شانتال موف: الشعبوية لتجذير الديمقراطية/ محمد سامي الكيال
يتردد اسم شانتال موف، أستاذة النظرية السياسية في جامعة ويستمنستر البريطانية، كثيرا في أيامنا لدى الحديث عن التطورات السياسية الراهنة، وعلى رأسها صعود الأحزاب والحركات الاحتجاجية الشعبوية. وعلى الرغم من أن إسهامات موف غير متداولة بشكل واسع عربيا، وما تزال معظم كتاباتها غير مترجمة، إلا أن ما قدمته للفلسفة السياسية لا يمكن تجاوزه، إذا أردنا إيجاد إطار نظري يمكّننا من فهم التطورات السياسية على الصعيد العالمي.
في كتابها الصادر عام 2018 «من أجل شعبوية يسارية»، تقدم الأستاذة البلجيكية ما يشبه بيانا سياسيا، لا تقلل كثافة خلفيته النظرية من راهنيته، واشتباكه مع التفاصيل السياسية المعاصرة. كما أنه لا يخفي انحيازه للشعبوية بوصفها أسلوبا سياسيا قادرا، في شروط معينة، على إنتاج نسخة راديكالية من الديمقراطية، افتقدتها المجتمعات المعاصرة منذ عقود.
ضد «الجوهرانية»
لا يمكن فهم دعوة موف للسياسة الشعبوية بدون توضيح إطارها الفلسفي المعقد، الذي يقوم على نقد النظرية الليبرالية العقلانية، كما نجدها في «نظرية العدالة» لجون رولز، و«تواصلية» يورغن هابرامس. يعطي هذا النمط من الليبرالية طابعا محايدا للمؤسسات الديمقراطية، ويرى أن المهمة الأساسية للنظام الديمقراطي هي توفير الإجماع العقلاني على ما هو مفيد وعادل، ما يؤمن استبعاد النزاع الاجتماعي لمصلحة التوافق. كما أن الديمقراطية، حسب هذا المنظور، متسقة بشكل كامل مع الليبرالية ومفاهيمها، مثل دولة القانون وفصل السلطات وصيانة الحقوق الفردية. كل هذا يستلزم تصورا خاصا للسياسة بوصفها مجالا قائما على الفردانية العقلانية، يستطيع فيه المواطنون، بوصفهم أفرادا عاقلين وأحرارا، معرفة ما هو صحيح، ومن ثم الاجماع عليه، بما يحقق «العدالة» بوصفها منتجا سياسيا.
تعتبر موف هذا المنظور جوهرانيا، أي أنه يقيم السياسة ومؤسساتها على أسس «طبيعية» و«محايدة»، وكأن مواقف المؤسسات والبشر تنشأ بشكل طبيعي من خصائصهم وأدوارهم الاجتماعية «الواقعية». وهو ما ترفضه لمصلحة تصور آخر، هو التصور البنائي، الذي يؤكد أن المواقف والوظائف السياسية مبنية اجتماعيا وفقا لأسلوب معين من الهيمنة، تمارسه الكتل السياسية والاجتماعية السائدة، وبالتالي فالمؤسسات الديمقراطية ليست محايدة، بل هي مجال للهيمنة والهيمنة المضادة، ولا يمكن للسياسة أن تقوم على الإجماع العقلاني، بل على النزاع والتصارع بين مختلف مشاريع الهيمنة السياسية. ترفض موف أيضا مبدأ الفردانية الليبرالية العقلانية لأنه يهمل أساليب بناء الهوية السياسية الجمعية، أي مجموعة الإجراءات الأيديولوجية والخطابية، التي ليست بالضرروة عقلانية دائما، التي تشكل الـ»نحن»، أو الطريقة التي تعي المجموعات بها نفسها سياسيا، في مقابل الـ»هم»، أي الآخر السياسي.
