هل حقاً هناك من جر عربة غورو ؟/ ثائر دوري
هناك رواية متداولة مفادها أنه بعد هزيمة الجيش العربي واستشهاد يوسف العظمة في موقعة ميسلون في 24 يوليو/تموز 1920. دخل غورو إلى دمشق في عربة تجرها البغال. وتتابع الرواية أن أفراداً من عوائل دمشقية معروفة فكوا البغال ثم جرّوا العربة بدلاً عنها.
ترقى هذه القصة إلى مرتبة الأمور المؤكدة، التي لا تقبل النقاش كأن تقول: واحد زائد واحد يساوي اثنين. جرب أن تكتب «عربة غورو» على محرك البحث «غوغل» حتى يعطيك تلقائياً خيار البحث على شكل سؤال «من جر عربة غورو ؟». كما يعطيك خيارات أخرى باسم من اتهم بالقيام بهذا الفعل يسمون تحديداً «أبو شكري الطباع «. وهذا يجعل التساؤل عن حقيقة هذه القصة أشبه بالتساؤل عن حقيقة شروق الشمس من الشرق! كما أن شيوعها وانتشارها جعل الناس تنسى الثغرات الكبيرة في حبكتها، وأولها أن المندوب السامي غورو لم يدخل دمشق فور انتهاء معركة ميسلون، التي وقعت في 24 يوليو 1920، لأنه لم يكن قائد الجيش الفرنسي في المعركة، بل من دخلها أولاً هو الجنرال غواييه قائد الجيش الذي حارب في ميسلون. أما المندوب السامي غورو فقد جاء زائراً يوم 30 يوليو عام 1920. وأما «أبو شكري الطباع « فليس له ذكر في التاريخ، بل يذكر التاريخ شخصية الوطني شكري الطباع الذي حكمت عليه السلطات الفرنسية بالإعدام غيابياً مع ثلة من الوطنيين، في 19 أغسطس/آب 1920، كما ورد في جريدة «العاصمة».
ما مدى صحة هذه القصة ؟
تقدم جريدة «العاصمة» وهي الجريدة الرسمية الناطقة باسم الحكومة، وقد بدأت بالصدور عام 1919 بعد رحيل العثمانيين. تقدم هذه الجريدة في العدد الصادر بتاريخ الاثنين 24 ذي القعدة سنة 1338هـ الموافق 9 أغسطس سنة 1920، وصفاً دقيقاً لزيارة غورو التي تمت يوم السبت الموافق 30 يوليو. تقول الجريدة «كان يوم السبت الماضي موعد قدوم فخامة الجنرال غورو (المندوب السامي في سوريا وكيليكيا) إلى العاصمة، فاكتظت ساحة محطة السكة الحجازية بالمستقبلين يتقدمهم صاحب الدولة رئيس الوزراء والوزراء الكرام، وقد اصطف الجنود على رصيفي الشارع الممتد من المحطة حتى نزل فكتوريا فإلى القصر الذي أعد لفخامته. وما أزفت الساعة 9 زوالية حتى أطل القطار الذي يقل فخامة الجنرال فعزفت الموسيقى ترحيباً، ثم ترجل جنابه فخف للسلام عليه معتمدو الدول وقناصلها وأركان السلطة الفرنسية وكبار رجال الحكومة المحلية ووجهاء الحاضرة وأعيانها، وكان صاحب الدولة رئيس الوزراء يعرف فخامة الجنرال برجال الحكومة فرداً فرداً، فكان لانتظام الاحتفال وترتيبه الوقع الجميل في نفوس المشاهدين، وبعد أن قلّد فخامة الجنرال أفراد الجيش الفرنسي الأوسمة النفيسة امتطى جواده وسار الموكب إلى القصر تتقدمه كوكبة من فرسان الأمير نوري الشعلان وسيارة نقل المسيو كاريت ومدير الشرطة العام وكوكبة من خيالة المغاربة وموسيقى أفوتري وعلم رابور وأفونتري ثم حرس الشرف ثم فخامة الجنرال غورو كان عن شماله الجنرال دوبلسيس تحيط بهما أركان حربهما، ثم وأشير هنا إلى أن وصفاً قريباً من هذا قدمه يوسف الحكيم، الوزير في العهد الفيصلي وفي عهد الانتداب، في مذكراته. هذا الوصف الدقيق يدمر رواية جرّ العربة، لأنه لا توجد عربة أصلاً. غورو وصل بالقطار، وبعد أن صافح مستقبليه وأنهى المراسم البروتوكولية توجه راكباً على فرس إلى مقر إقامته. لا وجود لعربة تجرها الخيول أو البغال، بل قطار وسيارات وفرسان.
