هل تملأ ألعاب “القتال” الإلكترونية فراغ العاطلات والعاطلين من العمل؟/ خولة بو كريم
الكلُّ يطلقُ النّار على الكلّ، تسمعُ أصوات الرصاص في كلّ مكان وكأنكَّ في حرب حقيقية. أناسٌ يصرخونَ ويتحدثونَ كلهم في وقت واحد، فوضَى عارمة لا يُعرفُ مصدرها، لكنّكَ تشاهد مظاهرهَا أينما حللت…
عندمَا تصعدُ إلى الحافلة أو القطار، وأنتَ تمشي في الشارع، حتى في المقهى وأنت جالس على كرسيّكَ في أمان الله، تهزّه خوفاً مما باغت مسامعكَ فجأة.
ينتابكَ الرعبُ للوهلة الأولى، لكن حالمَا تتأكدُ أنَّها مجرّد أصوات مزعجة صادرة من لعبة إلكترونية محملة على جهاز الهاتف “الغبي”، تزولُ دهشتك ثم تسأل نفسكَ:
هل أصبحت “ألعاب القتال” فعلاً بمثابة إدمان؟ وكيف سلّط هؤلاء “المقاتلون” على أنفسهم شرّاً لا يعلمونَ مداه؟ وهل هذه الألعاب حكر على الرجال فقط؟
“الشرّ” هو الوصف الأقرب إلى الواقع، والمتمثل هنا في لعبة Free Fire، وهي واحدة من أكثر الألعاب شعبية في عالم ما يسمى ألعاب القتال والمبارزة، اخترعتها شركة Garena.
Free fire المنتوج الأكثر رواجاً للمزود الرئيسي للمحتوى الرقمي للحواسيب والهواتف الذكية في شرق آسيا وتايوان Garena، إذ تصدرت الشركة أخيراً مراتب عالمية مرموقة في قائمة الألعاب الأكثر تحميلاً عام 2018.
تمّ تصنيفها في المرتبة الثانية من مجمل الألعاب التي تم تحميلها من متجر google player خلال الثلاثية الأخيرة من عام 2018.
كما احتلت المرتبة الرابعة عالمياً، خلال السنة الماضية، في قائمة الألعاب الأكثر تحميلاً من متجري iOS وGoogle Play.
فضاء افتراضي لإفراغ طاقة كُبتت على أرض الواقع
خلود شابة تونسية، تبلغُ من العمر 26 سنة، تخرّجت منذ سنوات من الجامعة، حاصلة على الإجازة الأساسية في التصرف، ما زالت تنتظرُ دورهَا حتى تلتحقَ بسوق العمل “المعطل” في تونس، هذا الفراغ الذي يملأُ يومهَا، واليأس الذي تملَّكها من البحث عن فرصة عمل، فتحَا لها باباً لعالم جديد، تكادُ لا تغادره إلا عند النوم.
أصبحت مدمنة اللعبة المذكورة بشكل يستوجبُ التوقف والمراجعة، تقول: “تغمرني سعادة شديدة عندما أقتلُ الأشرار”. لكن عن أي أشرار تتحدث يا ترى؟
تحدثنا خلود وتمسكُ الهاتف بأصابعها، لا تنظرُ إلينا حتى، فهي تبدو منغمسةً جداً مع “زميلهَا في القتال”، تصرخُ فجأة “سيقتلوننَا… سيقتلوننَا يا أحمد” نسألها من أحمد ومن أصحاب كل هذه الأصوات؟
تخبرنا أنها لا تعرفُ على أرض الواقع أياً من الذين “تقاتلُ” إلى جانبهم في اللّعبة، وبالكاد ترصد أسماءهم، ولا أولئك الذين تقاتلهم، على رغم أنها تتحدث إليهم يومياً أثناء “مجريات القتال و”التخفي” و”اقتفاء أثر الأعداء”…
من يلعب هذه اللعبة بإمكانه سماع لاعبين آخرين، يستطيع أيضاً سماع كل ما يدور من حولهم لأنها تعتمد أساساً على المحادثة الصوتية بين اللاعبين، وهو ما يطرح تساؤلات عدة حول مدى استجابة هذه الألعاب لمعايير حماية المعطيات الشخصية، من التجسس والاختراق.
الألعاب الإلكترونية كإدمان المخدرات
خلود ليست الوحيدة بين العاطلات من العمل اللواتي يعانينَ الفراغ وربَّما الوحدة وغياب ما يشغلهنَّ، ما جعل عدداً منهن فريسةً سهلة لمصنّعي هذه الألعاب ومروّجيها، حتى أصبحوا ينجزون دراسات شديدة الخصوصية للتعرف إلى ميولهن ورغباتهن في اللعب.