في هذا السياق يبرز المفهوم الفلسفي الذي يمكن ترجمته بـ«الإمكان» Contingency، وهو أساسي في النظريات البنائية ونظرية الأنظمة، ويقوم على تعيين ما هو ممكن ولكنه ليس ضروريا بحد ذاته. المعنى السياسي لـ«الإمكان» هو أن الشكل والأسلوب الذي تعمل به المؤسسات السياسية القائمة لا يتسم بالضرورة والحتمية، بل هو فقط واحد من الإمكانيات الموجودة، والتي قُدر لها أن تتحقق بفعل نجاح مشروع سياسي واجتماعي معين في فرض هيمنته. هذه الهيمنة تحاول إخفاء كون ما أسسته مجرد إمكانية ضمن ممكنات أخرى، وتحاول رفعه إلى مستوى «الحس السليم»، أي بوصفه بديهيات مشتركة بين الناس، لا جدال فيها.
على هذا الأساس تبني موف نظريتها عن «السياسية التصارعية»، التي ترى السياسة ميدانا للصراع على تشكيل «الحس السليم»، أي مجابهة بين مختلف القوى التي تريد تحقيق الهيمنة السياسية والمؤسساتية، وبناء الهوية السياسية الجمعية.
الديمقراطية نقيضا لليبرالية؟
اهتمام موف ببناء الهوية السياسية، من خلال تعيين «نحن» مقابل «هم»، يقرّبها كثيرا من تنظيرات كارل شميت، الذي يؤكد أن السؤال الأساسي للسياسة هو تمييز «العدو» من «الصديق». وهي تعترف بأهمية مساهمات شميت الفكرية، خاصة تمييزه بين الديمقراطية والليبرالية، فهذان المفهومان لا تلازم ضروري بينها، ويمكن أن يكونا متعارضين في كثير من الأحيان، لأن تحقيق الإرادة الجمعية قد يتناقض مع الحقوق الفردية، والقيود التي تفرضها المؤسسات الدستورية والحقوقية الليبرالية. ترى موف التلازم بين الليبرالية والديمقراطية نتيجة لسياق تاريخي خاص هو السياق الأوروبي، الذي تحالف فيه الديمقراطيون والليبراليون في مواجهة السلطات القمعية، ما بنى بالنهاية النظام الليبرالي الديمقراطي، الذي تم تقديم تلازم مكونيه (الديمقراطي والليبرالي) على أنه ضرورة، رغم أنه لا يعدو كونه إمكانا تاريخيا تحقق بسبب ظروف خاصة.
رغم ذلك لا تتفق موف مع شميت بأن الديمقراطية الليبرالية ستصل حتما إلى تقويض نفسها بسبب التناقض بين مكونيها، بل ترى إمكانية توطيد التلازم بين المكونين من خلال طراز معين من السياسات الشعبوية، التي لا يمكن اعتبارها أيديولوجيا أو مضمونا فكريا معينا، بل أسلوبا في العمل السياسي، يبني مفهوما جديدا للشعب (نحن)، يمكن بواسطته إنشاء «كتلة تاريخية»، حسب تعبير غرامشي، تستطيع فرض هيمنتها سياسيا ومؤسساتيا. ما يميز الشعبوية اليسارية عن نظيرتها اليمينية، هو سعيها لتحقيق المطالب الديمقراطية لطيفٍ واسعٍ من المواطنين، مثل العمال، الفئات الوسطى المفقرة، الأقليات، النساء، الحركات البيئية، مجتمع المثليين..الخ. مؤسسة مفهوما جديدا للشعب، بالتناقض مع الآخر السياسي (هم)، أي الأوليغارشية المالية المعولمة، التي تمتع تحقيق هذه المطالب الديمقراطية الموسعة.