نتابع مع الجريدة الرسمية في نقلها لتفاصيل الزيارة، في يوم الأحد، اليوم الثاني للزيارة، حضر غورو قداس الآباء الكبوشيين في باب توما، ثم ذهب إلى الجامع الأموي، حيث زار حضرة الإمام يحيى ثم ضريح صلاح الدين. وهنا تنقل الروايات التاريخية أنه قال مقولته الشهيرة «ها قد عدنا يا صلاح الدين» وهذا ينسجم مع خلفية غورو الكاثوليكية المتعصبة، فقد نقل عنه، أثناء خطاب ألقاه في بيروت عام 1920، قوله « إنني سليل الصليبيين الذين دوخوا هذه البلاد في غابر الأيام، وقد أتيت إلى هنا لأتمم ما تركه أولئك الأبطال».
لكن كيف تنشأ هذه القصص وأمثالها؟
في حياة الأفراد وتاريخ الأمم وقائع كثيرة تصنف بين الصغائر وهي عبارة عن أحداث عابرة لا قيمة لها ولا معنى ولا تترك أثراً. ومصيرها أن ترمى في أقرب سلة مهملات وهذا ما يفعله كل عاقل. في المقابل هناك من يبني حياته، صداقاته، مواقفه، ردود أفعاله على هذه الصغائر. هناك أفراد برعوا في الاستثمار بهذه الصغائر، وكأنهم واقفون قرب سلة المهملات كل همهم أن يلتقطوا مما يرمى بها، فيعيدون تدوير الصغائر بالتضخيم حيناً أو بإضافة بعض البهارات إلى طعمها الفاسد حيناً، وفقاً لمصالحهم الشخصية أو لمصالح قوى أكبر منهم حتى يخال الناس أن هذه الصغائر كبائر. وإذا لم يجد هذا الشخص صغائر يقوم باختلاقها ثم تكبيرها ليحولها إلى أشياء مفصلية حاسمة في حياة الأمم.
يتناول المؤرخ والكاتب محمد كردعلي إحدى هذه الصغائر المختلقة، التي تم استثمارها من قبل قوى مجهولة ضد مجمع اللغة العربية، فتحولت إلى قصة متداولة عابرة للأزمنة والأمكنة. يقول كردعلي في مذكراته: «ويح المجمع كم لقي من سخرية من بعض الصحف التي ما تعففت أن تغمزه بين الفينة والفينة كي تضحك قراءها.. وغفر الله لي بقدر ما دافعت عن المجمع في مصر والشام لتبرئته من التهمة التي ألصقوها به ظلماً، ونسبوا إليه وضع لفظ (الشاطر والمشطور والكامخ بينهما) لكلمة سندويش، وأعترف بأنني ما تمكنت من إقناع متعنت لأن هذه الكلمة الملصقة بالمجمع هي عندهم من الأدلة على عدم معرفته، أو على الأقل على قلة ذوقه.
وما زالت التهمة بحالها حتى شهدتها تتسلل من الصحف إلى الكتب، لتثبيت دعواهم على عدم اطلاع المجمع بما وسد إليه»، من اخترع قصة «الشاطر والمشطور والكامخ بينهما» ونفخ بها لعشرات السنين معاديا للتعريب ويريد تسخيف الفكرة، لكن بدل أن يجابه الحجة بالحجة، والمنطق بالمنطق فيدافع عن فكرته المعادية للتعريب بشكل علمي، لجأ لاختراع هذه القصة الوهمية وقد حقق نجاحاً باهراً يُحسد عليه!
