التزوير والتشويه بتحقيق أفلامٍ تعكس انفعال الثورة وحالات أبنائها ومسالك المنخرطين فيها، بكثيرٍ من الشفافية والمصداقية والجمالية المطلوبة.
ـ 4 ـ
“عيار ناري” (2018)، للمخرج المصري الشاب كريم الشناوي، نموذجٌ لثنائية الإبداع والتزوير/ التشويه. قيل فيه ما يُفترض به أن يُقال، وبعضه صائبٌ، لأن الشناوي مُنتبهٌ إلى جمالياتٍ سينمائية مختلفة. الابتعاد قليلاً عن مضمونه، الذي يُشوِّه وقائع ويُزوِّر حقائق، يُظهره فيلمَ حركةٍ وتشويق، تجتمع فيه المقوّمات المطلوبة لهذا النوع السينمائي المُنفَّذ بمهنية إلى حدّ كبير: جريمة قتل، وطبّ شرعي، وتدخّل سلطة (أمنية أو طبية أو سياسية، إلخ.)، وحضور إعلام وصحافة، وتحقيقات تكشف غامضًا وتعرِّيه كي يُصبح واضحًا، فيتسلّى كثيرون بمُشاهدته لأنه متمكّن من فعل هذا كلّه بلغة سينمائية متماسكة.
المأزق الجوهري كامنٌ في حيّز واحد: المقتول انعكاس مبطَّن لرمزٍ ثوري، والقتل ناتجٌ من خلافات عائلية لا من اغتيال يُنفّذه “بلطجية” النظام أو أفراد تابعون لأجهزته الأمنية أو العسكرية، والطبّ الشرعي مُطالَبٌ بتزوير واقع أنه مقتول من مسافة قريبة لا بسبب رصاصة قنّاص، والفعل الجُرميّ حاصلٌ أثناء إحدى تظاهرات الثورة عام ولادتها (2011).
المثير للدهشة أن كريم الشناوي نفسه مُشارك في تحقيق أفلام تُقارب “ثورة 25 يناير”، سينمائيًا، من منطلق الميل إليها، وإنْ بتفاوتٍ في كيفية المقاربة والمعالجة والاشتغال، والمسافة النقدية السجالية معها. فهو مخرج منفِّذ لفيلمي “نوّارة” (2016)، لهالة خليل، و”اشتباك” (2016)، لمحمد دياب، ومخرج مساعد في الوثائقي “تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي”، للثلاثي آيتن أمين وعمرو سلامة وتامر عزت، علمًا أن اسم هيثم دبّور، مؤلِّف “عيار ناري”، واردٌ في لائحة الفيلم الوثائقي هذا في خانة “المعالجة والإعداد”.
هذا يستدعي تساؤلاً عن مسارٍ يؤدّي به إلى “عيار ناري”، ويدفعه إلى تحقيق فيلمٍ يخوض، بشكلٍ أو بآخر، معركة تصفية “ثورة 25 يناير”، أو بقاياها على الأقلّ. فهل تُعتبر تجربة “اشتباك” نقطة تحوِّل لكريم الشناوي، إذْ يطرح محمد دياب فيه لحظة تُثير، بدورها، رد فعل “ثوري” يُواجهها، لأنها تُساوي بين شرائح المجتمع المصري المتمرّد على سلطة الفساد والقمع والقتل، من دون إظهار الفروقات الحاصلة بينها أولاً، وبينها وبين الثورة ثانيًا؛ ومن دون تبيان الأدوار المختلفة لتلك الشرائح في الثورة؟ فـ”اشتباك” مرتكز على بنية سينمائية متينة الصُنعة، تتفوّق ـ إلى حدّ ما ـ عن تلك الخاصّة بـ”عيار ناري”. لكن محمد دياب يلعب في المسافة الممنوحة له بين بعض تيارات المجتمع المصري “الثائر”، في حين أن كريم الشناوي يبدو منخرطًا في مشروع السلطة، الهادفة إلى تصفية الثورة أو بقاياها.
