فيلم “الزوجة”.. تناقضات العلاقة الزوجية في عالم الإبداع الأدبي/ أمير العمري
المخرج السويدي بيورن لونجا ينجح في دفع أحداث الفيلم ويضع شخصياته أمام تناقضاتها وتاريخها الشخصي في حبكة درامية تميز أعمال مسرح الأفكار.
كان متوقعا أن تحصل الممثلة الأميركية غلن كلوز على جائزة أحسن ممثلة في جوائز “غولدن غلوب” كما حدث بالفعل، فأداؤها يرتفع بمستوى فيلم “الزوجة” ويجعله عملا يثبت أن السينما يمكنها التعمق في النفس البشرية ومحاولة فهم تقلباتها وتناقضاتها وأنها ما زالت تستطيع أن تدهشنا وأن تقدم أفلاما تسبر أغوار النفس كما تمس قضية الوجود الإنساني نفسه.
لعل أبرز ما يميز فيلم “الزوجة” The Wife المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الأميركية ميغ ووليتزر أعدت له السيناريو جين أندرسون، تعدد مستوياته، كما أن شخصياته الرئيسية مركبة، أي تحوي في داخلها تناقضات تجعلها قريبة منا، نستطيع أن نفهمها ونشعر بمعاناتها ونتعاطف معها كما هي.
ينجح المخرج السويدي بيورن لونجا في دفع أحداث الفيلم ويضع شخصياته أمام تناقضاتها وتاريخها الشخصي في حبكة درامية تميز عادة أعمال مسرح الأفكار.
ويمكن أن تصل هذه الشخصيات أحيانا إلى ذروة التعقيد والغضب وتبادل العنف اللفظي والتحسر على الماضي مع اجترار المرارة الناتجة عن سنوات العذاب، وغياب الفهم والتقدير وإنكار الذات، لكن الفيلم لا يخلو رغم ذلك، من الكوميديا التي تنبع من المفارقات.
هذا فيلم يدور في عالم الأدب، أو عالم الإبداع الأدبي، لكنه أيضا عن مشاكل العلاقات الزوجية، عن تلك “الشراكة” التي نشأت ونمت ونضجت عبر أكثر من أربعين عاما، بين رجل وامرأة؛ جوزيف وجوان: الرجل كاتب غير موهوب، والمرأة كاتبة كانت تبشر بموهبة غير عادية في مجال الرواية.
والفيلم يبدأ في عام 1993، بمشهد سيصبح هو المدخل إلى تفجير التناقضات كلها في حياة البطلين، لقد بلغ كلاهما الآن الشيخوخة. اكتسى رأس كل منهما بالشعر الأبيض، وتغضن الوجهان، وأصبحت الطاقة محدودة، وقد مر جوزيف بعمليات جراحية عدة في القلب، لكن جوان رغم مظاهر الحكمة البادية على وجهها ما زالت تتمتع بجمال خاص.
الارتداد إلى الماضي
نحن هنا في عصر ما قبل الهاتف النقال والإنترنت ورسائل البريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي، يدق الهاتف في غرفة نوم الزوجين بعد ليلة متأخرة حاولا فيها الاستمتاع بما تبقى من طاقة جنسية.. على الطرف الآخر هناك من يخبر جوزيف بأنه قد فاز بجائزة نوبل في الآداب.
هذه المفاجأة “الصادمة” لا يستطيع أن يتحملها وحده، إنه يشرك معه رفيقته جوان التي تسعد لهذا الفوز بينما يؤكد هو أن الجائزة لها، وتدريجيا ومن خلال أسلوب السرد المتعرج الذي ينتقل من الحاضر إلى الماضي ليرتد مجددا إلى الحاضر، نعود إلى عام 1958 إلى بداية العلاقة العاطفية بين الأستاذ جوزيف والطالبة الجميلة جوان، عندما كان جوزيف أستاذا جامعيا وكانت جوان إحدى طالباته، وكيف تطورت العلاقة بينهما مع بعض الشد والجذب.
