” استحضرُ مدينةً لم تعدْ موجودة”.. أثر المنفى على كتاب وفنانين
علاء رشيدي
“باختصار، أمضيت ست سنوات وأنا أستحضر مدينة لم تعد موجودة، ولعلها لم تكن موجودة يوماً أصلاً، أمضيت أياماً، بل شهوراً وسنوات، أعيد ذهنياً تركيب المدينة المفقودة. حينما صرت أشتاق إلى باريس كلما غادرتها وأتوق إلى العودة إليها. مع هذا التحول المفاجئ، رحت أشعر بالذنب: أتراني أخون دمشق وذكرياتي معها؟ استمر صراع بين الهنا والهناك”.
في شهادة الكاتبة السورية جمانة الياسري نكتشف إلى أي مدى تبلغ التعقيدات الذهنية والنفسية بين المدينة الأصل والمنفى، المدينة المستقبلة، الاختياري والجبري.
تنقّلت الياسري بين عدة مناف عربية: الكويت، العراق، وسوريا. وحين اختارت بنفسها للمرة الأولى مدينة لتعيش فيها كانت باريس. وعن هذا تكتب عن أثر العيش في المدن اختيارياً وجبرياً، “ولكن ما إن تحول العيش في باريس إلى حتمية بسبب فقدان دمشق بعد الحرب، حتى كرهت هذه المدينة التي سعيت مطولاً إلى العيش فيها، كرهت باريس، كما كرهت دمشق سابقاً”.
الذاكرة.. الذات.. الحنين
بدايةً، حينما يقترب القارئ من أي نصوص من نوع “الشهادات”، فإن الشعرية والذاتية هما ما سيلقاه ويؤثر فيه. فنصوص “الشهادات” غالباً ما تقترب للغاية من رؤية كتّابها وأفكارهم ومنظورهم إلى العالم، ويتمحور في معظم الأحيان حول حساسية كل منهم. وهذا الأمر ينطبق على نصوص الشهادات التي يكتبها أصحابها عن موضوعة المدن والمنافي.
لكن المقدمة التي تكتبها المسرحية اللبنانية حنان الحاج علي، لكتاب (أما بعد، شهادات من فنانين وفاعلين ثقافيين سوريين، اتجاهات ودار ممدوح عدوان، 2017)، والمقدمة التي يكتبها الروائي اللبناني حسن داوود لكتاب (البحث عن مدننا في مدن ومناف أخرى: شهادات أدبية، اتجاهات دار ممدوح عدوان، 2018)، تعلماننا أن نستخرج الموضوعات حتى من نصوص الشهادات المغرقة في الذاتية.
تركز حنان الحاج علي بعد قراءة شهادات سوريين على موضوعتي: الذاكرة، والعلاقة مع اللغة. أما الروائي حسن داوود فيستخرج من قراءة شهادات سوريين أن موضوعتي: الخشية والخوف تحكمان حياة المنفي واللاجئ.
الوطن كمنفى
في شهادته يوضح الناقد والباحث الأكاديمي السوري د. جمال شحيد عن تغير علاقته مع المدينة دمشق التي عاش فيها منذ أواسط الستينات حتى الآن : “وخلال نصف قرن الذي عاصرتها فيه وعاصرتني، تغيرت عليّ هذه المدينة التي كنت أعشق حاراتها وأسوارها وأوابدها ومشربياتها وروائحها. فصارت في الآونة الأخيرة غريبة عني، كأنها لا تعرفني ولا أعرفها. أشعر الآن – وأنا أعيش في دمشق – بغربة عاتية. هل أنتقل إلى مدينة أخرى أكثر حناناً ؟ على الرغم من مأساتي مع المدينة التي تبنتني، وعشقتني وعشقتها، لا أستطيع أن أبارحها”، هكذا يصل بنا د. جمال شحيد إلى أن حب المدينة دمشق يصل بها أن تكون خياراً إجبارياً مؤلماً، لا طوعياً بهيجاً.
أيضاً نجد موضوعة الوطن كمنفى في شهادة الشاعرة رشا عمران:
“عشت حياتي كلها 53 عاماً وأنا أبحث عن معنى فكرة الوطن، من الصعب جداً لمن لا يعيش في المدينة نفسها التي ينتمي إليها بالولادة والمنبت أن يعرف فعلاً ما هو الوطن. قد يبدو كلام كهذا غريباً وشاذاً، فالوطن هو الوطن بصرف النظر عن تقسيماته الإدراية، هذا ما كرس في أذهاننا زمناً طويلاً، من دون أن نتجرأ على مناقشة ما اعتقدنا أنه بدهي، حتى مع أنفسنا، لكن الأمر ليس كذلك، الوطن ليس فكرة مجردة، ووطني لا يشبه وطن جاري الذي يسكن في البيت المجاور لبيتي.”
