الجثة: سياسات الجسد الميّت/ عمار المأمون
أثارت فرقة شكسبير الملكيّة للمسرح الجدل عام 2008، إذ أكّد المخرج جريج دوران، أن هاملت الذي يؤدي دوره دايفد تينوت في الإنتاج الجديد للمسرحيّة، يحمل في مشهد المقبرة الشهير جُمجمةً حقيقيّة، وليس أي جمجمة، بل تلك التي تعود لعازف البيانو البولندي أندري تشايكوفسكي، الذي طلب في وصيته قبل وفاته أن تُستخدم جمجمته كغرضٍ مسرحيّ، وهذا ما فعلته الفرقة، إذ جعلت منها جزءاً من إنتاج «هاملت» التي عُرضت في أنحاء بريطانيا، وبُثّتْ على القناة الوطنيّة الرسميّة الثانية.
نضع الحدث السابق، في مواجهة نظريات السيادة، بوصف الأخيرة مسؤولة عن «أجسادنا»، حيةً كانت أو ميتة، ففي فضاء المسرحّية «تَظهر» الجمجمة كغرض لا سياسي، بوصفها احتفاءً بمن رحل، لنكون أمام ظهور شديد الخصوصيّة لعلامة على الجسد الميت، ذاك الذي اختفى لسبب ما، لكن لم يُوارى بأكمله في التراب أو يتحول إلى رماد، بل تُرك جزءٌ منه مرئياً ضمن مساحة اللعب المسرحيّ كغرض جماليّ، وعلى النقيض، حين تظهر الجمجمة أو الجثة في سياقات مغايرة، تتحول إلى موضوعة سياسيّة، وعلامة على خلل ما، لأن التقليديَّ أن تكون خفيّة أو مُتحفيّة وخاضعة لشروط الرقابة والضبط.
إشكالية «الظهور-Appearing» السابقة، سببها أننا كبشر نمتلك في داخلنا أسباب موتنا، نحن أحياء ضمن لحم هشّ قابل للتلف، سواء بتأثير الزمن، أو عبر قوة خارجيّة، لكن سواء كنا أحياء أو أموات، يبقى لحمنا موضوعة سياسيّة، تتبنى السيادةُ الحفاظ عليه وصيانته حتى بعد «الحياة»، عبر سياسات الموت-necropolitics التي نرى تطبيقاتها في المؤسسة الطبيّة، والجهود المرتبطة بالنظافة العامة وآليات الدفن ومكافحة الأوبئة، وأيضاً عبر قانونيّة الموت، فالجثة لا تكفي لإعلان الموت، بل لا بدّ من قرار من السلطة، وورقة رسميّة تعلن أن هذا اللحم لم يعد حيّاً.
ما سبق يجعل الجثّة محرّكاً لسياسات السلطة، ومحط جهودها بعد «الحياة»، وخصوصاً أن تصنيفات الحياة والموت، والحدود بينهما سياسيّة بامتياز، فسؤال من هو الحيّ ومن هو الميت، لا يُجاب عليه بالإجماع أو الرأي الشخصيّ، بل عبر قرار بيروقراطيّ، أما ما بينهما فهو محطٌ للنقاش، كمن يكون في غيبوبة دائمة، والجنين، والمختفين، وغيرها من الوضعيات التي تتجاوز التصنيفات التقليديّة.
جثة فوق النظام
يعتبر جسد السيّد – the sovereign (الرئيس أو الملك) من أكثر الفضاءات التي يُستثمر في تكوين مناعتها فيزيائيّاً وقانونيّاً، إذ هناك أجهزة خاصة لحمايته، وحماية منزله، وسيارته، وطائرته. كل مساحات حضور جسده محطّ جهودٍ تمنعه من التحول إلى جثة، وحتى بعد موته، يُعامل بأقصى أشكال الاحترام والدقة. لكن في سياقات الحروب والثورات، يتحول جسد السيد إلى عدو للشعب في بعض الأحيان، وإلى هدف واضح للعنف، ولا بدّ من تفكيك وحدة جسده الفيزيائيّة والرمزيّة، بوصفه اختزالاً للنظام القائم. أما محاكمته، إن حصلت، فتمتلك شكلاً خاصاً، هو السيد الذي يعلو على «النظام»، بصورة أدق، هو الموضوعة التي تولِّد النظام وتجسّده في الوقت ذاته، والوحيد القادر على التحرك داخله وخارجه –إلى جانب الوحش-، وتفعيل الاستثناء وتعطيله.
