ساخروف يقتصّ من بوتين/ محمد خلف
منح البرلمان الأوروبي مؤخراً جائزة ساخاروف العريقة لحقوق الإنسان للمخرج السينمائي الأوكراني المسجون في روسيا أوليغ سينتسوف. هذه الجائزة تمنح سنوياً تكريما لمن يقدمون “مساهمة استثنائية في النضال من أجل حقوق الإنسان في العالم”.
لكن من هو سينتسوف؟
لقد اشتهر سينتسوف (42 سنة)، وهو أب لطفلين يعيش في شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي ضمتها روسيا في 2014، بمعارضته الشديدة للكرملين الذي أوعز لجهاز الأمن الروسي الفيدرالي باختطافه عام 2014 ونقله إلى موسكو، حيث مثل أمام محاكمة صورية أصدرت بحقه عام 2015 حكماً بالسجن 20 عاماً. أدين سينتسوف بالارهاب والتهمة التي واجهها كانت التحضير لإحراق مكتب حزب بوتين “روسيا الموحدة” في القرم، إضافة إلى تزعم مجموعة تنتمي إلى ما يعرف باسم ” رافي سكتور” الأوكرانية القومية المتشددة المتهمة بمهاجمة البنى التحتية والوجود الروسي في القرم.
يقبع سينتسوف الآن يقبع سجيناً في منشأة روسية بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية في سيبيريا. وسينتسوف الذي ولد في مدينة سيمفروبول، كان تزعم حركة الاحتجاجات التي أسقطت دمية بوتين في كييف الرئيس فيكتور يانكوفيتش، وهو اختار الإعلان من سجنه الإضراب عن الطعام في منتصف أيار/ مايو الماضي. حينها، أنهى أول شهر من دون طعام مع بدء مباريات المونديال العالمي، ليوجه أنظار العالم نحو السجناء السياسيين الأوكرانيين في روسيا، فقال إنه” لا يمانع أن يموت جوعاً من أجل إخلاء سبيل كل هؤلاء السجناء”.
وعلى رغم وقف إضرابه عن الطعام لا تزال حالته الصحية بعد مرور أشهر تثير قلقاً شديداً لدى عائلته وأصدقائه. خسر سينتسوف 20 كيلوغراماً من وزنه، بحسب الناشطة الروسية في مجال حقوق الإنسان زويا سفيتوفا. وقالت قريبته ناتاليا كابلان المقيمة في كييف، إن “رسائله الأخيرة فيها الكثير من التشاؤم، إذ يعاني من أضرار جدية في الكبد والقلب وحتى في المخ بسبب إضرابه عن الطعام، لا أحد قادر على التنبؤ ماذا إذا كان سيبقى حياً”، موضحة أن المخرج “كتب وصية طلب فيها الاهتمام بولديه”. وأعربت عن أملها ب أن “تساعده جائزة ساخاروف على الاستمرار”. واعتبر الناقد السينمائي الروسي انطون دولين إضراب سينتسوف عن الطعام “حدثاً مهماُ لجميع الروس حتى اولئك الذين لا يعرفونه، وقال إنه إنسان رائع لم يتسبب في إضرار أحد واتهامه باطل ولم يتم إثباته بالأدلة القاطعة حتى الآن.
يرفع سينتسوف الآن أصوات 70 معارضاً أوكرانياً زج بوتين بهم في السجون الروسية في ظروف غير انسانية وقاسية ، وقال النائب عن الحزب الديموقراطي المسيحي الألماني في البرلمان الأوروبي ميخائيل غالر”نحن لن ننسى القرم والمواطنين الأوكرانيين”. إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انكر أن يكون اعتقال سينتسوف وسجنه يعود إلى نتاجه الفني والسينمائي وقال: “روسيا تحترم سيادة القانون، بالتالي إن مثل هذه القضايا هي من اختصاص المؤسسة القضائية ، وأضاف: “إن المشكلة تنبع من قيامه بنشاطات غير قانونية بحسب هيئات التحقيق الروسية”.
ذاعت شهرة سينتسوف مع أول وآخر فيلم له حتى الآن، حمل عنوان “غايمر”، ويروي قصة مراهق يشارك في مسابقة ألعاب فيديو مع مواجهته في الوقت نفسه حياة يومية صعبة في قريته في أوكرانيا. وعرض الفيلم في مهرجانات ونال جائزة في روتردام في 2012. بطل فيلم سينتسوف هو المراهق اليكس الذي يحن للعودة إلى بلاده عندما ينتهي الاحتلال الروسي، لكنه لا يخفي هواجسه من تبدد أحلامه في العودة يوماً ما إلى أوكرانيا، بل حتى في الحصول على حريته.
