مقالات

لحم السوريين ودمهم في معرض الكتاب/ يوسف بزي

 

 

جولة متفحصة أو حتى متعجلة في أجنحة معرض الكتاب في بيروت، ستنبهنا إلى حقيقة مستمرة منذ عقود طويلة، وهي تلك المساهمة العريضة والأساسية للسوريين في إنتاج الثقافة “البيروتية”. بل ويجب القول إن دور النشر اللبنانية هي مؤسسات غير محلية، عربية الطابع، بسبب الإسهام السوري أولاً.

ليس ضروريا هنا، سرد التاريخ الثقافي الحديث لبيروت، الذي شارك فيه عضوياً نخبة المثقفين السوريين منذ الخمسينات وحتى اليوم، إن لم نقل إن هؤلاء كانوا في صدارة الفاعلين في صوغ المدينة وذاكرتها و”سمعتها”.

بالطبع لا أتحدث عن “الثقافة اللبنانية” بفضائها الوطني ومضمونها المحلي وخصوصيتها التاريخية، بل أنظر تحديداً إلى التجربة البيروتية، بوصفها المكان ما بعد المحلي، المفتوح حكماً على “الدور” العربي، وعلى “وظيفة” الاحتضان والاستثمار، وعلى الفضاء الحر المنذور للتفاعل والتلاقح والتجربة.

إذا حذفنا اليوم من قائمة محتويات معرض الكتاب ما أنتجه المترجمون السوريون، عن الروسية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية، إضافة إلى اللغات الجديدة التي بدؤوا يتنكبون الترجمة عنها، إثر استيطانهم في العقدين الأخيرين بالمهاجر الأوروبية، كالدانماركية والسويدية والهولندية والألمانية والإيطالية.. إذا حذفنا نتاجهم، فسنرى خسارة فادحة ونقصاً بالغاً، كمّاً ونوعاً، في الكتب التي تستحق القراءة حقاً. ميدان الترجمة اليوم، وهو شديد الأهمية لضخ دماء التجديد في الثقافة العربية، يكاد يكون سورياً بامتياز.

أفضت الثورة المغدرة، وما تلاها من حرب هي الأشد وحشية، إلى نتائج كارثية دمرت الكيان السوري ومزقت مجتمعه. لكن، في المقابل، انفجر مكبوت طال كبته في الدواخل السورية، وتحررت مخيلات كانت حبيسة خوف بالغ السطوة والثقل، وانكسر صمت مديد كان يختزن طاقة تعبيرية هائلة.. كذلك، “اكتسب” السوريون تجارب استثنائية وفائقة الأثر، كثيفة المعنى، قاسية وعميقة وجذرية. اختبروا في زمن قياسي ما يمكن اختباره في عصر كامل، فكان زمنهم مضاعفاً وحياتهم محتشدة بالصدمات والاختبارات. لقد اجتازوا ثقباً أسود بكل ما للكلمة من معنى (فيزيائياً ومجازياً).

أقول هذا، لأدلل على ما ينتجه اليوم الكتّاب السوريون، كإعادة نظر جذرية وشجاعة تتسم بالفرادة والإقدام، في حقول الفكر والرواية والشعر والسياسة والتاريخ والعلوم الإنسانية عموماً. إن مساءلة الإسلام السياسي، ونقد كل تراث “القومية” (العروبية)، والمراجعة الموقرة والمفيدة لكل أدبيات اليسار، والإطلالة على ما يستجد من سجالات فكرية وحراكات سياسية في عالم اليوم، وطرح اقتراحات أصيلة عليها.. إنما هذا ما يبرز فيه ويبرع مفكرون سوريون من الجيل الشاب خصوصاً.

لا يمكن أن نطالع أي جناح في معرض الكتاب البيروتي، بحثاً عما هو جديد في ميادين الفكر السياسي والعلوم الإنسانية من دون أن تقع أعيننا على الكتابات السورية البارزة في هذه المجالات، والأكثر جدية وجدّة.

القضية الأبرز على الأرجح هي المسألة الجندرية، ومسائل الحقوق والعدالة، وبالطبع مكانة المرأة في المجتمع وحريتها. وبشيء من الاعتباطية وربما برغبة الشطط، أقول إن النصوص والمساهمات السورية في هذا الحقل ربما هي بالنسبة لي الأكثر “حقيقية” أو هي التي تخترق وجداني أكثر من سواها. صدق وقوة (أو شراسة) التجربة التي عاشتها المرأة السورية، تمنح الخطاب النسوي أو الجندري (وخطاب العدالة والمساواة ككل)، بلاغة وحجة وصلابة قد لا تتوافر بالقدر ذاته في أي خطاب عربي آخر. فالتجربة هنا عريضة وتخترق طبقات عديدة، وتختزن صراعاً مريراً مع أشكال متعددة من السلطات القامعة أو الظالمة: إسلامية، وتقليدية، وبعثية علمانية. مقارعة الاستبدادات السورية كانت معركة طاحنة، خاضتها الثورة (ونساء الثورة) حتى النخاع. والأثمان الباهظة باتت تاريخاً ثقيلاً، بقدر ما باتت كنزاً من المعاني والاستنتاجات والخلاصات.

ولذا، أكان النتاج روائياً أو سيراً أو مدونات أو دراسات، فالمكتبة العربية تدين للسوريين والسوريات بفهرس ضخم من المؤلفات، التي لا بد أن تبدل على نحو حاسم في المقاربة العربية للمسألة الجندرية، وفي النظرة العربية إلى قضية المرأة وحريتها خصوصاً.

الأدب نفسه، وبمطالعة لأبرز ما تقدمه اليوم دور النشر اللبنانية والعربية في معرض بيروت، تكاد “الحصة” السورية أن تكون غالبة. وما يعنيني شخصياً هو ما أسميه “الشهادة السورية”.

لننسى التصنيفات: شعر، رواية، سيرة، مذكرات، خواطر أدبية، دراسة، بحث.. نحن هنا أمام نصوص هي ابتداع سوري إلى حد بعيد. تحويل الشهادات الشخصية، المرويات والحكايات والوقائع والمشاهدات والسير الخاصة إلى نوع أدبي يتجاوز “الأدب”، يتخفف من الأدب.. بل لنقل: يتحرر من أصولية الشعر وشروط الرواية ونمطية الصحافة وأكاديمية البحث أو “علمية” التأريخ. تحرر يحطم الحدود بين الأنواع، نحو بوح ما بعد شفوي، تدوين باللحم الحي، عارٍ إلى حد الاستحالة. الثورة هنا كما في الشارع.

تلك معجزة سورية صغيرة، أكاد أراهن عليها كلياً، من أجل أدب عربي جديد. تماماً، كما فعلت حفنة أفلام سورية منذ أيام الثورة وحتى اليوم، إذ أخذتنا إلى السينما التي تطيح بالسينما، تحطم “فن” السينما.

الشهادات السورية المكتوبة اليوم، تشكل برأيي آخر أطوار التجديد في الأدب العربي. والأهم أنها تنقذه من براثن استبداد “الحداثة” التي كانت صوناً وشريكاً للاستبداد السياسي.

الميزة العاطفية للمساهمة السورية في صناعة الكتاب العربي، أنها مساهمة بلحمهم ودمهم ودموعهم.

لن أسمي المؤلفات والمؤلفين، لن أسمي تلك الكتب. لكن في أي معرض للكتاب، انتبهوا جيداً لما يكتبه وينتجه السوريون. إنهم يقلبون الثقافة العربية رأساً على عقب.

تلفزيون سوريا

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى