أدباء ونقاد عرب: سمة الكتابة التجريبية المعاصرة الانفتاح واللاتجنيس/ سارة عابدين
عرفت الكتابة المعاصرة طفرة مثيرة أدت إلى ظهور العديد من الأعمال خاصة تلك التي اقترنت بحس تجريبي، وبقيت مقومات هذه الكتابة غير ثابتة، ترفض التنميط، وتفجر أشكالًا أدبية جديدة، لم تكن متداولة من قبل، وهي أشكال تجمع بين أكثر من نوع أدبي، وربما أكثر من جنس فني، مثل اختلاط الأدب بالفن التشكيلي أو الموسيقى أو التقنيات السنيمائية.
عن مكان الكتابة العربية والأدباء العرب والمتلقي العربي من تلك الكتابة الخارجة عن التصنيف يتحدث الناقد والشاعر المغربي عمر العسري لـ”ضفة ثالثة”، فيقول: “لقد تغيرت وجهة نظر الكاتب العربي المعاصر في فترة ما بعد البنيوية إزاء كل ما يعتبره من المسلمات، سواء على مستوى المعايير الجمالية أو الموروث الأكاديمي. فهناك تناقض واضح بين الكتابة التقليدية الأنيقة، وبين العرض الجديد لهذه الكتابة، عرض بخلفية توضح طبيعة العناصر المؤسس عليها هذا الوجود. إنها عناصر تضمن تكاملها في حوار ملتبس بين الكتابة التجريبية وباقي الفنون من سينما، وتشكيل، وعمارة، وغيرها من الفنون، فالكتابة المعاصرة، في هذا المستوى، أصبحت تتطلب اندماج الكاتب والقارئ في روح الفنون والعلوم على حد سواء، وعدم فرض معايير قديمة على شيء جديد ومستحدث. وهنا، بطبيعة الحال، تظهر أهمية المعرفة في العملية الكتابية، وتفاعل الكاتب والقارئ مع المتغيرات والمستحدثات شيء محتم دائما حتى يتمكن من توصيل المعنى الذي ارتضاه إلى جمهور المتلقين”.
الإبداع فعل من أفعال الهدم
لا تنفصل الكتابة المعاصرة عن مفهوم الفعل الإبداعي، حتى وإن كانت منفتحة على مجالات غير أدبية أو فنية، لأنها فعل تجريبي مرتبط بعمليتي الخرق والخلق، خرق ما هو سائد، وخلق نموذج جديد. وفي هذا السياق يستدعي العسري مقولة بيكاسو الذي يرى أن “كل فعل من أفعال الإبداع هو في المقام الأول فعل من أفعال الهدم”، بغاية اكتشاف أشكال ورموز وإيحاءات جديدة يمكن أن تشيد عليها أفكارًا جديدة محتملة الحدوث، أو مستحيلة التوقع. ولن يتحقق هذا إلا برؤية تجرب بدائل جديدة في الكتابة، وتؤمن بقاعدة الإحلال والإزاحة كشرط للعملية الإبداعية، فسمة الكتابة التجريبية المعاصرة هي الانفتاح واللاتجنيس، والتنويع والتكثيف، وبالرغم من ذلك هناك بعض الكتابات لم تنشغل بالوعي الكتابي الجديد، لأن فعل الكتابة أصبح في مواجهة الكتابة من جهة، وفي مواجهة الروافد الأخرى غير الكتابية من جهة أخرى. وتأتي أهمية هذا السياق في التلازم غير المشروط بين الكتابة والتجريب، أي بناء الكتابة، على نحو يوسع مفهوم التجريب، ويمنع الوقوع في النمطية واليومي كما في الكتابة الكلاسيكية.
