باب الشوق/ بشير البكر
باب الشوق مخلوعٌ لا درفات له ولا أقفال. أشتاق إليكِ في هذا المدى المفتوح على الأزرق، تقبض عليّ حسرة المسافر الغائب، فأحسُّ بفيضٍ من أوجاع الجمر الثاوي في الأعماق. أريد أن أكتب لكِ شعرا. أفترض، ربما، أن كتابة ديوان آخر تجعلكِ أكثر رضى ونضارة وألقا. يراودني هذا الخاطر، وأنا أفكر بإنسان الشعر، دائما يعلو صوت الشوق. الخليقة نفسها قصيدة. المحارب بحاجةٍ إلى الشعر، المنتصر والمهزوم على مسافةٍ واحدةٍ من القصيدة. لا يصل الصوفي إلى لحظة الكشف القصوى والتجلي التام إلا بالشعر.
يقول كثيرون إن الكتابة في مديح المرأة وإطرائها تُشعرها بالسعادة، فهي تنتشي بالكلام المغزول، حتى لو رماها به شخصٌ لا تربطها به معرفةٌ أو علاقة حميمة، فالنساء ربّات الوحي في نهاية المطاف. هل تستطيع امرأةٌ ما أن تقاوم إغراء التغنّي بمفاتنها، أو كتم غواها حين تدري أنه يدير عيون الآخرين؟ هل في وسعها الصمود أمام قوة صورتها في القصيدة، الصورة التي لن ينساها أحدٌ بعد ذلك. لا أعتقد أن “إلزا” كانت ستعيش على النحو الذي عاشت عليه خفيفة كغيمة ربيع في باريس، لو لم يكتب لها أراغون “من سأكونُ بدونكِ”؟!
علي أن اعترف بأني كذبت عليكِ كثيرا، وقلت لكِ إن الديوان السابق كتبته كله لك وحدكِ، لكن في الحقيقة هناك شريكاتٌ كثيرات. في كل صورةٍ تتنافس معكِ أكثر من امرأة في الصفات والإشراقات والكيمياء. في كل إيقاع وكل بيت صدى نساء كثيرات، وهنا يكمن كرم القصيدة وسفرها بلا حدود بين العوالم والأوقات والألوان. في كل قصيدة خديجة وفاطمة وزينب ومها وكريستين وسوزان وفاليري وماري كلير. كل قصيدةٍ مفتوحةٌ على بيروت وغرناطة وميونخ ودمشق ولندن وباريس وموسكو واستوكهولم. سيتسع فضاء القصيدة، وتُكتب لها حياة دائمة، حينما تذهب نحو ضفافٍ أخرى، عندما ترتاد آفاقا بعيدة، وتستكشف جغرافياتٍ أنثويةً متعددة ومتنوعة. كم هي فقيرة القصيدة التي تكتفي من الألوان بلون واحد، ومن العطور بعطر بارد ويتيم. كم هي محدودة وخجولة القصيدة التي لا تنتقل عنوة من ثلج موسكو إلى حر الربع الخالي، وتظل بهيةً مشرقةً لا تؤثر فيها حرارةٌ أو رطوبة. القصيدة التي تستطيع استكشاف الطريق في عاصفةٍ شتويةٍ أو رملية، هي القصيدة المعجونة برائحة ناتاشا وخديجة وهند ودانييلا وسوسن. لذلك هي القصيدة التي تقف في نقطة توازن الكون، واهتزازه العظيم في لحظة النشوة.
إن القصيدة التي لا تستقل الحصان والمركب والطائرة لترحل من أدغال أفريقيا صوب الكثبان العربية، أو من ثلوج الشمال نحو شموس الجنوب، لهي قصيدةٌ ميتة، وعاجزةٌ عن السفر في خيال ووجدان القارئ.
ما أثر الإيقاع إذا لم تشطح فيه موسيقى أجساد وألوان الكون كافة، من الرقص الشرقي إلى السامبا والفلامنكو والروك… إلخ؟
لا أظنك، يا عزيزتي، تنتظرين مني قصيدة عمياء، لا ترى سوى نفسها، أو قصيدة عصماء، لا تعني سوى كاتبها. أرى أنك ترين مثلي أن القصيدة هي التي تبصر الجمال كله بعيون كل شعراء الكون. وهي التي تجعل من الجمال الدواء الوحيد لشفاء الكائن من نفسه الموزّعة في لا معنى اليومي الضارب في البلادة والتوحش.
إذا لم تستطع القصيدة أن تعاين كل ما على الأرض من حُسنٍ في الوجوه، ونور في العيون، وصفاء في النفوس، فهي قصيدةٌ باهتةٌ ومحنطةٌ وذاهبةٌ إلى أقرب متحفٍ بقرار من كاتبها.
ما قيمة القصيدة إذا كان طريقها واضحا، لا جمال يثير قلقها، ويرفع من منسوب توترها. ساعتها سيكون في وسع أي ناظم كلماتٍ أن يقبض عليها، ويمنعها من النطق بلغة الأشجار والطيور والفيضانات.
العربي الجديد