كانت “هي” تتمتع بموهبة خاصة في الكتابة والخيال الأدبي، ولكنها أدركت منذ البداية أنها لن تتمكن من الوصول إلى ما تبتغيه، أي لن تحقق لنفسها ككاتبة وجودا خاصا، بسبب تحيز الناشرين ضد المرأة- الكاتبة، لذلك تقرر جوان الاستسلام، وتكتفي بصب موهبتها في كتابات جوزيف الضعيفة لتجعل منها أعمالا أدبية مرموقة يشار إليها بالبنان.
كانت تضحي من أجله ومن أجل استمرار حبها له وعلاقتهما بعد أن تزوجا وأنجبا ابنا وابنة، وعندما يعود الفيلم إلى عام 1960 نرى الزوجين وقد انتقلا للعيش في منزل رحب بجوار البحر بعد أن أصبح جوزيف يجني الكثير من المال وراء بيع “مؤلفاته”، لكن الحقيقة أن جوان هي التي كانت تسهر وتنكب على التأليف، بينما كان جوزيف يرعى الأطفال ويطهي الطعام!
غلن كلوز رشحت ست مرات لجائزة الأوسكار لأحسن ممثلة، لكنها لم تحصل عليها قط.. ومع ذلك قد تفوز بها هذه المرة بعد أن حصلت على جائزة {غولدن غلوب} الـ76غلن كلوز رشحت ست مرات لجائزة الأوسكار لأحسن ممثلة، لكنها لم تحصل عليها قط.. ومع ذلك قد تفوز بها هذه المرة بعد أن حصلت على جائزة “غولدن غلوب” الـ76
ما الذي سيحدث الآن بعد أن أصبح يتعين على جوزيف وجوان الذهاب إلى استوكهولم لاستلام جائزة نوبل؟ التناقضات تبدأ مع بداية ظهور الصحافي الانتهازي ناثانيال في الطائرة التي تقلهما إلى استوكهولم.
إنه يتطفل أولا لكي يوجه بعض الأسئلة إلى جوزيف الذي يكون رد فعله الرفض المغلف ربما بالخوف من الارتباك، ثم سيلتقي جوان في الفندق بعد ذلك لكي يطلعها على اعتزامه تأليف كتاب عن حياة جوزيف، ويلمح إلى معرفته بموهبتها من خلال اطلاعه على كتاباتها القديمة، متشككا في كونها قد تكون المسؤولة عما حققه جوزيف من نجاح، فمؤلفاته كما يقول، تصطبغ بأسلوبها المميز، لكنه لا يملك دليلا لذلك يواصل البحث والتحري.
الابن ديفيد الذي سافر معهما لحضور الحفل، بدوره يمارس كتابة الأدب، لكنه ليس موهوبا تماما، وهو من أشد المعجبين بوالده، يريد أن يستمع منه إلى كلمة تشجيع وإعجاب بما يكتبه، لكنه يغضب من تفاعل جوزيف مع ما يكتبه وينفر مما يعتبره نرجسية مقيتة، وجوزيف من ناحيته لا يدخر وسعا في توبيخ ابنه بسبب سلوكه الذي لا يعجبه، مثل التدخين.
ديفيد ليس سويا، والواضح أنه نشأ يعاني من عقدة القمع غير المباشر بسبب العقدة التي خلقها تفوق والده وانشغاله بنفسه أيضا، ثم يبدأ بدوره في التشكك في أن وراء نجاح والده، تقف الأم، خاصة بعد أن يلتقي بالصحافي الذي يدخل في نفسه الشك، فيثور على والده وتنشأ أزمة بينهما.
انفجار الأزمة
أما جوان فهي تحضر الحفل على مضض، لكنها تشعر أن ما تراه أمامها مجرد حفل تمثيلي لا علاقة له بالحقيقة، وفي مزيج من الرثاء للذات والحسرة على الماضي والغضب على خيانات جوزيف المتعددة لها، واستمراره في نزواته التي ما زالت تراوده حتى الآن وبعد كل هذا العمر، تنفجر جوان بالغضب وتعلن له أنها تعتزم تركه رغم كل الحب الذي كان، خاصة وهي تستعيد ما قاله عنها أمام الجميع قبل الحفل “زوجتي لا تكتب”..