هذه الخصائص الرمزيّة والسياسية لجسد السيد، تمتد إلى جثته حين تصبح محط العنف، بوصفها الشاهد على النظام القديم، ومولداً لعنفٍ مختلفٍ لتأسيس نظام جديد، فالعنف ذاته الذي أطاح به، سيُقنّنُ لاحقاً ليشكل «روح الجمهورية» مثلاً، حسب تعبير سانت جوست في خطبته قبل إعدام الملك لويس السادس عشر، الذي تحولت جثته وقَطعُ رأسِهِ بالمقصلة في استعراض علنيّ، إلى علامة على نفي الشكل القائم للنظام، وإنهاء سيادته والنظام الملكيّ الذي يمثله، وفكّ العقد بينه وبين «الشعب». وفي الوقت ذاته كانت هذه الجثة العلنيّة، مُحركاً للثورة والعنف الذي توّلده، لتفكيك السلطة واستبدالها بأخرى.
الأهم، أن تَحولَ السيد إلى جثة علنيّة مرئية، يتطلبُ عنفاً استثنائياً، وأجهزة خاصة لتطبيقه، هذه الأجهزة تختزلُ العنف الجمعيّ وتقنّنه عبر أداة أو مؤسسة أو سلطة أجنبيّة، (المقصلة – المحاكم الاستثنائيّة – احتلال أو غزو)، قادرة على تفكيك وحدة جسد السيد من جهة، وخلق قنوات لإخفاء جثته من جهة أخرى، سواء كان ذلك سراً أو عبر طقوس مرئيّة تضمن تلاشيها من العلن، ودون عمليّة «الإخفاء» هذه، يُفلت العنف الاستثنائيّ من زمام السيطرة، ويصبح مُرتجلاً، عَشوائيّاً، وقد يُطبق على الجثة ذاتها، كأننا في استعراض كرنفالي يفكك القيمة الرمزية للجسد السياديّ، وتظهر فيه الجثة ضمن صيغة ساخرة وغروتيسكيّة، وهذا ما نراه في جثة معمر القذافي، إذ «انهار النظام» بعد قتله، لكنه بقي موضوعة استعراضيّة، لنجد أنفسنا أمام طقس تُتناقلُ فيه الجثة بين الأيدي، وتعرض للعلن، بل وأتيح للناس الاقتراب منها وطعنها وضربها، فغياب الجانب الطقسي في إخفائها أو استعراضها، نفى عنها صفة الأُضحية. فهي لم تختزل العنف أو تبشر بنظام جديد، بل كانت أشبه بدمية في كرنفال لا ينتهي، ما يعني استمرار الأداء/الصراع حتى بعد تفكيك الجثة رمزياً، وتَحولِ السيّد إلى أضحوكة، والسبب هو غياب السلطة التي تقنن استعراض الجثة، فلا بداية أو نهاية له، ولا حدود جغرافيّة لامتداده.
ما يميز علنيّة الجثث السياديّة، أنها دلائل على الخراب لا على العدالة، هي تبيح العنف اللاقانوني والمُرتجَل، عنفٌ يتجاوز جثة السيّد نحو الآخرين، بسبب كسر احتكار الدولة وهرمها للقوة، فدون سيادة جديدة تبشر بعقد جديد، تبقى الجثة المرئيّة مولداً للعنف، كون بيروقراطيّة إخفائها ضمن قنوات خاصة، -سواء عبر الدفن أو الوضع في المتحف أو الحرق-، تَضمنُ إعادة تشكيل نظام عام من نوع ما.
الجثة خارج المكان
تُخلخِلُ الجثةُ التكوينَ الرمزيّ للفضاء العلنيّ إن وُجدت فيه، وعملية احتوائها تعني التخلص من خطر صحي محتمل، لكن وراء أدبيات الحفاظ على الحياة والصحة العامة، تبرز الجثة كأثر تتركه تقنيات المنع والحرمان من الحياة، لتتحول إلى شاهد مرئي على العنف المباشر وغير المباشر الموجه ضد الأعداء والآخر المختلف، لتكون نتاج نفي اللحم البشريّ من مساحات الحياة وتركه على حواف الموت بوصفه خطراً، حينها يتحول هذا اللحم من مكوّن إنسانيّ إلى «فضلات منفيّة»، لا بدّ من استيعابها وإخفائها في مساحات نظيفة مغلقة، لا تنتمي للظاهر العلنيّ «الصحيّ».
ليس كذلك فقط، إذ تطور سياسات العداوة أشكالاً ماديّة وقانونيّة تحارب حتى احتمالات الجثث، لتصبح الحدود بين «الميت» و«الحي» مائعة خارج مساحة الحياة/الأمان، كون الفرد يندرج تحت تصنيف الـ abject، وهي فئة تُنتَج عبرها الحدود والحواجز التي تعيق الحركة، وتحتوي «المُدنسْ» والمختلف وما يشكل تهديداً. وفي السياق الذي نتناوله الآن، تبرز عملية الـabjection بوصفها جهداً سياسياً لخلق مساحات يتعرض فيها الفرد للموت، ويُحتوَى ضمنها لحمُهُ حين يتحول إلى جثة.