إن قصة «جر العربة» المختلقة لا تخرج عن هذا السياق، وتندرج ضمن ظاهرة الكيد العائلي، السياسي، الاجتماعي، حيث يتم تضخيم حادثة صغيرة أو اختلاقها ثم تكبيرها كي تصير أداة لإهانة حزب أو مجموعة بشرية أو دولة. وقد استُخدمت هذه القصة، التي ليس لها سند تاريخي، لإهانة الدمشقيين تحديداً. ربما حيكت في البداية لتشويه سمعة بعض العائلات في إطار تنافس عائلي أو لأسباب أخرى، لا علم لي بها، لكن الأمر المؤكد أنه ما كان لها أن تستمر كل هذا الزمان لولا وجود قوى استثمرت بها. من هي هذه القوى؟ هذا موضوع بحث طويل، لكن يمكن أن نشير إلى طرفين، داخلي معروف عمل وما زال يعمل على تشويه سمعة المدن السورية، وبشكل خاص دمشق. وخارجي كل همه تحطيم مكانة دمشق بوابة مكة ودرة مدن العرب والمسلمين، حيث انطلقت منها الدولة الأموية، التي حكمت أغلب العالم المعروف في ذلك الوقت.
تؤدي قصة «جر العربة» دوراً معاكساً تماماً من الناحية النفسية والأخلاقية والسياسية للدور الذي تؤديه ذكرى موقعة ميسلون، واستشهاد يوسف العظمة. فقصة استشهاد وزير الحربية أثناء تصديه للفرنسيين، رغم الاختلال الفادح في موازين القوى، ترتقي بنفس سامعها وتحرض لديه روح التضحية والخروج من فرديته. في حين أن قصة «جر العربة» تنحدر بالنفس البشرية إلى الدرك الأسفل وتجعل سامعها يرتد إلى ذاته الضيقة بعد شعوره باللاجدوى أمام هذا الهوان الاختياري والخيانة المبالغ بها إلى درجة غير معقولة. قدمت دمشق خاصة وسوريا عامة قصتها الحقيقة، المعبرة عنها أخلاقياً وسياسياً، عبر يوسف العظمة، فكان لا بد للقوى المعادية أن ترد بقصة مختلقة «جر العربة» لإلغاء المفاعيل النفسية والأخلاقية والسياسية للقصة الحقيقية.
أخيراً أشير إلى أنني لا أنفي وجود من رحبوا بغورو، من أهالي دمشق ومن غيرهم، فالرجل حظي باستقبال رسمي وشعبي، كما تصف الجريدة الرسمية، حيث استقبله جميع أفراد الوزارة، فالخيانة والتعاون مع المحتل لتحقيق مصالح شخصية، أو طبقية، أو مناطقية طائفية، أو بدعوى الواقعية، ظاهرة موجودة عند كل الشعوب وفي كل الأزمنة بنسب متفاوتة، ولها أسباب عديدة لا يتسع المجال لبحثها هنا. لقد عرفت فرنسا، على سبيل المثال، هذه الظاهرة بشكل واسع في الحرب العالمية الثانية، فقد انحازت طبقات كاملة وقطعات من الجيش وضباط كبار ورموز تاريخية أمثال الجنرال بيتان، جميعهم انحازوا إلى المحتل الألماني. وحدث الأمر نفسه قبل ذلك عام 1871 في الحرب البروسية – الفرنسية، وقد التقط الروائي الفرنسي موباسان ذلك وصاغه في قصة قصيرة اسمها «كرة الشحم» حيث يروي بشكل رمزي كيف سلم ركاب العربة، من الطبقة البرجوازية والنبلاء ومن المثقفين ومن رجال الدين، السيدة المكتنزة الجميلة الفقيرة إلى الضابط البروسي ليغتصبها، مقابل أن يسمح بمرور العربة. وأهل دمشق مثل غيرهم لا يشذون عن هذه القاعدة البشرية، فمن الطبيعي أن يتواجد بينهم خونة ومتعاملون مع الاحتلال، خاصة في ظروف الهزيمة، حيث يكثر دعاة الواقعية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن ما ننفيه هنا هو واقعة محددة استُغلت أسوأ استغلال هي «جر عربة غورو».
مذكــرات محمد كردعلي – الجزء الرابع – الصفحة 1103
٭ كاتب سوري
القدس العربي