أما فيما يخص التلقي، فيذكر العسري كتاب تيري إيغلتون “كيف نقرأ الأدب”، الذي يعيد الاعتبار إلى فعل التلقي بغض النظر عن شكله وطريقته وتكنيكه. والقراءة، من زاوية التلقي المباشر، هي التجلي المعقد لعلاقة القارئ بالكتابة الأدبية، وهي علاقة معقدة جدا بالنظر إلى حدود التراكم الكتابي المتاح، والتفاعل المنتظر. فمهمة القارئ بالدرجة الأولى، ليست التماهي مع الكتابة، أو التطابق مع أفكار الكاتب، لكن الاستجابة لحاجات قرائية ذاتية. وقد يكون لانفتاح الفعل الكتابي الدور الأخطر ليس في توجيه القارئ، وإنما في التحصل على نتائج قرائية مختلفة ومفارقة أحيانا لكنها موحية. لذا تعد الفائدة التي يجنيها الكاتب من عمله الأدبي المفتوح هي الفائدة نفسها التي يحققها القارئ، وتتلخص هذه الفائدة التفاعلية في أن قيمة المكتوب تكمن في المعرفة المستدعاة، والأشكال الموظفة، وغزارة المرجع. فلا حدود للنص ولا حدود للكتابة والتلقي، ومهما استغنت الكتابة عن هويتها النصية، ومعارفها الكتابية، فإنها تقترح بدائل تنفتح على آليات جديدة وكذلك القارئ عليه أن يعي أن القراءة في مداها الأبعد هي كشف المجهول الكامن في عالم الكاتب.
الهاجس الذي يتحرّك وراء الكتابة والفنّ ويحرّكهما أهم من النوع
الكاتب والشاعر اللبناني المقيم في باريس عيسى مخلوف يرى أن الهاجس الذي يتحرّك وراء الكتابة والفنّ ويحرّكهما أهم من النوع الأدبي والفنّي. ويقول: “أحيانًا نجد من الشعر في عمل روائي ما لا نجده في الشعر نفسه. نجد الشعر في لوحة فنية أو قطعة موسيقية أو حتى في صورة فوتوغرافية”. ويرى أن الشعر أصبح في الهامش المعزول ككلّ، ما يتعذّر تحويله إلى سلعة تُباع وتُشترى. وما لا يباع ويُشترى لا قيمة له في منطق رأس المال المنتصر، حتى لو كان مُنتِجه دانتي أليغيري أو أرثر رامبو. كلّ شيء يتغيّر الآن. لم يعد الفنّ التشكيلي يسير في الاتجاه نفسه منذ مارسيل دوشامب، ولا كتابة الرواية أو الشعر. وظيفة الثقافة نفسها تتغيّر.
يتساءل مخلوف: كيف لا تتغيّر الثقافة وهناك تحوّلات جذريّة تعصف بالعالم، ليس فقط على المستوى الاقتصادي والعلاقة بالمال، بل أيضًا على المستوى العلمي والتكنولوجي؟. ابتكار الصورة الفوتوغرافية كان حدثًا مهمّا، تقنيًّا وثقافيًّا. ولقد التفت إليه الفنّانون التشكيليّون بعناية فائقة، وفي مقدّمتهم رائد الانطباعية كلود مونيه. في الماضي كان الروائيون والشعراء يسافرون إلى القمر على جناح مخيّلاتهم، قبل أن تطأ قدم الإنسان تربته. وما كانت تظنّه النصوص الدينية من باب المستحيلات، أصبح اليوم حقائق علميّة لا تقبل الشكّ. نعم، الأرض هي التي تدور حول الشمس، والتصوير بالأشعّة يعرف ما في داخل الأرحام، والعلم يجسّد الأحلام ويذهب بها إلى أقصى الحدود. فكيف، والحال هذه، لا يتأثر الإبداع الفني والأدبي؟ كيف لا يتأثّر ورأس المال هو الذي يفرض شروطه ومعاييره اليوم على الأرض وفي السماء، أكثر من أيّ وقت مضى؟.