تتجلى العمليّة السابقة في جهود السيادة لإعادة تعريف المكان، ورسم الحدود لنفي من لا يتطابق مع معاييرها، عبر التحكم بحركة الأجساد وتدفقها من مكان إلى آخر، كما نرى في السياسات الأوروبيّة، التي تمنع المهاجرين من المرور، وتوظف أجهزة مادية وبشريّة تعيق الحركة، سواء عبر الأسلاك الشائكة أو الشرطة، أو مجرد ترك العابرين دون أي مساعدة. هي تنفيهم فيزيائياً من مساحات المواطنين، نحو مساحات الخطر، حيث احتمال الجثة قائم.
نكتشف السياسات السابقة بوضوح عبر فن الأداء، فألمانيا مثلاً بالرغم من ترحيبها باللاجئين، وكسرها لاتفاقية دوبلن في إحدى المراحل، وإباحتها الدخول البريّ لأراضيها، لم تسهّل الانتقال الجوي، الآمن والمضمون، ولو تم التكفل به وبنفقاته، وبالوضع القانوني والمعاشيّ للقادمين الجدد، كما فعل «مركز الجمال السياسي»، الذي حاول نقل 115 طالب لجوء من تركيا إلى ألمانيا جواً، لكنه فشل في ذلك، لا بسبب قوانين الطيران والغرامات التي تكفّلَ بها، بل لأن البرلمان الألماني صوّت على عدم إعطاء الواصلين تأشيرات دخول، وترحيلهم فوراً من المطار، وخصوصاً أن مساحة الانتظار في المطار، تندرج تحت الاستثناء، ويحق فيها للسيادة إعادة القادمين إلى البلد الأصليّ الذي جاؤوا منه، لا كالحدود البريّة التي يمكن أن تُغلقَ في وجه القادمين ليُترَكوا عالقين على أطرافها.
ضمن السياق السابق وظّفَ مركزُ الجمال السياسيّ بعدها الجثة، لكشف العداوة الدفينة في أنظمة استقبال اللاجئين، جاعلاً إياها –الجثة- جزءاً من حدث سياسي، لكشف النفي والاستثناء الذي تمارسه السلطة، التي تترك من يقطعون الحدود البريّة لحظوظهم في النجاة، وفي حال موتهم، تنقل جثثهم لمدافن جماعيّة بلا أسماء أو أرقام أحياناً، كأنهم فائض أو خطر قد يلوث الداخل الأوروبيّ.
ما فعله المركز في الأداء المسمى بـ«الموتى قادمون»، كَشفَ سياسات إنتاج الجثث، إذ قام الناشطون والفنانون بتتبع قبور مهاجرين في إيطاليا واليونان وتركيا، ثم نقل جثتين إلى برلين ودفنهما هناك، بعد موافقة أُسرهما. المحزن حسب تصريح الناشطين في المركز، أن الحصول على موافقات نقل الجثث أسهل بكثير من موافقات نقل الأحياء، وما يثير الغضب أن الحكومة النمساويّة حاولت عرقلة الموضوع، إذ اتُهم القائمون على الأداء وشركة نقل الجثث بتهريب الكوكائين، وتم إخضاع الجثث للفحوصات وتفتيشها رسمياً للتأكد من «نظافتها».
هذا الأداء أعاد للجثة كرامتها الإنسانيّة، وأضاء على مواطن العنف في النظام الإنسانويّ، الذي يتكفل بحياة مواطنيه، ولا يقتل الآخرين بوحشية، بل يتركهم للموت، ويخلقُ مساحاتٍ مؤقتة للاستثناء تتمثل بالطريق ذاته، والحدود بوصفها ضامناً للموت، ما يجعل الرحلة نحو الأمان أشبه بتحدٍ للنجاة، ورياضة تشبه أفلام الخيال العلميّ، رياضة تحتاج مهارةً وتمريناً، «يعيش» بعدها الأقوى، ويُترَك الأضعف على الطريق للموت، ثم يتم التخلص من جثته لإخفائه، وإعادة «النظافة» للمكان، والحفاظ على الصحة والنظام العامين.