وكذلك يعنون عروة المقداد شهادته بـ”المنفى داخل المنفى”، ويكتب:
“تبدو المسافة بين البيت والمنفى كجبل جليد انفصل عن كتلته الأم. يتكسر الجبل في محيط متلاطم الأمواج فيتحول إلى أجزاء متفرقة، تتسع المسافة بين الأجزاء، ثم تذوب على نفسها بالتدريج، لتختفي واحدة تلو الأخرى. إنها رحلة تنقطع فيها الصلة مع الألفة التي تتيح لنا التعايش مع محيطنا، ليحل مكانها تغريب يزيد انفصالنا عن الواقع، ويدفعنا نحو العزلة والكآبة، وربما يصل بنا في نهاية المطاف إلى الإنتحار.
بعد أشهر أمضيتها في مدينة لا تبعد سوى ثلاث ساعات من منزل العائلة، وأكثر من أربع ساعات عن مسقط رأسي، بدا أن ثمة طبقات معقدة من المنفى داخل المنفى. لقد بدا شعور المسافة الممزقة التي خلقت في سورية جغرافياً ونفسياً تزداد يوماً بعد يوم. هذه المسافة هي مسافة معكوسة نحو ذواتنا، إننا نزداد بعداً من أنفسنا، نزداد بعداً من الصورة المتوازنة التي تخلقها ذكرياتنا. إنه شيء ما يشبه البرزخ الذي لا نستطيع فيه العودة إلى حياتنا السابقة أو الانتقال إلى حياة جديدة”.
بين الماضي والمنفى الحالي
الذاكرة هي الموضوعة وحتى الكلمة الأكثر حضوراً وتكراراً في نصوص شهادات المنفيين، نقرأ من شهادة جمانة الياسري: “نحن اليوم لا نخسر ذكرياتنا القريبة فحسب، وإنما نخسر ذلك الشيء العميق والبعيد الذي جعل منا من نحن. قد ينسى أو يتناسى المرء هذا الحزن في زحمة المدينة الجديدة، إلا أن هذا الحزن قد يزورك من حين لآخر ليذكرك بأنك وإن ملكت المكان فقد فقدت ذلك المكان الآخر الذي سيبقى دوماً معششاً في داخلك”.
تربط رشا عمران بين الوطن، الحنين، والذاكرة ، فتكتب:
“الوطن مفردة بائسة تغرقنا في الحنين نحو ما لا ندرك ما هو حقاً، حنيننا ليس للمفردة المجردة، حنيننا لذاكرة مليئة بتفاصيل صغيرة ودقيقة تشكل مشهداً عاماً كبيراً. هل نتفق إذاً على أن الوطن هو الذاكرة؟ ذاكرتي الشخصية موزعة بين أمكنة كثيرة، لم أشعر يوماً أن أياً منها هو وطني: ذاكرتي موزعة، والوطن مستقر. ذاكرتي مقطعة، والوطن ممتد ومستمر.
حين تعتقد لمدة طويلة أنك كائن بلا حنين، وأن الماضي لا يعني لك شيئاً، ثم يعود إليك ماضٍ منسي من مجرد طعم عصير، بخس الثمن، ستشعر أن الخدر يبدأ بالصعود في روحك شيئاً فشيئاً ليصل إلى أعلاك، إلى مركز تفكيرك، إلى حيث الدائرة التي تنغلق على الروح والعقل معاً، إلى حيث تكتشف أنك كائن مجبول بالحنين، وأن كل ما قتله عن اللاوطن واللاماضي واللاحنين هو محض رغبة مهولة في العودة إلى تلك الحياة، إلى تفاصيل صغيرة، وبالغة التفاهة، لكنها تنسج لك مخيلة عن زمن تحلم أن يعود كما هو، لا لشيء، سوى لرغبتك في أن تصنع لك وطناً يبدأ من ذلكل الزمن ويمتد بك إلى اليوم، الوطن الذي لم تعرف له رائحة ولا صوتاً ولا ملمساً محدداً حتى هذا اليوم.”