بوتين هو الآخر على عادة الحكام الاستبداديين استخدم ماكنته الدعائية لتشويه صورة سينتسوف، وشارك هو شخصياً في تسويق افتراءات وأكاذيب ابتدعتها أجهزته القمعية في معرض تبريره الحكم بالسجن على المخرج الأوكراني، قائلاً في رده على مذكرة ارسلها له المخرج الكسندر سوكوروف طالباً فيها إطلاق سراح سينتسوف: “ينبغي عند الحديث عن هذه القضية احترام أن روسيا دولة يتمتع فيها القانون بسيادة كاملة، لهذا فالمسألة هي من اختصاص المؤسسة القضائية، التي قضت بسجنه ليس بسبب نتاجه السينمائي أو عقاباً على موقفه من القرم، إنما لانه بحسب هيئات التحقيق ارتبط بجماعة ارهابية سعت إلى شن هجمات كان يمكن أن تودي بحياة الكثير من المواطنين الأبرياء!”.
ورأى محللون روس أن تعليق بوتين على الحكم ليس سوى تأكيد وتثبيت للتهمة والعقاب. ونشر موقع ” كلوب زد” الإلكتروني مقطعاً عن كتاب “الحياة والمصير” للكاتب السوفياتي فاسيلي غروسمان الذي كان ألفه عام 1960 ولم ير النور إلا في مرحلة البريسترويكا التي أطلقها الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف، في محاولة من الموقع لإظهار عمق التشابه بين بوتين وستالين في الموقف من المثقفين المعارضين”. وكتب أيضاً: “يولد الآن شكل جديد من السجناء السياسيين ابتدعته دولة الاشتراكية القومية (الوطنية): مجرمون لم يرتكبوا جريمة. الكثير من المثقفين وجدوا أنفسهم في معسكر اعتقال لكونهم أفصحوا خلال أحاديث لهم مع أصدقائهم عن مواقفهم الانتقادية للنظام الهتلري، أو لأنهم تجرأوا على نقل نكات سياسية تسخر من السلطة والنظام، ومع أن هؤلاء لم يوزعوا منشورات سياسية ولم يرتبطوا بمنظمات أو أحزاب سياسية سرية، إلا أنهم أُدينوا بتهمة افتراضية بأنهم يمكن أن يقوموا بمثل هذه الأعمال”.
ولد فاسيلي غروسمان (1905-1964) في أوكرانيا، ودرس في شبابه الهندسة الكيماوية التي سرعان ما تركها عام 1934 ليكرس نفسه للكتابة. وبعد الحرب العالمية الثانية التي خاضها في ستالينغراد، أُعلن بطلاً من أبطال الاتحاد السوفياتي، لكنه سرعان ما قطع علاقته مع النظام. وحين رحل، مات مرذولاً من الجميع، مغضوباً عليه من السلطات، ومجهولاً تماماً في وطنه.
في عمله الرائع “الأمل والذاكرة “يقدم المفكر الفرنسي من اصول بلغارية تزفيتان تودوروف، وصفاً فريداً من نوعه لشخصية فاسيلي غروسمان ” بقوله إنه الكاتب الذي انتقل من حال إلى حال وبشكل جذري أي من مرحلة الخنوع إلى الثورة، ومن عمى البصيرة إلى الذهن الصافي والفكر الثاقب. إانه الكاتب الوحيد الذي بدأ حياته كعبد أورثوذكسي يهاب النظام، وانتقل في مرحلة ثانية إلى مواجهة جريئة مع الدولة”.
سيريبرينكوف: رسالة تحذير للآخرين
سينتسوف ليس الوحيد أو الأول أو الأخير في قائمة ضحايا بوتين التي تكبر مثل كرة الثلج مع خوضه في أوحال القمع والاستبداد والانتقام من كل من ينتقد سلوكه السياسي في الداخل أو الخارج. مخرج الدراما المسرحية ومدير مسرح “غوركي” في موسكو كيرل كيريل سيريبرينكوف الذي قررت محكمة روسية وضعه قيد الإقامة الجبرية للاشتباه كما تدعي النيابة العامة في “اختلاسه 68 مليون روبل، أي ما يتخطى مليون دولار. إلا أن الذنب الحقيقي لهذا المخرج الذي يحظى بشهرة عالمية، الحائز جوائز كبرى في الاخراج المسرحي والسينمائي هو أن نتاجاته الفنية تحفل بالسخرية من السلطات الحاكمة، كما تندد بالدور الضار الذي تلعبه الكنيسة المتحالفة مع الحكم في المجتمع الروسي. وهو ما دفع النخبة الليبرالية السياسية والثقافية إلى التعبير عن خشيتها من عملية انتقام تقوم بها السلطة بمحاكمته وسجنه بسبب اعماله الانتقادية، لا سيما أنه نفى بشدة ارتكابه أي مخالفات. وعلق الكاتب والمخرج فيكتور شيندروفيتش قائلاً: “أعتقد أن هدف الاتهام والاعتقال هو توجيه رسالة تحذير للآخرين ممن ينتقدون بوتين والكرملين”. وفي تضامن ورفض للأعمال التعسفية ضد النخبة الروسية الثقافية منحت فرنسا سيريبرينيكوف وسام الفنون والآداب من رتبة فارس في آب/ اغسطس الماضي.