التداخل حاضر منذ نشأة الأدب
الشاعر والمترجم السوري زياد عبد الله يذهب إلى أقدم من ذلك ويرى أن التداخل ليس سمة معاصرة، بل حاضر منذ نشأة الأدب، ويعتبره فعل تطور، وسببا لنشأة أنواع جديدة، فعلى سبيل المثال الرواية جاءت من الملحمة، وفي سياق عربي فإن المحاولات العربية التي سعت للبحث عن تأصيل عربي للرواية وجدت ضالتها في السير أو في المقامات، وهذا في الوقت ذاته لا يلغي النوع، والكلمة المفتاحية على صعيد الشكل هي البنية. بمعنى أن أي شخص بمقدوره أن يكون كاتبًا الآن، وله أن يكتب ما يشاء، وبرأيه أن هذا “نوع” بحدّ ذاته، بما يتخطى Publish Yourself على “أمازون”وصولًا إلى”البوست” و”التويت” وما يضخ يوميًا من أفكار وصياغات وما إلى ذلك، لكن وفي الوقت نفسه يطرح أسئلة كبرى على اتصال بالأدب عمومًا، ومفهوم الكتاب، ويمكن لها أن تكون إيجابية: هل كل ما يكتب ويوضع بين دفتي كتاب يعتبر مؤلفًا أدبيًا؟ هل ثمة فرق بين “البوست” والقصيدة؟ هل عملية الكتابة واحدة؟ وهل إذا التزم الكاتب بنوع ما سيعطي نتيجة أفضل؟ وهذه أسئلة تولدها كتابة اللانوع التي نقرأها على تلك الوسائط الحديثة.
يختلف عبد الله مع الرأي القائل بانهيار الحدود بين الأنواع، ويرى أن الحدود لا يمكن أن تنهار، إذ لا يمكن قول قصيدة روائية، أو الرواية القصيدة، لكن من الممكن أن تكون في الرواية شعرية أو مجازية، أو في القصيدة سردية ما، أو حدث ينتهي بمفارقة شعرية. وما عدا ذلك فهو تمرين لغوي، أو مقال تمتزج فيه السردية بالشعرية كما في زاوية “استراقات” التي درج على كتابتها منذ عام 2005 في موقع “أكسجين”، وهنا يستعيد عبد الله “النص” ذلك التوصيف الذي يعتقد أنه خارج النوع بامتياز، ويقول إن كتابة الشعر شيء وكتابة القصيدة شيء آخر، أو أن تجميع 150 صفحة فما فوق بين دفتي كتاب لا يجعل منه رواية.. ولا ما يكتب عاموديًا يجعل من المكتوب قصيدة.
يجد عبد الله أن الرواية قادرة على استدعاء جميع الأنواع وتطويعها، للخلوص إلى رواية عظيمة. ويؤمن أنه لا يوجد روائي مميز لا يحتكم إلى إحساس شعري في مقاربة اللغة وصياغتها وتراكيبها وتكثيفها، حتى وإن كان يكتب بلغة تقريرية بالمطلق، فالحساسية اللغوية تتكئ على الشعر وبراعته في الإطباق على نبض اللغة وعمقها، ثم إن الحوار استدعاء للمسرح، فكيف لحوار أن يوجد في رواية ما لم يطور الشخصية، أو يكشف جوانب جديدة فيها أو يدفع بالأحداث؟
من خلال تجربته في “أكسجين” يتحدث عبد الله عن مكان الكتابة العربية من هذا العبور النوعي، ويذكر أجيالًا من الشباب نصفهم خاض غمار النشر للمرة الأولى في “أكسجين”، لتكون النسبة الأكبر لكتاب النصوص التي لا يمكن إخضاعها لتصنيف أو نوع، لنصوص تجمع بين السيرة الذاتية والشعر والقصّ والتوثيق، وقد احتكمت إلى جماليات استثنائية بكل ما تعنيه الكلمة، وقدّمت مقترحات جمالية جديدة، ثم إن الحرية المدهشة كانت ولا زالت سمتها البارزة والتي بدا فيها تهشيم “المحرمات” وتجاوز “الخطوط الحمراء” تحصيل حاصل أمام الجمال والإبداع، ما أدى لأن تكون “أكسجين” مشغلًا إبداعيًا للجديد والمغاير. لكن ثمة أسماء كثيرة اكتفت بذلك، منها من جمّع نصوصه ونشرها في كتاب، ومنها من انتقل إلى التركيز على نوع بعينه.. إلا أنه يعتبر تلك النصوص بكل الأحوال عبورًا نوعيًا، وخلخلة للسائد، ونبشًا لحساسيات جديدة في الكتابة والتلقي، تحررت من النوع وأثرته في آن معًا.