المنفى واللغة
أكثر المفردات والموضوعات أهميةً وغنىً حين تكتب نصوص الشهادات عنها هي اللغة. تحتار جمانة الياسري في اللغة التي عليها أن تكتب بها، أهي تلك الفصحى؟ أم العامية السوري؟، وتكتب: “هكذا هي لغتي، أصبحت تارة صحيحة وتارة متعرجة، كما هي شوارع وأروقة كل المدن التي خطتها قدماي في السنوات السبع الماضية.”
بينما تكتب الشاعرة رشا عمران عن اللغة
الوطن هو اللغة، هكذا أفكر أحياناً. اللغة المشتركة تجعل من الشعور بالغربة شعوراً واهياً، يظهر في الأزمات النفسية الكبيرة فقط. اللغة المشتركة مع الجميع، اللغة التي تكفل لها حرية الاختيار بين العزلة والاختلاط، وبين أن تحيط نفسها بسوريين فقط وأن تمد خطواتها نحو المصريين من دون خوف، ما يتيح لها مزيداً من الاختبارات.
مصائر المنفى
بالنسبة إلى الياسري: لا شيء يحدث بمحض المصادفة، ومصائرنا جميعاً مرتبطة بعضها ببعض وبمصائر من سبقنا. نرث كوارث أجدادنا وآبائنا ونتحمل عبئها، في الوقت ذاته الذي يحتم علينا فيه التعايش مع الكوارث التي نعيشها أو نشهدها. تؤكد الياسري أننا لا نعيش فقط في المكان، وإنما نعيش المكان والمكان يعيش فينا. وتتساءل ما الذي يحدث إذاً عندما يصبح المكان مستحيلاً وخارجاً عن السيطرة؟
جبرية المنفى
يرى الروائي حسن داوود أن مدن المنفى تختلف عن مدن الهجرة الطوعية، لأن مدن المنفى غالباً ما تكون مجهولة، والمنفيون فيها غالباً هم قليلو المعرفة بالمدن التي وجدوا أنفسهم في إقامة إجبارية في بلدانها، لأن المنفى هجرة مفاجئة، واضطرارية وشاقة. يكتب حسن داوود: “فمثلاً خيم اللجوء التي نصبت على عجل تستمر كما هي، وحيث هي. وعلى رغم ذلك، هناك من يحذر الملتجئين من أنهم ينبغي ألا يكونوا هنا”.
وكذلك قصت جمانة الياسري التي تنقلت بين مناف عربية عدة الكويت، العراق، وسورية. وحين اختارت بنفسها للمرة الأولى مدينة للعيش فيها كانت باريس، لكن تتابع عن أثر الاختياري والجبري في العيش في المدن، فتكتب: “ولكن ما إن تحول العيش في باريس إلى حتمية بسبب فقدان دمشق بعد الحرب، حتى كرهت هذه المدينة التي سعيت مطولاً إلى العيش فيها، كرهت باريس، كما كرهت دمشق سابقاً”، أصبحت الجبرية قاتلة لفكرة الإنتماء للمكان الجديد مهما كان مشتهى.
المنفى كغنى ثقافي
في شهادات المنفيين سيكون من الصعب العثور على ما يقال أو يكتب عن تجربة المنفى كحدث إيجابي، مفيد. لكن جمانة الياسري، في نصها تشكر المنفى: “أشكر المنفى على أنه وسع حدود عالمي، عدد لغاتي، عرفني على ما لم أكن أعرف، وخلق لدي حالة حنين صارت بمثابة مهماز لحركتي في هذا العالم”.
المنفي – اللامنتمي
أسئلة المنفي عن كيف تستمر الحياة من بعد؟ هي أسئلة تشبه تلك التي طالما تساءلتها شخصيات دوستويفسكي وكامو: “كيف يستطيع الناس العودة إلى حياة طبيعية في ما لو انتقلوا إلى مكان آخر أو بلد آخر؟ بدا لي أن تدمير الذكريات يدفع بالخوف نحو أقساه، إنه يشل القدرة على العودة للحياة الطبيعية. لن نستطيع بعد الآن الانتقال من منزل موقت إلى حي موقت والابتسام في وجوه المارة، ثم محاولة إخفاء جزء من هويتنا أو الاندماج في هويات أخرى والتعايش معها بسلام داخلي.