الجثة في اللامكان
تُعرَّفُ مُساحة الاستثناء بالصورة التقليديّة، بأنها تفعيل لسياسات الموت والطوارئ ضمن مكان وزمان محددين، هذه التعريفات تمتلك أشكالاً أخرى في الأنظمة التي يتداخل فيها فضاء الاستثناء مع الدولة الدستورية، ففي سوريا مثلاً وبعد تفعيل سياسات مكافحة الإرهاب عام 2012، لم يعد الاستثناء وإنتاج الجثث حكراً على أقبية المخابرات وفضاءاتها الخفيّة، بل تحول الاستثناء إلى باراديغم يحضرُ في الفضاء العام، يُعطَّلُ ويُفعَّلُ عبر الأداء، ليتحول الجسد ذاته إلى خالق للاستثناء والعنف المرتبط به، ما يعني انهيار تعريف المكان التقليديّ، ليصبح مساحة جسديّة فرديّة، يُنتجها الشخص عبر مجموعة من الأفعال والأقوال التي تجعله عرضة للقتل في أي مكان، ما يعني تحوّل الفرد من مواطن –نظرياً- إلى لحم صرف-bare life بكلمة أو إشارة.
الكلام النظري السابق يتضح في المظاهرات التي شهدتها سوريا بداية الثورة، بوصفها أشكال احتجاج جسديّ علنيّ ضد السلطة، التي تتبنى سياسات الموت ضد «أعدائها»، وتبيح قتل أولئك الأعداء علناً، مولدةً جثثهم في الفضاءات العامة والخاصة، ليتحول فضاء الاحتجاج أو المساحة الرمزية التي تشغلها الأجساد وتولدها بحركاتها وأقوالها إلى فضاء مشابه لمساحة الاستثناء، تُنتجُ الجثة فيها عشوائياً، ولا يعتبر القتل ضمنها جريمة، ويكون الفرد داخلها على الحواف بين الحي والميت، هو مواطنٌ واحتمال جثة في الوقت ذاته.
هنا يمكن فهم الجثة بوصفها أداة قمعيّة، يولد عبرها النظام الوطنيّ احتمالات عنف استثنائي، ضد الجسد الحيّ الذي يمثل تهديداً لهذا النظام وسيادته إن أدى بصورة ما، ليصبح المكان مجرد تكوين رمزيّ -جسديّ يختزن الجثث التي يمكن إنتاجها في السوق أو المنزل أو الساحة العامة.
عالمٌ بلا جثث
غياب الجثة مشابه لحضورها، هو خلل في الاتزان الرمزيّ للعالم، كحالة الكوارث الطبيعيّة وما تُسبّبه من أضرار، فالاختفاء الفيزيائيّ لها يعكسُ جهداً سياسياً لنفي الجريمة، لأنه دون اعتراف أو دليل دامغ، يُصنَّفُ المخُتفي أو من لا جثة له بين الحي والميت، أو يمكن إضافة تقسيم جديد وهو «اللا حيّ».
هذا التصنيف نِتاج أجهزة بيرورقرطية وجهود ماديّة وبشريّة لإخفاء الجثث، كحالة المحرقة التي يستخدمها النظام السوري في سجن صيدنايا، والتي لا تهدف للتصفية العرقيّة، أو ممارسة حق قانوني مُنحرف بإبادة الأعداء، كحالة محارق اليهود العلنيّة المعروف وجودها. بل هي جهود لإلغاء الجريمة، خصوصاً أنه كلما اختفت الجثث، عُطِّلَ نشاط الأحياء القانونيّ ضمن النظام الذي يخفي الجثث، وهُدِدت تصنيفاتهم ضمن المعاملات البيروقراطية، ما يُنتج نموذجاً اقتصادياً وإدارياً، ربحياً من جهة ومأساوياً من جهة أخرى، يقع فيه الفرد في تناقضات أخلاقيّة وقانونيّة نتيجة ارتباطه بأشخاصٍ موتُهم غير محسوم.
ينعكس تغييب الجثة وعدم نفي أو تأكيد الموت رسمياً، على طقس إخفاء الجثة، الذي يترك غيابه أولئك المحيطين بـ«اللا حيّ» معلقين في الهواء، بانتظار قرار سياسيّ يحررهم قانونياً ونفسياً من سطوة «اللاحياة». خصوصاً، أن طقس احتواء الجثة يُنتج المشاركين به كموضوعات علنيّة وسياسيّة، ويُعيد تكوينهم رمزياً وتوجّه جهودهم من بعده، وهنا نشاهد طقوساً لجثث مختفيّة تتفوق على حضور الجثة الفيزيائيّ في قدرتها على توجيه العنف، كما يفعل النظام الإيراني، الذي يقيم جنازات رمزيّة لمقاتلي ميليشياته الذين سقطوا في سوريا، لنرى توابيت فارغة بدون أجساد، تُشيَّعُ وتدفن لخلق علاقة رمزية بين المشاركين، علاقة تبررُ عنفاً لاحقاً لإظهار هذه الجثث، وكشف أماكنها، واحتوائها في مكانها المناسب، لإعادة الاتزان إلى تصنيفات الحياة والموت.
موقع الجمهورية