أما عن قبول المتلقي لتلك الكتابة الجديدة، فيرى عبد الله أن المتلقي يتقبلها، لكن خارج الرسمي، وخارج المتن أيضًا، وهنا تحضر أهمية الأدوات أو المنصات، التي تعتبر “أكسجين” واحدة منها، كما هي وسائل التواصل الاجتماعي التي يتهمها كثر بأنها خرّبت وما إلى هنالك لكنها للحقيقة أزاحت الهيمنة التقليدية للمنابر، وهناك كتّاب/كاتبات ينشرون/ينشرن نصوصًا مدهشة عبر وسائل التواصل الاجتماعي غير مبالين بأي منبر أو ملحق أو صحيفة. مع الرسمي والسائد والمحتفى به يغيب ذلك، يُغيّب التجريب برمته ويحضر الآمن، كما هي الجوائز الأدبية مثلا التي بدلًا من أن تقدّم مقترحات جديدة من خلال الأعمال التي تكللها، تنتقي الآمن والمحايد والتقليدي.
الأنواع الأدبية في حالة حراك وتداخل دائم
الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربي في جامعة القاهرة، يرى أن أسباب تداخل الأنواع الأدبية، في الأدب الحديث والقديم أيضا، متنوعة تتصل بسعي المبدعين للوصول إلى مساحة أكبر من حرية التعبير، وبامتلاك أدوات أكثر قدرة على الإحاطة بالتجارب التي يتم تجسيدها إبداعيا، والتي تظل دائما بحاجة إلى الإحاطة بها. وكل نوع أدبي يستند إلى إمكانات تعبيرية وأعراف جمالية ومساحات للحركة، وهذا كله يمثل مجالا للمبدعين في الأنواع الأخرى، الذين ينزعون إلى الحركة في مساحات أوسع تتصل بمدى أرحب من الحرية. كذلك هناك سبب آخر لتداخل الأنواع، يرتبط بالنزوع إلى تحقيق نوع من “وحدة الحواس” التي هي جزء من وحدة الكون كله.
ويرى حمودة أن الأعمال الأدبية والإبداعية عموما يتفاوت فيها حضور الحواس الإنسانية، على مستوى إبداع هذه الأنواع، وعلى مستوى تلقيها معًا. عناصر الإدراك والحس: اللون والصورة، والعبق والصوت، والكلمات، يتباين حضورها من نوع أدبي لآخر، لكن المبدع هو إنسان يتوق إلى استعادة وجوده الأول في الكون، وينزع إلى كل ما يصله بهذا الوجود في الحياة والإبداع معًا. كذلك يرتبط النزوع لتداخل الأنواع الأدبية بقدر من التمرد الفطري لدى المبدعين على القواعد والقوالب والتنظيرات الجاهزة. هذه القواعد في حالة الأنواع الأدبية هي محصلة واستخلاصات من نتاج إبداعي سابق، بينما الإبداع الجديد يفترض به خلق قواعد خاصة به، وسوف تصبح هذه القواعد مجالا لتمرد آخر، ولعل القانون الأساسي، الوحيد والثابت، فيما يخص الأنواع الأدبية، هو أنها في حالة حراك وتداخل دائم.
يتحدث حمودة عن مكان الأدب العربي من هذا العبور النوعي ويقول إن الأدب العربي، مثله مثل كل أدب آخر، فيه مظاهر لتداخل الأنواع، أو ما يسميه بعض النقاد “الكتابة عبر النوعية”. لكن تكمن خصوصية الأدب العربي في أنه لم يعرف خلال تاريخ طويل قديم عددا من الأنواع الأدبية، مثل الرواية والقصة والمسرحية. لكن حتى في التاريخ القديم ظل الشعر الغنائي هو النوع الأساسي الذي عرفه الأدب العربي، ينزع إلى تجاوز حدوده القريبة، فكان فيه من التداخل بين القص والسرد، والمغامرات التي تنحو منحى بصريا. أما الآن في الأدب العربي الحديث، فهناك تمثيلات كثيرة جدا للكتابات العابرة للنوع، حتى أصبحت توضع على بعض الأعمال توصيفات فرعية، تشي بهذا العبور: “المسراوية، رواية السيرة الذاتية، الكولاج الروائي، القصة القصيدة، قصيدة النثر”، وبالتالي أصبح الأدب العربي الحديث جزءًا من الأدب الإنساني الحديث كله، وأصبح يعرف الظواهر التي يعرفها الأدب الإنساني الحديث.