يُريد “عيار ناري” ترويج مقولة مغايرة لوقائع وحقائق. يجعل المقتول علاء أبو زيد (أحمد مالك) شابًّا لن يتردّد في ضرب والدته أم خالد (عارفة عبد الرسول) بحدّة كي يُرغمها على توقيع تنازل له بخصوص المنزل العائلي، فهو بحاجة إليه لإيواء سلمى (أسماء ابو اليزيد) الحامل منه قبل زواجهما. والنزاع الحاصل داخل المنزل ينتهي برصاصةٍ تُطلق من مسدس المقتول، أثناء دخول خالد (محمد ممدوح) فجأة، فيحاول إنقاذ والدته من براثن علاء، العنيف والمسلّح، فيُصاب علاء بتلك الرصاصة القاتلة. سيتواطأ الجميع مع أفراد العائلة في مُصابها هذا. سيصمتون لأنهم متضامنون داخل بيئتهم الفقيرة والضيّقة، غير المعنية بمجريات أحداثٍ خارجها، والأحداث تلك ثورة ومفاعيلها، لكنهم منزوون وساكتون، والجثة تُنقل إلى الحدث نفسه (تظاهرات الثورة) مع إشاعة خبر الوفاة قتلاً برصاص قناصة السلطة، فيُصبح المعتدي المقتول “شهيدًا” و”مناضلاً”، بينما تاريخه النضالي موسوم باعتداء مادي على والدته وشقيقه، وبعلاقة جنسية سابقة للزواج.
ياسين المانسترلي (أحمد الفيشاوي)، طبيبٌ شرعي مدمن على الكحول، لكنه متنبّه لوطيفته التي يُتقنها بحرفية. يقول بقتل على مسافة قريبة، فتبدأ المواجهة بينه وبين أجهزة الطب الشرعي وعائلة “الشهيد”، قبل لقائه الصحافية مها عوني (روبي) المتمكّنة من نشر التقرير الأول، فيضجّ البلد بالحكاية، وتتدخل سلطات وتزوَّر وقائع ويُحارَب ياسين بشراسة. لكنه قادر على إقناع مها بمتابعة الموضوع، ليكتشفا الحقيقة في مشهدٍ يُسيء إلى التماسك الدرامي للسياق العام، ويُسيء إلى الثورة وناسها في الوقت نفسه.
ـ 5 ـ
السينما معتادة تحريف وقائع في تاريخها الطويل. مؤرّخون غربيون يتصدّون غالبًا لأفلام تروي شيئًا من الذاكرة الجماعية، إنْ تتبدّل حقائق موثّقة، رغم أن السينما لن تكون “درسًا في التاريخ”، وهذا مُكرّر لضرورة التنبّه إلى الفرق الحاصل بين ترفّع الفن السابع عن تلقين دروس، ومقاربة الوقائع سينمائيًا من دون تحريفها أو تبديلها أو تزويرها، رغم أن المعالجة السينمائية مفتوحة على احتمالات وابتكارات شتّى. مناقشة الحقائق والوقائع ضرورية، إذْ لن تكون هناك حقائق ثابتة كلّيًا، والتاريخ حافلٌ بأبحاث دائمة عن المواضيع نفسها، والوقائع معرّضة لتشذيب وتنقية من أجل تأكيد أكبر على حالة أو حكاية.
“ثورة 25 يناير”، كبقية الثورات العربية المُجهَضَة والمُغْتالَة، تحتاج إلى نقاش نقدي عميق وجريء وواضح. هذا حاصلٌ بين حينٍ وآخر. للسينما دورٌ في هذا، شرط ألاّ تزوِّر وتُشوِّه. فبلوغ حدٍّ من التزوير ينقضّ على وقائع راهنة للتشكيك بها من دون نقاش سينمائي لها يعني، من بين أمور عديدة، أن بلاغة “ثورة 25 يناير”، بأخطائها وخيباتها وانكساراتها، تقضّ مضاجع كارهيها والمنقلبين عليها لشدّة نقائها وحيويتها وعفويتها وصدقها، والمنقلبون عليها محتاجون إلى تزوير وتشويه لتصفيتها.
انخراط “عيار ناري”، بشكلٍ أو بآخر، في تصفية الثورة مؤذٍ، لإساءته إلى الثورة أولاً، ولإساءته إليها بلغة سينمائية “جميلة” ثانيًا.
(*) ناقد سينمائيّ من أسرة “العربي الجديد”
ضفة ثالثة