هنا في بيروت، يتشكل لدي نوع من الغربة داخل الغربة، أشبه ما تكون بنوع من الكابوس غير المنتهي. ثمة من اختار عبور البحر والتأقلم، وثمة من اختار البقاء لينتهي مع انتهاء المكان. وثمة هنا العالقون في البرزخ كالعالقين هنا في لبنان، حيث تمثل استعادة الذكريات والصور المألوفة والخيبة والإحساس المضاعف بالهزيمة تحت وطأة تهديد دائم وقلق مستمر. إنه نوع من العذاب الذي لا ينتهي، وقد دفع بالبعض إلى الإنتحار، ودفع بالبعض الآخر إلى حالة من الهستيريا والفصام، وأحياناً إلى تخدير واعٍ للذاكرة، هكذا تتحول الوجوه في هذا المكان إلى أشباح من نوع آخر تراقب أشباحاً تموت في بلدها، وتلتقي بأشباح هاربة من منفى آخر وراء البحار. إنه الجانب الأكثر إيلاماً، والوجه الآخر للفقد المادي، هو فقد الذكريات التي يصبح الإنسان بفقدها غير قادر على الاندماج أو التعايش أو الاستمرار في الحياة بشكل متوازن”.
التخفي كضرورة للمنفي
هذه الفكرة الذهنية النفسية والتي هي أيضاً شعور يراود المنفي، يكشف عنها ببراعة الشاعر جولان حاجي، يكتب مخاطباً ذاته بصيغة المخاطب: “الحيطة ليست غريبة عنك في أي حال. لقد رافقتك من دمشق التي غادرتها هارباً. وتعمقت هنا، ضاربة جذورها تحت جلدك في مأوى بيروت، حيث عشت في غرفة مستأجرة تطل على شارع الحمرا، وتركت زر الجرس فارغاً من اسمك، محترساً كيلا يتعرف إليك أحد من الجيران وضيوفهم وكل من يتجاهلونك ويستريبون بك ولا يبادلونك التحية على السلالم والعتبات، ويصفقون الأبواب عند ظهورك فتخفض زفيرك، ولا تملك رداً على أي شيء.
فتفكر في العجوز الذي شاهدته يجوب زواريب الحمرا، مفتشاً في نفايات الأوراق عن اسم الله، فيقصه أينما رآه ويقبله ثلاثاً كأنه كسرة خبز، ثم يضعه برفق داخل كيس يضم قصاصات أخرى مشابهة، قبل ذهابه لدفن الأسماء الحسنى في بئر بحرش بيروت، مغتبطاً وفخوراً بإنقاذ المقدسات.
الهامشية كشعور المنفي
تبدو الهامشية، كقدر حتمي، كمصير يرافق مشاعر جولان حاجي في شهادته ، فيكتب: “هذه بلدان أنظف ما فيها الصور على الشاشات، صورة ميسي، آخذاً لقطة سلفي بهاتف هواوي، صورة بشار الأسد مطبوعة على ورقة سورية من فئة ألفي ليرة. الدعايات فاشية عقب الحروب، أو في الفواصل التي تتخللها، تتضخم فتسيج حفر الانفجارات وتحجب الأنقاض وتلف المباني المدورة بالطلقات وتغطي الأبراج المرشوقة بالشظايا. كنت تخشى أن يقفز هؤلاء الواثقون من أنفسهم، أبطال الدعايات، من الشاشات والملصقات العملاقة لينهالوا عليك بالهراوات كرجال الدرك المشمرين عن زنودهم، فلا تستطيع القفز من شبكة الدونية”.
المنفى كبحث عن الجمال
من التجارب المميزة والغنية في التعامل مع المنفى، نقرأها في نص جولان حاجي الذي يجعل من البحث عن الجمال غاية وجودية، حتى في تجربة المنفى، حيث اعتبر التنقل غايةً لبحث الإنسان الوجودي عن الجمال، يكتب مخاطباً ذاته بصيغة الـ “أنت”:
“تستجدي السكينة في بيروت من جمال ما لم يهدم من منازلها المهجورة، والخرائب تتشابه تشابه الناس في السعادة. كنت تواصل عبورك على أرصفة المقاهي والحانات التي لا تستطيع الدخول إليها، شبحاً ترابي اللون كأطفال مصابين بفقر الدم، أطفال النازحين أكلة التراب والجبصين.
لا حقيقة الآن أنصع من الحزن. ما فهمت لم خشيت ما يشتهى، ولم اشتهيت ما يخشى، وأينما أقمت أنسجنت وفر الجمال إلى مكان آخر وناداك”.
درج