ولكن هل ستتركه فعلا؟ وكيف سيكون مصيره من بعدها؟ وماذا سيحدث للابن ديفيد: هل سيمضي على طريق والده أم والدته بعد أن ملأه الشك وأخذ يستعيد مثل أمه، مشاهد من طفولته حينما كان الأب يبعده خارج غرفة المكتب بينما كانت أمه تواصل الكتابة في الداخل؟ هل كانت تقوم فقط بتصويب بعض الأخطاء في روايات أبيه، أم كانت تكتبها كلها من وحي خيالها وبفعل موهبتها؟
لمن نوبل؟ ومن الذي يستحقها؟ هل تستحقها الزوجة الكاتبة- الخفية؟ وهل تأخر الوقت كثيرا بحيث لم يعد الآن بإمكان جوان أن تحاسب زوجها على ما حققه على حسابها، في حين أنه يذكرها أيضا بأنها ارتضت الصعود الاجتماعي والتمتع بكل مظاهر حياة الترف بفضل ما حققاه معا؟
إننا أمام دراما قوية، محكمة الصنع، محبوكة الأطراف، ليس من السهل إدانة طرف فيها وتبرئة الطرف الآخر، والحقيقة أن اختيار البناء المتعرج في السرد كان اختيارا ملائما تماما لتسليط الضوء على الموضوع وتصوير تطور العلاقة بين البطلين، كما نجح المخرج في إضفاء ملامح الفترات المختلفة التي يعود إليها في الماضي من خلال الديكورات واستخدم الإضاءة والألوان التي منحت الفيلم طابع الفترة.
لم يفرط المخرج كثيرا في استخدام حركة الكاميرا، بل استخدمها أحيانا لمتابعة الممثلين الرئيسيين وهما ينتقلان من الصالون إلى غرفة النوم، وأحيانا كانت الكاميرا تطل عليهما من أعلى غرفة النوم، لكنه استغل أيضا إمكانيات المونتاج لتوليد الإيقاع داخل المشهد الواحد بطريقة القطع وتغيير أحجام اللقطات وزوايا الكاميرا، مع المحافظة على دفع الحركة داخل المشهد من دون أن يؤثر وجود الكاميرا على سلاسة حركة الممثلين.
عن التمثيل
جوان تسأل: لمن جائزة نوبل، ومن الذي يستحقها؟جوان تسأل: لمن جائزة نوبل، ومن الذي يستحقها؟
من أهم عناصر الفيلم الفنية الأداء التمثيلي، هنا في دور جوان، الممثلة المخضرمة غلن كلوز (71 سنة) التي تستفيد من خبرتها الكبيرة في المسرح والسينما. إنها تبرع كثيرا في اللقطات القريبة close up التي تتركز فيها الكاميرا على وجهها، ترصد بدقة نظرات عينيها، وإيماءات وجهها، بحيث تشي هذه النظرات والإيماءات بما يعتمل في نفسها من مشاعر متضاربة متناقضة عنيفة، ما بين الحب الشديد والشعور بالفخر بزوجها وما حققه، وما حققته هي أيضا (بفضل موهبتها)، ولكنها في الوقت نفسه، تكشف عن شعورها بالحسرة الشديدة، والغضب والرفض والرغبة في التمرد على حياة الخضوع التي ارتضتها لنفسها من البداية.
وفي خضم شجارها مع جوزيف يسألها هو بحدة “إذا كنت بليدا لهذه الدرجة لماذا تزوجتني من الأصل؟”، تفكر هي قليلا قبل أن تجيب “لا أعرف”.
هذه المشاعر المتضاربة التي تعبر عنها الممثلة هي ما يمنح الدور، بل والفيلم كله رونقه وسحره وجماله، رشحت غلن كلوز ست مرات لجائزة الأوسكار لأحسن ممثلة، لكنها لم تحصل عليها قط.. ومع ذلك قد تفوز بها هذه المرة بعد أن حصلت على جائزة “غولدن غلوب” الـ76.