ترفض موف كل المطالبات بتجاوز الديمقراطية التمثيلية، أو تقويض المؤسسات الليبرالية، ومنها مثلا دعوة مايكل هاردت وأنطونيو نيغري لـ«الخروج» Exodus، أي هجر الهياكل التمثيلية واستبدالها بإبداعات جماعية جديدة لـ«الجمهور». وترى أن تجذير الديمقراطية لا يمكن أن يكون إلا في إطار المؤسسات الليبرالية ودولة القانون ونظام التعددية الحزبية والمرجعية الدستورية، وذلك بعد فرض الهيمنة الشعبية عليها. لأن هذه المؤسسات هي ما يؤمن تحويل «العدو» إلى «خصم»، أي بدلا من إقصاء الآخر السياسي، والمطالبة بتصفيته سياسيا أو حتى جسديا، يمكن من خلال المؤسسات الليبرالية الاعتراف بحقه في الوجود والممارسة السياسية، وجعل الميدان السياسي قابلا للصراع السلمي بين المشاريع المختلفة، التي يمكن للمواطنين الاختيار بينها. فضلا عن أن هذه المؤسسات هي ما يعطي البشر الإمكانية للتعرف على هويتهم السياسية، وتشكيلها بشكل أكثر تحررا، من خلال المفاضلة بين البدائل الفعلية، المطروحة بشكل شرعي على الصعيد السياسي. هذا الوعي بأهمية المؤسسات الليبرالية والدستورية لـ«السياسة التصارعية» هو برأينا أهم ما قدمته موف للنظرية السياسية المعاصرة، وهو ما يجعلها أحد أبرز المفكرين في عصرنا، فهي تستطيع بشكل مقنع التوفيق بين عناصر، تبدو متناقضة تماما للوهلة الأولى، من فكر شميت وهابرماس وغرامشي وميكيافيللي والنظرية البنائية.
دروس مارغريت ثاتشر
تؤكد موف أننا نعيش حاليا في شرط ما بعد ديمقراطي وما بعد سياسي، وذلك بسبب هيمنة «الحس السليم» للأوليغارشية على المجال العام، وجعل «الإجماع» المبني على السياسات البيروقراطية والتكنوقراطية بديلا عن التعددية التي ينتجها الصراع السياسي. اليوم لا توجد بدائل حقيقية يختار بينها المواطنون، بل تقتصر مهمتهم على إسباغ الشرعية الانتخابية على ما تقرره النخب سلفا، بوصفه الطريق الوحيد الذي تستلزمه «الديمقراطية الناضجة»، التي تدعي النخب تجسيدها.
تدرس موف الطريقة التي انبنى فيها هذا «الحس السليم» لما بعد الديمقراطية من خلال ممارسات مارغريت ثاتشر في الثمانينيات، التي انتهجت سياسة شعبوية رجعية، جعلت «الشعب» في مواجهة البيروقراطية المهيمــــنة على نموذج دولة الرفاه، الذي كان سائدا في فترة ما بعد الحرب. وفي الوقت الذي كان خصوم ثاتشـــر ينتظرون أن يعود لهم الحكم بشكل تلقائي بسبب تدمير المكاسب الاجتماعية، كانت ثاتشر تبـــني هيمــــنة «كتلتها التاريخية»، وترفعها إلى مستوى «الحـــس السلــيم». فيما بعد تبنى جميع خصوم ثاتشـــر هذا «الحس»، وأصبحت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية هي التي تقود عمليات الخصخصة و«تحرير العمل». تدعونا موف للتعلم من أسلوب ثاتشر الشعبوي في فرض الهيمنة.
إلا أن الكتلة التاريخية الجديدة التي تدعو لها موف تبدو فاقدة للمنظور الطبقي، فهي تؤكد مثلا على ضرورة استقطاب بعض المستفيدين من النيوليبرالية والعولمة، مثل ناشطي الحركات البيئية والنسوية. ولا تستطيع تمييز المصالح الطبقية التي تؤطر عمل هؤلاء الناشطين، ومدى إسهامهم في تحقيق الهيمنة المؤسساتية لما بعد الديمقراطية. بالمقارنة بفكر نانسي فريزر، التي تدعو أيضا إلى يسار شعبوي، ولكن من خلال القطيعة مع «النيوليبرالية التقدمية» وناشطيها البورجوازيين، تبدو شعبوية موف أقل جذرية مما تدعي، وغير قادرة على تمثيل الفئات ذات المصلحة الفعلية باستعادة الديمقراطية وتجذيرها. وهذا لا يعيب موف بالطبع من ناحية النظرية السياسية، ولكنه يطرح علامات استفهام فعليه على الطريقة التي تدرك بها مفهوم «اليسار»، الذي لا يمكن أن يكون له معنى برأينا بدون الالتزام بمنظور طبقي واضح.
القدس العربي