أما عن مدى تقبل المتلقي العربي لهذا النوع من الكتابة، فيمكن القول إن الأسباب والسياقات التي تدعو المبدع العربي إلى هذا النوع من الكتابة هي نفسها السياقات التي يعيشها المتلقي. ودوائر التلقي التي تتحرك فيها الكتابات عبر النوعية أصبحت دوائر واسعة. صحيح أن هناك أعمالا تجريبية تظل لبعض الفترات محدودة الانتشار، لكن هذه الفترات تنقضي لتصبح هذه الأعمال جزءا من الذائقة العامة. ولا يمكن حصر المتلقي العربي في نوع واحد من المتلقين، لأن المؤكد أن المتلقين على تنوعهم وتعددهم أصبحوا أكثر انفتاحا على تلقي الأعمال التي تغامر بعيدا عن الالتزام بالقوالب والأشكال والقواعد الجامدة.
فكرة نقاء النوع الأدبي من الأوهام التي لا تتحقق
الشاعر والناقد المصري أسامة حداد يتفق مع الآراء السابقة في كون تداخل الأنواع الأدبية قائمًا منذ البداية، فالشعر عند أفلاطون في الجمهورية هو الشعر التمثيلي في التراجيديا اليونانية وكذا في كتاب الشعر لأرسطو ارتبطت فكرة المحاكاة بالشعر التمثيلي على الرغم من انتشار الشعر الغنائي لدى الإغريق إلا إنهما توجها إلى الشعر التمثيلي، وفي القصيدة العربية كانت الحكايات متناثرة داخل النصوص، والكثير من القصائد كانت حكايات في جوهرها ومكوناتها، وكثير من الكتب النثرية جمعت بين الشعر والنثر وإن كان لكل منهما معماره وآلياته نتيجة الإيقاع والطبيعة الاستعارية للقصيدة القديمة، ومع تطور الفنون المرتبط بتطور البنى الاجتماعية صار النص أكثر تعقيدا في موازاة إشكاليات وتعقيدات الحياة وهو ما ظهرت معه نظريات متعددة ترصد هذا التطور مثل نظرية سبنسر والتي عادت إلى الظهور في السنوات الأخيرة، وتم تجاوز فكرة الأنواع الأدبية وهيمنتها كسلطة مؤسسية، ليس من أجل التجاوز، بقدر التفاعل والاتساع والممارسة الدلالية، وهناك من الأعمال الإبداعية ما تجاوز فكرة النوع مثل النشوة المادية للفرنسي لوكليزيو، ولست ذا شأن واللاطمـأنينة لفرناندو بيسوا، واللامنتمي لويلسون.
ويضيف حداد أن فكرة نقاء النوع الأدبي هي من الأوهام التي لا تتحقق، وقصيدة النثر هي خطاب نقدي حاد لفكرة الأنواع الأدبية، حيث توظيف السرد وخطاب الحكاية وكتابة المشهد والاستفادة من تقنيات سردية تمنح النص الشعري مساحات وفضاءات جديدة، والأمر ذاته مع الرواية الحديثة فتوجد آلاف الطرائق لسرد الحدث ذاته، والتداخل مع القصيدة عبر التكثيف واستخدام المفارقة والسرد الشعري واستبطان الذات يمنح السرد أنساقا جمالية عبر توظيف هذه الآليات.