ومع تزايد مستخدمي ألعاب الهاتف الجوال في العالم الذين يمضون ملايين الساعات مكبلين خلف شاشاتهم، صنفت منظمة الصحة العالمية إدمان ألعاب الفيديو مرضاً، تماماً كإدمان المخدرات، وأدرجت “اضطرابات ألعاب الفيديو” في النسخة الحادية عشرة للتصنيف العالمي للأمراض.
وفي هذا السياق، يرى الباحث التونسي في علم الاجتماع معاذ بن نصير أن جيل اليوم يعيش قطيعة ابستيمولوجية مع واقعه المعيشي، أي بمعنى أنه تخلى عن فضائه الواقعي وعلاقاته الاجتماعية والعائلية وأصبح يدمن العالم الافتراضي، لا سيما الألعاب الإلكترونية الافتراضية من قبيل free fire.
ويعود ذلك لأسباب عدة، منها اجتماعية لناحية طبيعة العلاقات العائلية ومبدأ الاستقلالية التامة للآباء وغياب الحوار داخل الأسرة، ما سيخلق نوعاً من العزلة الاجتماعية للأبناء وهذا ما يفسر توجههم إلى الحياة الافتراضية..
تخبرنا خلود أنها “تجلسُ طوال اليوم في المنزل ولا تفعلُ شيئاً بعد الأكل سوى اللعب، ليست مضطرة للخروج كثيراً، فهي عاطلة من العمل ولديها كل المستلزمات في البيت”.
تضيف: “حتى حين أذهب إلى صالون التجميل لا تفارقني لعبتي أبداً، صديقي أخبرني في آخر لقاء جمعنَا أنه مستاء جدّاً مني، لانشغالي طول الوقت بهذه اللعبة”.
إن تزايد عدد مستهلكات هذه اللعبة في العالم أجمع، جعل مصنعيها يقدمون منتوجاً “عنيفًا يتلاءمُ وخصوصية الجنس اللّطيف، لتصبح لعبة الذكور قابلة للتأقلم وحاجات الإناث، وتصبحُ الأنثى “مقاتلة شرسة” افتراضياً، طبعاً مع ذكر ما سيترتبُ من نتائج عن إدمانها “القتال” على أرض الواقع”.
على رغم عدم توفر أي إحصاءات حديثة عن عدد المستهلكين التونسيين لهذه الألعاب، لا سيما النساء منهم، لكن تفشي هذه الظاهرة لم يعد خافياً، لا سيما أن هذه الألعاب ليست حكراً على النساء والرجال الكهول، بل يستهلكها الطفل والمراهق وحتى كبار السن، في الفضاءات العامة والمقاهي، وفق ما أكده الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير.
تعكس الصورة النمطية لدى البعض، أنَّ الرجال هم الأكثر هوساً بألعاب القتال، إذ يستهويهم الشعور بالقوة والرجولة، أثناء ممارسة عنف ومبارزة افتراضيين.
إلا أنّ دراسة حديثة قامت بها شركة الإعلانات الأميركية “جون غروب”، نشرها موقع Game analytics، تؤكد أنَّ النساء يتصدرنَّ نسبة مستخدمي ألعاب الفيديو، لا سيما ألعاب القتال التي أصبحت من أكثر التطبيقات شعبية في العالم، كما أنها لا تتقيد بجنس واحد بل تشملُ النساء اللواتي أثبتنَ وفقَ إحصاءات الشركة نفسها أنهن يفضلنَّ هذا النوع من الألعاب.
كما أنه من المرجح أن تكون النساء متحمسات للّعب أكثرَ من الرجال في ألعاب محملة على الهواتف الذكية. وفقاً لدراسة استقصائية أجرتهاGoogle Play وNewZoo عام 2017، فإن 65 في المئة من الأميركيات في الفئة العمرية من 10 إلى 65 عام يحمّلن ألعاباً على هواتفهن الجوالة – ما يمثلّ جمهوراً واسعاً.
إضافة إلى ذلك، ووفقاً للاستطلاع ذاته، تشكلُّ النساء حوالى نصف (49 في المئة) من مستخدمي الألعاب الإلكترونية المحملة على الهواتف الذكية. كما أنهنَّ يملنَ إلى اللعب أكثر من الذكور، ما يجعلهنَّ أكثر عرضة لأن يصبحن بين اللاعبينَ المعتادين، المربحين لمصنعي هذه الألعاب ومروجيها…
ونظراً إلى أنَ ألعاب الهاتف الجوال سهلة التعلم ويسيرة اللعب، فمن الواضح أن انتشار الهواتف الذكية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، له صلة بتضاعف عدد النساء اللواتي يلعبنَ هذا النوع من الألعاب.
درج