صيف الانهيار السوفياتي
لقد مثل فيلم سيبرينكوف “الصيف” بلا منازع الحدث الأبرز في مهرجان كان السينمائي الأخير الذي لم يتمكن الفنان من حضوره بسبب اعتقاله، قال مدير المهرجان عند تقديمه الفيلم بنوع من الحياد الساخر، إن الرئيس بوتين أعرب في رده على طلبنا بإطلاق سراحه، أن يكون سيريبرينكوف بين الحاضرين، إلا أن لا دخل له في هذه القضية، لأن القضاء مستقل في روسيا. قال هذا على رغم أنه يعرف جيداً المواقف الشجاعة للمخرج تجاه النظام.
تدور أحداث الفيلم في ثمانينات القرن الماضي وهي الفترة ما قبل البريسترويكا حيث كانت روسيا تعيش آنذاك مرحلة انهيار الشيوعية التدريجي تحت نظام اندروبوف و تتشيرننيكو وغورباتشوف. كما يروي قصة انتشار موسيقى الروك بين شباب روسيا والاتحاد السوفياتي في أواخر سبعينات القرن الماضي تحت حكم الستاليني ليونيد برينجيف. وبالتالي يعكس الفيلم آمال جيل يبحث عن التغيير قبل بدء مرحلة البريسترويكا، واختار سيريبرينيكوف لهذه الرحلة الموسيقية وجهين شهيرين للروك في تلك الفترة وهما فيكتور ستوي ومايك ناومنكو. وأكد سيريبرينيكوف أنه تمسك بنقل نفس الوقع إلى الحرية الذي طبع تلك الفترة من تاريخ الاتحاد السوفياتي التي تنازعتها آمال الشباب وأجواء سياسة القمع.وكان تصوير هذا الفيلم توقف وهو في مراحله الأخيرة، في آب/ أغسطس 2017، بعد اعتقال المخرج ووضعه قيد الإقامة الجبرية في موسكو. ولكن ذلك لم يمنع فريقه من استكمال تصوير المشاهد الناقصة في سان بطرسبوغ اعتماداً على مذكرة كتبها سيريبرينيكوف خلال التحضيرات. ثم تولى المخرج المساعد المونتاج وحده.
يمنع الكرملين عرض الأفلام التي تتناول مواضيع اجتماعية تعتبر حساسة جداً، من التمويل الرسمي كما كانت الحال مع فيلم آندري زفيانغينتسيف الأخير القاتم جداً أو أن عرضها يمنع تماماً مثل الفيلم الكوميدي الفرنسي-البريطاني «ذي ديث أوف ستالين» الذي اعتُبر تناوله بطريقة فكاهية للنزاع على السلطة الذي تلى موت ستالين عام 1953، مسيئاً. ومع ذلك يحاول الكثير من المخرجين التملص والإفلات من الرقابة عند تناول الموضوعات التي لا تتناسب مع ذوق السلطة وتضييق بوتين الخناق على منتقديه من الفنانين وكتاب السيناريو والمخرجين، من خلال طريقة كوميدية ساخرة في محاولة مدججة بالمخاطر، قد ترفع ادرينالين بوتين ما يحولهم على الفور إلى زبائن القضاء الروسي (المستقل). أحد هذه الأعمال مسلسل تلفزيوني بعنوان “إقامة جبرية”، بثته في آب الماضي قناة “تي أن تي” الشعبية، يتناول بسخرية جريئة مغامرات رئيس بلدية فاسد، إذ يفضح تقيح مؤسسات الحكم وغرق المسؤولين في الفساد. وذكرت وكالة “فرانس برس” أن قناة تلفزيونية روسية عرضت فيلماً يروي كفاح الكاتب تولستوي لإنقاذ جندي شاب من الإعدام في عهد القيصر الروسي في تلميح إلى صرامة القضاء الروسي مع معارضي النظام الذين يوجهون انتقادات للسلطة وبوتين.
مع أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد ألبس حكمه الثوب الديموقراطي الزاهي، إلا أن ذلك لا يعدو أن يكون مظهراً خارجياً، في حين يتصرف زعيم الكرملين كقيصر دموي وطاغية مستبد.
وتكشف أساليبه في قمع عدد من الوجوه البارزة في المعارضة الروسية سواء أكانت سياسية ام ثقافية، عن حسّ بوليسي مرتفع يقارع أساليب الروائية الإنكليزية الشهيرة “أغاثا كريستي”. ورصد تقرير لـ”سي أن أن” عدداً من أساليب بوتين في إرهاب معارضيه وقمعهم، كان من بينها القتل ودس السم أو الحقن بالكيماوي والاعتقال وتوجيه التهم والملاحقة الدولية.
درج