يقول حداد إنه ليس منشغلا بانهيار الحدود بين الأنواع بالرغم من أهمية هذه الإشكالية، لكن ما يبحث عنه هو إنتاج نص له أنساقه الجمالية والمعرفية وخصوصيته وآلياته بعيدا عن القضايا والإشكاليات التي تشغل المنظرين والنقاد. كما يرى أن هناك تفاعلًا بين الثقافات ولم يعد هناك مجتمع مغلق والكثير من النظريات الأدبية تحمل طابعا كونيا، كما أنه لا توجد نظرية نقدية عربية حديثة يمكن أن تضع هذه الأسئلة على طاولة البحث، وبالرغم من ذلك يرى حداد أن المشهد الإبداعي العربي يحفل بمحاولات لعبور الأنواع الأدبية وانتشار قصيدة النثر يؤكد ذلك، ولا يمكن إغفال أعمال روائية تداخلت فيها الأنواع الأدبية بشكل لافت وبعضها بدا أقرب إلى متوالية قصصية أو متوالية سردية، والاقتراب من الشعر في الكثير من الروايات والقصص القصيرة منذ الستينيات.
أما عن تقبل المتلقي العربي لهذا النوع من الكتابة، فيعتقد حداد أن هذه أزمة مجتمع وسؤال إيديولوجي مطروح منذ الحملة الفرنسية إلى الآن ويرتبط بالتعليم والخطاب المتوارث، وهو يعتقد أن الانقسام الفكري سيتراجع، والمتلقي سيتقبل هذا النوع، خاصة بعد تقبل المتلقي للفنون البصرية الحديثة، لأن المجتمع عليه أن يساير لحظته التاريخية.
يضيف حداد أن المشكلة ليست في المتلقي بقدر ما هي في قدرة المبدع على تقديم نص مشبع يحمل أنساقه الجمالية والمعرفية المرتبطة بواقعه ومجتمعه بعيدا عن الأفكار الفوقية والنخب التي صنعت فجوة بين المنجز الأدبي والمجتمع.
لا يمكن إنكار حقيقة حدوث انزياح بين الفنون والأنواع الأدبية المختلفة
الدكتورة ناهد راحيل، مدرسة الأدب الحديث والمقارن بكلية الألسن، تستعيد من جديد أفلاطون وأرسطو كأول من تحدثا عن الفنون بطريقة منهجية، ومن هنا تجدر الإشارة إلى المبدأ الأرسطي الخاص بنقاء الأنواع، فكان أرسطو أول من وضع الأسس الأولى لنظرية الأجناس الخاصة بالشعر التمثيلي عند الإغريق عندما ميز المأساة من الملحمة والملهاة، وضبط لكل جنس من أجناس هذا الشعر الخصائص والأشكال، ثم بعد ذلك تحول هذا المذهب الشهير الخاص بنقاء الأنواع إلى مبدأ أساسي في النقد الكلاسيكي الذي لا يؤمن بامتزاج الأنواع، وهو المبدأ الذي ثارت عليه الحركة الرومانسية وتبنت فهما جديدا لنظرية الأنواع، فلم تلتزم بالتحديدات، لتظهر بعد ذلك عدة أصوات تنادي بالدعوة إلى هدم فكرة الأنواع وإلغائها مثل بينيديتو كروتشه وموريس بلانشو ورولان بارت، وفي مقابلها نجد أصواتا نقدية تدافع عن وجود الأنواع وتحديداتها الأجناسية، منها ميخائيل باختين وجيرار جونيت وتزفيتان تودوروف. وتجدر الإشارة هنا إلى قصيدة النثر التي زاوجت بين نوعين أدبيين وأصبحت حاليا نصا جامعا له سماته وآلياته وتحديداته النوعية الجديدة، وكذلك القصة الشاعرة التي جسدت تحرك السرد على حدود نوع آخر هو الشعر، ويسبق هذا كله بالتأكيد المسرح الشعري.
