في انتصار “البوست” على المقال/ أحمد عمر
المقال يترنح في حلبة المصارعة من لدغات المنشور الفيسبوكي القصير، الذي “يرقص كالفراشة ويقرص كالدبور”، ويتفوق المنشور الأزرق على المقال في أنه طيّار، بينما المقال يمشي على رجلين، وقد يركض إن كان كاتبه عداءً، أو يزحف إن كان كاتبه يحب شمّ رائحة الأرض كل خطوة. اشترط مصممو التغريدة- واسم منشور تويتر مقتبس من منطق الطير- أن يقتصر على 140 حرفاً وكان أقصر قبل سنة، وقد يأتي يوم أشد وأنكى، تجبر دولة توتير مواطنيها على الإجابة بصح أو خطأ، أو تعطيهم ثلاثة أجوبة. لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا.
لكمة المقال قوية، لكن “ميكي بوست” يقرص، وقد يدغدغ، وسبب دحر المنشور للمقال الذي يتراجع بالنقاط في الحلبة، هو تسارع الزمن، وتضايق خليج الوقت، وانفجار المعلومات. وكنا في زمن فائت، أول ما نقرأ الصفحة الأخيرة من الصحيفة بحثاً عن أخبار الطرائف والمشاهير، فراراً من جذام أخبار الصفحة الأولى الكابوسية، وهاهي ذي وسائل التواصل قد سلحت كل إنسان بكاميرا، وكتابة قصيدة الهايكو سهلة، حتى عمّتي الأمّية التي تقرأ ولا تكتب صارت هايكو. كتبت عمتي العجوز “اليابانية” مرة إملاءً على ابن أخيها هذه القصيدة: عندما يأتي فصل الخريف على الإنسان، تسقط أوراق عمره، الأبناء هم الربيع. وأخفت عمتي أن ربيعها سرقه مارك.
جعلت وسائل التواصل الجديدة الحياة صفحةً أخيرة في صحيفة نهاية التاريخ، وحولت كل إنسان صحافياً، يصّور ما تقع عليه عيناه، وينقل الأخبار عند وقوعها حيةً تسعى. وهو يسبق الصحافة بأيام وأحياناً بشهور، فلا يكاد المرء ينجو من سيول الأخبار وطوفان التعليقات. وتكاثرت الفضائيات والصحف، ومجموعات “الواتساب” التي تسكب عليك الطرائف سكباً، ولو عاش نجيب محفوظ ويوسف إدريس في عصرنا، لزهد الناس في ماراتون رواياتهم وقصصهم الطويلة.
سكان تويتر ومواطنو فيسبوك وغيرها من مدن التواصل الاجتماعي، برمون وضجرون، والقارئ يفضل أن يتناول لقمة من كل مائدة من موائد توتير فيسبوك على طبخة مقالٍ اجتهد كاتبه في إعداده عدّاً.
ثمة كتاب يكتبون مقالات ماتعة لكنها لا تقرأ، لأن القارئ كسول، ويريد ما خف وزنه وغلا ثمنه قبل أن تداهمه شرطة الزمن، بل إن بعض الكتاب كانوا يوماً ملء السمع والبصر أزرى بهم الدهر. فيسبوك ينهب الأعمار نهباً والوقت ضيق، فمن سيقرأ مقالاً من ألف كلمة يكون في الفترة نفسها قد التهم ثلاثين منشوراً فيسبوكياً أو أربعين تغريدة تقاصف بها مشاهير بين جبهتين.
ليس سراً أننا نُعصر في عصر الخبر العاجل، والحروب مشتعلة في ربوع الوطن العربي؛ سوريا دمرت، وشعبها احترق، وسبقتها العراق، وليبيا، واليمن، وكادت الدوحة أن تُفترس كما اعترف بويل داريل في “مهمة خاصة”، وبافتراسها كان الصراع بين أحفاد “حلف الفضول” وسلالة “لعقة الدم” سينتهي. الناس ليس لديها وقت لتقرأ قصة قصيرة مثل قصة يوسف إدريس الخالدة “العصفور والسلك”، فهو يريد خبراً عن سقوط ملك، وتتويج ملك جديد، ودليلاً جديداً على جريمة قتل الخاشقجي. قلائل من الناس لهم ترف قراءة قصة، الرواية أشقّ، والروائيون العرب يكتبون روايات يبثون فيها مواجد الشكوى، ولا يحسنون بناء العمارات الفنية المشوقة، ومن العجيب أن روائياً نابغة مثل سليم بركات كتب أطول رواياته في هذا العصر. آخر رواياته كانت تقع في سبعمائة صفحة. وقد زهدت في قراءتها، وأنا واحد من عشاق أدبه. فالرجل لا يزال في عصر سكاراموش، والفرسان الثلاثة وسيرة ذات الهمة. ويا الله ارحل يا سليم.