أما الممثل البريطاني جوناثان برايس، فهو بدوره يتألق في دور جوزيف بأدائه الذي بدا مرحا رقيقا في البداية، ثم غلبه الشعور بالاعتداد بالذات من دون أن يتخلى قط عن إيمانه بدور زوجته في حياته.
وفي الكلمة التي يلقيها في الحفل، يكرر الحديث عن فضل زوجته وكيف أنه من دونها ما كان ليصبح شيئا، صحيح أنه يعبر عن شعوره بالعرفان لها، لكننا نلمح بين طيات حديثه أيضا شبح شعور بالذنب، لقد مارس في الماضي بعض الخيانات الصغيرة العابرة.
صحيح أنه يرفض التمادي مع محاولات مصورته السويدية الحسناء التي خصصتها الأكاديمية السويدية لمرافقته (اختفت من الفيلم على نحو غامض بعد ذلك)، ورغم ذلك لا يتخلى جوزيف تماما عن طفوليته ولا يكف عن عادته في منح المعجبات ثمرة جوزة الطيب بعد أن يوقعها، كما أنه يمتلئ بالكثير من المشاعر المتضاربة، بين حبه الكبير لابنه، وخوفه عليه ورغبته في أن يراه ناجحا، وبين عجزه عن فهم سر تأزمه ورغبته في الهرب، وفي مشهد المواجهة العنيفة بينه وبين زوجته يصل أداء جوناثان برايس إلى ذروة الإبداع التمثيلي.
الطريف أن ابنة غلن كلوز، الممثلة آني ستارك (30 سنة) هي التي قامت بدور جوان في شبابها في مشاهد “الفلاش باك”، وقام بدور الابن ديفيد، الممثل الإنكليزي الشاب ماكس إيرونز ابن الممثل الشهير جيريمي إيرونز.
* لقد عملت طويلا في المسرح السويدي على نصوص أميركية كلاسيكية مثل “رحلة يوم طويل في الليل” و”موت بائع متجول”، وعندما قرأت السيناريو وجدته ينتمي إلى النوع الذي أعرفه جيدا ولم تكن هناك مشكلة في صنع الفيلم مع ممثلين من أميركا وبريطانيا فقد كنت معتادا على ذلك، وقد استمتعت بتصوير الفيلم في مدينة غلاسكو مع فريق من التقنيين البريطانيين والأميركيين.
* لا يمكنني العمل في فيلم إلاّ إذا أحببت السيناريو، وعندما وافقت غلن كلوز على القيام بدور البطولة اكتملت سعادتي، وكان ذلك في 2014، ولكن المشروع تعثر إنتاجيا، إلى أن وجدنا شركة بريطانية تقبل المشاركة في الإنتاج.
*استغرق التصوير 32 يوما، منها يومان في استوكهولم لتصوير المناظر الخارجية، ثم صورنا المشاهد الداخلية في غلاسكو، وقد استخدمنا كاميرتين في التصوير لتصوير الكثير من اللقطات التي تظهر المشاعر، وكان الديكور محددا تماما.
* تعاونت طويلا مع مدير التصوير أولف برانتاس وكنا نستلهم خلال تصوير هذا الفيلم العلاقة البديعة بين انغمار برغمان ومصوره الفذ سيفن نكفست، فقد كانا يستخدمان لقطات الكلوز آب ومن دون ظلال، وكنت قد التقيت غلن كلوز كثيرا قبل ذلك ولم أستطع أن أتعرف على وجهها والفرق بين مشاهدتها بشكل شخصي ثم على الشاشة كما ظهرت في أفلام حديثة، وأدركت أن السبب يعود إلى الإضاءة. وتحدثت مع أولف بشأن وضع ضوء خفيف على وجهها وكان ممكنا أن ترى فجأة كيف تنعكس الانفعالات عليه، وكان هذا مفتاح العمل مع غلن وكريستيان وجوناثان.
العرب