ورغم مجهودات فلاسفة علم الجمال لوضع تصنيفات عدة للفنون المختلفة، ومحاولات المنظرين لتحديد المعايير النوعية للنصوص الأدبية، ترى راحيل أنه لا يمكن إنكار حقيقة حدوث انزياح بين الفنون والأنواع الأدبية المختلفة، وربما يرجع هذا إلى تعدد التجارب الإبداعية وللضرورات الحداثية التي تطلبت من المبدع الولوج بخطابه الأدبي إلى آفاق لم يعهدها من قبل. فقد أفاد الأدباء من تقنيات الفنون الأدبية وغير الأدبية في تطوير مستويات نصوصهم وتشكيلها، وتطويعها بما يخدم طبيعة الخطاب نفسه والشروط الفنية الخاصة بكل نوع أدبي، ومن هنا تميزت – مثلا- لغة الشعر الحديث بالأشكال الحوارية الممتزجة بالنزعة القصصية والمسرحية حيث تتداخل الأصوات وتتعدد، مما أضفى بعدا دراميا على بنية القصيدة وأبعدها عن الغنائية، كما طالبت القصيدة بتحقيق البنية البصرية داخل النص الشعري المكتوب، أي الانتقال من النص إلى الخارج بصريا، مستفيدة من تقنيات الفنون السينمائية والتشكيلية، وكذلك دعا تيار الرواية الجديدة إلى تكسير قواعد الرواية التقليدية، وتحركت القصة القصيرة في بعض نماذجها نحو الشعر. ومع ذلك، فقد ظل لكل نوع سماته التي تميزه وتحديداته النوعية التي تفصله عن الأنواع الأخرى، ويبقى القصد من التداخل هو التخفيف من سلطة النوع ومسايرة النمط الحداثي الذي طال التجربة الإبداعية بكل عناصرها. أما المتلقي، الذي يرافق المبدع في جميع مراحل إنجازات العمل، ويصطحبه في رسم كل الاستراتيجيات التي تكوّن الرؤيا الشمولية للنص، فهو يسهم في كثير من الأحيان في تحديد الأثر الأدبي، لأن تلك المتطلبات الحداثية طالت المتلقي كذلك، فأصبح يمتلك من الخبرة والذائقة الفنية ما يؤهله لاستقبال تلك النصوص الحداثية والوقوف على معاييرها وإجراءاتها النوعية الجديدة والمشاركة في تجنيسها كذلك.
تغيّر الحياة وتطوّر الثقافة تسبّبا بالانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة
الدكتور شاكر عبد الحميد، وزير الثقافة المصري السابق وأستاذ علم نفس الإبداع بأكاديمية الفنون، يقول إن تغير الحياة وتطور الثقافة كانا سببا في الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، لأن الحداثة تؤمن بالمركز الواحد والسرديات الكبرى عن الفرد والمجتمع والدولة، بينما في ما بعد الحداثة تهاوت الحدود بين الدول وبين الثقافات مع التغيرات التي حدثت تكنولوجيا واقتصاديا، ولذا لا تهتم ما بعد الحداثة بالسرديات الكبرى، ولا تفرق بين الثقافات الشعبية والثقافات العليا، ومن هنا تغيرت الأفكار الراسخة، وانهارت الأممية، وبدأت فكرة التناص والتفاعل بين الفنون عموما، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، ومن خلال أفكار المدرسة الدادائية والكولاج في الفن التشكيلي، وبعد ذلك بدأ تأثر الأدب بالسينما وتقنياتها وتقسيماتها الصورية أكثر من التقسيمات الأدبية المتداولة.
يرى عبد الحميد أن أغلب الفنانين العرب تقف أعمالهم عند محاكاة الفن والأدب الغربي، لأن معظم الحركات الفنية ظهرت في الغرب، والتقنيات الأدبية مثل التقشف في الكتابة ظهرت بعد ترجمة أعمال هيمنغواي وآلان روب غرييه وغيرهما.
أما عن المتلقي العربي فيقول عبد الحميد إن مواقع التواصل الاجتماعي، والترجمة، ودور النشر المستقلة، والجوائز، أدت إلى رواج أنواع جديدة ومتباينة من الأدب، وكما أن هناك مستويات للكتابة والإبداع، هناك مستويات مختلفة من التلقي حسب ثقافة وقدرة المتلقي على التفاعل.
ضفة ثالثة