المائدة المفتوحة، والقارئ يفضل تناول لقمة من كل طعام على وجبة واحدة، ويفضل مشاهدة الخبر والرأي على القراءة، المشاهدة أقل جهداً، وعواصف الأخبار وسيول القصص تنهمر على القارئ المعاصر من كل حدب وصوب، حتى يذهل المرء عن نفسه، أمس نشر أحد الأصدقاء صورة لمارك زوكربيرغ مع أسرته في مزرعة، وتحتها كتب قائلاً: فتح علينا صندوق باندورا وحبسنا في التخشيبة الزرقاء، ونجا بنفسه وعائلته ليعيش في العزبة حياة طبيعية.
نصحتُ صديقاً مشهوراً متوّجاً مغروراً له مريدون وأتباع، وأصدقاء فيسبوك ليس بينه وبينهم خبز وملح، ليس بينهم سوى القلوب الحمراء الكاذبة، وليس كل ما يحمّر قلباً: أن يجتهد على منشوراته الجميلة، ويصوِّب أخطاءها، ويضع علامات الترقيم في موازينها القسط، فقال بالحرف: كلمة ثانية وأجعلك عبرة لمن اعتبر وعظة لمن جحد وكفر، فخرست وندمت.
تفسير فوز البوست الحقير على المقال والقصة والرواية نجده لدى فارس العصر والأوان: ميكي ماوس!
يروي المفكر المصري الحصيف، عبد الوهاب المسيري الذي عاش ردحاً من الزمن في أمريكا إنه رسب في أحد امتحاناته، فاعترض على لجنة الامتحانات، والديمقراطية الأمريكية الجامعية تتيح الاعتراض، وحاجج ممتحنيه قائلاً: أنتم تقيسون بأسئلتكم سرعة الطالب وليس عقله. والأمريكان هم الذين اخترعوا امتحان فخ السؤال والاختيار بين الأجوبة الثلاثة، وكان قد أجاب على الأسئلة بجواب رابع، وأعيد الامتحان ونال العلامة التامة. الأمريكان هم الذين اخترعوا شخصية ميكي التي تحكم مملكة الصغار والكبار وتربيهم على الغلبة والقوة والخداع والسرعة، وهي سياسة أمريكية ثابتة في الخارج كما قال جيمي كارتر في مذكراته في البيت الأبيض: تغليب الأقليات على الأكثريات. أرسل إلي صديق مشهداً من أحد أفلام توم وجيري، لم نكن قد رأيناه، يحصر فيه جيري الهرّ توم في مصيدة، ويغتصبه اغتصاباً. يقول المسيري في تأويل الرموز: إن إسرائيل هي جيري الذي غلب واحداً وعشرين هراً عربياً، وهو يغتصب الهررة وهي راضية.
بالأمس كتب مثقف لبناني على ملة جيري ومذهبه، وله ثأر خفي مع الذاكرة العربية مقالاً، يمجد فيه الوجبة السريعة، التي حطمت العائلة، والأبوية. رأيت في فيلم أمريكي من أفلام الحركة، معلماً صينياً يدرب بطل الفيلم الأمريكي على فنون القتال الصينية، التي تستلزم عادة إخلاصاً روحياً، هذه الحكمة التي من النادر أن تجدها في فيلم أمريكي: أول درس من دروس القتال الصيني: الأكل السريع موت سريع. بعدها رأينا المعلم الصيني يمشي على الماء، ويجري في اليم كالشعاع الهادي. لكن الفيلم في النهاية يصدّر البطل الأمريكي!
نجد جواب سؤال جيري في السرعة، والسرعة ضد الذاكرة. الفأر في الأثر فويسقة، مع فواسق أربعة أخرى، يجب قتلها. الهر هو الألفة والأمان، والفأر هو السرق والخوف. قبل ظهور جيري كان الأمريكان قد مجدوا السرعة في أفلام الكاوبوي، الذي يجسده عنوان فيلم “إذا أردت أن تعيش فاقتل بسرعة”. لاكي لوك أحد أبطال ديزني لاند التي تحكم العالم أسرع من ظله في القتل. يتكلم عبد الوهاب المسيري في أحد مقالاته عن خوف الأميركي الذي يحكم العالم من الحميمية. فيسبوك وأخواتها، أوطان خالية من الحميمية، تجعل الإنسان مثل البطل الأمريكي الذي يغادر في نهاية الفيلم وحيداً. سكان هذه المدن الافتراضية يتداولون أفكاراً بعينها لقلائل يقرؤون، فلا أحد منهم يجرؤ على فتح كتاب. ارتكست شعوب المدن الافتراضية إلى لغة الإشارة المسمارية التي عادت في لغة الايموجي.
كتب زكريا تامر قصة في رثاء الإنسان المسكين، عنوانها “النمور في اليوم العاشر” وفيها يجري ترويض نمر في قفص. يتحول النمر في نهاية القصة إلى مواطن، والقفص إلى مدينة.
أظن أن الأمر أنكى وأشد، فثمة قصة أخرى لأكثر المروّضين مهارة، نجح في تحقيق هذا المصير البائس: تحول الفأر نمراً والمدينة جحراً.
المدن